- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس العاشر من دروس سورة الأنعام .
كل عمل ولو بدا عظيماً إن لم يكن موظفاً للسعادة الأبدية فهو لعب :
مع الآية الثالثة والثلاثين، والآيات التي تليها، ففي قول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) ﴾
أيها الإخوة الكرام، تحدثت في درسٍ سابق عن حقيقة اللعب وعن حقيقة اللهو، وبينت أن العمل العابث الذي لا جدوى منه في المستقبل، والذي ينطوي على نقيضه في الدنيا هو لعب.
والمثل الواضح:
ضربت مثلاً آخر:
لكن لو تعمقنا أكثر لوجدنا أن الدنيا كلها لعب، ماذا يجدي سباق السيارات أحياناً؟ ماذا يُجدي سباق الهجن؟ سباق الخيل؟ إلا إذا كان موظفاً لهدف نبيل، موضوع آخر، أما لمجرد السباق، ماذا يُجدي أن يهيج الناس من أجل إدخال كرة في مرمى؟ ماذا يُجدي أن يصعد الإنسان إلى القمر، وشعوب تموت من الجوع في أطراف الأرض؟ لذلك لو تعمقنا أكثر، لوجدنا أن كل عمل مهما بدا عظيماً إن لم يكن مُوظفَاً للسعادة الأبدية فهو لعب .
حينما يؤمن الإنسان بالآخرة إيماناً حقيقياً كل حركاته وسكناته في الدنيا مرتبطة بذاك الهدف :
يوجد متاحف في أوربة فيها تماثيل من صنع فنانين كبار، شيء لا يصدق في أبهائها، وتماثيلها، يأتي السائح فيؤخذ بهذه التماثيل، ماذا فعلنا؟ أيّ عمل لا يوظف للسعادة الأبدية فهو لعب، أي عمل لا يوظف للدار الآخرة فهو لعب، الدليل :
﴿ وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَالْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا
لكن أيها الإخوة، أنا مضطر أن أوضح؛ أحياناً الأب إذا أخذ أولاده إلى نزهة بعد مدة طويلة من الدراسة المُضنية، وملأ قلبهم بالفرح، وآنسهم، ومتّن علاقتهم به، وأكرمهم فهذا عمل متعلق بالآخرة، ليس لعباً، أنت حينما ترتدي ثياباً أنيقة لأنك مسلم وتمثل هذا الدين، ثيابك نظيفة، تعتني بهندامك، هذا ليس لعباً لأن له أثراً في مكانة المسلم، أنت حينما ترتب محلك التجاري، لأن اسمك مسلم، فإذا كان في المحل فوضى، وغبار، وأشياء لا لزوم لها، يُؤخذ عنك فكرة سيئة، فأنت حينما تعتني بمحلك التجاري، وببيتك، وبهندامك، وحينما تمتّن علاقتك بأهلك، وبأولادك، هذا ليس من اللعب، هذا من عمل الآخرة .
لذلك أنت حينما تؤمن إيماناً حقيقياً، وحينما تؤمن بالآخرة إيماناً حقيقياً، كل حركاتك وسكناتك في الدنيا مرتبطة بذاك الهدف.
أبين: إنسان ذهب إلى بلد غربي لينال دكتوراه، ويعلق أهمية لا حدود لها على هذه الشهادة، في عودته إلى بلده يحمل هذه الشهادة العليا، وفي زواجه، وفي شراء بيته...إلخ، الهدف الأول في هذا البلد نيل الدكتوراه، علة وجوده في هذا البلد نيل الدكتوراه، الآن عنده حركة يومية، كل تصرفاته الجزئية مرتبطة بهذا البلد، الآن أراد أن يستأجر بيتاً، يفكر، يجب أن يختار موقعاً قريباً من الجامعة، لأن هدفه نيل الدكتوراه، ويجب أن يكون الوقت المستهلك في الانتقال للجامعة قصيراً، أراد أن يقتني مجلة، يختارها متعلقة باختصاصه، أراد أن يصاحب صديقاً، يختاره متقناً للغة حتى يتعلم منه المحادثة، يختار أن يأكل، يختار أكلة خفيفة تعينه على الدراسة، والحديث طويل، كل حركاته وسكناته في هذا البلد مرتبطة بالهدف الكبير. هكذا المؤمن لأنه آمن بالله ، واختار الدار الآخرة .
لا تصح حركتك في الدنيا إلا إذا عرفت سرّ وجودك فيها :
الآية تقول:
أنت حينما تعرف الهدف تكون جميع الوسائل في خدمة الهدف، وتأخذ قيمة الهدف، مادام الهدف نبيلاً، هذه الوسائل المؤدية إلى هذا الهدف تأخذ قيمة الهدف.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ
فاللعب حركة فيها نقيضها، ولا هدف لها، ولا أثراً مستقبلياً لها، وتنتهي بانتهائها، وتستصغرها بعد حين، هذا هو اللعب، أما اللهو فأخطر من اللعب. لو أن طالباً أقام في العطلة الصيفية أشياء مؤقتة كي يستمتع بها، لكن لو أنه انشغل بهذه اللعب والفحص على الأبواب، نقول: هذا فضلاً على أنه لعب، هو لهو، لأنه صرفه عن هدف نبيل بشيء خسيس، حينما تنشغل بالشيء الخسيس عن الشيء النبيل فهذا لهو.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَٰلُكُمْ وَلَآ أَوْلَٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ
القصة كلها أن تعرف سر وجودك وغاية وجودك، ولا تصح حركتك في الحياة إلا إذا عرفت سر وجودك، وغاية وجودك، كما أن الذي ذهب إلى مدينة في الغرب، ونام في الفندق أول ليلة، واستيقظ وسأل: أين أذهب؟ نسأله نحن: لماذا جئت أنت إلى هنا؟ إن جئت طالب علم اذهب إلى المعاهد والجامعات، وإن جئت تاجراً اذهب إلى المعامل والمؤسسات، وإن جئت سائحاً اذهب إلى المقاصف والمتنزهات، فلا تصح حركتك في هذا البلد إلا إذا عرفت الهدف من وجودك فيه، كما أنه لا تصح حركتك في الدنيا إلا إذا عرفت سر وجودك فيها، لماذا أنت في الدنيا؟
العبادة علة وجودنا :
قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) ﴾
العبادة علة وجودنا، الآن يُبنى على هذه الحقيقة الدقيقة الحركة:
﴿
يعني المكان الذي يحول بينك وبين عبادة الله، التي هي سر وجودك ينبغي أن تغادره، وإلا فالمصير إلى النار.
أيها الإخوة الكرام، المشكلة أن الإنسان حينما يسافر يجد حياة مريحة جداً، يجد جَمالاً أخّاذاً، حاجات موفورة بشكل لا يصدق، كل شيء مُيسر، إلا أن الشيء الذي لا يُحتمَل أنك لا تستطيع أن تضبط من حولك في هذه البلاد، فحينما تخسر أولادك تخسر كل شيء، ولم تربح شيئاً، فالمكان الذي يمنعك أن تعبد الله ينبغي أن تغادره، والمكان الذي يغري أولادك أن يعصوا الله ينبغي أن تغادره، لقوله تعالى :
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
المكان الذي يحول بينك وبين أن يكون أولادك في طاعة الله ينبغي أن تغادره :
لذلك البنت التي تُوءَد في الجاهلية تُسأل :
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) ﴾
لكن الله يقول :
﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ
أما التي تنشأ في بلد متفلّت، ولها صاحب، ولا يستطيع الأب أن يعنّفها بحسب القوانين النافذة، والله الذي لا إله إلا هو، أخ كريم جاء من بلد بعيد، وحدثني عن صديق له، له سِمة إسلامية، قال له : ماذا أفعل؟ ابنتي فوق في غرفتها ومعها صديقها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إن عنّفتها وقّعت تعهداً في مركز الشرطة ألاّ أعود إلى ذلك، لأنه سلوك غير حضاري، هذا الصديق الذي خلا بابنته جاء بدعوة من ابنته، فأنت إنسان غير حضاري.
إذاً المكان الذي يحول بينك وبين أن يكون أولادك في طاعة الله أيضاً ينبغي أن تغادره ، ومعنى :
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ
إما ضعف قمعي، وإما ضعف نفسي، قد يضعف الإنسان أمام الشهوات، فهو في هذا المكان مُستَضعَف، وقد يضعف أمام قوة قاهرة ﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾
العقل أن تبدأ من النهاية أي الموت :
لذلك أكبر شيء مهم في الدين أن تعرف لماذا أنت في الدنيا؟ وما حقيقة الكون؟ وما حقيقة الحياة الدنيا؟ وما حقيقة الإنسان، من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ من هنا يكون المؤمن عاقلاً، لأنه عرف سر وجوده وغاية وجوده، وتكيف مع أخطر حدث في حياته ألا وهو الموت :
هذا الكلام الواقعي، فماذا أعددنا لهذه الساعة التي لا بد منها؟ هذا هو العقل، ابدأ من النهاية .
الفرق الشاسع بين الدنيا والآخرة :
﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) ﴾
﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) ﴾
هل يوجد أوضح من هذا ؟ ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ
ليس في الجنة أمراض، ولا يوجد متاعب، ولا يوجد اغتيالات في الآخرة، ولا يوجد هموم، ولا يوجد فقر، ولا يوجد قلق، ولا يوجد تهديد، أما في الحياة الدنيا فالأمراض والمتاعب لا تنتهي .
﴿ وَمَا لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35) ﴾
(أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)
أدلة من القرآن والسُّنة تبين أن الدنيا إذا قيست بالأبد فهي لاشيء :
هذه الحياة الأبدية إلى ما شاء الله، أكبر رقم في الدنيا إذا قيس بالأبد فهو صفر، يمكن أن تعيش خمسة آلاف مليون سنة، ممكن، لأنَّ كل ما سوى الله ممكن، الله عز وجل واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود، ممكن أن تعيش خمس مليارات سنة، ممكن أن تعيش خمسة آلاف مليون مليار سنة، لكن قيمة هذه الدنيا كلها إزاء الآخرة صفر، أي أخ درس الرياضيات من بديهيات الرياضيات أن أكبر رقم أنا عبرت عنه بواحد في الأرض، وأصفار إلى الشمس، 156 مليون كم، لا كل من الكيلومترات أصفاراً، كل ميليمتر صفر، واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، اسألوا علماء الرياضيات، كل ميليمتر صفر، 156 مليون من الأصفار، هذا الرقم ضعه صورة وضع في المخرج لا نهاية، القيمة صفر، لذلك:
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) ﴾
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
ما الحياة الدنيا إلا تفاخر ولعب ولهو وزينة :
لذلك هذا الكلام لكل الإخوة الكرام:
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))
الحياة الدنيا تعريفها لعب ولهو، وفي آية وزينة :
﴿ ٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ
تفاخر، تكاثر، زينة، لعب، لهو، إذا قال الله
الله عز وجل يواسي سيدنا محمد في الآية التالية على تكذيب الكفار له :
﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33) ﴾
هو الرسول، سيد الخلق، وحبيب الحق، من شدة كماله ورحمته بالخلق، فهو أرحم الخَلق بالخَلق، فحينما يُكذَّب يتألم أشد الألم، فالله سبحانه وتعالى يواسيه:
﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ﴾
أي يا محمد لا تحزن، لأنّ شأن المرسلين أن يُكذَّبوا، لكن هناك نقطة دقيقة وهي عن الجامعة، الجامعة الكبرى لا يعني أن كل الطلاب ينجحون، أبداً، لكن الجامعة الكبرى أن تأتي النتائج متوافقة مع المقدّمات، حينما ينجح المتفوق ولا ينجح الكسول، فهي جامعة عظيمة، فلذلك أن يكون الإنسان مخيَّراً، وأن يُمنَح الإنسان مقوّمات التكليف من كونٍ دالٍ على عظمة الله، ومن عقل يعد أحد أسباب معرفة الله، ومن فطرة تعد سبب معرفة الله، ومن شهوةٍ كقوة محركة، ومن اختيارٍ كثمن لعمل الإنسان، ومن شرعٍ كطريق واضح يسير فيه .
يجب أن تؤمن أن من سنن الله عز وجل المعركة بين الحق والباطل :
أيها الإخوة، حينما يكون الإنسان مؤمناً، وحينما يتفوق في الدنيا بإيمانه، عندئذٍ يحقق الهدف من وجوده، فالنبوات بعض أتباع الأنبياء، أو بعض الذين التقى بهم الأنبياء يصدقونهم، وبعض الذين التقى بهم الأنبياء يكذبونهم، فالعبرة أن يكون مصير المُكذب مصيراً معيناً، وأن يكون مصير المصدق مصيراً معيّناً، إذاً هناك عدل في الكون .
يا محمد لا تتألم، ولا تحزن إذا كذبك قومك، فهذا شأن الأنبياء من قبل :
﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّۢا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍۢ
يجب أن تؤمن أن من سنن الله عز وجل المعركة بين الحق والباطل، الأعداء لهم دور مهم جداً، الأعداء يدفعونك إلى طلب العلم، إذا كذبوا دينك، قد يأتي مؤلف ويقول: هذا الدين خرافة، والدين أفيون الشعوب، مثلاً، وقد يأتي إنسان مُبطِل ويقول: هذا القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم النقطة الدقيقة أن الله سمح بذلك، ليدفعِ المؤمنين إلى تمكين إيمانهم، ما الذي يحصل في النهاية؟ أن عمالقة الشر ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
يمكن أن نشكر القوة الغاشمة لأنها أعانتنا على أن نكفر بها ونؤمن بالله :
لذلك الطرف المناوئ له فضل كبير، نحن على مستوى ما يجري في العالم أنا أرى، وأتمنى، وأعتقد أن هذه الهجمة غير المعقولة على الإسلام والمسلمين، لصالح المسلمين لأنها توحدهم، ولأنها توقظهم، ولأنها تدفعهم إلى التمسك بدينهم، ولعل هناك خيرات حِسان لا يعلمها إلا الله من نتائج هذه المعركة، يعني من قبل ما جرى في الحادي عشر من أيلول هناك قوة عظمى خطفت أبصار أهل الأرض، وطمع كل إنسان أن يُسمح له بزيارة هذه البلاد، وكأن هذه البطاقة الخضراء بطاقة إلى الجنة الخضراء، وأن هذه القوة الكبيرة العملاقة الغنية القوية، التي طرحت قيماً رائعة يُحبها الإنسان كحريته، وما شاكل ذلك من قيم والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والعولمة وغيرها، هذه القيم خطفت أبصار أهل الأرض، وتعلق الناس بهذه الجهة القوية، ورأوها بديلاً للدين؛ هي الحضارة والتفوق، فلما ظهرت وحشيتهم أصبحت قوة غاشمة، ليس غير، وبقي الإسلام عملاقاً في نظر الناس .
لذلك الكلمة الدقيقة، أنه يمكن أن نشكر هذه القوة الغاشمة، لأنها أعانتنا على أن نكفر بها، وما لم نكفر بها فالطريق إلى الله ليس سالكاً:
﴿ لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ
إذاً الله عز وجل يخفف عن نبيه الكريم فيقول:
الحكمة من إثبات التهم التي اتهم بها النبي الكريم في القرآن :
إخواننا الكرام، بربكم إذا قال الكفار والمشركون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم مجنون، أو ساحر، أو كاهن، أو شاعر، لماذا أثبت الله هذا في القرآن، ويُتلَى إلى يوم القيامة، ما الحكمة ؟ سبّ أحدهم إنساناً بسباب مؤذٍ هل من الحكمة أن تروِّج هذه الكلمة بين كل الناس؟ هذا الذي وقع، جميع التهم التي اتهم بها النبي عليه الصلاة والسلام قد أثبتها الله في القرآن، وهذا كتاب يُتلى إلى يوم القيامة ، فما الحكمة ؟
الحكمة: أنْ يا أيها الدعاة إذا نالكم أذى فلكم في هذا النبي الكريم أسوة حسنة، هل يُعقَل أن يذهب النبي الكريم إلى الطائف مشياً على قدميه، وهناك يُستهزَأ به، ويُكذّب، ويناله الأذى حتى سال الدم من قدميه الشريفتين، أيضاً هذا درس للدعاة، أنك إذا تحملت في سبيل الدعوة مضايقة وعذاباً فلك بهذا النبي أسوة حسنة، والآخرة تسوى فيها الحسابات ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ هؤلاء الذين حاربوا النبي أين هم الآن؟ هؤلاء صناديد قريش، زعماء قريش، أين هم الآن؟ هم في مزبلة التاريخ، والنبي الكريم الذي كان ضعيفاً مستضعفاً يمر على عمار بن ياسر، وهو يُعذب، لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا أنْ يقول :
(( صبراً آل ياسر ! فإن مصيركم إلى الجنة ))
كان ضعيفاً، بالمناسبة، لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قوياً لآمن كل من في الجزيرة في ثانية واحدة خوفاً منه، كالأقوياء تماماً، إذا أعطوا توجيهاً يُنفَّذ بشكل غير معقول، لكن أراده الله أن يكون ضعيفاً ليكون الإيمان به قيّماً، الإيمان به له ثمن كبير، لأنه آمن :
﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً(21) ﴾
﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
هذا الإنسان جعله ضعيفاً ليُثمَّن الإيمان به، آمن به وهو ضعيف :
إن عصينا وصبرنا فالمصير إلى القهر أما إن أطعنا وصبرنا فالنتيجة هي النصر :
﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا
إن عصينا وصبرنا فالمصير إلى القبر وهو القهر، أما إن أطعنا وصبرنا فالنتيجة هي النصر:
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)
﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) ﴾
قضية الإيمان بالله في نفس الإنسان لا في الآيات :
هنا نقطة دقيقة جداً:
أراد الله تعالى أن يكون الإيمان اختيارياً لأنه سيكون ثمن جنة عرضها السماوات والأرض:
الله عز وجل أرادنا أن نأتيه راغبين، طائعين، مختارين، محبّين :
بالمناسبة، أغلى آلة تصوير إذا لم يكن فيها فيلم لا قيمة لها، وأقل آلة تصوير مع الفلم فيها فائدة، فالفائدة أن تبحث عن الحقيقة، فإن أردت الحقيقة كل شيء في الكون يدلك على الله، وإن أردت أن تتجاهل الحقيقة، فلو كنت في كل مراكز العلوم، والجامعات، والمجاهر، والتلسكوبات، لا تؤمن :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.