- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (047) سورة محمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة عشرة من سورة محمَّد صلى الله عليه وسلَّم، وهي وله تعالى:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
في هذه الآية مراكِز ثِقَل ؛ المركز الأوَّل أنَّ الله تعالى قال: فاعْلَم، ولم يَقُل: فَقُلْ، فالشيء الثابتُ في العقيدة الإسلاميَّة أنَّ أيَة عقيدة يَعْـَقِدُها المسلِمُ تقْليدا لا تُقْبَلُ منه، وأنَّ الله عز وجل لو قَبِلَ التَّقليد في العقيدة لكانَت أيَّة فِرْقةٍ ضالَّة على حقّ، فما ذَنبُ أتباعها، سَمِعوا فتَّابوا !! لو أمْكَنَ أن يكون التَّقليدُ في العقيدة لكانَتْ أيَّةُ فرقة ضالَّةٍ على حق، فالعقيدة لا تُقْبَلُ إلا تَحقيقًا، قال تعالى
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117﴾
وقال تعالى:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)﴾
اِعْتَقِدوا وتيقَّنوا أنّ كلّ اعْتِقاداتنا إن لم تَكُن عن تَحقيق وتَدقيق وَحْثٍ ودَرْسٍ ودليل، واسْتِنباط، ونصٍّ فهذه العقيدة لا تُقْبل، وعَوِّدْ نفْسَكَ أن لا تقْبَلَ شيئا إلا بالدَّليل، وأن لا ترْفُضَ شيئًا إلا بالدَّليل ؛ لأنَّ هذه الدِّين حياةَ الإنسان، ابْنَ عُمَر ؛ دينَكَ دينَكَ إنَّهُ لَحْمُكَ ودَمُكَ، خُذْ عن الذين اسْتقاموا، ولا تأخُذ عن الذين مالوا، أما أنْ نقول: سَمِعنا آباءَنا يقولون هذا فَقُلْناه ! فهذا لا يَنفعُنا شيئًا، وقال تعالى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)﴾
مِحْوَرُ هذه الآية ؛ لن تُقْبَلَ منك العقيدة تَقليدًا، فلا بدَّ مِن إعمال العَقل فالإيمان فوق العَقل، فلا تُحَكِّم عَقْلَكَ في الإيمان، فالفئة التي هي في قِمَّة المجتمع الصِّناعي في اليابان يَعبدون ذَكَر الرَّجل، وفي الهند يعبدون الجرذان، وفيهم الذَّكاء !! مُدَرِّسون وعلماء ومُفكِّرون وخُطباء، فنحن إن عطَّلنا العَقل وقَعنا في متاهة لا تنتهي ؛ فيُمْكِن أن ترى إنسانًا في أعظم درجات الذَّكاء والعِلم، ويعبُدُ صنمًا وحجرًا أو يعبُدُ نارًا لأنَّه انْطَلَق أنَّ حقائِق الدّين لا علاقة لها بالعَقل.
النبي عليه الصلاة والسلام أمَّر...لو اقْتَحَمتموها لبقيتم فيها..." الشريعة عَدلٌ ورحمةٌ ومصْلحةٌ كلّها، فأيُّ قَضِيَّة خرجَت من المَصْلحة إلى المَفْسَدة ومن العَدل إلى الجَوْر، ومِن الرَّحمة إلى القَسْوة فليس من الشريعة ولو أُدْخِلَت عليها بالتَّأويل، فلِذلك حينما تنطَلق أيُّها الأخ مِن أنَّ حقائِق الدِّين لا علاقة لها بالعَقل تقَعُ في خطأ كبير مِن دون برهان ودليل، العَقل لا يُعطَّل أبدًا أمام خُرافة.
أيُّها الإخوة، قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
دَقِّقوا في هذه الآية، فأنت إن دَعَوْتَ إلى الله بلا بصيرة، أو دُعيتَ إلى الله بلا بصيرة، لمَّا يقول الإنسان: هكذا ! اِقْبَل مِنِّن من دون مُناقشَة، نقول له: لسْتَ عالمًا، إذْ لو كنتَ كذلك لدَعَوْتنا على بصيرة، وجِئْتنا بالدَّليل والتَّعليل، وفي الآية نقطتان سياسيَّتان ؛ الأولى أنَّك إن لم تَدْعو إلى الله لسْتَ مُتَّبِعا لِرَسول الله وإن لم تَكُن مُتَّبِعًا له فأنت لا تحِبُّ الله، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31)﴾
فاتِّباع الله يعني اتِّباع النبي عليه الصلاة والسلام، واتِّباع النبي عليه الصلاة والسلام يعني اتِّباع الله، فالعلاقة مُتعاكِسَة، فَكُلّ إنسان لا يُفَكِّر في الدَّعوة إلى الله يموت على شعبةٍ من النِّفاق، لأنّ الله تعالى يقول:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
فالدَّعوة شرْط لازمٌ لِكُلّ مؤمن، ولذلك من لم يُحَدِّث نفْسهُ بالجِهاد مات على شعبة من شُعَب النِّفاق، ما هو الجِهاد المُتاحُ الآن ؟ قال تعالى:
﴿فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)﴾
الهاء تعود على القرن، تعلَّمْ القرآن، وبيِّنهُ، وحبِّبْ الناس بالله، وبِرَسول الله، وأحكام الفقه، وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك الآية الكريمة:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
فالتَّقليد غير جائِز في العقيدة ! فلو قبِلنا من الناس أن يعْتقِدوا تَقليدًا لكانت هذه الفئات على حق ! فهذه الحقيقة خطيرة جدًّا، فلا تقْبل ولا ترفض إلا بالدَّليل، ولولا الدَّليل لقال مَن شاء ما شاء، وهذا منْهج البحث في الإسلام
بعضهم يقول: النبي عليه الصلاة والسلام قال: من قالها دَخَل الجنَّة ! مَن قالها بِحقِّها ؟ قيل وما حَقُّها ؟ قال: أن تَحْجزهُ عن محارِم الله، فهذا يعني أنَّك قلتها عن تحقيق، وعن دليل.
مركز الثِّقَل الثاني في الآية:
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾
فما العلاقة بين الأمْرين ؟ الأمْر بيَدِ الله، والله هو الفعَّال، فإذا جاءَكَ شيءٌ لا يُعْجِبُكَ ويُقْلِقُك اِبْحَث عن ذَنْبِكَ، وما مِن عثَرَةٍ ولا اخْتِلاجٍ عِرقٍ، ولا خَدْش عودٍ إلا بما قدَّمَت أيديكم، يقول الله عز وجل:
﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ(17)﴾
وقال تعالى:
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾
وقال تعالى:
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
فهذه علاقة بين التَّسْيير، وبين التَّأديب، لذلك هناك حديث جامِعٌ مانِعٌ قَطْعي ؛ لا يخافنَّ العبد إلا ذنبه ولا يرْجونَّ إلا ربَّه، قال تعالى:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
الحالات الطارئة والحالات المُسْتقِرَّة فالله يعلم ما لكَ مِن ثوابِت ومن مُتَغَيّرات.