- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (070) سورة المعارج
المعنى الحقيقي وراء مفهوم الخوف :
الحمد لله رب العالمين ، والصـلاة والسـلام على سيّدنا محمد الصـادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكِرام ؛ الآية التاسعة عشرة من سورة المعارج ، وهي قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * ﴾
كلمة الإنسان أيْنما وردت في القرآن مُعَرَّفَةً بِأَلْ فهي تعْني الإنسان قبل أنْ يعرف الله ، الإنسان قبل أن يتَّصِل به , وقبل أنْ يُطيعهُ ما طبيعَتُهُ ؟
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
شديد الهَلَع : يخافُ كثيراً .
﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ﴾
جذوع على وزن فعول , وهي صيغة مُبالغة أيْ كثير الجَزَع .
﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾
لي صديق يعْمل في الطيران , فقال لي كنا في رحلةٍ إلى باريس , وإذا بالطائرة تدخل في سحابةٍ مُكَهْربة في الشتاء , فَقُطِعَ رأسها الأمامي مكان الرادار , وكُسِرَ بِلَّوْر كبير وتعَطَّلت بعض الأجهزة , وكان سُقوط الطائرة مُحَقَّقاً ، رُبان الطائرة أعطى أمر بالهُدوء , والركاب بِوَضْعٍ مُخيف , ومنهم من يضْرب رأسه , ومنهم من يصيحُ بِوَيْلِه , ومنهم من يذكر أولاده لأن الموت مُحَقَّق ، وحركة الركاب , وضجيجُهُم يُسيء إلى سلامة الطيَران , فأعطوا لهم أمراَ من جديد , ثمّ اضْطر إلى إِعْطاء أمر إلى أحد الركاب لِيُهَدِّأهم , فما وجدوا أحداً يُصْغي من شِدَّة الهَلَع , وبالنِّهاية وَجَدوا رجلاً هادِئاً , ومُغْمِض العَيْنَيْن فَتَوَسَّموا فيه الخير لعلَّهُ يقف وينصح الركاب بِالهُدوء , فلما وصلوا إليه وجدوهُ مُغْماً عليه من شِدَّة الخوْف ؛ وهذا معه مرضٌ خبيث , وقال له الطبيب : اِنْهِ مُشكِلاتك وصَفِّ حِساباتك وودِّع أوْلادك إذْ معه ثلاثة أشهر على الأكثر ، ثاني يومٍ ماتَ لأنَّهُ ما تحَمَّل هذه المُدّة فماتَ .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾
وهناك أشْخاص يَرْجِفون عند الخوف , وآخرون يخْتلّ توازُنُهم , ومنهم من يُفْرِغ مثانته .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ﴾
فهل هذا ذَنْبٌ له ؟ لا ، هذا ضَعْفٌ في أصْل خلْقِهِ , وهو لِمَصْلَحَتِهِ ؛ كيف ذلك ؟ الذي معه أجْهزة إلِكْترونية غالِيَة جداً , وكُلفة الجِهاز بِالمَلايين ، يجد هناك ما يُسمى بالفيوز ، فما هي الفيوز ؟ وصْلة كهْربائية ضعيفة جداً , فإذا جاء التيار بِقُوَّة مائتين وأرْبعين يحدث هناك احْتِراق وينْقطع التيار فَبَدَل أنْ ينْعطِب الجِهاز ينْعَطِب الفيوز الذي لا تزيد كُلْفَتُهُ عن ليرتين , فهذا الفيوز نُقْطة الضَّعْف بِالجِهاز فهي لِمَصْلَحتِه ، لذلك الضعف في أصل خلق الإنسان مصْلحته كلما لاح له شَبَح مُصيبة لجأ إلى الله وتاب إلى الله , وأقبل إلى الصلاة وأصْلح نفسه , وراجع حِساباته .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ﴾
لو أنّ الله خلقه , ولم يجْعل فيه الخوف لن يتوب , ولا يصْطَلِحُ مع الله , ولا يُطَبِّق المنهج , ولا يلْتجِئُ إلى الله , لأنه قوي , وفي الحالات النادرة .
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
فهو إذا رأى نفْسه غنياً يطْغى ؛ مالٌ , وصِحَّة , ومنْصب رفيع , وسَيْطرة .
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
الهَلوع ، الجذوع , هذه صِفَةٌ خلْق في الإنسان , ولكنها لِمَصْلَحَتِه , ومن أجل أن تُلْجِئَهُ إلى الله ، كان عليه الصلاة والسلام إذا حَزَمهُ أمرٌ سارع إلى الصلاة ؛ من أجل أنْ يتذكَّر الله عز وجل , فالإنسان إذا كان بِأَعلى درجات الصحَّة يشْعر بِكُتلة في جِسْمِه يزْدادُ حجْمُها , فإذا صلى , وقام الليل , ودعا الله , وقرأ القرآن , ويحضر درس علم ، كلُّ هذا الخَوْف هو سبب نجاتِهِ , وتَوْبَتِه , وإقْباله على الله ، كُلّ هذه الخصائص التي اخْتصها للإنسان هي لِمَصْلَحة الإنسان ؛ حالات كثيرة للتَّوْبة أساسها الخوف من المُصيبة , والإفْلاس , والخوف من مرض خبيث , وخوفٌ من فقْدِ حُرِّيَة , وخوفٌ من تدْمير المال .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * ﴾
العمل الصالح تجارة رابحة :
الأمر الثاني هو:
﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾
فإذا كان معه مالٌ تجِدُه حريصاً على عدم إنْفاقه , وحريصٌ على كنْزِهِ وتَنْمِيَتِه والسبب أنَّ المال مُحَبَّب ، لماذا جعل الله الإنسان يُحِبُّ المال ؟ من أجل أنْ يرقى إلى الله إذا أنْفَقَهُ , شيءٌ محْبوب .
فإذا أعْطَيْتَ لِشَخْصٍ خمسة آلاف , فالمال مُحَبَّب لأنك به تأكل وتشْرب , وتلْبس , وتتنزَّه , وتُحَسِّن به بيْتَك , وتُحَقِّق وُجودك به , فأنت اِقْتطَعْته من حاجاتك وبذَلْتَهُ لِوَجْه الله ، ولولا أنَّ الإنسان يُحِبُّ المال في أصل خلقه لما ارْتقى بإنْفاقِه والدليل قوله تعالى :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾
ولولا أنك تُحِبّ أن ترى امرأةً جميلةً لما كان هناك ارْتِقاءٌ بِغَضِّ البصر عنها إذْ أنَّها مُحَبَّبَة , فَحِين تغضُّ بصرك عنها ترْقى إلى الله , وتكون ممن عاكسَ شَهْوته ، ولولا أنك تُحِبّ المال لما ارْتَقَيْتَ في إنْفاقِه , فهاتان الصِّفتان الخوف , والضَّعْف , والحِرْص الخوف من خطرٍ والحِرْص للخير قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ﴾
بعد أنْ يعْرف الله , ويتَّصِل به يُصْبح مُتَوَكِّلاً عليه , وإذا أردْتَ أنْ تكون أقْوى الناس فَتَوَكَّل على الله , وبعد ما ترى ما عند الله من خير تُنْفِقُ بِسَخاء , فَشِدَّة الجزع , وشِدَّة الحِرْص دليل عدم معْرفة الله إذْ بعد المعْرفة تُصبِحُ شُجاعاً , وثابت الجنان , ومُتوازِناً , وقوراً , ومُنْفِقاً للمال بِسَخاء ، قالت السيّدة عائِشَة عن سيِّدنا عَوْف :
(( أخْشى أنْ يدخل الجنّة حَبْواً فلما بلغه ذلك قال : والله لأَدْخُلَنَّها خَبَباً وماذا عَلَيَّ إذا كنتُ أُنْفِقُ مئَةً في الصباح فَيُؤْتيني الله ألفاً في المساء ؟!. ))
وهذا سيّدنا عثمان جاءَت سِتّ مئة ناقَةٍ مُحَمَّلةٍ بِضاعَةً من الشام مما يُعادل ستّ مائة شاحنة معَمّرة بالبضائع , وكان من الأغْنِياء رضي الله عنه , وكان ذاك العام عامُ مَجَاعة ؛ ربَّحوه عليها بالمائة عشرة وعِشْرين , حتى بالمائة خمس مائة فَدُفِع أكثر فلما يَئِسوا منه قال : هي لِوَجْه الله لِأهل المدينة لأنّ الله وعدني بالحسنة عَشْر أمْثالها .
فالإنسان بعد أنْ يؤمن وبعد أنْ يعرف الله يُصبح يُحِب المال لِيُنْفِقَهُ لا لِيَخْزِنه ؛ مُحَبَّبٌ بِإنْفاقِه والعلماء قالوا : من أجل أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أمِن أهل الآخرة ؛ أهل الدنيا يُحِبون أخْذ المال , وأهل الآخرة يُحِبون إِنْفاقه , وهذا هو الأرْيَح الذي يرْتاحُ للعطاء فهذه الآية :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
تَصَوَّروا إنْساناً أراد أنْ يُهاجِر من بلَدِه , وكان طُموحُه أنْ يكون بِبَلَدٍ مُعَيَّن الأمور مُيَسَّرو والبيوت رخيصة , والتجارة سهْلة , والمناظر جميلة , والأرباح طائِلة , فإذا به يبيعُ بَيْتَهُ , ومعْمَلَهُ وحوَّلَ كُلّ أمْلاكِه إلى بلد الذي يطْمحُ أنْ يصِل إليه فَمَن قدَّم ماله سَرَّهُ اللحاقُ به فإذا كان للواحد منا ملايين في بلدٍ أجْنبي ولا شيءَ معه في بلدِهِ سَتَكون أصْعبُ لحظاته حين ركوبه الطائرة للذهاب لِمالِهِ فَهُناك يشْتري الفِلات , والبيوت , والمَرْكبات ، والمؤمن حينما يُرْسِل ماله أمامه إلى الآخرة يُسِرُّه اللحاقُ به , أما إذا كان لإنْسانٍ كلُّ مُكْتَسَباته ؛ بيْتٌ فَخْمٌ , وزينة , وتركيب , ومكاتب , ومرْكبات تُصْبح الموت عليه كالجبل .
قالوا : لماذا نَكْره الموت ؟ قال : لأنكم عَمَّرْتم الدنيا وخَرَّبْتم الآخرة , والإنسانُ يكْرهُ أنْ ينْتَقِل من عمار إلى الخَراب ، إذا سَكَّنا شخْصاً بِالمالكي أربعة مائة متر ؛ تكييف وتدْفئة وفرْش وتزيين , وكلُّ شيءٍ جميل , فإذا أسْكَنْتَه تحت الأرض بِبَيْتٍ فيه غُرْفة ! فالإنسانُ يكْرهُ الموت لأنَّ لا عَمَلَ له صالح ويكره الموت لأنه عَمَّر الدنيا , وخَرَّب الآخرة , ويكره الموت لأنه ما قدَّم ماله أمامه ، أصعبُ شيءٍ المُغادرة .
لي صديق كان معه شخْصٌ عنده مرض في قلبه فقال لي , لقد كان مُتَألِّماً وسأقول لكم - سامِحوني – عِبارته : قال له : بنْتُ هذا الحرامي - على زوْجَتِه - غداً أموت وسَتَتَزَوَّجُ ؛ لأنَّهُ رأى مصيره حتى ركَّزَ هذا البيت وأفْرَشَهُ , فإذا مات وزوْجَتُهُ شابة تتزوَّجُ آخر على سِنِّها فإذا دخل ذاك الزوْج البيت وَجَدَهُ جاهِزاً ، فالإنسان إذا لم يكن له عملٌ صالح ينْسَحِقُ سَحْقاً أما الذي بِكَفَّتِهِ أعْمالٌ صالحَة قالت له : واكرْبتاهُ فقال : لا كَرْبَ على أبيك بعد اليوم غداً نلْقى الأحِبَّة محمداً وصَحْبه فاجْهَد إذا جاءَك ملَكُ الموتِ أن تمون أسْعَدَ الناس وأنْ تضْحك وحْدَك ومن حَوْلك يبْكون اِجْهد أنْ تضْحك وحْدك ، الأعمال الصالحة .
إخْواننا الكِرام ؛ ضبط الجوارح , وضبط اللسان , وغضّ البصر , وإنْفاق المال وذِكر الله عز وجل , وطلب العلم وتعْليم العِلم , هذه كُلُّها بِضاعة الآخرة فمن أكثر من هذه البِضاعة سَرَّهُ الذهاب إليها ومن قلَّل من هذه البِضاعة يكون قد آلمه جداً ترْكُ الدنيا .