- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الخامس والخمسين من سورة الأنعام ، ومع الآية الواحدة والثلاثين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131) ﴾
من صفات الله الحسنى العدل وعدم الظلم
الله عز وجل أسماؤه كلها حسنى ، وصفاته كلها فضلى ، ومن أسمائه العدل ، فالله عز وجل لا يظلم .
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلً
ولا قطميرًا ، ولا حبة من خردل .
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
لذلك يُعرف الله عز وجل من خَلقه ، ويُعرف من كلامه ، ويُعرف من أفعاله ، الأَولَى أن تبدأ بمعرفة الله من خلال خلقه ، لأن خلق الله عز وجل كماله مطلق ، ويمكن أن تثنّي في طريق معرفة الله بكلامه، كلامه معجِز ، أما أفعاله ينبغي أن تُرجِئها للمرحلة الثالثة ، لأن فهمك لعظمة الله من خلال خلقه ، وفهمك لعظمة تشريعه من خلال كلامه يلقي لك ضوءاً على أفعاله ، لذلك ابدأ بالتفكر في خلق السماوات والأرض ، وثنّ بتدبر القرآن الكريم ، وبعدئذٍ يمكن أن تستنبط من أفعاله الحكم الكثيرة ، فلكل واقع حكمة ، وكل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادته متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق .
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ
لم يقل : بيدك الخير والشر ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
إذاً مستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن يظلم الله مخلوقاً واحداً من آدم إلى يوم القيامة، قلت : مخلوقاً من الإنس ، والجن، والحيوان ، وما إلى ذلك ، عدله مطلق ، لكننا نرى ظلماً ، هذا الذي نراه من الظلم الشديد موظفٌ للخير المطلق ، فالشر المطلق لا وجود له في الكون ، بل إن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله ، والتناقض أن وجود أحدهما ينقض الآخر ، ما دام الله موجوداً فليس في ملك الله شر مطلق ، هناك شر نسبي ، هناك شر موظف للخير ، أما شر مطلق فلا يوجد ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( وَالشّرّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))
وللتوضيح
الأنثى صُمّمت للذكر عن طريق الزواج ، وإنجاب الأولاد ، والمرأة التي يتزوجها الشاب لها مستقبل ، ستغدو أماً ، وجدةً ، ولها أولاد ، ولها أصهار ، أما إذا استمتع بها الإنسان خارج نطاق الزوجية ألقاها كعلبة فارغة بعد أن يقضي وطره منها ، فالخطأ ليس في أصل التصميم ، الخطأ في سوء الاستعمال ، ولأن الإنسان وحده مخير أودع الله فيه الشهوات ، أعطاه منهجاً ، أعطاه عقلاً ، منحه فطرة ، فإذا تحرك بدافع من شهواته بعيداً عن منهج الله كان الفساد في الأرض ، لذلك قال الله تعالى :
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
كل ما سوى الإنس والجن مسير ، معنى مسير أي لا فساد أبدا .
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون
أيها الإخوة ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾
تماماً كما لو أن طبيباً أخبر مريضاً معه التهاب معدة حاد ، يقول له : يمكن أن تُشفى بحمية صارمة ، فإن لم تأخذ بهذه الحمية الصارمة لا بد من عمل جراحي .
لذلك الله عز وجل له دعوة بيانية ، وأنت سليم معافى مرتاح ، يأتيك الحق بمحاضرة ، بتفسير ، بكتيب، بندوة ، بقراءة ، بخطبة ، ينبغي أن تستجيب ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
فإن لم تستجب أخضعك الله لمعالجة أصعب ، قال تعالى :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ))
هذا اسمه التأديب التربوي .
أول شيء الدعوة البيانية
في الحالة الأولى أكمل شيء أن تستجيب ، وفي الحالة الثانية أكمل شيء أن تتوب ، فإن لم يستجب ولم يتُب أُخضع إلى معالجة قلّمَا تنجح مع معظم الناس ، الإكرام الاستدراجي
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً
هذا الإكرام الاستدراجي ، فإن لم يشكر جاءه الهدى البياني فلم يستجب ، ثم جاءه التأديب التربوي فلم يتب ، ثم جاءه الإكرام الاستدراجي فلم يشكر ، عندئذٍ لا بد من القصْم:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾
لكن بشكل دقيق جداً ، السيارة أصل صنعها من أجل أن تسير ، لماذا تُجهَّز بمكابح ، والمكبح في حقيقته يتناقض مع أصل صنعها ، المكبح يوقف السيارة ، هي سيارة صُمِّمت من أجل أن تسير ، لأن المكابح ضرورية جداً جداً جداً لسلامتها ، لذلك الإنسان خلق للسعادة ، والدليل :
﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ
ومع ذلك تأتي المصائب كي تحقق لهم السعادة ، وقال العلماء :
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
النعم الباطنة هي المصائب ، وكنت أقول دائماً : لو دخلت إلى مسجد فرأيت فيه جموعاً غفيرة ، تأكَّدْ أن عدداً كبيرا ًجداً قد يصل إلى الثلثين أتوا إلى المسجد بعد معالجة حكيمة من الله عز وجل.
فكل شيء يسوقه الله للإنسان محض فضلٍ ، ومحض عدلٍ ، ومحض رحمةٍ ، أصحاب الجنة الذين بخلوا أن يعطوا حق الفقير لما رأوها قالوا :
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) ﴾
لأن طائفاً طاف عليها فأبادها عن آخرها ، الله عز وجل يقول في نهاية القصة :
﴿ كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ
﴿ إِنَّا لَضَالُّونَ(26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29) ﴾
الله عز وجل يعقَّب على هذه القصة بقوله:
مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع
1 - مصيبة الدفع
أيها الإخوة ، مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع ، الإنسان أحياناً مع إيمانه ، ومع صحة عقيدته، ومع صحة تصوراته ، تضعف همته أحياناً ، فيأتيه ما يدفعه إلى الله ، لعله يرى شبح مصيبة ، شبح مرض ، شبح فقر ، لعله يقع تحت تهديد عدو ، ليس له ملجأ إلا الله ، لذلك شأن العبد المقصّر الذي تأتيه مصيبة كي تدفعه إلى الله كشأن ابنٍ ترك يد أمه ، فنبح عليه كلب ، فخاف من هذا الكلب ، وعاد إلى أمه يحتمي بها ، وكل أمْنه مع أمه ، وكل سعادته مع أمه ، وكل حاجاته مقضية مع أمه ، فهو حينما ترك يد أمه جاء من يدفعه إلى أمه .
فالمصائب للمؤمنين مصائب دفع إلى باب الله ، الله عز وجل يُلجئنا إلى بابه ، لذلك من هو الشقي؟ ـ دققوا ـ هو الذي يكون خارج العناية الإلهية .
تماماً كما لو أن إنساناً معه ورم خبيث منتشر في كل أنحاء جسمه ، وسأل طبيبًا بكل لهفة شديدة : ماذا آكل ؟ وما الذي تمنعني عن أن آكله ؟ يقول له : كل ما تشاء ، لأنه لا أمل في الشفاء ، كلْ ما تشاء، أما الذي معه التهاب معدة فيقيم عليه الطبيب الدنيا ولا يقعدها لو أكل قطعة من مواد تسبب زيادة هذه القرحة ، يعطيه حمية صارمة ، يشدد عليه ، يعنّفه .
لذلك لمجرد أن تكون ضمن العناية الإلهية فأبشرْ ، لمجرد أن تكون في عناية الله المشددة فأبشر، لمجرد أن تُتابَع ، إذا أحب الله عبده عجّل له بالعقوبة .
يعني أحياناً تتراكم الذنوب إلى أن يستحق الإنسان ضربة قاضية ، وأحياناً لأن هذا الإنسان فيه خير كبير يُتابَع، ذنب بذنب.
كما لو أن مدير مؤسسة جاءه موظف فقال له : ستة أشهر تجريبية ، فبدأ المدير يحصي عليه أخطاءه فقط ، تأخر اليوم ، غاب كثيراً ، لم يحسن التصرف ، لا يملك خبرة ، همّ المدير أن يحصي عليه أغلاطه حتى إذا تراكمت صرفه ، أما لو أن الابن عند أبيه في مؤسسة يحاسبه كل دقيقة ، وكل ساعة ، وعند كل خطأ ، لأنه ابنه ، ورحمته به تقتضي أن يدرّبه لا أن يحصي عليه أخطاءه .
لذلك حينما تشعر أن الله يتابعك كثيراً ، ويحاسبك كثيراً فأبشرْ فأنت في العناية المشددة ، أنت لست ممن لا خير فيهم .
﴿ وَأُوحِي إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36) ﴾
لا تعبأ ما دام الله يتابعك، إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن شكر اقتناه ، إذا أحبك الله عز وجل يعالجك ، قبل أن يكون العلاج مستحيلاً ، قبل أن نصل إلى شفير القبر
فالذي يصل إلى شفير القبر سليماً معافىً فقد حقق أكبر مكسب يناله الإنسان ، لذلك قال تعالى :
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89) ﴾
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) ﴾
هو في الجنة الآن ، في متعة ما بعدها متعة ، في نعيم مقيم .
﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
ينظرون إلى وجه الله الكريم ، يغيبون خمسين ألف عام من نشوة النظرة ، وهذا تكريم عظيم، يقال لهم:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
نحن جئنا في الأرض وهناك عالجنا الله عز وجل ، وضيّق علينا ، وشدّد علينا ، وعجّل لنا بالعقوبة ، وابتلانا ببعض المصائب حتى أصبحنا مؤهلين لهذا المقام في الجنة .
سؤال دقيق :
﴿ وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا
هذا يوم القيامة، ومعنى (رَسُولًا)
﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ
الدليل: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا﴾
2 - مصيبة الرفع
لكن للمؤمن مصيبة من نوع ثان ، هي مصيبة الرفع .
للتوضيح : عندك شاحنة ، ونقل الطنّ بخمسين ألف ليرة ، وشاحنتك تتسع عشرين طنًّا ، وأنت قبلت طنًّا واحدً ، أنت جيد ، السرعة جيدة ، لكن قبلت بعمل بسيط ، ولم تكن طموحاً لعمل عظيم، فهناك مصائب ترفع لك طاقتك في استيعاب الأعمال الصالحة ، هذه مصيبة رفع ، الأُولى مصيبة دفع ، في الأولى هناك سرعة بطيئة ، والثانية فيها حمولة خفيفة ، يمكن أنت تطعم جائعاً ، لكنك إذا طلبت العلم ، وهديت إنساناً ، والإنسان هدى عشرة ، والعشرة هدوا مئة يمكن أن تأتي يوم القيامة وثمة مليون إنسان سلكوا طريق الحق بسببك .
فأحياناً تأتي المصائب من أجل أن تدفعك إلى باب الله ، والآية الدقيقة جداً :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)
إخوتنا الكرام ، الآية الدقيقة :
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15) ﴾
يعني إذا كان الإنسان غنياً، أو كان قوياً، أو كان وسيماً، أو حياته ناجحة جداً يقول: ﴿رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾
﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16) ﴾
الجواب الإلهي :
﴿ كَلَّا
كلا يا عبادي ، ليس عطائي إكراماً في الدنيا ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، يعني المريض ليس مُهانًا عند الله ، بالعكس هو في أعلى درجات القرب من الله .
إذا وجد الأب الطبيب ابنه يشكو زائدة ملتهبة ، ولا بد من عمل جراحي ، يخدّره ، ويفتح بطنه ، العمل على الشبكية مؤلم جداً ، فيه فتح بطن ، وفيه دم يسيل ، وفيه تخدير ، وفيه آلام ، وفيه خياطة ، لكن أليست هذه رحمة كبيرة جداً ؟
أيها الإخوة ، هناك مصيبة الدفع ومصيبة الرفع ، هذه مصائب المؤمنين ، لأن فيهم خيراً كثيراً ، لذلك هناك حديث في هذا الموضع :
عَنْ سَعْدٍ قَالَ : قُلْتُ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ ، فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ))
هذه مصائب المؤمنين حينما تأتي: ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
مصائب العصاة والشاردين ردع وقصم
لكن هناك مصائب أخرى تصيب العصاة ، والشاردين ، والمنافقين ، والمشركين، والكفار ، تلك عقوبات وليست دفعاً ولا رفعاً ، هذه المصائب تنتظم على شكلين ، مصيبة ردعٍ ، أو مصيبة قمعٍ ، أو قصمٍ ، الردع يعني انحراف شديد جداً يحتاج إلى مصيبة قد لا تُحتمل :
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
أحياناً مرض شديد في القلب ، ومرض في الجهاز الهضمي ، أدوية الجهاز الهضمي تؤذي القلب، وأدوية القلب تؤذي الجهاز الهضمي ، أحياناً مرض مع فقر ، أحياناً مرض مع فقر مع فضيحة ، أحياناً علاقات خارجية سيئة جداً ، وعلاقات داخلية أسوأ ، الله عز وجل عنده أدوية كثيرة جداً ، وفي كل بلد له أدوية ، هناك بلاد تتمتع بحريات عالية جداً ، هناك أدوية من نوع ثانٍ ، وبلاد تتمتع بضغوط شديدة فيها أدوية من نوع ثانٍ ، على كلٍ أينما ذهبت في ملك الله فهناك دواء مناسب لك ، والبطولة أن لا تصل مع الله إلى دواء مرّ .
يعني مرة أراد أخ أن يداعبني بلسانه فقال لي : ما ملخَّص دَعْوَتك في 30 سنة ؟ قلت له كلمتين والله ما لي غيرها : إمّا أنْ تأتيه ركضاً ، أو يُؤْتَى بك ركضاً ، لا ثالث لهما ، إمّا أنْ تأتيَ الله طائعاً بمبادرة منك ، باختيار منك ، وأنت صحيح معافىً ، فإذا لم ترد ذلك فعند الله أدوية يدفعك دفعاً إلى بابه، والدليل يا محمد :
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً(12) وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) ﴾
يعني أحياناً حينما لا تستطيع الأم تربية ابنها يقول لها الأب : دعيه إلي ، عندي أدوية أشد قسوة من هذه الأدوية ، فإما أن تأتيه طائعاً مختاراً تائباً ، وهو يقبلك ، ويفرح بك .
وهذا الأعرابي الذي ركب ناقته ، وعليها طعامه وشرابه ، وجلس ليستريح فلما استيقظ لم يجد الناقة ، أيقن أنه هالكٌ لا مَحالة ، بالصحراء ، فبكى ، وبكى ، وبكى ، حتى أدركته سِنَة من النوم ، استيقظ فرأى الناقة فاختل توازنه ، ونطق بالكفر: قال يارب أنا ربك وأنت عبدي ، من شدة الفرح اختل توازنه. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي ، وَأَنَا رَبُّكَ ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))
أيها الإخوة ، الله ينتظرنا ، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، يا داود هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمقبلين ؟
والأب يعرف هذا المعنى ، الابن المستقيم المهذب وضعه طبيعي في البيت ، أما الابن المنحرف الشارد حينما يعود إلى أبيه تائباً يمتلئ قلب الأب رحمة وفرحاً لا يوصف .
لذلك ما أمرنا أن نتوب إلا ليتوب علينا ، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا ، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا ، فالمؤمن له مصائب: دفع ورفع
مثلاً : ارتكب إنسان جريمة قتل ، أُلقي القبض عليه بعد شهر ، سِيق إلى محكمة الجزاء، الجنايات، حُكم عليه بالإعدام ، رُفع الأمر إلى محكمة التمييز ، النقض ، صُدّق الحكم ، رُفع إلى القصر، صدّق رئيس الجمهورية هذا الحكم ، سِيق إلى المشنقة ، صبيحة أحد الأيام وقف على منصة الشنق، نقول له : الآن وصلت إلى طريق مسدود ، إن شئت أن تبكي فابكِ ، لا بد من أن تُعدم ، إن شئت أن تضحك فاضحك ، لا بد من أن تُعدم ، إن شئت أن تترجّى ترجَّ ، لا بد من أن تُعدم ، إن شئت أن تتماسك تماسك ، لا بد من أن تُعدم .
فالبطولة ألا أصل مع الله إلى طريق مسدود ، وألا تنطبق عليّ الآية الكريمة :
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ
مصيبة الكافر والعاصي والمنافق والمنحرف والمجرم ردع أولاً ، إذا كانت ردعاً يكون فيه بقية خير ، فإن لم يكن فيه بقية خير كانت قصماً ، أما الأنبياء فمصائبهم مصائب كشف ، ينطوي على كمال صعب تصوره .
النبي عليه الصلاة والسلام مشى على قدمين 80 كيلومترًا ، هناك طرق وعرة ، الآن إنشاء هذه الطرق إلى الطائف كلف المتعهدين بتفكيك الآلات كلها ، ونقلها إلى موقع العمل قطعة قطْعة ، ثم تركيبها ، من شدة وعورة الطرق ، يقطع هذه المسافة على قدميه ليصل إلى أهل الطائف فيكذبونه ، يستهزؤون به ، ويسخرون منه ، ويستخفون به ، ثم يدفعون أولادهم لضربه وإيذائه ، وسال الدم من قدميه الشريفتين .
إذا أخذت دكتوراه ، وما قيل لك : دكتور تغضب ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام ضُرب ، وسال الدم منه ، وقال :
(( يا رب ، إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب المستضعفين إلى من تكلني ؟ إلى صديق يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي ))
الآن أراد الله أن يظهر كماله أرسل له ملَك الجبال ، وقال : يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين ، يعني مكّنه الله أن ينتقم ، مكّنه أن يبيدهم عن آخرهم ، مكنه أن يلغي وجودهم ، ما تخلى عنهم ، ودعا لهم بالهداية ، واعتذر عنهم ، إنهم لا يعلمون ، واستبشر أن يخرج الله من أصلابهم من يوحده ، هذا الكمال البشري هو الكمال الأول في الأرض لا يظهر بالأحوال العادية .
يعني الإنسان يقول لزوجته ، أنا معجب بك في أشد الأحوال ، أما حينما تغدو مريضة ، مقعدة ، يتحمل شهراً ، شهرين ، بعد هذا يتبرم ، مرض الزوجة أحياناً يكشف حب الزوج لها ، وهناك أزواج يتفانون في العناية بزوجاتهم المريضات ، وهناك أزواج يريدها صحيحة لائقة ، براقة ، فإذا أصابها مرض تخلى عنها .
والله أعرف زوجين ، الاثنان بأعلى درجة علمية ، أُصيب الزوج بمرض خبيث ، فتركته الزوجة لتبحث عن زوج آخر صحيح .
أيها الإخوة ، مصائب الأنبياء مصائب كشف ، لأن ثمة كمالاً لا يظهر إلا بحالات نادرة ، لأن الله سبحانه وتعالى ليعطي عطاء عن بينة ، ليهلك من هلك على بينة ، ويحيا من حيي على بينة .
أيها الإخوة ، المصائب كالمكابح للمركبة ، تتناقض في ظاهرها مع أصل صنعها لكنها ضمان لسلامتها ، بالمصائب ملايين مملينة يعودون إلى الله ، ويصطلحون معه ، وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض : أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، كلمة أن هنئوا فلاناً، كلمة التهنئة لا تليق إلا بمن اصطلح مع الله ، ولا يليق بك أن تكون لغير الله ، إنك إن كنت لغير الله تحتقر نفسك ، أحياناً ترفض آلاف الأشياء ، ازدراءً لها ترفض وظيفة دخلها قليل ، ترفض زوجة غير مستقيمة ، ترفض بيتاً صغيراً وشمالياً ، لكنك إذا رفضت الحق تحتقر نفسك .
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ
فأنت لله ، ولا يليق بك أن تكون لغير الله ، لا يليق بك أن تُجيّر لإنسان ، أو لجهة أو لجماعة ، أنت لله.
(( " خلقت لك ما في السماوات وما في الأرض ولم أعيَ بخلقهن ، أفيعيني رغيف أسوقه لك كل حين ، لي عليك فريضة ، ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترصَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلمي فيما أريد أتعبتك في تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد " . ))
المصائب محكّ الرجال
أيها الإخوة ، المصائب مِحكّ الرجال ، والحزن خلّاق ، والنعيم لا يأتي بشيء ، فإذا كان الرجل ببحبوحة ، وعنده بيت جميل جداً ، وهو مغرم بأن ينغمس في مياه فاترة يسترخي بها ، متى يصير طبيباً ، أو تاجراً ، أو إنساناً مهماً ؟ المتع الحسية لا تقدم ولا تؤخر ، بل تفسد الأخلاق ، لكن المصائب تكون محك الرجال .
والله الذي لا إله إلا هو ، وأنا أعني ما أقول : لو أن الله كشف يوم القيامة لكل المؤمنين ما ساقه لهم من شدائد يقول لك : اجتياح ، يقول لك : احتلال ، قصف ، لو أن الله كشف للمؤمنين ما ساق لهم من شدائد إذا لم يذوبوا كالشمعة محبة لله ، فهذا الدين ليس دين الله ، الله عز وجل غني عن تعذيبنا .
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ
ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بالتوبة
ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بالتوبة .
﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
يعني حينما تفهم حقيقة المصيبة هي رحمة من الله معالجة إلهية ، وقد تكون قاسية ، ولكن حينما تكتشف نتائجها يوم القيامة :
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ
الآن ، لولا أنّ الأرض ومتاعب الأرض ، الأرض فيها متاعب ، يعني أقلّ متاعبها تقدم بالسن ، كل الطاقات تتراجع ، الحواس تتراجع ، الصحة تتراجع ، الجمال يتراجع ، هناك تناقص في الحياة الدنيا ، ويوجد هموم ، ويوجد زوجة بلاء من الله أحياناً ، ويوجد زوج بلاء من الله ، و هناك أولاد عتاة عاقون ، و يوجد فضائح ، ويوجد فقر ، ويوجد قهر ، ويوجد حرب ، ويوجد سجون ، ويوجد أمراض، الآن أكبر سيفٍ سيفُ المرض ، وأكبر مرض الآن منتشر هو الورم الخبيث ، طبعاً هناك أخطاء كثيرة جداً في حياتنا ، في غذائنا ، في طعامنا ، في بيئتنا ، في تلوث الهواء ، في المواد البلاستيكية ، في الإشعاع النووي ، في المبيدات الحشرية ، في الهرمونات التي نستخدمها ، في نظام حياتنا أمراض ، وقهر ، واجتياح ، انظروا ماذا يحصل في بلاد مجاورة ، شيء لا يحتمل
﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا
ما من البشر أحد إلا وسَيَرِد النار ، لماذا ؟ ولو كان مؤمناً ، العلماء قالوا : ورود النار غير دخولها ، الذي يرد النار لا يتأثر ولا بوهجها ، ولكن ليرى المؤمن مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً ، كي تتضاعف سعادته في الدنيا ، وليرى المؤمن عدل الله عز وجل ، هؤلاء الطغاة أين مصيرهم ؟ فلذلك إذا ورد الإنسان النار لا أقول : دخلها ، إذا ورد النار تتضاعف سعادته في الجنة ، ويرى عدل الله عز وجل ، فالبطولة أن تكون مع الله ، وأن تستسلم له ، قال إنسان يطوف حول الكعبة : يا رب ، هل أنت راضٍ عني ، وكان وراءه الشافعي ، قال له : يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال له : كيف أرضى عن الله وأنا أتمنى رضاه؟ ما هذا الكلام ؟ فقال له الإمام الشافعي : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله ، لقوله تعالى :
﴿ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
هل أنت راضٍ عن الله ؟ عن أنك بهذا الشكل ، بهذه الإمكانات ، من أم وأب معينين ، ببلد معين ، بوضع معين ، ببيئة معينة ، بدخل معين ، هل أنت راضٍ عن الله ؟ تأكد أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، ولو كُشف الغطاء لاخترتم الواقع ، لذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه : << والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً >>
وله كلمة رائعة جداً يقول : << والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي >>
إخواننا الكرام ، درسنا اليوم ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾
كيف يصحو الغافل ؟ برسالة من الله ، ما هي الرسالة ؟ المصيبة .
الآن هناك مصطلح جديد في الأخبار ، أحيانا يقام عرض عسكري فيقولون : هذه رسالة وُجهت إلى بلد آخر ، أحيانا مناورات مشتركة ، هذه رسالة ، الآن هناك رسائل كثيرة جداً ، حتى إن حرب دولة في شرق آسيا عُدّت رسالة إلى العالم الثالث ، وحتى حينما قُصفت دولة في أوربا قيل : هذه رسالة إلى أوربا ، أحيانا هناك أعمال على شكل رسائل ، ولا تنسوا هذه الآية :
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
يوم القيامة ﴿ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا ﴾
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
إخواننا الكرام ، رجاء إن جاء شيء تكرهه فاتهم نفسك أولاً .
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ـ هكذا الحديث القدسي الصحيح ـ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ))
لو أن كل إنسان طلب مليار دولار ، أو قصرا ، وطائرة خاصة ، ويختاً ، ومئة سيارة ، قال :
(( إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))
اتهم نفسك ، الله عز وجل غني عن تعذيبنا ، والآية الدقيقة :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا
يعني إذا كانت بضاعة الإنسان كلها نظامية ، ومسعرة ، ما عنده أي مخالفة ، وعنده فواتير بكل شيء ، ومر ضابط جمرك هل تتحرك شعرة ؟ أبداً ، أما إذا كانت كل البضاعة مهربة ، ولا توجد فواتير ، ومر ضابط جمرك ينهار ﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾
إخواننا الكرام ، فقط رجاء لما أردف النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وراءه سيدنا معاذاً ، قال له : يا معاذ، القصة معروفة عندكم ، آخر فقرة فيها :
(( ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه ؟ قال : ألا يعذبهم ))
اطمئنوا ، استقم ، واطمئن إلى أن الله لا يتخلى عنك ، تب إلى الله واطمئن .
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) ﴾
والإعلام الغربي يريد أن يحطم المسلمين ، لأنه كانت هناك قوة عسكرية سابقاً نُجبَر بها على أن نفعل ما يريدون ، الآن ليس هناك قوة عسكرية ، بل هناك قوة إعلامية نصل بها إلى أن نريد ما يريدون ، فالإعلام وراءه خبراء ، وعلماء نفس ، تسمع الأخبار تكاد لا تقف على رجليك من شدة القلق، لأنه واحداً احتكر لقاح أنفلونزا الطيور حدثتْ مبالغة في الإعلام مخيفة ، مئة وخمسون مليوناً! أرض فيها ستة مليارات إنسان مات حتى الآن 129 شخصاً ، هذا رقم ! هذا وباء هذا ؟! لكن المبالغة في الإعلام هدفها تحقيق مصالح مادية ، فالمؤمن له مرجعية لا يتأثر بما يسمع تأثراً يصرفه عن إيمانه بالله عز وجل .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين