الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، وأفضل الصّلاة وأتم التسّليم على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
قصة قصيرة بين يدي سورة:
﴿ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ(1)﴾
هذه السورة تلقي عليها قصتنا ضوءاً كاشفاً، الحُصين بن سلّام كان حبراً من أحبار اليهود، وكان أهل المدينة على اختلاف مللهم ونحلهم يُجِلّونه، ويعظمونه، فقد كان معروفاً بين الناس بالتقى والصلاح، موصوفاً بالاستقامة والصدق، وكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة يتمم رسالات الأنبياء السابقين ويختمها، وكان يستقصي أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام وعلاماته، ويهتز فرحاً؛ لأنه سيهجر بلده الذي بُعث فيه، وسيتخذ من يثرب مهاجراً له ومقاماً.
يقول الحصين بن سلام وهو يروي قصته بنفسه: << لما سمعت بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أتحرى عن اسمه، وعن نسبه، وصفاته، وزمانه، ومكانه، وأطابق بينها وبين ما هو مذكور عندنا في الكتب، حتى استيقنت من نبوته، وتثبت من صدق دعوته، ثم كتمت ذلك عن اليهود، وعقلت لساني عن التكلم فيه -له عقل راجح- إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه من مكة قاصداً المدينة، فعندما بلغ يثرب، ونزل بقباء، أقبل رجل علينا –أي من اليهود-، وجعل ينادي في الناس معلناً قدومه، وكنت ساعتئذٍ في رأس نخلة أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسة تحت الشجرة، فما إن سمعت الخبر حتى هتفت: الله أكبر، الله أكبر، فقالت لي عمتي حينما سمعت تكبيري: خيّبك الله، والله لو سمعت بموسى ابن عمران قادماً ما فعلت شيئاً فوق ذلك، فقلت لها: أي عمة إنه والله أخو موسى، وعلى دينه، وقد بعث بما بعث به، فسكتت، وقالت: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يُبعَث مصدقاً لمن قبله، ومُتمماً لرسالات ربه؟ فقلت: نعم، فقالت: فذلك إذاً، ثم مضيت من توّي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرأيت الناس يزدحمون ببابه، فزاحمتهم حتى أصبحت قريباً منه، فكان أول ما سمعته من قوله: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، فجعلت أتفرس فيه، وأتملى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب -فيه صدق- ثم دنوت منه، وشهدت أنه لا إله إلا الله و أنه رسول الله، فالتفت إلي، وقال: ما اسمك؟ فقلت: الحصين بن سلام، فقال: بل عبد الله بن سلام، فقلت: نعم عبد الله بن سلام، والذي بعثك بالحق، ما أحب أن لي به اسماً آخر بعد اليوم، هذا هو اسمي، ثم انصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، ودعوت زوجتي وأولادي وأهلي إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً، وأسلمت معهم عمتي خالدة، هذه التي قالت قبل قليل: خيبك الله، وكانت شيخة كبيرة، ثم إني قلت لهم: اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى آذن لكم، فقالوا: نعم، ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك -أي زعماءهم- وأن تسترني عنهم في حجرة من حجراتك، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، -رسم خطة- فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني، ورموني لكل ناقصة، وبهتوني، فأدخلني النبي عليه الصلاة والسلام في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضهم على الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه في الحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم قال لهم: ما منزلة الحصين بن سلام فيكم؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحَبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، فقال: أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون؟ قالوا: حاش لله، ما كان له أن يسلم، أعاذه الله من أن يسلم، فخرجت إليهم وقلت: يا معشر اليهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به محمد، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وتجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، وإني أشهد أنه رسول الله، وأؤمن به، وأصدقه، وأعرفه، فقالوا: كذبت، والله إنك لشرّنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لك يا رسول الله: إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإنهم أهل غدر وفجور؟ يعرفهم.
بشارة النبي الكريم لعبد الله بن سلام بالجنة:
أقبل عبد الله على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد، وأُولع بالقرآن، فكان لسانه لا يفتأ رطباً بآياته البينات، وتعلق بالنبي صلوات الله عليه حتى غدا ألزم من ظله، ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشره بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بشارة ذاعت بين الصحابة الكرام وشاعت، وكان لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عبادة.
قال الراوي: كنت جالساً في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس، ويستروح به القلب، فجعل يحدث الناس حديثاً حلواً مؤثراً، فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو عبد الله بن سلام، فقلت في نفسي: والله لأتبعنه، فتبعته، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا بن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون عنك لما خرجت من المسجد: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فمضيت في إثرك لأقف على خبرك، لأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة، فقال: الله أعلم بأهل الجنة يا بني، فقلت: نعم، ولكن لابدّ لما قالوه من سبب، فقال: سأحدثك عن سببه، فقلت: هاتِه وجزاك الله خيراً، قال: بينما أنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجل فقال لي: قم، فقمت، فأخذ بيدي، فإذا أنا بطريق عن شمالي، فهممت أن أسلك فيها، فقال لي: دعها، فإنها ليست لك، فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني، فقال لي: اسلكها، فسلكتها حتى أتيت روضة غنّاء، واسعة الأرجاء، كثيرة الخضرة، رائعة النضرة، في وسطها عمود من حديد، أصله في الأرض، ونهايته في السماء، وفي أعلاه حلقة من ذهب، فقال لي: ارفعْ عليه، فقلت له: لا أستطيع، فجاءني وصيف فرفعني، فرَقَيتُ حتى صرت في أعلى العمود، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما، وبقيت متعلقاً بها حتى أصبحت، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصصت عليه رؤياي، فقال: أما الطريق التي رأيتها عن شمالك فهي طريق أصحاب الشمال.
﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41)﴾
وأما الطريق التي رأيتها عن يمينك فهي طريق أصحاب اليمين من أهل الجنة.
﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ(27)﴾
وأما الروضة التي شاقتك بخضرتها ونضرتها فهي الإسلام، وأمّا العمود الذي في وسطها فهو عمود الدين، وأما الحلقة التي في آخره فهي العروة الوثقى، ولم تزل مستمسكاً بها حتى تموت، قال ربنا عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ﴾ .
ما هي البينة وما تفسيرها؟ الله سبحانه وتعالى فسرها فقال:
﴿ رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)﴾
فالمفسرون لهم في هذه الآية مذاهب عدة، مذهبهم الأول: أن كلمة: ﴿لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ﴾ بمعنى منتهين عن كفرهم، أو تاركين كفرهم، ﴿لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ من هم الذين كفروا؟ ﴿مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ﴾ اليهود والنصارى ﴿وَٱلْمُشْرِكِينَ﴾ ، أهل مكة، عبدة الأوثان، وبعضهم قال: والمشركين من أهل الكتاب، لأن اليهود قالت: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وهم مشركون.
على كلٍّ الذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمشركون هم أهل مكة عبدة الأوثان، لم يكن هؤلاء اليهود والنصارى ولا هؤلاء كفار مكة ﴿مُنفَكِّينَ﴾ بمعنى تاركين كفرهم بمحمد، أو بالدين، أو بالوحدانية، ﴿حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ﴾ وتفسير البينة: ﴿رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ .
كتاب الله الكريم كتاب طاهر:
النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم بَهَرَهم بأخلاقه العلية، بَهَرَهم بمنطقه، بَهَرَهم باستقامته، بَهَرَهم بكماله وخلقه العظيم، فكان النبي صلى الله عيه وسلم بيِّنةً لهم على صدقه، وعلى صدق دعوته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو بيِّنة بأخلاقه واستقامته، وطهره وعفافه، وإحسانه وكرم أخلاقه، ﴿يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ هي بيِّنة أيضاً، وهو القرآن الكريم، سماها ربنا ﴿صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ أي مطهرة من الضلال، ومطهرة من الكذب، ومطهرة من الزيغ، ومطهرة من الانحراف، ومطهرة من التناقض، ومطهرة من الخلل، مطهرة من الهوى، ومطهرة من كل ما يشوب كلام البشر، هل يوصف الكلام بأنه طاهر؟ نعم. قد يؤلف الإنسان قصة قذرة، فإذا قرأها الإنسان ثار كالثور، هذه قصة قذرة، قد يؤلف الإنسان مقالة تدعو إلى الاختلاط، فإذا حدث هذا الاختلاط اختلطت معها الأنساب، كهذا ابن فلان، وهو لا يدري، وهذا ابن فلان، وهو لا يدري، فهل يوصف الكلام بأنه قذر؟ نعم يوصف بأنه قذر، وبأنه نجس، لكن كتاب الله الكريم وصفه الله عز وجل بأنه طاهر.
﴿يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً*فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ ما هي الكتب؟ صحف فيها كتب، أم كتب فيها صحف؟ الأَولى أن يقال: كتب فيها صحف، ولكن القرآن صحف فيها كتب، والكتب بمعنى موضوعات، هناك موضوعات في التوحيد، قال تعالى:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)﴾
وهناك موضوعات في التاريخ، قال تعالى:
﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾
هناك موضوعات في الحكم، هناك موضوعات في الأمثال، هناك موضوعات في الحقائق الثابتة كأنها قواعد، هناك موضوعات في آيات كونية، هناك موضوعات في أخبار الأولين، هناك موضوعات في آيات منتزعة من واقعنا، موضوعات القرآن كثيرة، ففيه أمر ونهي، وحكمة، وفيه مثَلٌ وتاريخ، وفيه آية كونية، وفيه آية تعيشها.
﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ هذا موضوع، والكتب أيضاً كتاب الطلاق، وكتاب المواريث، وكتاب معاملة الزوجة، والحقوق الشخصية، وكتاب وكتاب...ولو تصفحت القرآن الكريم لوجدته منطوياً على كتب، فربنا سبحانه وتعالى وصف كتابه الكريم بأنه مطهر من الزيغ، فيه كتب قيمة، معنى قيِّمة أي: مستقيمة، لا عِوج فيها، وقد وصف الكفار الله سبحانه وتعالى فقال:
﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)﴾
الأمور عوجاء، وأيّ تشريع وضعي فيه عِوج، لأنه يحقق مصالح أناس على حساب أناس، ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ لكن كتب القرآن الكريم كتب قيمة لا عوج فيها ولا زيغ.
﴿ وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ (4)﴾
كل إنسان له موقف و الرابح من وقف موقف المؤيد للحق:
حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقف الكفار والذين أوتوا الكتاب مواقف عدة، وكل إنسان حينما يبلغه نبأ شيء ما يأخذ موقفاً منه، فإما أنه موقف مؤيد، أو له موقف معارض، أو موقف حيادي، والموقف: هو اتجاه وفق جهة معينة، ثم الشروع بالحركة، فإذا رأى الإنسان عدواً فإنه يأخذ موقف المدافع، وقد يأخذ موقف المهاجم، وإن رأى صديقاً يأخذ موقف الترحيب، والمصافحة والدعوة، فكل إنسان له موقف، قد يأتي الإنسان بحديث، فإما أن تصدقه، وهذا موقف، وإما أن تكذبه وهذا موقف آخر.
سيدنا عبد الله بن سلام أخذ موقفاً، فسَعِد بهذا الموقف إلى أبد الآبدين، وأحبار اليهود وهم يعلمون من كتبهم أن النبي عليه الصلاة والسلام نبي أخذوا موقف المعاند، فشقوا بهذا الموقف إلى أبد الآبدين.
وأنت أيها الأخ الكريم، إذا عرض عليك الحق فإما أن تأخذ موقف المؤيد المستمسك، وإما أن تأخذ موقف المعارض الجاحد، وإما أن تأخذ موقف اللامبالي المستهتر، وموقف من هذه المواقف يسعدك إلى الأبد، وموقف آخر يشقي صاحبه إلى الأبد، والحياة كلها مواقف.
قيل عن السيدة عائشة رضي الله عنها: إنها زنت، فأخذ أناس موقف التكذيب من هذا الافتراء، فسعدوا بهذا الموقف إلى الأبد، وأخذ أناس موقف التصديق والشماتة والفرح، فشقوا بهذا الموقف إلى الأبد.
سيدنا الصديق أخذ موقف التصديق حينما بلغه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أُسري به، وعُرِج به إلى السماء، فسعد بهذا الموقف إلى أبد الآبدين، بينما أبو جهل وأبو لهب أخذا موقفاً آخر، ونحن في كل عصر لابد لكل واحد منا من موقف، إذا عُرِض عليك الحق، فإما أن تقف موقف المؤيد، وإما أن تقف موقف المتشكك، وإما أن تقف موقف المعارض المعاند، فهنيئاً لمن وقف موقف المؤيد.
حينما ضاقت على النبي عليه الصلاة والسلام السُّبل، وحينما ضيّق عليه الأحزاب من كل جانب، واجتمعوا لاستئصاله، ونقض اليهود عهدهم ربنا عز وجل قال:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
وهناك أناس قالوا:
﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾
ظهر كذبهم، إن الحياة كلها امتحانات، قد يُضغَط على الزوجة أن تسفر، إما أن تقف موقفاً صلباً فتقول لزوجها: طلِّقني، ولا أسفر، وإما أن تقف موقفاً متساهلاً فتسفر، ثم يطلقها زوجها لسبب آخر.
قد يُضغَط عليك أن تفعل منكراً، فتقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا موقف مُسعِد إلى الأبد، وقد ترضخ، وتقول: إني لا أستطيع، أنا مُكرَه، لكن ما معنى مكره؟
اتفق الفقهاء على أن الإكراه الذي يبيح للمرء معه مخالفة الشرع الخوف على الحياة، أو الخوف على أحد أعضائه، فإنْ أكره الإنسان تحت خطر أن يموت، أو أن يفقد أحد أعضائه أن يقول كلاماً لا يرضي الله، فإن قاله فلا تثريب عليه، لأنه تحت وطأة فقْدِ حياته، أو فقْدِ أحد أعضائه، هذه هي الضرورات التي تبيح المحظورات.
الضرورات تبيح المحظورات :
أما الناس –سبحان الله- فقد توسعوا في فهمِ هذه الحقيقة، فجعلوا حياءهم ضرورة، وجعلوا مشقتهم من الصيام ضرورة، يقول لك: عندي امتحان، فهل أفطر؟ فقط لأن لديك امتحان! يقول: الصيام في الامتحان صعب، قال الله عز وجل:
﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(184)﴾
مع السفر والمرض عليهم أن يصوموا، فإذا أفطروا عليهم الفدية، مَن لا يطيق الصيام مع السفر والمرض وأفطر فليس عليه إلا القضاء، لكن من أطاق الصيام في السفر أو في المرض وأفطر فعليه فدية وقضاء، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فكلمة: الضرورات تبيح المحظورات هذه كلمة خطيرة جداً، وقد توسع فيها الناس حتى تفلّتوا من قواعد الشرع تحت اسم الضرورة، الضرورة هي: فقدُ الحياة أو فقد أحد الأعضاء، هذه هي الضرورة التي تبيح المحظور، لذلك: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ﴾ .
سعادة من آمن وشقاء من كفر :
لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام أناس صدقوا رسالته، وآمنوا به فسعدوا، وأناس رفضوا فشقوا، أين أبو لهب؟
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)﴾
أين أبو جهل، أين أمية بن خلف؟
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
أين سيدنا الصديق؟
﴿ تَرَى ٱلظَّٰلِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌۢ بِهِمْ ۗ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِى رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ ۖ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ(22)﴾
أين سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي؟ في الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ. ))
[ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف ]
وأنت الآن تسمع الحق، فإما أن تؤمن به، وتصدق به، وتعمل به، فأنت من أهل الجنة، وإما أن تقول: هذا كلام سمعنا به كثيراً، والحياة صعوبات وضرورات، والحياة الواقعية خلاف هذا الكلام، ونحن في عصر آخر، وهناك تيار عام، وعلينا أن نمشي فيه، مثلُ هذا الكلام الشيطاني إذا قبلته وتبنّيته ربما قاد صاحبه إلى النار ﴿وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ﴾
معنى مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ:
1 ـ الانفكاك هنا بمعنى الترك :
مما يروى عن هذه السورة حديثٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
(( إنَّ اللَّهَ أمرَني أن أقرأَ علَيكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا قالَ: وسمَّاني؟ قالَ: نعَم فبَكَى. ))
كاد يُصعق، من أنا؟ من أنا يا رسول الله حتى يأمرك الله وأنت رسوله وحبيبه وصفيّه أن تقرأ علي هذه السورة؟ (قالَ: وسمَّاني) ؟ هل ذكر الله لك اسمي؟ (قالَ: نعَم فبَكَى) استنبط العلماء من هذه القصة أن القراءة نوعان: قراءة مدارسة، وقراءة فحص، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرأ على سيدنا أُبّي هذه السورة من قبيل التواضع لمن تعلم، تواضعوا لمن تعلمون، على كلٍّ الانفكاك هنا بمعنى الترك، هذا هو المعنى الأول.
2 ـ لن يبلغ الإنسان نهاية عمره حتى تأتيه البينة:
والمعنى الثاني ﴿لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ﴾ أي لن يبلغوا نهاية أعمالهم حتى تأتيهم البينة، فلن يبلغوا نهاية عمرهم حتى تأتيهم البينة، وهذا يعني أن الله رحيم بالكفار، قال تعالى:
﴿ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43 (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)﴾
3 ـ مهلكين حتى تأتيهم البينة:
والمعنى الثالث: ﴿لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ﴾ بمعنى مُهلَكين حتى تأتيهم البينة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يهلك إنساناً قبل أن يعرّفه بالحق، إن هؤلاء الكفار من أهل الكتاب لا يتركون صفة النبي عليه الصلاة والسلام حتى يأتيهم، قبل أن يأتيهم كانوا معتقدين به، فلما جاءهم كفروا به، وهكذا قال الله عز وجل:
﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ(89)﴾
قبل أن يُبعث كانوا يذكرونه للناس، سيبعث في المدينة نبي صفته كذا وكذا، فلما بعث كفرتم به، سبحان الله ! هذا هو المعنى الثالث.
المعنى الرابع وقد ذكره بعض المفسرين: أن يا محمد، هؤلاء الذين قالوا: إن عيسى ابن الله متشبثون بكفرهم، لأن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)﴾
ظهور سيدنا المسيح من علامات قيام الساعة:
هؤلاء لم يتركوا كفرهم حتى يظهر المسيح نفسه في آخر الزمان، ويقول لهم: أأنا قلت لكم إني ابن الله؟
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِۦٓ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ(117)﴾
لذلك هناك أحاديث كثيرة تبشر بظهور سيدنا عيسى عليه السلام، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)﴾
إن ظهور سيدنا المسيح عيسى بن مريم من علامات قيام الساعة، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159)﴾
فمِن أهل الكتاب من يؤمن به نبياً لا إلهاً قبل موته، وبعض التفاسير تقول: ﴿رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ يعني سيدنا عيسى ﴿لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ﴾ سيدنا عيسى ﴿يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ هذا القرآن الكريم.
5 ـ البينة هي سيدنا عيسى :
﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ ومتى يبعث هذا النبي الكريم؟ في آخر الزمان عندما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لَتُمْلَأَنَّ الأرضُ ظلمًا وعدوانًا، ثُمَّ لَيَخْرُجَنَّ رجلٌ مِنْ أهلِ بيتِي، حتَّى يملأَها قِسْطًا وعدلًا، كما مُلئَتْ ظلمًا وعدوانًا. ))
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24)﴾
﴿وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ﴾ فعلى التفسير الأخير البينة هي سيدنا عيسى، وأهل الكتاب أصبحوا يهوداً ونصارى بعد أن جاء سيدنا عيسى.
الخلافات بين الأديان والفرق والملل والنحل من صنع البشر المنحرفين:
هذه الخلافات بين الأديان والفِرق والمِلَل والنِّحَل ما أرادها الله عز وجل أبداً، هي من صنع البشر المنحرفين، وهذه العداوات، وهذا الحقد بين أهل الأديان والملل والنحل والمذاهب والفرق ما أرادها الله عز وجل، إنها من صنع الشيطان، كلها خلافات ما أنزل الله بها من سلطان، إنها من صنع البشر المغرضين، والدليل قوله تعالى:
﴿ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ (5)﴾
العبادة تسبقها معرفة بالله وتنتهي بسعادة كبرى :
هذا هو الدين الصحيح، العبادة، والعبادة طاعة تسبقها معرفة، وتعقبها سعادة، أن تقول: العبادة هي الطاعة غلط، العبادة طاعة تسبقها معرفة بالله، وتنتهي بسعادة كبرى، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾
﴿ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ ﴾
، ليعرفوا الله فيطيعوه، فيسعدوا بقربهم منه، وهذا يحتاج إلى إخلاص، لذلك: يا معاذ:
(( أخلِصْ دينك يكفِك القليلُ من العمل. ))
(( يا بنَ عمرَ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا. ))
كل هذه الخلافات ما أنزل الله بها من سلطان، عد إلى ينابيع الدين الأولى، هذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عُد إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو ما صحّ منها، فهي النبع الثّر العذب الفرات، ودع الخرافات والأقاويل والتُرّهات والإضافات والخلافيات التي ابتدعها أهل العصر، لقد أصبح الدين في هذا العصر مستنقعاً آسناً، وأصله نبع صافٍ، عد إلى النبع.
قال سيدنا عمر لبدوي: يا بدوي! بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، فقال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: إنها ماتت، أو أكلها الذئب، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، فقال هذا البدوي الراعي: والله إنني لفي أشد الحاجة لثمنها، ولو قلت له: ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا هو الدين كله، اليوم يحضر دروس الفقه، والتجويد، والمواريث، والحديث، ويأكل مالاً حراماً، ليس هذا هو الدين، رأس الدين هو النصيحة، ورأس الدين الورع:
(( ركعتان من وَرِعٍ أفضلُ من ألفِ ركعةٍ من مُخَلِّط. ))
(( خشيةُ اللهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ، والوَرَعُ سَيِّدُ العملِ، ومَن لم يكن له وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عن معصيةِ اللهِ عز وجل إذا خَلَا بها، لم يَعْبَإِ اللهُ بسائِرِ عملِهِ شيئًا ))
والله لترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة من بعد الإسلام.
(( فارجِعْ فصلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ. ))
من شاء صام، ومن شاء صلى، ولكنها الاستقامة.
على الإنسان الخضوع لله في كل الأمور :
﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ﴾ عبادة لله خالصة لا زيف فيها، ولا رياء، ولا نفاق، ولا خلل، ﴿لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ﴾ له الدين أي له الخضوع في كل الأمور، ﴿حُنَفَآءَ﴾ أي مائلون عن غيره إليه، مائلون عن الباطل إلى الحق، عن الشهوات إلى الطاعات، عن المحرمات إلى القربات، عن أهل الدنيا إلى أهل الآخرة، عن أهل المتع إلى أهل العلم، عن الوحول إلى الزهور.
﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾ الصلاة تُقام، ولها دعائم، من دعائمها الاستقامة، ومن دعائمها العمل الصالح، ومن دعائمها معرفة الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)﴾
خمسة ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ خمسة أخرى، الآن بعد العشرة ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ ﴿آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ ﴾ .
الإسلام خلق و قيم و انضباط و أمانة :
الأديان في هذا الزمان تشبه محلات تجارية، لافتاتها براقة، والبضاعة خاوية، محلات لا بضاعة فيها، أما اللافتات مختلفة، ما نفع اختلاف اللافتات؟ أين البضاعة؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)﴾
كلهم عند الله سيان، ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا هو الدين، كن واعياً لحقيقة الدين، معرفة بالله، واستقامة على أمره، وإحسان للخلق، هذا هو الدين، ومما يروى عن الحسن البصري قوله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل"، ﴿وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ﴾ هذا هو الدين الصحيح، لو أن الناس فهموا الدين هكذا لعمّ الدين أهل الأرض، لو كان المسلمون في أوروبا فقط مسلمين حقاً لعمّ الدين أهل أوروبا كاملاً، لو كان المسلمون في كل زمان مسلمين حقاً لما بقي غيرهم على غير مِلّتهم.
لأن الإسلام شيء عظيم؛ خُلُق، قيم، انضباط، أمانة، نزاهة، عفة، مروءة، استقامة، ورع، هذا الإسلام، من منا لا يحب أن يكون مثل هذا الإنسان؟ فالمسلم داعية بعمله، لو كان أبكم لهدى الناس بعمله.
الإنسان إما أن يكون فوق الملائكة أو دون الحيوان :
ثم قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِيَّةِ (6)﴾
شر البرية أي شر ما برأَ الله، رُكّب الملَك من عقل بلا شهوة، وركّب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركّب الإنسانُ من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
أنت أيها الإنسان لا يوجد لديك حل وسط، فإما أن تكون فوق الملائكة، وإما أن تكون دون الحيوان، وهذه الآية دليل.
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِيَّةِ﴾ أحقر حيوان بنظرك تشمئز منه نفسك يكون الكافر أسفل منه، وإذا عرفت الله عز وجل فأنت فوق الملائكة.
وتزعمُ أنّك جُرمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
وفي الأثر: خلقت السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك، ولا أبالي، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك.
علامة معرفة الله الصبر على حكمه و الاستسلام له و التوكل عليه:
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ (7)﴾
أي خير ما برأ الله قاطبة، قال تعالى:
﴿ جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ (8)﴾
معنى ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٍ﴾ أي: جنات يستقرون فيها إلى الأبد، ﴿رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ قال أحدهم: يا رب! هل أنت راض عني؟ قال: يا عبدي، هل أنت راض عني حتى أرضى عنك؟ أنا أرضى عنك إذا رضيت عني، ولن ترضى عني إلا إذا عرفتني. وإذا عرفتني قلت الحمد لله على كل حال.
وعلامة معرفة الله الرضى في قضائه، والصبر على حكمه، والاستسلام لأمره، والتفويض له، والتوكل عليه، هذه علامة الإيمان.
كل من آمن بلسانه وطبق الشرع بجوارحه و خشي الله فهو ناجٍ:
﴿رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ لكن لِئلّا يُفهَم من هذا الكلام أن كل من آمن بلسانه، وأعلن الإسلام بلسانه، وطبق الشرع بجوارحه، ولم يخش قلبه، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ﴾ والقلب لا يخشى إلا إذا كان عالماً، لأن علامة العلم الخشية، ومن نتائج العلم الخشية، ﴿ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ﴾ .
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم بارك لنا في شهر رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان، اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا، وتسلمه منا متقبلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت.
مولانا رب العالمين اللهم أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
اللهم اجزِ عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله، واجزِ عنا صحابته الكرام ما هم أهله، واجزِ عنا مشايخنا ومن علمنا ومن له حق علينا.
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق