- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (050) سورة ق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية الواحدة والعشرون من سورة ق، وهي قوله تعالى:
﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)﴾
سائقٌ يسوقها إلى المحكمة، وشهيد يشْهد عليها ! قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾
في أثناء حياته الدنيَوِيَّة خطَّط نظَّم وبنى وأسَّس، وفكَّر في كلّ شيء إلا في هذه الساعة كانَتْ غائبةً عن ذِهْنه، قال تعالى:
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
والغطاءُ غِطَاؤُك فأنت الذي وضَعتَهُ على عَيْنيْك، فأنت بإرادتِك واخْتِيارِك أحْببْتَ الدنيا، فكان حُبُّ الدنيا غِشاءً يُغَشِّي عَيْنَيك، وحُبُّك الشيء يُعْمي ويُصِمّ.
قال تعالى:
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
بصرك حديد أيْ نافِذ، ففي الدنيا البصر قاصِر، كان يرى المال كلّ شيء هذا نظرٌ قاصِر، والمرأة كلّ شيء أما حينما كُشِفَ عنه غِطاؤُه أُزيحَتْ عنه هذه الشَّهوات بعد الموت وأصبَحَ نظرُهُ حديدًا.
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)﴾
وصْفٌ بالِغٌ جدًّا، فهو ليس حاله أنَّه لا يفْعل الخير، بل يمْنَعُ الخير وليس مانِعًا للخير بل منَّاعًا للخير فالإنسان إذا كفَر ليْتَهُ لا يفْعَلُ الخير، فعدم فِعل الخير درجة، ويمنع الخير درجة، ومنَّاعٍ للخير درجة أعلى، فهو لا يُعطي شيئًا، ولا يُلقي دَعوةً ولا يسْمَح بِنَصيحةٍ، أما إذا أعطى الإنسان واسْتقام واتّقى يُقيم عليه النكير قال تعالى:
﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)﴾
ليس كافرًا ولكن كفَّارا صيغة مبالغة، أي شديد الكفر، وعنيد متكبِّر، ليس كُفْرُهُ عن جَهل بل عن تَكَبّر قال تعالى:
﴿ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)﴾
سيئ الظنّ، ونمطُهُ عُدواني، ويبني حياته على أنقاض الآخرين، هذا هو الكافر ؛ حدِّث عليه ولا حرَج، حدِّث عن دناءتِهِ، وعن عُدْوانه، ظنونه وحدِّث عن كِبْرِهِ وغَطْرسَتِهِ، وعن عدم إنصافه، وعن ظُلمِهِ، قال تعالى:
﴿ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(7)تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(8)وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ(10)رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ(11)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ(12)وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ(13)وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ(14)أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍٍ جَدِيدٍ(15)وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(16)إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(17)مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20)وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21)لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ(23)أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25)الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26)﴾
كلّ هذا لأنَّ جعل مع الله إلهًا آخر، لذلك قال تعالى:
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)﴾
في الظاهر مُوحِّد، وفي الحقيقة جَعَل مع الله إلهًا آخر، ومن أقرب هذه الآلهات هواه، قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا(43)﴾
شَهوته فوق كلّ شيء إذا كان المال إلههُ، يأخذُهُ بأيَّة طريقة مشروعة أو غير مشروعة، صحيحة أو مغلوطة، وبِحَقٍّ أو بِغير حقّ جعل المال إلهًا له كالذي جعل المرأة إلهًا له، يريدها في أيّ وقت وبأيّ طريقة ؛ يجوز أو لا يجوز ! قال تعالى:
﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)﴾
أغلب الناس يرتكبون المعاصي ويسبُّون إبليس، وما لإبليس علاقة ! والدليل قوله تعالى:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)﴾
هو مُهيَّأ للضلال والطُّغيان، وهو يريد الطغيان، ولكن كان في ضلال بعيد نأتي بِمَثلٍ واقعي: صفّ يحوي خمسين طالبًا، هناك طالب سيئ جدًّا يُغري أكثر الطلاب كي ينساقوا معه إلى طريق السرقة والغياب عن المدرسة، يسْتجيب له بعض الطلاب، والباقون لا يستجيبون، فالذين استجابوا له هم على شاكلته، فهذا الطالب الفاسد ما فعل شيئًا إلا أنَّه ذكَّرهم بالفساد فالذي استجاب هو على شاكلته، قال تعالى:
﴿ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)﴾
هذا مشْهد من مشاهد يوم القيامة، قال تعالى:
﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)﴾
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا..." من هو الموفَّق ؟ والعاقل ؟ والذكيّ؟ الذي يصْحو في الدنيا، فكلّ الناس سيصْحون عند الموت، ويعرفون الحقائق التي جاء بها الأنبياء ويعرفونها معرفةً دقيقة، فإما أن تصْحوَ الآن، أما أن تصْحُوَ غدًا وعندها كما قال تعالى:
﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)﴾
كأن يطَّلِع طالب بعد الامتحان على الأجوبة، ويأخذ أصفار في كل المواد ولكن يطلب من الإدارة إدراج اسمه لأنّه عرف الأسئلة بعد الامتحان !! قال تعالى:
﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)﴾
أيها الإخوة، العقل، والذّكاء والفلاح، والتَّوفيق، والفوز والنَّجاح والتَّفوّق أن تعرف الحقيقة قبل فوات الأوان، لأنَّه بعد فوات الأوان لا قيمة لهذه الحقيقة بل إنّ هذه الحقيقة تزيد الإنسان ندمًا وشقاءً، وإنَّ العار ليلْزم المرء يوم القيامة حتَّى يقول: يا رب، لإرسالك بي لى النار أهْونُ عليَّ ما ألقى، وإنَّه يعلم ما فيها من شِدَّة العذاب ! نحن في الدنيا إذا الإنسان تورَّط في ورْطة وكان مِن الممكن أن لا يقع فيها ينْدم أشدّ النَّدَم.
فالإنسان العاقل يتحمَّل مسؤوليَّة أعماله، ودائمًا غير العاقل تجد له رغبة غير جامحة أن يرمي بِأعماله السيّئة على مسؤوليّة الآخرين ! يقول لك: ما علَّمني أهلي، والشيطان أغراني، والبيئة سيّئة، أو لفِتَن قائمة، والدَّخل قليل ؛ هذا كلّه غير مقبول عند الله، لأنّه تعالى يقول
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
فلو قلتَ إنَّ طاعة الله فوق وُسْعي لكذَّبتَ بهذه الآية ومن كذَّب بآيةٍ كفر لأنّ الاستقامة في وُسْع الإنسان، والله موجود وهو الرزاق والآمر ضامِن فلو سألك نصَحت إنسانا بِنَصيحة ما هل تستطيع أن تضْمن له النتائج ؟! أما إن أمرك الله بِأمرٍ فهو ضامِن للنتيجة.
لذلك آخر ما أختم به هذا الدرس، قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)﴾