- ندوات إذاعية
- /
- ٠03برنامج فيه هدى للناس - إذاعة دمشق
مقدمة :
الأستاذ جمال شيخ بكري :
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد بن عبد الله النبي الكريم، وعلى آله و أصحابه الطيبين الطاهرين.
أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم جميعاً بكل خير، نحييكم مع بداية هذه الحلقة الجديدة من:" فيه هدى للناس"، الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
عندما نتحدث عن هذه الآية الكريمة نتحدث عن حيثياتها، وكل ما فيها من ألغاز ومعان فاضلة، كلها تصب في مصلحة الإنسان، الذي هو الغاية والهدف، حول تفسير هذه الآية ومدلولاتها يسعدنا أن نكون بضيافة فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة، دكتور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور راتب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أستاذ جمال جزاكم الله خيراً على هذه الندوات.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
دكتور من أين نبدأ في تفسير هذه الآية الكريمة؟
﴿ وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
سورة العصر منهج قويم للإنسان في علاقته بربه :
الدكتور راتب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أستاذ جمال، جزاكم الله خيراً سألتني من أين نبدأ؟ أقول لك: نبدأ من قول الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال عن هذه السورة: "لو أن الناس تدبروا هذه السورة لكفتهم"، ونبدأ أيضاً من أن الصحابة الكرام ما تفرقوا إلا من بعد أن يقرؤوا هذه السورة، ولعل هذه السورة ـ إن صحّ التعبيرـ جامعة مانعة، ولعل هذه السورة منهج قويم لهذا الإنسان في علاقته بربه، السبب أن هذا الإنسان من أدق أدق تعريفاته، وهذا التعريف للإمام الجليل الحسن البصري، يعرف الإنسان بأنه بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، فالإنسان في نص هذا التعريف زمن، والزمن أستاذ جمال هو البعد الرابع للأشياء، النقطة إذا تحركت رسمت خطاً، والخط إذا تحرك رسم سطحاً، والسطح إذا تحرك شكّل حجماً، والحجم إذا تحرك شكّل زمناً، فالزمن هو البعد الرابع، أي هناك طول وعرض وارتفاع وزمن، فالزمن مفهومه دقيق جداً، الزمن مرتبط بالحركة، لأن هذا الكون يتحرك إذاً هناك زمن، فالإنسان زمن، بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
الإنسان هو المخلوق الأول رتبة :
الله عز وجل يخاطب هذا الإنسان، هذا الإنسان هو المخلوق الأول رتبة لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
المخلوق الأول رتبة، سيدنا علي يقول: رُكِّب الملَك من عقل بلا شهوة، وركِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
فالإنسان هو المخلوق الأول، ولأنه زمن ـ هنا الشاهد ـ أقسم الله له بمطلق الزمن:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
جواب القسم: أن الإنسان خاسر لا محالة، السؤال يا رب لماذا هو خاسر؟ فهنا الجواب لأن مضي الزمن يستهلكه فقط، أنا بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع مني، فمضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، فلذلك أقسم الله بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول عند الله رتبة، الذي هو في حقيقته زمن، هو زمن وأقسم له بالزمن، قال: أنت زمن وأقسم لك بالزمن أنك خاسر لا محالة، لأن مضي الزمن وحده يستهلكك، كل واحد منا يولد، يكبر، بالسابعة عشرة، بالعشرين، بالثلاثين، بالأربعين، بالسبعين، ثم تأتي نعوته، هو بضعة أيام، لكن الله جلّ جلاله أكّد لهذا الإنسان أنك خاسر لا محالة، والإنسان كما ترى أستاذ جمال قد يسعى ويسعى في الدنيا، يصل إلى مستوى معين من الدخل، من المكانة، بثانية واحدة يفقد كل شيء، إذا توقف قلبه، أو تجمد الدم في عروقه، أو نمت خلاياه نمواً عشوائياً، أصبح خبراً بعد أن كان رجلاً، تكتب نعوته وتلصق على الجدران، فالإنسان بلحظة واحدة لا يدري متى يكون رجلاً ملء السمع والبصر فإذا هو خبر على الجدران، لذلك الله عز وجل حينما قال:
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾
كانوا قوماً عتاة جبابرة فأصبحوا أحاديث، والإنسان مهما علا، مهما امتد به العمر، مهما قوي، مهما اغتنى، مهما سيطر، في لحظة واحدة يفقد كل شيء ويصبح خبراً، لذلك أقسم الله لهذا الإنسان، لهذا الإنسان الأول عنده، المخلوق الأول أقسم له بمطلق الزمن، وهو البعد الرابع للأشياء.
البطولة والذكاء أن يكتشف الإنسان حقيقة الكون والدنيا ونفسه قبل فوات الأوان :
بالمناسبة أينشتاين اكتشف السرعة المطلقة في الكون هي سرعة الضوء، الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، أي جسم سار مع الضوء أصبح ضوءاً، وأي جسم إذا سار بهذه السرعة توقف الزمن، هذا اللقاء الطيب يصدر عنه إشعاعات، لو إنسان ركب هذه الإشعاعات، يرى هذا المنظر إلى أبد الآبدين، لو أن الإنسان سار مع الضوء توقف الزمن، فإن سبق الضوء تراجع الزمن، نظرية محضة، لو تمكنت أن أركب مركبة سرعتها أكبر من الضوء لرأيت غزوة بدر بعينه، لو سبق الضوء تراجع الزمن، لو قصر عن الضوء تراخى الزمن، لو سار مع الضوء توقف الزمن، هذه النظرية جاء بها أينشتاين، يعد هذا العالم الكبير قد أحدث في الفيزياء تطورات جذرية، حينما اكتشف السرعة المطلقة للأشياء، إنها سرعة الضوء، فالله عز وجل قال:
﴿ والْعَصْرِ ﴾
أقسم بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول رتبة عنده، الذي هو في حقيقته زمن، أقسم له بمطلق الزمن، وجواب القسم:
﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
كل مكتسباته يفقدها في ثانية واحدة، كل مكانته يفقدها في ثانية واحدة، كل هيمنته يفقدها في ثانية واحدة، كل ثروته يفقدها في ثانية واحدة، فلذلك البطولة، والعقل، والذكاء، أن يكتشف الإنسان حقيقة الكون، وحقيقة الدنيا، وحقيقة نفسه، هو كائن يعد بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، خلق لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً القسم من الله عز وجل بالعصر لينتبه الإنسان إلى موضوع الزمن.
مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي كونوا معنا أيها الأعزاء في تفسير سورة العصر:
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
كيف نتابع مجريات هذه الآيات العظيمة جداً؟
الإنسان خاسر لا محالة لأن مضي الزمن يستهلكه :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال ينبغي أن يعلم الإنسان أنه خاسر بمعنى أن مضي الزمن وحده يستهلكه، لأنه بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، الإنسان كائن متحرك إلى هدف ثابت، فكل دقيقة تمضي تقربه من هذا الهدف، تماماً كراكب القطار، المحطة النهائية بعد مئة كيلو متر، فإذا نظر هذا الراكب إلى ساعته، كل دقيقة تمضي تقربه من الهدف، فهو بضعة أيام، إذاً أقسم الله بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول رتبة الذي هو في حقيقته زمن، أقسم له بمطلق الزمن وجاء جواب القسم أن الإنسان خاسر لا محالة، لأن مضي الزمن يستهلكه، والذي نراه كل يوم الإنسان يتحرك، يجمع المال، يصل إلى أعلى المراتب، يسكن في أجمل البيوت، يقتني أجمل المركبات، يسافر ثم تأتيه المنية فإذا هو تحت الأرض، لو وازنا بين بيته الذي يسكنه وبين القبر الذي آل إليه، لوجدنا أن المسافة كبيرة جداً، من قصر منيف، بيت مساحته مئتا متر، من مركبة، من زوجة، من أولاد، من سفر، من إقامة بالفنادق، من حفلات، إلى قبر تحت الأرض.
بطولة الإنسان أن يتكيف مع أخطر حدث مستقبلي ألا وهو مغادرة الدنيا :
أستاذ جمال تعلمنا في الجامعة أن الذكاء هو التكيف، الذكاء بحث طويل وله مئات التعاريف، لكن ما رأيت تعريفاً للذكاء جامعاً مانعاً كهذا التعريف، إنه التكيف، التكيف مع ماذا؟ مع أخطر حدث مستقبلي، هو مغادرة الدنيا، أي هل يستطيع إنسان على وجه الأرض أن ينكر حدث الموت؟ ما من حدث واقعي كحدث الموت، فالموت مصير كل حي، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت :
والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر
***
و كل ابن أنثى و إن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبـــور جنازة فاعلم بأنك بعدهــا محمول
***
أستاذ جمال، الأذكياء والعقلاء يعيشون المستقبل، والأقل عقلاً يعيشون الحاضر، والأغبياء يتغنون بالماضي، فالبطولة أن تعيش المستقبل، وأخطر حدث مستقبلي مغادرة الدنيا، ولهذا قدّم الله الموت على الحياة، قال في الآية الكريمة:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
السبب أنت حينما تبدأ الحياة أمامك خيارات لا تعد ولا تحصى، أما حينما يأتي ملك الموت فأنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إذاً:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
الذكي و العاقل :
أستاذ جمال، الإنسان إن لم يعرف ربه، إن لم يعرف سرّ وجوده، إن لم يعرف غاية وجوده، إن لم يسأل ماذا بعد الموت؟ من أين وإلى أين ولماذا ؟ مقامر ومغامر، ماذا عند الموت؟ ماذا بعد الغنى؟ ماذا بعد القوة؟ ماذا بعد المتع؟ ماذا بعد الشهوات؟ ماذا بعد الانغماس بالملذات؟ بعدها الموت، ماذا أعددنا لهذه الساعة؟ هنا البطولة، لذلك الأغبياء يعيشون الماضي، والأقل غباءً يعيشون الحاضر، والأذكياء يعيشون المستقبل.
ولا بدّ من التفرقة لأخوتنا المستمعين بين الذكي وبين العاقل، ما كل ذكي بعاقل، قد يبرع الإنسان باختصاص ما فيسمى ذكياً، لكن العاقل الذي عرف سرّ وجوده، وعرف غاية وجوده، وعرف حقيقة الحياة الآخرة، وعرف ما بعد الموت، إذاً الإنسان مهما تفوق، مهما علا شأنه، مهما جمع من أموال طائلة، مهما انغمس بالمتع الحسية، سوف يغادر الدنيا إلى ما لا رجعة، في بعض الدول التي تعد الإقامة فيها مغنماً كبيراً هناك كلمة توضع على الجواز، إذا قرأتها صاحب الجواز انخلع قلبه: مغادرة بلا عودة، والموت مغادرة بلا عودة، ونحن نرى كل يوم أصحاب الحظوظ العالية من الدنيا كيف يموتون، وكيف ينتقلون من بيتهم الرائع إلى قبر صغير، ماذا في القبر؟ لذلك ورد أن أصعب ليلة للميت الليلة الأولى، قال: هناك من ينادي الميت: أن عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.
المؤمن يعيش المستقبل :
إذاً:
﴿ والْعَصْرِ ﴾
أقسم بمطلق الزمن، لهذا المخلوق الأول، الذي هو في حقيقته زمن، جاء جواب القسم إنك أيها الإنسان خاسر لا محالة لأن مضي الزمن يستهلكك، ولا يستطيع إنسان في الأرض مؤمن كان أو غير مؤمن أن ينكر حدث الموت، لكن قد تسألني أستاذ جمال ما دام كل البشر موقنون بالموت، بماذا يتفاوتون؟ يتفاوتون بمدى الاستعداد له، المؤمن يستعد لهذه اللحظة، لذلك دائماً وأبداً المؤمن يعيش المستقبل، كالطالب تماماً يعيش الامتحان من أول العام، فإذا جاء الامتحان لا يفاجأ، هو يعد له العدة، ويعيش له طوال العام، ولا أنسى، مرة سُئل طالب حقق الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية، كيف نلت هذا المجموع؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تفارق مخيلتي ولا ثانية في أثناء العام الدراسي.
والإنسان عندما لا ينسى هذه اللحظة، يوم يسأل عن كل كلمة قالها، وعن كل موقف، وعن كل عطاء، وعن كل منع، وعن كل غضب، وعن كل رضا، لماذا فعلت هذا؟ الإنسان حينما يستدعى ليسأل من قبل إنسان لكنه قوي لا ينام الليل، من قبل إنسان من بني جلدته لكنه أقوى منه لا ينام الليل، فكيف إذا كان الاستدعاء للواحد الديان ليسألك عن كل صغيرة وكبيرة؟ وعن كل حركة وسكنة؟ وعن كل عطاء ومنع؟ وعن كل رضا وغضب؟ لماذا فعلت هذا؟
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
محاسبة الله عز وجل للإنسان يوم القيامة محاسبة شديدة :
لذلك:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
هؤلاء الذين يقصفون البلاد، يقصفون الدول، يقصفون الشعوب، يحتلون الأراضي، يسفكون الدماء، هؤلاء غابت عنهم حقيقة خطيرة أن الله عز وجل سيحاسبهم أشد الحساب:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
هؤلاء الذين يبنون مجدهم على أنقاض الشعوب، على حريات الشعوب، على رزق الشعوب، هؤلاء الذين يبنون أمجادهم على الآخرين، هؤلاء سيلقون من الله حساباً دقيقاً جداً.
الموت ينهي كل شيء :
إذاً الله عز وجل قال:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا ﴾
أستاذ جمال، رحمة الله في إلا، هذا الاستثناء فيه رحمة كبيرة، أي شيء تأكله ينتهي عند الموت، أي مكان تسكنه ينتهي عند الموت، أي مكانة ترتقي إليها تنتهي عند الموت، الموت ينهي كل شيء، ينهي قوة القوي، وضعف الضعيف، وغنى الغني، وفقر الفقير، ووسامة الوسيم، ودمامة الدميم، وصحة الصحيح، الموت ينهي كل شيء، قطع، لذلك لأن الموت ينهي كل شيء صار الإنسان خاسراً، فكل متع الدنيا، وكل المكاسب، وكل الميزات، هذه منوطة بضربات القلب، فإذا توقفت هذه الضربات انتهى كل شيء، وكل هذه المكاسب والإمكانات مرتبطة بنمو الخلايا، فإذا نمت نمواً عشوائياً انتهى الإنسان، وكل هذه المكاسب مرتبطة بسيولة الدم، فإذا تجمد الدم في الأوعية انتهت حياة الإنسان، الله عز وجل يقول:
﴿ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
والذي يلفت النظر أن هذه الكلمات الأربعة هي أركان النجاة، كما سماها الإمام الشافعي، أي لا بدّ من أن تعرف الحقيقة، ولابدّ من أن تعمل وفقها، ولابدّ من أن تدعو إليها، ولابدّ من أن تصبر على البحث عنها، والعمل بها، والدعوة إليها، لذلك هناك عمل يقوم به الإنسان ينتهي عند الموت، ما الذي أكلته؟ ما الذي شربته؟ إلى أين سافرت؟ ماذا فعلت؟ أين سكنت؟ ماذا أنفقت؟ هذه كلها مستهلكات، قال تعالى:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾
بعضهم قال: الباقيات الصالحات، الأعمال الصالحة.
إنفاق الإنسان الوقت استهلاكاً أو استثماراً :
الآن أنت أمام منطقة دقيقة جداً، فكل عمل يؤدي بي إلى الخسارة، لأنه ينتهي عند الموت، لكن حينما أفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعني بعد انقضاء الزمن، أكون عاقلاً، لذلك الإنسان إما أن ينفق وقته استهلاكاً، أو أن ينفق وقته استثماراً، والفرق كبير جداً، معظم الناس ينفقون وقتهم استهلاكاً، يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، ويغفلون عن حالة صعبة جداً عند مغادرة الدنيا، إلى أين، ماذا بعد الموت؟ ماذا في القبر؟ ماذا يوم القيامة؟ أين المصير؟ لذلك قال تعالى:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً إلى أين المصير؟ إلى محكمة قاضيها رب العالمين كما يشير الدكتور محمد راتب النابلسي حول تفسير الآية الكريمة:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
دكتور كيف نختتم حلقتنا بهذا الموضوع الشيق والهام مصير الإنسان إلى أين؟
المؤمن يستثمر الوقت لا يستهلكه لينجو من عذاب الله عز وجل :
الدكتور راتب:
أستاذ جمال، رحمة الله في إلا، أي أنت بما بعد إلا تلغي الخسارة، الإنسان خاسر لا محالة إلا أنه بإمكانه أن يتلافى هذه الخسارة إذا فعل ما بعد إلا، إذا فعل ما بعد إلا فهو يستثمر الوقت، لا يستهلكه، لذلك الناس إما أن يستهلكوا الوقت أو يستثمرونه، استثمار الوقت أن تفعل في الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن، ودائماً بالمنطق التجاري أي تاجر ينفق من رأسماله سوف ينتهي، أما بطولة التاجر أن ينفق من ريع رأسماله، فالمؤمن يستثمر الوقت لا يستهلكه، يستثمر الوقت، استثمار الوقت أن أفعل وأنا في الدنيا عملاً ينفعني بعد الموت، ما الأعمال التي تنفعني بعد الموت؟ أربعة أعمال لا بدّ منها جميعاً، ليست واحدة تكفي،
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
عرفوا الحقيقة، عرفوا سرّ وجودهم، عرفوا حقيقة الكون، عرفوا حقيقة الحياة الدنيا، عرفوا حقيقة الإنسان، عرفوا مهمته في الدنيا، عرفوا ماذا بعد الموت، عرفوا حقيقة الجنة، عرفوا أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، أن الإنسان كلفه الله أن يعبده، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
عرفوا أن هذه الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل، عرفوا أن الحياة الدنيا هي حياة دنيا وليست عليا، وأن الآخرة هي الحياة العليا، وأن الإنسان مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأن الله أودع في الإنسان قوة إدراكية فما لم تلبَ هذه القوة الإدراكية لا يعد إنساناً ناجحاً في الحياة، إذاً:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أخذوا من وقتهم وقتاً ثميناً لمعرفة الله، لمعرفة حقيقة الإنسان، لمعرفة منهج خالق السماوات والأرض، لمعرفة ماذا بعد الموت،
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أستاذ جمال، لا يقدر إنسان أن يضع على بطاقته "د" قبل اسمه إلا إذا كان معه ابتدائية، إعدادية، وثانوية، وليسانس، ودبلوم عامة، دبلوم خاصة، ماجستير، ودكتوراه، حتى يضع "د"، من أجل الدنيا فقط تريد أن تكون مؤمناً، أن تصل إلى جنة عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين من دون أي جهد؟ من دون طلب علم ؟من دون فهم القرآن؟ من دون فهم السنة؟ من دون استقامة؟ من دون عمل صالح؟ هذا شيء يؤلم أشد الألم،
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
يجب أن تطلب العلم، يجب أن تقتطع من وقتك وقتاً لطلب العلم، يجب أن تسأل، يجب أن تسأل لماذا؟ من أنا؟ ما حقيقتي في الدنيا؟ أين كنت؟ وإلى أين المصير؟ لماذا خلقت في الدنيا؟ ما حقيقة العمل الصالح في الدنيا؟ لأن الإنسان حينما يغادر الدنيا، يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
العلم في الإسلام ليس هدفاً لذاته بل قيمته في تطبيقه :
إذاً:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أن نعرف الله، أن نعرف أنه هو الخالق، والرب، والمسير، والموجود، والواحد، والكامل، وأن أسماءه حسنى، وصفاته فضلى، حينما نعرف حقيقة الأنبياء، حقيقة النبوة، حقيقة هذا الدين العظيم، حقيقة هذا القرآن الكريم:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
إذاً لا بدّ من طلب العلم،
﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
والعلم في الإسلام ليس هدفاً لذاته، العلم في الإسلام قيمته في تطبيقه،
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
وتحركوا وفق إيمانهم،
﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
أي آمن وعمل صالحاً ثم دعا إلى الله، والدعوة بهذه الآية فرض عين على كل مسلم، وبعد ذلك صبر على معرفة الله، والعمل بمنهجه، والدعوة إليه، عندئذ تلافى الخسارة، ونجا منها، وأصبح من الفائزين، وألغيت كلمة:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
خاتمة و توديع :
الأستاذ جمال شيخ بكري :
إذاً حديث شيق، وطيب، ورائع، كله معرفة بالدليل، ومن كتاب الله عز وجل، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، أشار الدكتور إلى أهمية الزمن في حياة الإنسان، ويجب على هذا الكائن أن يستفيد من وقته، وأن يستعد إلى لقاء الله عز وجل:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
الشكر الجزيل لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة، دكتور شكراً جزيلاً لكم .
الدكتور راتب:
بارك الله بك أستاذ جمال، جزاكم الله خيراً على هذه الندوات.
الأستاذ جمال شيخ بكري :
شكراً فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أيها الأعزاء لقاؤنا في الأسبوع القادم بعون الله.
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته