وضع داكن
17-05-2024
Logo
الدرس : سورة التكاثر - تفسير الآية: 1 - 8 علم اليقين.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 سورة اليوم سورة التكاثر، وقد تجاوزنا سورةً أو أكثر لأن لموضوعها علاقة برمضان.

التكاثر كلمة مطلقة تعني التكاثر من حطام الدنيا ونهايتها القبر :

 أيها الأخوة المؤمنون، الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ*كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾

 التكاثر كلمة مطلقة، تعني التكاثر في جمع المال، وتعني التكاثر بالأولاد، وتعني التكاثر من حطام الدنيا، أي رغبة الجمع والاستزادة والتفوق والافتخار والمباهاة، هذه الرغبة التي تتولد في أهل الكفر والعصيان، وأهل الفسوق والنفاق، هذه الرغبة الملحة ما نهايتها؟ نهايتها القبر.

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ﴾

((وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي.))

[ورد في الأثر]

 هذا التكاثر على إطلاقه، في جمع المال، في المباهاة بالأقران والأولاد، في جمع حطام الدنيا، في التسابق على شهواتها:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ ﴾

 هذه وقائع، الإنسان يسعى ليلاً نهاراً، يُفاجأ بالموت ولم يحسب له حساباً، هذه الساعة ساعة عظيمة، يوم يحس الإنسان بالخسارة الكبرى.

الله أرسل هذا الإنسان إلى الدنيا لمهمة عظمى لكنه نسي المهمة واشتغل بالتافه :

 قال تعالى:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ﴾

 لو أب وضع ولديه في مدرسة من أعلى مستوى، وهذه المدرسة مقامة على شاطئ بحر، والطلاب جميعاً منصرفون إلى تلقي العلم والمعرفة ونيل أعلى الشهادات بينما ولدان أو طالبان ذهبا إلى شاطئ البحر وجمعا الأصداف، وفي المساء تنافسا وتناقشا على عد هذا الحصى الذي جمعاه، يقول لهما الأب: ألهاكم جمع الحصى والصدف عن الدراسة والعلم، كأن الله سبحانه وتعالى أرسل هذا الإنسان إلى الدنيا لمهمة عظمى، هذا الإنسان نسي المهمة واشتغل بالتافه، اشتغل بجمع الدرهم والدينار، اشتغل بالحطام، فربنا عز وجل يقرر حقيقة.. يا أيها المعرضون، يا أيها الشاردون، يا أيها الضالون.. ألهاكم التكاثر، انشغلتم بالمال وجمعه، انشغلتم بالدنيا وزينتها، انشغلتم بمباهجها عن هدفكم الكبير وعن المهمة التي خلقكم من أجلها.. حتى زرتم المقابر، سبحان الله الإنسان أحياناً يعد لكل شيء عدته إلا الموت، يحسب لكل شيء حسابه إلا ساعة اللقاء، يفكر في كل شيء إلا الرحيل عن هذه الدنيا.
 هنا المفسرون وقفوا عند كلمة: حتى زرتم، الإنسان إذا زار بيتاً لا بد من أن يرتحل عنه، يزوره ثم يرتحل عنه، فاستنبط العلماء أن الإنسان إذا دخل في القبر لا بد من أن يرتحل عنه إلى جنة أم إلى نار، لذلك قالوا: القبر دهليز الآخرة، النفق الذي يوصل من الدنيا إلى الآخرة، فربنا سبحانه وتعالى اختار هذه الكلمة بالذات:

﴿ حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ ﴾

﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾

[سورة الزخرف: 83]

الإنسان السعيد من جعل ساعة اللقاء ماثلة أمامه وأعدّ لها عدتها :

 والله الذي لا إله إلا هو ساعة الموت كالصاعقة على الإنسان إن لم يعد لها عدتها، لكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن هذه الآية، أن الذي يسعى لرزق ولحاجة أساسية لا ينطبق عليه هذا الكلام، يعني الذي يسعى للنماء، لجمع المال، للجمع على إطلاقه للاستزادة، للتكاثر، للاستعلاء، هؤلاء تنطبق عليهم هذه الآية:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ* كَلَّا ﴾

 (كلا) هذه في الكلام أداة ردع ونفي، الله سبحانه وتعالى ينفي أن يكون الهدف من خلق الإنسان جمع الدرهم والدينار، الله سبحانه وتعالى ينفي أن يكون التكاثر هو الهدف الذي خلق الإنسان من أجله، قال الله عز وجل بدافع الرحمة والعطف والحنان: كلا.. لم تخلقوا لهذا، لم أخلقكم لهذا، النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان طفلاً كان إذا دعي إلى اللهو يقول: لم أخلق لهذا، عرف مهمته، والطالب المجتهد إذا دُعي إلى سهرة تافهة، أو إلى نزهة رخيصة، أو إلى تمضية ساعات في الطريق، أو إلى تمضية يوم في مكان سخيف، إذا دُعي إلى هذا يرى مهمته الأساسية في تحصيل العلم وفي نيل الشهادات، لذلك يقول: لا، ربنا عز وجل يقول: كلا، أداة ردع ونفي كأن الله سبحانه وتعالى يقول: كفاكم تكاثراً، دعوا هذا الطريق، لأنه طريق مسدود، طريق ينتهي بالخسارة، طريق ينتهي بالدمار:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ ﴾

 دع هذه الآية وانظر لواقع الناس، هذا الذي جاءه ملك الموت، هل كان يحسب له حساباً؟ فكر في كل شيء إلا ساعة الموت، فكر في كل شيء إلا ساعة اللقاء، فالإنسان السعيد من جعل ساعة اللقاء ماثلة أمامه، إذا جعلها أمامه ماثلةً أعد للموت عدته، أرسل ماله أمامه فسره اللحاق به، عمل الصالحات فاشتاق إلى لقاء الله، اشتاق إلى لقاء الله لأن عمله طيب.

من علامة معرفة الله الشوق إلى لقياه :

 قال تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[سورة الجمعة: 6]

 الذي عرف الله حق المعرفة، والذي قدره حق قدره ما علامة ذلك؟ أليس لهذا علامة مادية ظاهرة؟ ما علامة الجد والاجتهاد؟ النجاح في الامتحان، فإذا رسب الطالب فهذا الذي يدعيه خطأ، أصبحت دعوى.

كل يدعي وصلاً بليلى  وليلى لا تُقر لهم بذاك
* * *

 كل إنسان يدعي أنه يعرف الله، هل من علامة واضحة تؤكد أنه يعرفه؟ قال أحد الأخوة الأكارم: طاعة الله علامة معرفته، قلت والله جميل، فعلاً طاعة الله أكبر دليل على أنك تعرفه:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه  إن المحب لمن يحب مطيـع
* * *

 من علامة معرفة الله الشوق إلى لقياه، هذه علامة صارخة، لأنك إذا عرفت رحمته وإذا عرفت ما عنده من فضل، وأن تجليه يملؤك سعادة اشتقت إليه وذكرت هذه الآية:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[سورة الجمعة: 6]

من علامة أنك تعرفه أنك ترى وحدانيته :

 لو لاح لك شبح الموت هل تقول مرحباً بلقاء الله وعلى الدنيا السلام أم ترتعد فرائصك وتقول لا أريد أن أموت في هذا الوقت؟ هذه علامة، فالشوق إلى لقاء الله علامة معرفته، وطاعته علامة معرفته، وشعورك بأن الله يراقبك علامة معرفته، وهو معكم أينما كنتم، أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه.

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة المجادلة: 7]

 ومن علامة أنك تعرفه أنك ترى وحدانيته:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة هود: 123]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾

[سورة الفتح: 10]

علامات أخرى لمعرفة الله سبحانه :

 إذا خفت من يد آثمة فيد الله فوقها، إذا خفت من يد معتدية فيد الله فوقها، قال تعالى:

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

[سورة الأنفال: 17]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة هود: 123]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف: 26]

 علامة معرفته أن توحده، وأن تشتاق إلى لقياه، وأن تطيعه، وأن تحس أنه يراقبك، فأحيي ما شئت من ليالي رمضان، إن عصيته فكل هذا الإحياء لا قيمة له، لأنك لا تعرفه، وقد تحصل لك هذه الليلة في أي يوم من أيام السنة، في الساعة التي تحس أنك يجب أن تطيعه، ويجب أن تؤثره على كل شهواتك، في اللحظة التي ترى أنه كل شيء وأن لا شيء سواه، وأنه بيده مقاليد الأمور، وأنك إذا طلبت رضاه فقد طلبت كل شيء، وأنه إذا فاتتك الجنة فقد فاتك كل شيء، هذه اللحظة التي ذكرها القرآن ليلة القدر:

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾

[سورة القدر: 3]

الإنسان الآن مخير بين أن يعرف فيسعد أو يتجاهل فيشقى :

 معنى كلام ربنا عز وجل: كلا لم أخلقكم لهذا، قال تعالى:

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[سورة المؤمنون: 115]

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾

[سورة القيامة: 36]

 بلا حساب:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾

 سوف، الآن لا تعلمون، الآن أنتم جاهلون، ربنا يخاطب أهل الدنيا، من ألهاهم التكاثر، من انغمسوا فيها، كلا سوف تعلمون، الآن لا تعرفون لكنكم سوف تعرفون، ألا يحصل هذا مع الأب وابنه؟ يصر الابن على شيء يراه الأب خطأً، يقنعه دون جدوى، يزجره دون جدوى، يردعه دون جدوى، ينصحه دون جدوى، إذا ضاقت به الحيل واستيأس منه يقول هذا الأب: سوف ترى، الأيام وحدها تريك خطأك، وفعلاً بعد أن يقع الابن ويدفع الثمن غالياً ويندم ولات ساعة مندم، يقول لأبيه: صدقت لقد عرفت الحقيقة ولكن متى بعد فوات الأوان.

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾

 نحن الآن مخيرون؛ إما أن نعرف ما يجب أن نعرفه الآن وإما أن تكون هذه المعرفة حسرةً في قلوبنا، إن عرفنا ما يجب أن نعرفه الآن هنيئاً لنا، وإن كابرنا وتجاهلنا الحقائق، ووضعنا رأسنا في الرمال فسوف نعلم الحقيقة، إن معرفة الحقيقة ستكون حسرةً في قلوبنا، إن معرفة الحقيقة ستكون عبئاً علينا بعد أن كانت في خدمتنا، المعرفة سوف تكون عبئاً علينا:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾

 متى؟ عند الموت.

مناسبتان خطيرتان نعلم بهما الحقيقة؛ عند الموت ويوم يقوم الناس لرب العالمين :

 أعرف رجلاً كان منغمساً في الدنيا إلى قمة رأسه، لم يترك متعة من متع الحياة إلا وانغمس فيها، جاءه مرض خبيث في السابعة والثلاثين من عمره، كل ليلة يقضيها في مجلس إنس وطرب، ليس في حياته شيء حرام، كل شيء مباح له، وله دخل كبير، وبيت فخم، وبيت في المصيف، وسيارة فارهة، وصاحب طرفة، وظل خفيف، لما علم أن مرضه عضال، وأنه آخر عهده بالدنيا، بدأت تأتيه نوبات هستيرية، يقول: لا أموت، لا أريد أن أموت، إلى أن جاءه ملك الموت حقاً ليقبض روحه، فصاح صيحة لم يبق في البناء كله أحد إلا فزع منها، هذه ساعة النزع:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِر*كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ َ ﴾

 متى؟ عند الموت، ربنا عز وجل قال:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ َ ﴾

 مرةً ثانية متى؟ يوم القيامة، هناك مناسبتين خطيرتين تعلمون بهما الحقيقة، الأولى عند الموت والثانية يوم يقوم الناس لرب العالمين:

﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ َ ﴾

 فهذه سوف للمستقبل، يا حبذا لو نعلم الآن، يا حبذا لو نعلم الآن علم اليقين، لو نعلم الحقيقة كاملة، لو نعلم حجمنا الحقيقي، لو نعلم المهمة التي خُلقنا من أجلها، لو نعلم كم عند الله من خير، كم عنده من سعادة، كم عنده من عذاب أليم لمن عصاه وظلم نفسه.

في هذا الكتاب قوانين أشد دقة وثبوتاً وحتميةً ووقوعاً من قوانين الفيزياء والكيمياء:

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ َ ﴾

 كلا.. كأن الله يردعنا، إلى متى أنتم غافلون؟ إلى متى أنتم سادرون؟ إلى متى أنتم تائهون؟ إلى متى أنتم شاردون؟

﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 أيها الأخوة الأكارم، أحب أن أقول لكم شيئاً، هذا الدين دين الله وخالق الكون، أليس في الأرض حتمية الحدوث؟ قوانين الرياضيات، قوانين التجاذب الفلكي، قانون ثابت، قوانين السقوط، قوانين التمدد، القوانين التي اكتشفت في الذرة، في المجرة، في الفيزياء، في الكيمياء، في الرياضيات، في الطبيعيات، في الجيولوجيا، هذه القوانين التي استنبطها العلماء من ظواهر علمية بعد أن حللوها واستقرؤوها واستنبطوها، إنها تأخذ شكل القانون، أي علاقة ثابتة بين متحولين، هذه القوانين من صنع الله، وهذا الدين دين الله، لا بد من أن يكون في الدين قوانين لا تقل حتمية وثباتاً ودقة وضرورة عن قوانين الفيزياء، كيف أن كل معدن يتمدد بالحرارة، كيف أن كل جسم إذا تركته يسقط بسرعة حسبها الحاسبون، كيف أن للضوء قوانين وللعدسات محرق وللأشعة استقامة، تنكسر في الماء، كيف أن لكل شيء قواعد ثابتة. والله الذي لا إله إلا هو في هذا الكتاب قوانين أشد دقة وأشد ثبوتاً وأشد حتميةً وأشد وقوعاً من قوانين الفيزياء والكيمياء ولكن الناس لا يعلمون.

لو اطلع الإنسان على دقة الحساب يوم القيامة لرأى كل معصية جحيماً وكل مخالفة ناراً:

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 لو إنسان طلب إليه أن يحلل دمه، والتحليل أثبت أن هناك تزايد مخيف في كريات الدم الحمراء، هذا التزايد يأخذ شكل مرض خبيث، المريض لم يشعر بعد بشيء، طبيعي، لا يزال طبيعياً، لكن له تحليلات دورية، أحد هذه التحاليل أثبت هذا التزايد السريع، يطَّلع الطبيب على هذا التحليل فيرى مصير المريض في القبر بعد أشهر، قد يهمس في أذن أولياء المريض انتهى، المريض مريض حكماً، أما هو الآن صحيح، يتكلم ويتحرك ويأكل ويشرب ويضحك ويمزح ويعمل وينتج، لكن الطبيب رأى مصيره، هذا مرض خبيث لا شفاء منه والتزايد سريع ولا بد من الموت وأقصى مهلة ثلاثة أشهر، وكثيراً ما تأتي هذه التوقعات صائبة، فربنا عز وجل قال:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 لو أن أحدنا يطلع على دقة الحساب يوم القيامة، يطلع على أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً:

﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 47]

 لو بلغ يقين الإنسان هذه الدرجة لرأى أن كل معصية جحيماً، وكل مخالفة ناراً محرقةً.

إن بلغ الإنسان علم اليقين عرف كل شيء :

 هذا الذي يأكل أموال اليتامى إنما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى جحيماً، لا يعلم ذلك الآن، لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم، هذا الذي لا يصلي لو يعلم علم اليقين لرأى الجحيم. هذا الذي ينظر إلى الحرام ولا يبالي لو يعلم علم اليقين لرأى الجحيم فهي المشكلة علم اليقين، هات علم اليقين وخذ كل شيء، إن تملكت علم اليقين تملكت كل شيء، إن بلغت علم اليقين عرفت كل شيء. هذا الذي يقرب النار من البنزين، قبل أن ينفجر البنزين الذي يراقبه من بعد ويعرف أن هذا بنزين، وهذا نار، يتوقع توقعاً حتمياً جازماً أن حريقاً سينشب، علم قوانين:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 سائق سيارة في منحدر شديد، اكتشف فجأةً أن المكبح قد انقطع وفي نهاية هذا المنحدر منعطف خطير حاد، يعلم علم اليقين أنه انتهى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، تقول له زوجه: لمَ تتشهد، ماذا حصل؟ يقول لها: المكبح قد انقطع، تقول له: لكن لا بأس علينا، هو علم النتيجة الحتمية التي لا بد منها، فهذه المشكلة، مشكلة معرفة، بين الكافر والمؤمن مشكلة معرفة، لأن الكافر يحب نفسه أيضاً، الكافر حريص على سعادته، الكافر حريص على سلامته، لأن هذه فطرته هكذا فُطر عليها، هكذا خلقه الله عز وجل يحب نفسه، يحب السلامة، يحب الخير، يحب الاستزادة، يحب العلو، يحب النفع، بين المؤمن والكافر المعرفة فقط:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 لو علم أكثر كفار الأرض ما علمه النبي الكريم لآمن إيمانه ولأحب الله حبه، ولاستقام استقامته، ولعمل للآخرة عمله.

الاستدلال الفكري هو علم اليقين وهو أثمن ما يملكه الإنسان :

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 يوم القيامة:

﴿ ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾

﴿ *كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُون*َ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 هنا عندنا عين اليقين وعندنا علم اليقين، إذا الإنسان رأى دخاناً خلف الجدار، يستنبط بالفكر السليم أنه لا دخان بلا نار، وأن هذا الدخان وراءه نار، هذا علم اليقين، هذا علم الاستدلال، من منا لا يصدق أن في البناء خطوطاً داخليةً للكهرباء، هو لا يرى إلا مروحة تدور، وثريا متألقة، وأسمنت، وطلاء، هل منا واحد لا يعتقد اعتقاداً جازماً أن تحت هذا الطين الأسمنتي خطوط الكهرباء، هل يُعقل أن تدور هذه المروحة بلا شيء، يقيننا بوجود خطوط داخلية يقين قطعي، هذا هو الاستدلال الفكري، هذا هو علم اليقين.
 إذا رأيت آثار عجلة سيارة على طريق ترابي، بالمئة مليون سارت على هذا الطريق سيارة، وقد تعرفها أنها شاحنة من عرض الآثار، وقد تعرفها أنها صغيرة من عرض العجلة، هذا هو علم اليقين، هذا هو الفكر البشري، الاستدلال أثمن ما تملكه أنت.
 طبيب قال لي، لو عثرنا على هيكل عظمي فقط نعرف أنه امرأة أو رجل، قلت: كيف؟ قال: من حجم الحوض ومن حجم الجمجمة، أي كل حياتنا على الاستدلال قائمة، العلوم كلها استدلالية، فربنا عز وجل يقول:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ﴾

 هذا علم اليقين.

علم اليقين وعين اليقين :

 قال:

﴿ ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾

 هذا الذي رأى الدخان خلف الجدار تقدم به المشي وأطل خلف الجدار فرأى لهب النار، لهب النار عين اليقين، مهندس رأى شرخاً عرضياً في البناء، فقال: هذا البناء خطر لا بد من أن يقع، هذا علم اليقين، بعد أن وقع عين اليقين. معلم خبير رأى طالباً مهملاً، قال: هذا الطالب لا ينجح هذا علم اليقين، حينما تصدر النتائج رسب في صفه هذا عين اليقين، توقعه علم اليقين ورسوبه عين اليقين.

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ﴾

 قال بعضهم: نعمة الصحة، العينان والأذنان والأنف واللسان والقلب والرئتان والمعدة والأمعاء والبنكرياس والكبد والطحال والجهاز العظمي والجهاز العصبي والتناسلي والبولي والدموي والقلب، كله يعمل بانتظام هذه نعمة كبرى، قال: هذا النعيم.
 نعمة الأمن تنام مطمئناً وأنت آمن، لماذا لم تعرف الله عز وجل؟ لا أحد يسألك، لا أحد يلاحقك، لا أحد يتوعدك، أنت مطمئن، نعمة الأمن تُحاسب عليها، نعمة الصحة تحاسب عليها، نعمة الفراغ، أنت صحيح معافى تنام ست ساعات بعد الظهر، ليس عندك شيء، تسهر إلى الثانية ليلاً في الكلام الفارغ، هذا الوقت الفراغ سوف تُحاسب عليه، لماذا ضيعته هكذا؟ نعمة الوقت تحاسب عليها، نعمة الصحة تحاسب عيها، نعمة العينين تحاسب عليها، نعمة الأذن، بدل أن تحضر مجلس علم وتتعرف إلى الله عز وجل أطلقت الغناء لأذنيك، فطربت وأطربت وضيعت عمرك سدى، الغناء ينبت النفاق، إذاً الأذن من النعيم.

نِعَمُ الله تعالى سوف نحاسب عليها يوم القيامة :

 العين نعيم، الأذن نعيم، اللسان نعيم، هذا اللسان طليق يتكلم، أؤمر بالمعروف وانه عن المنكر، نعمة اللسان، يقول لك: لا أستطيع الوقوف، الصحة نعمة كبيرة، لا يوجد آلام ديسك ولا آلام رأس ولا آلام معدة ولا آلام كبد ولا أمراض خطيرة، صحيح معافى، هذه نعمة كبرى تُحاسب عليها، ماذا فعلت بها؟

(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ))

[ سنن الدارمي عن معاذ بن جبل]

 إذا علمت علم اليقين، عندئذ ترى أنك تُسأل عن النعيم، نعمة الزوجة؛ لك زوجة لماذا تنظر إلى هذه المرأة في الطريق، عندك زوجة أنت محصن، لماذا تغازل هذه المرأة؟ لك زوجة، هل أنت محروم؟ لا، عندك أولاد، لماذا تهملهم؟ لماذا لا تربيهم تربية صالحة؟ والله هذه الآية لو عقلناها حقاً، ولو عرفناها حق معرفتها لغيرت حياتنا رأساً على عقب، لخلقت فينا انعطافاً خطيراً في حياتنا:

﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ*كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ*كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ*ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾

 بعضهم استنبط من هذه السورة أن على الإنسان أن يزور القبور، أي إذا أتيح لك أن تشاهد نزع إنسان فافعل، إن أتيح لك أن تشاهد ميتاً يُغسل فافعل، إن أُتيح لك أن تشاهد ميتاً وُضع في قبره وكُشف عن وجهه فافعل، إن أتيح لك أن تزور المقبرة فافعل، هؤلاء الذين في القبور ألم يكونوا في الدنيا في بيوت، ولهم زوجات، ولهم أهل، ولهم محلات تجارية، ولهم أرباح، ولهم أصحاب، ولهم نزهات، أليسوا كذلك؟ أين هم الآن؟ النبي الكريم إذا زار البقيع يقول: سلام عليك دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.

﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور