وضع داكن
29-03-2024
Logo
الحقوق : حقوق الأبناء على الآباء 4 - العدل في العطاء والوصية - قصة سيدنا سالم مولى أبي حذيفة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من حقوق الأبناء على الآباء أيضاً :

8-العدل بين الأولاد في العطاء والوصية :

أيها الأخوة المؤمنون, لا زلنا في حقوق الأبناء على الآباء، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى حقٍ جديد، إنه: العدل بين الأولاد في العطاء وفي الوصية.
المشكلة التي يعيشها بعض المسلمين: هو الفصل بين العبادات وبين المعاملات، فإذا أدَّى صلواته الخمس، وصام شهره، وحج بيت الله الحرام، وأدى زكاة ماله، يظن أنه قد أدَّى كل شيء، أما أن يأتي فيحابي ولداً على حساب ولد، أو يعطي ولداً على حساب ولد، فيظن أن هذا من شأنه الشخصي، مع أن الإسلام نظامٌ كاملٌ أمثلٌ لكل مواقف الإنسان، سواءٌ أكانت هذه المواقف أُسَرِيَّة، أو في عمله، أو في علاقته بربه.
الحق الأخير من حقوق الأبناء على الآباء: العدل بينهم في العطاء والوصية .
فقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, أن أحد أصحابه أعطى أحد أولاده عطيةً، وأراد أن يُشهد النبي صلى الله عليه وسلم- على ذلك, فسأله النبي الكريم:

((أَفَكُلَّهُمْ أَعْطَيْتَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ؟ فقال هذا الصحابي: لا, فقال عليه الصلاة والسلام: فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا -هذا العمل لا يصلح- وَإِنِّي لا أَشْهَدُ إِلا عَلَى حَقٍّ))

وفي رواية:

((لا أشهد على جور))

من خلال هذا الحديث يتضح: أن الذي يفرق بين أولاده في العطية, خرج عن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا في حالات خاصة.
فأحياناً هناك أبٌ يزوج بناته الأربع، ثلاث بناتٍ منهن في وضعٍ ماديٍ جيِّد، بينما بنتٌ رابعة زوجها فقير، فإذا أعطاها في حياته شيئاً, فأعانها على صعوبات الحياة، وقد رضي بقية الأخوة، فهذا وضعٌ استثنائي, له عند الله حُجَّة ومبررات، ولكن الأصل أن يعدل المُسلم بين أولاده في العطية.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما, أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))

أمر:
اعدلوا بين أولادكم.
أمرٌ من النبي عليه الصلاة والسلام.
المشكلة: أن الإنسان أحياناً يظن أن هذا حديث شريف وقد مر به، قد قرأه, أو سمعه من مدرس، أو اطلع عليه، وهذا مجرد أمر:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[سورة الحشر الآية: 7]

أي أن الله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض, هو الصانع، هو الخالق، بيده كل شيء، أعطاك أمراً واضحاً بيناً، قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، يقول لك: اعدل بين أولادك, وتقول: هذا حديثٌ شريف, قرأته, واطلعت عليه، وقد مر بي, القضية أخطر من ذلك، إنه أمرٌ من عند النبي -عليه الصلاة والسلام-, الذي فوَّضه الله عزَّ وجل أن يشرع لنا:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[سورة الحشر الآية: 7]

والنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يشرِّع من عنده, إنما كما قال الله عزَّ وجل:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾

[سورة النجم الآية: 3-4]

اتقوا الله واعدلوا في أولادكم

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهما, ومالك في الموطأ]

والحديث الآخر :

((سووا بين أولادكم في العطية –سووا: فعل أمر من التسوية- فلو كنت مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء))

وهذا الحديث أيضاً رواه الإمام الطبراني.

العدل بين الأولاد :

إذاً: حديثٌ أول، وثانٍ، وثالث: يحضُّ المسلمين على أن يعدلوا بين أولادهم، والدين تطبيق هذه السنة.
لعلك رأيته يصلي, قال: نعم, قال: أنت لا تعرفه.
هذه العبادات إن لم تكن مبنيةً على استسلامٍ لأمر الله, وعلى طاعةٍ له، وعلى انصياعٍ كامل في كل ما أمر، وفي كل ما نهى، فهذه العبادات جوفاء لا تقدِّم ولا تؤخِّر ولا قيمة لها.
النبي -عليه الصلاة والسلام- رفض أن يشهد على جور, حينما بلغه أن أحد أصحابه فضَّل ولداً من أولاده على آخر، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يأمرنا أن نتقي الله, وأن نعدل في أولادنا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في حديثٍ ثالث يقول:

((سووا بين أولادكم في العطية, فلو كنت مفضلاً أحداً لفضَّلت النساء))

هذه النصوص الثلاثة الصحيحة التي هي الأصل في العدل بين الأولاد .
العلماء قالوا: يحرم على المرء أن يوصي لأحدهم بأكثر مما يستحق شرعاً، أو أن يحرمه مما يستحق، أو أن يحرمه بعض ما يستحق.
يحرم؛ أي دخلنا في الحرمة، هناك حرمة، وهناك كراهةٌ تنزيهية، وهناك كراهةٌ تحريمية، وهناك أمرٌ مباح، وهناك سُنَّةٌ غير مؤكدة، وسنةٌ مؤكدة، وواجب، وفرض, أن تحرم أحد أولادك من حقه، أو من بعض حقه، أو أن تعطي أحد أولادك فوق حقه، فهذا مما يحرُم شرعاً، فهذا الذي سيغادر الدنيا كيف سيلقى الله عزَّ وجل؟ يلقاه وقد ظلم أولاده، وقد فضَّل بعضهم على بعض، وقد حابى بعضهم على حساب بعض, إن هذا يزيد البعيد بعداً، قد يقول قائل: إن هذا الابن لا يَبَرُّني, إن هذا التصرُّف من قبل الأب, يزيد الابن البعيد بعداً، وتنشأ عداواتٌ بين الأخوة بعد الوفاة لا يعلمها إلا الله, لذلك الأولى أن تبقى على السُنَّة، السنة منهج، طريق مستقيم، فالإنسان مهما اجتهد، وفكر، وتأمل، ليس أعظم فهماً من خالقه ومربيه الذي شرع له هذا الدين.
الآن عندنا نقطة دقيقة: ويجب أن يعطي أبناءه في الوصية مثل ما أخذه أحدهم زيادةٌ عنهم.
فأحياناً ولد يأخذ نصيباً كبيراً من والده, بحكم كونه أكبر أولاده، فيزوجه، يشتري له بيتاً، ويغادر الدنيا, وعنده أربعة أولادٍ آخرون، هؤلاء سوف يقتسمون الإرث بالتساوي مع أخيهم الأكبر الذي أخذ هذه الدفعة الكبيرة، الأولى أن يسوِّي بينهم في العَطية، بمعنى أنه إذا أعطى الأخ الأكبر، فيجب أن يعطي كلاً من الصغار بقدر ما أعطى الأكبر، هذا أيضاً حكم الله عز وجل، أي يجب أن يتم التوازن بين الأولاد في تقسيم الميراث.
شيءٌ آخر: لا يحق للأب أن يعطي في وجوه الخير أكثر من الثلث، والثلث كثير.
أي أنه إذا كان مندفعاً لفعل الصالحات, فيدع ورثته عندئذٍ من بعده عالةً يتكففون الناس, وهذا لا يرضي الله عزَّ وجل أبداً، لا يرضيه أبداً, فأحياناً يقول لك: يجب أن أوصي بثلث المال للمساجد, وقد ترك بيتاً واحداً، ويسكنه أولاده، فمن أجل أن توصي للمسجد فسوف ترغم أولادك على بيع هذا البيت، فإذا كان هناك بيت وحيد يأويهم، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي أن توصي لا للمسجد ولا لغيره.

((لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون))

هذا توجيه النبي عليه الصلاة والسلام, فسواء في حياته، أو بعد مماته, فلا ينبغي أن يعطي أحداً فوق ما يستحق، ولا أن يحرم أحداً حقه ولا جزءاً من حقه، وإذا أعطى أحداً دفعةً كبيرة، فينبغي أن تدخل هذه في حساب الإرث، أما أن تكون خارج الحساب, وهو أعطاه بيت وزوجه، وفتح له محلاً, ثم توفى، وترك أربعة أولاد آخرين، فما تبقى لهؤلاء الخمسة، صار في تفاوت كبير جداً، الأولى أن يكون لكل ولدٍ حقٌ معلوم, إلا أنه في حالات أخرى، قد يكون الأب يعمل مع والده، هذا له جُهد نظير عمله، فمثلاً:
ولد في البيت لا يعمل، وولد يعمل, صار هناك تفاوت كبير جداً، فإذا أخذ الذي يعمل نصيب الجهد, واقتسم مع أخوته الباقين بالتساوي، ما تبقى فهذا أيضاً محض عدلٍ.

9-أن تدخل السرور على أولادك :

الآن: من توابع هذا الحق: أن تدخل السرور على أولادك.
فقد ورد أن مر قومٌ من الأعراب على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: تقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله لا نقبل, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:

((وما أملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة))

أي أن هناك عطاءً معنوياً، كان الحديث قبل قليل عن العطاء المادي, ولكن عندنا عطاء معنوي، فالابن أحياناً بحاجة إلى عطف، بحاجة إلى قلب كبير، بحاجة إلى اهتمام، أحياناً لمسة حنانٍ من الأب أو الأم تغني عن آلاف الليرات، الإنسان مفتقر إلى العطف، لذلك هذا الذي ينشأ في حجر أمه وأبيه يكون في المستقبل متوازناً نفسياً، أما الذي ينشأ في بيت فيه خصومات، وفيه شقاق، وفيه طلاق، هذا الطفل ينشأ عنده خلل في عواطفه، فلذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- أشار إلى أن من واجبات الأب تجاه أبنائه: ليس أن يطعمهم، أو أن يسقيهم، أو يكسوهم فقط, بل هناك واجبٌ آخر, وهو: أن يغمرهم بالعطف والحنان، الاهتمام بطعامه وبشرابه، وبغرفته, وبحاجاته، وبملابسه، هذا الاهتمام هو الذي يزرع العطف والحب في قلب الأبناء.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما أنكر هذا الأعرابي تقبيل الولد، قال عليه الصلاة والسلام:

((وما أملك إن كان الله قد نزع منكم الرحمة))

شيءٌ آخر: النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يَخُصَّ البنات بشيءٍ من العطف الزائد، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- نشأ في بيئةٍ كانت البنت فيها مظلومة، ويكفي أن تقرؤوا قوله تعالى:

﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾

[سورة التكوير الآية: 8-9]

النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

((أكرموا النساء فإنهن المؤنسات الغاليات))

((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والترمذي في سننه]

واستوصوا بالنساء خيراً: قالها كثيراً في حياته، فلذلك هناك أحاديث خاصة بالنساء.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

((من عال جاريتين -أي ابنتين صغيرتين- حتى تبلغا, جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا، وضم أصبعيه كناية عن قرب الجوار في الجنة))

طبعاً كل من عنده بنتان صغيرتان يرعاهما، لكن بشرط أن ينشئهما تنشئةً طاهرة، بشرط أن ينشِّئهما على حب الله ورسوله، وعلى تلاوة كتابه، بشرط أن ينشِّئهما وفق الشرع، أما إذا سيب أمرهما, وجعلهما تعيشان كما يعيش بقية الفتيات غير الملتزمات، فهذا ما زاد عن أن أطعم هاتين البنتين فقط, والحديث الذي تعرفونه سابقاً:
أن البنت إذا نشأت نشأةً منحرفة بتشجيعٍ من أبيها، أو بغفلةٌ منه، أو بإهمالٍ لها، ورأت مصيرها في النار، تقول:

((يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي))

لقد كان هو السبب، فلذلك الأبوة مسؤولية.

((من عال جاريتين حتى تبلغا, جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا, وضم أصبعيه كنايةً عن قرب الجوار في الجنة))

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت:

((جاءت امرأةٌ ومعها ابنتان لها تسألني أي شيءً, فلم أجد عندي شيئاً.

-انظر بيت سيدنا رسول الله, سيد الخلق, حبيب الحق، نبي هذه الأمة, ليس في بيته إلا تمرةٌ واحد-.

فلم أجد عندي شيئاً غير تمرةٍ واحدة أعطيتها إيَّاها, هذه الأم أخذتها فشقتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئاً، فدخل عليه الصلاة والسلام على أثر ذلك, فحدثته حديثهما, فقال عليه الصلاة والسلام:
من ابتلي -أي من كان له بنت- من هذه البنات بشيءٍ فأحسن إليهن, كن له ستراً من النار))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]

في رواية:

((من ابتلي -أنه بلاء وليس مصيبة، البلاء من معانيه الامتحان- مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ, أو من ابتنى -من البنوة؛ أي من كانت له بنت من هذه البنات- مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ, كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ))

هذا الحديث وحده يكفي كي يدفع الآباء إلى الإحسان إلى بناتهم، فلعل الله سبحانه وتعالى يرحمنا جميعاً بالإحسان إلى أولادنا وبناتنا.
وعن عوف بن مالكٍ -رضي الله عنه-, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :

((من كانت له ثلاث بناتٍ ينفق عليهن حتى يَبِنَّ -أي بمعنى يبتعدن عنه بمعنى يتزوجن- أو يمُتن, كن له حجاباً من النار))

في الحديث الأول: بنتان يحسن إليهن, وهنا ثلاث بنات ينفق عليهن.
وعن عوف بن مالكٍ أيضاً, قال عليه الصلاة والسلام:

((ما من عبدٍ يكون له ثلاث بناتٍ, فينفق عليهن, حتى يَبِنَّ أو يمُتن, إلا كن له حجاباً من النار, فقالت امرأة: يا رسول الله وابنتان؟ قال: وابنتان))

أي أن ملخص الملخص: إذا جاء ملك الموت ينبغي أن يكون معك عملٌ تلقى الله به، عمل طيِّب، يا رب ربيت هاتين الابنتين تربيةً صالحة، تربيةً إسلامية، علَّمتهما كتاب الله، زوَّجتهما من مؤمنين، أنفقت عليهما، حتى أدخلت على قلبيهما السرور، هذا عمل، أو ربيت ولدين فصارا صالحين من بعدك، هذا عمل، أو دعوت إلى الله, هذا عمل، أو تركت علماً نافعاً, هذا عمل، وكل ذلك عمل صالح .
فدائماً لديك سؤال كبير كبير كبير: ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل؟ .
قال له: جئتك لتعلمني من غرائب العلم, قال: فماذا صنعت في أصل العلم؟ قال: وما أصل العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ قال: ما شاء الله, قال: فماذا صنعت بحقه؟ قال: هل عرفت الموت؟ قال: ما شاء الله, قال: فماذا أعددت له؟ .
فهذا السؤال، ينبغي أن يكون هذا السؤال في مكانٍ بارزٍ من البيت: ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل؟ .
أكلت فالمأكولات مستهلكات، سكنت هذا البيت مستهلك، قمت بهذه النزهة استهلاك، لكن نريد الاستثمار، فأنت معك مبلغ من المال، سنشبه الوقت بمبلغ ضخم من المال، هذا المبلغ إما أن تستهلكه وإما أن تستثمره، فكل عملٍ ينتهي عند الموت استهلاك، وكل عملٍ يستمر إلى ما بعد الموت استثمار، فهذا السؤال الكبير: ماذا أعددت للقاء الله عزَّ وجل؟.
هل أعددت لهذا اللقاء استقامةً تامة؟ هل أعددت حباً لله ورسوله؟ هل أعددت حفظاً وفهما لهذا الكتاب وتعليماً له؟ هل أعددت أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر؟ هل أعددت تربية أولادٍ تربيةً صالحة؟ ماذا أعددت لهذا اللقاء؟.
يقول له: رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا, وأنا الحي الذي لا يموت.
و: إن الغنى والفقر بعد العرض على الله.
هذا الغنى في الدنيا لا قيمة له إطلاقاً، الغنى والفقر -كما قال الإمام عليٌ كرم الله وجهه-: بعد العرض على الله.
ماذا أعددت لهذه الساعة؟.
لدينا نقطة مهمة جداً أحب أن أقولها لكم: فأن تكون أباً وعندك زوجة وأولاد هذه أبواب مفتَّحة للعمل الصالح، فسوف تتعرض لتعب، وعليك مسؤولية، تعاني سَهَراً، وهموماً، وحُزناً، لا بد من توجيه، وتتعرض لإحباط، أحياناً يواجهك إخفاق، لكن الله عزَّ وجل وضعك بموضع لكسب ثواب العمل الصالح، فالزواج كله من أوَّله إلى آخره بدءاً بمسرَّاته وانتهاءً بمآسيه، الزواج كله بابٌ من أبواب العمل الصالح، فالجهد المبذول للتوجيه، ولإدخال السرور على قلب الأولاد، وإكرام الزوجة, هذا كله من الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها.
وكنت قد حدَّثتكم من قبل: من أن الأعمال الصالحة الأخرى إذا قمت بها أنت فأنعم وأكرم، وإن لم تقم، قد يقوم بها غيرك، ولكن أسرتك من لها غيرك؟ ليس لها أحدٌ غيرك، فلذلك إذا قصَّرت في حقها فأنت محاسبٌ عند الله.

الأخوة الإيمانية التي كانت تسود بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام :

ويطالعنا شيء آخر: نحن قاربنا أن ننتهي من حقوق الأبناء على الآباء، فسوف ننتقل إن شاء الله تعالى إلى حقوقٍ أخرى, نأخذها في درسٍ قادم, وأريد فيما تبقى من هذا الدرس: أن أضع بين أيديكم نموذجاً من الأخوة الإيمانية التي كانت بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
أردت أن يكون في هذا الدرس قصة من قصص أصحاب النبي عليهم رضوان الله، لتروا بأم أعينكم كيف ينبغي أن تكون علاقتنا فيما بيننا؟ .
طبعاً هؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم ورضوا عنه- احتلوا عند الله مرتبةً ثابتة، بقينا نحن، ولا ينبغي أن تفهموا من كلامي هذا: أن الموضوع يتعلق بالصحابة، بل يتعلَّق بنا، لكن هذا نموذج حي من نماذج أصحاب النبي عليهم رضوان الله.

قصة سالم مولى أبي حذيفة :

صاحب القصة سيدنا -انظر لكلمة سيدنا- سالم مولى أبي حذيفة, كان عبداً رقيقاً -انظروا كيف أن الإنسان إذا عرف الله حقاً, ينتقل من العبودية إلى مرتبة السيادة:
سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعتك.
وربنا عزَّ وجل قال:

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[سورة الشرح الآية: 4]

فأنا أقول: سيدنا وهو سيدنا فعلاً، وهو عبدٌ رقيق -سيدنا سالم مولى أبي حذيفة- فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أوصى, فقال:

((خذوا القرآن من أربعة -خذوا القرآن، أي أن هذا سيدنا سالم من أهل القرآن، من أهل كتاب الله عزَّ وجل-؛ من عبد الله بن مسعود، ومن سالم مولى أبي حذيفة، ومن أبي بن كعب، ومن معاذ بن جبل))

أربعةٌ من أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- هم مرجعٌ كبير في القرآن الكريم، والقرآن -كما تعلمون- غنىً لا فقر بعده، ولا غنىً دونه.
و: من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت.
و:

((من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه, فقد حقَّر ما عظَّمه الله تعالى))

و:

((خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه))

[أخرجه البخاري في الصحيح, وأبو داود والترمذي في سننهما]

كان عبداً رقيقاً رفع الإسلام من شأنه، حتى جعل منه أخاً لواحدٍ من كبار المسلمين، بعد أن كان قد تبناه في الجاهلية, كان قبل إسلامه شريفاً من أشراف قريش, وزعيماً من زعمائها، ولما أبطل الإسلام عادة التبني, صار أخاً ورفيقاً ومولى للذي كان يتبناه، وهو الصحابي الجليل أبو حذيفة بن عتبة، سيد من أسياد قريش، زعيمٌ من زعمائها، شريفٌ من أشراف مكة, وهذا سالم كان عبداً رقيقاً عنده، فلما أسلم صارا أخوين في الله.
-أنا أريد من هذه القصة: أن تلمسوا أن الإسلام دينٌ يجمع ولا يفرق، يُلغي كل مظاهر الطبقيَّة، فإنسان في قمة المجتمع وإنسان في الحضيض، بعد أن أسلما صارا أخوين، وما لم تكن لك هذه النفسية فلست مسلماً، حينما تقول: أنا ابن فلان، أو أنا أملك كذا وكذا، أو أنا أحمل هذه الشهادة، أو إن أبي فلان, حينما تعتزُّ بشيءٍ غير الشيء الذي ينبغي أن تعتزَّ به وهو الإيمان, فأنت لست مؤمناً -فعلاً مفارقة كبيرة جداً-؛ إنسان يتبوأ قمة المجتمع، وإنسان يقع في الحضيض, حق الإسلام منهما أخوين، وسوف تروا معي كيف أن الإسلام سوى بينهما؟ والإنسان إذا دخل المسجد يجب أن ينسى أنه يحمل شهادة عليا، أو أنه له وظيفة مرموقة، أو أنه صاحب معمل، هذا كله يجب أن يضعه تحت قدمه إذا كان مسلماً، وأن ينظر إلى أخيه في الإيمان كما لو أنه ينظر إلى إنسانٍ مساوٍ له تماماً.
فأحد الصحابة -رضي الله عنهم- تكلم بكلمة، يبدو أنها كانت ساعة غضب, قال لأحد أصحاب النبي الأرقاء العبيد: يا بن السوداء, فما زاد النبي عن أن قال: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ , فلم يرض هذا الصحابي بعد ذلك, إلا أن يضع رأسه على الأرض, ليدوس هذا العبد الرقيق بقدمه على رأسه، حتى يغفر الله له.
أبو حذيفة بن عتبة، عتبة بن شيبة من أَلَدِّ أعداء النبي، من زعماء الكفر في قريش, هذا ابنه، عتبة بن شيبة هو الذي خاطبه النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما رآه قتيلاً في بدر, قال :
يا عتبة بن شيبة، يا فلان، يا فلان، يا فلان.
هذا ابنه- تبنى أبو حذيفة سالماً بعد أن أعتقه, وصار يدعى سالم بن أبي حذيفة -هذا قبل أن يبطل الله عزَّ وجل عادة التبني، صار اسمه سالم بن أبي حذيفة، كما أن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- كان اسمه زيد بن محمد، ابن النبي، تبناه النبي، لكن الله عزَّ وجل لحكمةٍ رآها حرَّم التبني، عندئذٍ أصبح اسمه زيد بن حارثة، وسالم ليس له أب، أبوه غير معروف، فصار اسمه سالم مولى أبي حذيفة، مولاه.
لم يكن شيءٌ أحبَّ إلى أحدهم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أخوانهم في الله.
الترتيب كان على الشكل التالي: الله سبحانه وتعالى، ثم النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم المؤمنون, والله هذا مقياس دقيق، إذا كنت تحب إنساناً منحرفاً عاصياً لأسباب، لمصالح، لقرابة، أكثر مما تحب أخاً في الله طاهراً مستقيماً, هذه بادرةٌ خطيرة، وشرخٌ كبير في الإيمان ، أصحاب النبي -عليهم رضوان الله- كانوا يحبون بعضهم حباً لا يصدق، فإذا كان أخوةٌ في مسجدٍ واحد، على قلبٍ واحد، يدهم واحدة، مشكلتهم واحدة، خيرهم واحد، سرَّاؤهم واحد، ضراؤهم واحدة, فهذه علامة إيمانهم، والله سبحانه وتعالى يقول:

((يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

ما تميز به سالم مولى أبي حذيفة :

سيدنا سالم مولى أبي حذيفة, كان إماماً للمهاجرين من مكة إلى المدينة، وكان حجةً في كتاب الله، حتى أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- المسلمين أن يتعلموا منه، وقد قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- :

((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ يا سالم))

وكان أخوانه المؤمنون يصفونه سالمٌ من الصالحين، هكذا، آمن له مالنا وعليه ما علينا،- المسلمون جميعاً سواسية كأسنان المشط.
لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ إلا بالتقوى:.

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[سورة الحجرات الآية: 13]

ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضلٌ إلا بالتقوى.
أتعلمون من هو حِبُّ رسول الله؟ أي من أحب الناس إليه؟ كان سيدنا أسامة بن زيد، ولو أتيح لكم أن تقرؤوا عن أوصافه لها لكم الأمر، كان أبوه سيدنا زيد عبداً أسود اللون، وكان ابنه كذلك، فكان يضع النبي -عليه الصلاة والسلام- أسامة على ركبته اليمنى, والحسن والحسين على ركبته اليسرى، وكان يقبلهم معاً، حتى إن أصحاب النبي سموا سيدنا أسامة حِب رسول الله هكذا.
إذاً: المؤمن الصادق يحب لأسبابٍ دينية، للكمال الذي ينطوي عليه، أما وهناك حديث شريف دقيق, قال:

((الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء))

أي لو كان إنسان عادلاً، وكرهت هذا الإنسان العادل لسبب أو لآخر، وإذا مال قلبك لإنسان جائر ظالم لسبب أو لآخر, فأنت في وضعٍ خطيرٍ في الدين، صار هذا شرك، فالمؤمن الصادق علاقاته كلها على أساس ديني، على أساس الكمال الإنساني .
وهذه قصة تفيدنا جداً: فقبل فتح مكة, بل وقبل الهجرة, -قصة سالم كقصة بلال، وقصة عشرات العبيد- بادر سيدنا أبو بكر الصديق, وأتى صفوان بن أمية, واشترى هذا العبد سيدنا بلال، ويقول له صفوان: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه, ليس له قيمة خذه بدرهم، فيقول سيدنا بكر: "والله لو أبيت إلا أن تأخذ ثمنه مائة ألفٍ لأعطيتكها.
سيدنا الصديق على عظم شأنه وبلال عبد رقيق، حينما خرج أبى إلا أن يضع يده تحت إبطه -هذا تعبير عن المودة والأخوة في الله، سيدنا الصديق وضع يده تحت إبط سيدنا بلال، تعبيراً عن أخوته الصادقة- وقال: هذا أخي حقاً.
هل تصدقون: أن سيدنا عمر يخرج إلى ظاهر المدينة، وهو أمير المؤمنين, وخليفة المسلمين, لاستقبال سيدنا بلال، سيدنا عمر، خليفة المسلمين، عملاق الإسلام، أمير المؤمنين يخرج إلى ظاهر المدينة, لاستقبال سيدنا بلال!؟ سيدنا بلال يدخل على عمر بلا إذن هو وصهيب، بينما وقف أبو سفيان ساعةً وساعتين, فلم يؤذن له, وهو زعيم قريش، فلما دخل عليه عاتبه, قال: أبو سفيان زعيم قريش يقف في بابك الساعات الطوال, وصهيبٌ وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان!! فما زاد عن أن قال: أأنت مثلهما؟!.
هذا هو الإسلام؛ فإذا كنت مستعداً أن ترى أن أخاك في الله، ولو كنت أنت في قمة المجتمع, وهو في حضيضه، ولو كنت في قمة العلم, وهو لا يحمل شهادات، ولو كنت أنت في قمة الغنى, وهو لا يملك شر ولا نقير، إذا شعرت أن هذا الإنسان أخوك في الله, له ما لك وعليه ما عليك، إذا شعرت هذا الشعور, فأنت بفضل الله مؤمنٌ ورب الكعبة، أما إذا كان لديك شعور بأنك غيره رفعة ومنزلة، أنت فوقه، أنت أعلى منه، أنت من أسرة أرفع وأسمى، فهذا شعور جاهلي مرضي، يحتاج إلى معالجة, لذلك فإن المؤمنين كتلة واحدة؛ مدني، ريفي، موظف، تاجر، كبير, صغير، وسيم، دميم، كلهم في الإسلام سواء:
المؤمنون طبقةٌ واحدة، يأخذ بذمتهم أدناهم، ويرعاهم أكبرهم.
كلكم يعلم: أنه عند فتح مكة أعطى النبي -عليه الصلاة والسلام- أوامر مشددة, ألا يهرق دمٌ إطلاقاً, في ظرف من الظروف فيه ملابسات، سيدنا خالد اضطر إلى استعمال السيف، حتى إن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما سمع بهذا الخبر, اعتذر إلى ربه طويلاً, وهو يقول:

((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد))

[أخرجه البخاري في الصحيح, والنسائي في سننه]

-فهذا الكلام له مغزى كبير، ليس الهدف أن تريق دم الكافر أبداً، الهدف أن تهديه، الهدف أن ينضمَّ إليك، الهدف أن تحتويه، الهدف أن يسلم على يديك، هذا أخوك في الإنسانية، وحينما شرع الله الجهاد, شرعه من أجل صيانة الدعوة, ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا, لذلك فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعطى توجيهات مشددة ألا يستعمل السيف، ولكن لسببٍ لسنا الآن بصدده، فإن سيدنا خالداً وهو من الصحابة الأجلاء الكرام, اضطر إلى استعمال السيف- وظل عمر -رضي الله عنه- يذكرها له, ويأخذها عليه, ويقول: إن في سيف خالد رهقاً.
والآن: نعود إلى قصة سالم-:
فقد كان مع سيدنا خالد، وسالم عبدٌ رقيق، وسيدنا خالد شريفٌ من أشراف مكة، وقائد الحملة، وقائد هذه الفرقة، سيدنا سالم أخذ على سيدنا خالد هذا المأخذ، وحاسبه، وكأنَّه نِدٌ له، فقد سوَّى الإسلام بينهما -سيدنا سالم ما نظر إلى سيدنا خالد على أنه إنسان, يجب أن نقدس أخطاءه، ولا نظر على أنه فوق أن يحاسب، كان هناك نوع من الصراحة، ونوع من الواقعية، على كلٍ؛ هناك حديث شريف قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-:

((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))

قالها ثلاثاً .
فالحديث ما أدقه، وفي الأحاديث الشريفة تعاريف للدين جامعة مانعة مثلاً :
رأس الدين الورع.
أي تعلم ما شئت ما لم تكن ورعاً فلست ديناً:
رأس الدين الورع, فإن لم تكن ورعاً قطع رأس الدين.
فلو شبهنا الدين بإنسان وقطعت رأسه ماذا بقي منه؟ انتهى.
رأس الحكمة مخافة الله.
رأس الدين الورع.
الدين -بالتعريف الجامع المانع الدقيق الدقيق-: النصيحة.
فإذا لم تنصح المسلمين فلست ديِّناً، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

((إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ, إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ, إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ))

في حديثٍ كررها ثلاثاً.

[أخرجه أبو داود في سننه]

لكن هناك نصيحة وهناك فضيحة، هناك من يفضح وهناك من ينصح، كن نصوحاً ولا تكن فضوحاً-.
النبي -عليه الصلاة والسلام- لما بلغه ما صنع خالد, سأل هذا السؤال الخطير, قال:
هل أنكر عليه أحد؟ فقالوا: نعم راجعه سالمٌ وعارضه.
فاطمأن النبي.

من مواقف عمر بن الخطاب :

-وقال أحد عامة المسلمين لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناك بسيوفنا, فقال عمر -رضي الله عنه-: " الحمد لله الذي جعل في أصحابي من يقومني إذا اعوججت.
سيدنا عمر مرةً كان مع أصحابه، -هذه قصص, هذه سنن، هذه مناهج، هذه طرائق للتعامل مع الآخرين-.
سيدنا عمر كان مع أصحابه, قال أحدهم: والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله, -أي أنه من الطراز الأول، أين سيدنا الصديق؟ إنه قد مات، نريد أن نمدح الحالي، والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله-, سيدنا عمر غضب وحَدَّ فيهم النظر، إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك, قال: ومن هو؟ قال: أبو بكر, فقال عمر: كذبتم جميعاً وصدق هذا.
-اعتبر سيدنا عمر أو عد سيدنا عمر أن سكوتهم كذبٌ، وأن هذا الذي قال الحقيقة هو الصادق- ثم قال: والله لقد كنت أضل من بعيري، وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك.
-فهل يجرؤ أحدٌ بعد هذا الموقف أن ينافق له؟ انتهى كل النفاق-.
النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: هل أنكر عليه أحد؟ قالوا: نعم راجعه سالمٌ وعارضه.
-عبد رقيق، وسيدنا خالد قائد الجيش, ومع ذلك راجعه في موقف، نحن كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:

((إذا ذكر أصحابي فأمسكوا))

[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]

لكنني أردت من هذه القصة أن أبين: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))

وقال: هل راجعه أحد؟ هل أنكر عليه أحد؟ قالوا: نعم, راجعه سالمٌ وعارضه.
فإذا كنت تحب الله ورسوله, فقل الحق ولو كان مراً, ولا تخشَ في الله لومة لائم، والشيء الذي تعرفونه جميعاً, هو:
أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 39]

من صفات هؤلاء الذي يبلغون رسالات الله: أنهم يخشون الله وحده، فإذا خشوا غير الله انتهوا وانتهت رسالتهم-.

قصة استشهاد سالم مولى أبي حذيفة :

كلكم يعلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- انتقل إلى ربه، وبعد انتقاله ظهرت فتنة الرِدَّة، -ويعدُّ سيدنا الصديق بحقٍ المؤسس الثاني للإسلام، وقف وقفةً لا يستطيع أحدٌ من أصحاب النبي أن يقفها إلا هو- .
خرج المسلمون لقتال المرتدين الذين تزعَّمهم مسيلمة الكذاب، -الآن كانوا تحت إمرة سيدنا خالد-، وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم، وتعاهدا على الشهادة في سبيل الحق، وقذفا بنفسيهما في الخِضَمِّ الرهيب, كان أبو حذيفة ينادي, -اسمعوا جيداً-:
يا أهل القرآن زينوا القرآن بأعمالكم.
-والكلام لنا الآن، أنت حافظ للقرآن، يحب أن تزيِّن هذا الكتاب بأعمالك، الكون قرآنٌ صامت، القرآن كونٌ ناطق، سيدنا رسول الله قرآنٌ يمشي، كان خلقه القرآن، أنت مؤمن, وقتك كله في قراءة القرآن, وفي حفظه، وفي تجويده، وفي فهم أحكامه وآياته، نريد عملاً يزين القرآن-: "
يا أهل القرآن زينوا القرآن بأعمالكم.
وكان سالمٌ يصيح: بئس حامل القرآن أنا، لو هوجم المسلمون من قبلي, فقيل له: " حاشاك يا سالم بل نعم حامل القرآن أنت.
وكان سيفه صوَّالاً وجوالاً في أعناق المرتدين, الذي هبوا ليعيدوا جاهلية قريش, ويطفئوا نور الإسلام، وهوى سيفٌ من سيوف الردة على يمناه فبترها -لسيدنا سالم-, وكان يحمل بها راية المهاجرين, بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب، ولما رأى يمناه تبتر التقط الراية بيسراه, وظل يلوِّح بها إلى أعلى, وهو يصيح تالياً هذه الآية الكريمة:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾

[سورة آل عمران الآية: 146]

أحاطت به غاشيةٌ من المرتدين، فسقط البطل، ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب, واندحار جيشه, وانتصار المسلمين، وبينما المسلمون يتفقَّدون ضحاياهم وشهداءهم, وجدوا سالماً في النزع الأخير، وسألهم: ما فعل أبو حذيفة؟ -مولاه, أخوه في الله- ما فعل أبو حذيفة؟ قالوا: استشهد, فقال: أضجعوني إلى جواره, فقالوا: إنه إلى جوارك الآن.
-هو بجانبك مضطجع، لقد استشهد في المكان نفسه.
سيدنا عمر حينما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي قال: هل صلى المسلمون الفجر؟.
هو في حالة النزع وبين الموت والحياة، ما الذي يعنيه؟ هل صلى المسلمون الفجر؟
فأحدنا إذا كان ألمَّت به شدة، ماذا يقول: البيت هل طوَّبتموه؟ ماذا صار بالبضاعة هل بعتموها؟ اشتريتموها؟ هل صلى المسلمون الفجر؟-.
ما فعل أبو حذيفة بن شيبة؟ قالوا: استشهد, فقال: أضجعوني إلى جواره, فقالوا: إنه إلى جوارك يا سالم.
هل تصدقون: أن سيدنا عمر بن الخطاب وهو عملاق الإسلام, قال وهو يموت : " لو كان سالمٌ حياً لوليته الأمر من بعدي.
أي لو كان سالم حياً، لكان ثالث الخلفاء الراشدين، وهو عبدٌ رقيق:
اسمعوا وأطيعوا ولو تولى عليكم عبدٌ رأسه كالزبيبة.
هكذا قال عليه الصلاة والسلام.
هذه كلمة خطيرة جداً: لو كان سالمٌ حياً لوليته الأمر من بعدي.
إذاً الباب مفتوح، كن من تكون، أي إنسان كن؛ بأي مستوى، بأي دخل، بأي شكل، من أي لون، من أي جنس، من أي بلد، ما دمت عبداً لله، فباب البطولة مفتوحٌ أمامك على مصاريعه كلها، وما عليك إلا أن تقوم، ما عليك إلا أن تجاهد في سبيل الله:

﴿جَاهَدُوا فِينَا﴾

[سورة العنكبوت الآية: 69]

والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول بعد عودتهم من إحدى الغزوات:

((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ جهاد النفس والهوى))

فلذلك -أيها الأخوة- الله سبحانه وتعالى يقول:

((لو يعلم المعرضون حبي لهم, وانتظاري إلى ترك معاصيهم, لتقطعت أوصالهم من حبي, ولماتوا شوقاً إلي، هذه إرادتي في المعرضين, فكيف إرادتي في المقبلين؟))

فالمفروض أن يَصدق الإنسان في طلب الحق, حتى يكون من السعداء في الدنيا والآخرة. . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور