- ندوات إذاعية
- /
- ٠11برنامج الإعجاز العلمي - دار الفتوى
مقدمة :
المذيع :
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
في القرآن الكريم مئات الآيات الكريمة التي تتعلق بعلم الكون ، والفلك ، والإنسان ، والبحار ، والأرض ، منها ما كشف العلم عنها ، وعن مضامينها ، ومنها ما لم يكشف بعد ، ويستطيع الباحث أن يستخلص من هذه الآيات بعد درسِها بصورة منهجية ، وعلى ضوء ما ثبت من العلوم الفلكية والكونية والأرضية الخطوطَ الرئيسةَ لهذا العلم الأخاذ ، الذي يعطينا فكرة علمية عن قدرة المولى وعظمته سبحانه وتعالى .
معنا في هذه الحلقات مَن يحدثنا عن عظمة الخالق من خلال مخلوقاته ، معنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، الأستاذ المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق ، خطيب ومدرس ديني في جوامع دمشق ، أهلاً وسهلاً بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
هناك كلمة في القرآن الكريم ( البرزخ ) ، نتمنى من فضيلتكم أن نتعلم من خلال هذه الكلمة معناها ، ودقة التفصيل في هذه الآية الكريمة :
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾
تطابق كلام الله عز وجل مع خلقه :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عبد الحليم - جزاك الله خيراً - لا بد من مقدمة تلقي ضوءاً على هذا البحث ، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسله الله لكل الشعوب ، للعالمين كافة ، لذلك ينبغي أن تكون معجزته مستمرة ، ذلك لأن الأقوام السابقين كان لكل قوم نبي قد بعث إليهم ، قال تعالى :
﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾
وكانت المعجزات السابقة حسية ، بمعنى أنها وقعت ، ولن تقع ثانية ، أصبحت خبراً يصدقه من يصدقه ، ويكذبه من يكذبه ، ولكن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت معجزة علمية ، ففي هذا القرآن الكريم آيات تزيد على ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الأكوان، وخلق الإنسان ، والأسماك ، والأطيار ، وبقية المخلوقات ، هذه الآيات باجتهاد من النبي لم يشرحها ، وقد قلت سابقاً : إنه لو شرحها شرحاً مقتضباً مبسطاً ليفهمها من حوله لأنكرنا نحن عليه ، ولو شرحت شرحاً مفصلاً يلبي حاجتنا للدقائق والتفصيلات لأنكر من حوله ذلك ، تركت هذه الآيات من دون شرح ليكون لكل عصر دور في شرح هذه الآيات ، ويتوافق هذا العمل الذي جاء من طرف آخر ليوضح ما جاء في القرآن دون أن يشعر ، كي يتوافق مع قوله تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾
الطرف الذي يكتشف هذه الحقائق ليس المسلمين ، ولكنه طرف آخر ، قد لا يعتقد بأحقية هذا الكتاب الكريم ، وهذا دقيق جداً ، لأن المسلمين لو أتوا بهذه الحقائق لاتهموا أنهم دبروها تدبيراً ، أما حينما يأتي طرف لا يعبأ بنبي ، ولا بكتابه الكريم ، ويأتي بحقيقة ناصعة تتوافق توافقًا تامًّا مع ما في القرآن الكريم لاتضح أن الخالق واحد ، هذا خَلقه ، وهذا كلامه ، فكلامه يتطابق مع خلقه .
البرزخ بين البحرين :
الآية التي ذكرت هذه الظاهرة والتي تفضلت بها هي قوله تعالى :
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾
أي إن هذا البحر مضطرب ، فيه أمواج ، وحركة دائبة ، ولهذه الحركة مزية كبيرة في بقاء مياه البحر بعيدة عن أن تكون مياه آسنة ، فهذا البحر يضطرب ، وقد يلتقي البحران .
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴾
مثلاً : البحر الأسود يلتقي مع البحر الأبيض في البوسفور ، والبحر الأبيض يلتقي مع البحر الأحمر في قناة السويس ، والبحر الأحمر يلتقي مع البحر العربي في باب المندب ، والبحر الأبيض يلتقي مع المحيط الأطلسي في مضيق جبل طارق ، هذه أماكن تلتقي فيها البحار ، والمفسرون كما تفضلت هذه الآية لم تكن موضحة في أذهانهم ، أين هذا البرزخ ؟ حينما اكتشفت المركبات الفضائية ، وحينما تمكن الإنسان من أن يصور الأرض من الفضاء اتضح في هذه الصور أن بين كل بحرين خطاً وهمياً ، هو خط تمايز لونين ، فهذه منطلق الفكرة لفهم هذه الآية .
فبعض علماء البحار نزل إلى باب المندب ، أو إلى مضيق جبل طارق ، أو إلى قناة السويس ، فكأن هناك خطّاً بين كل بحرين ، يمنع تداخل مياه البحرين بعضها في الآخر ، ذلك أن العلماء قاسوا ملوحة كل بحر ، ومكونات كل بحر ، وكثافته ، فإذا هي متباينة، الكثافة والمكونات والملوحة والخصائص ثابتة لا تتبدل حتى عند التقاء مياه البحرين ، اطلعتُ على بحث مفاده أن بعض علماء البحار أتى بكم كبير من قصاصات الورق ، ووضعها في هذا المكان الذي يبدو فيه الحاجز بين البحرين ، فلم تنتقل إلى البحر الآخر ، فاتضح أن بين البحرين برزخاً ، أي حاجزاً موجودًا ، أما طبيعته فلا تزال غامضة .
المذيع :
فضيلة الدكتور ، كلمة البرزخ هل كان لها معنى الحاجز ؟
إشارات في القرآن الكريم لبعض حقائق الكون من دون تفصيلات :
الدكتور راتب :
هي الحاجز ، لكن لم يفهم ما طبيعة هذا الحاجز ، برزخ حاجز بين شيئين ، لكن طبيعته لم تكن واضحة ، الآن علمنا نتائج هذا الحاجز ، لكن طبيعته لا تزال مجهولة ، نحن في العلم قد ندرس الآثار ، أما الكُنه فقد لا نعرفه ، الكهرباء لها آثار واضحة جداً ، واستخدمها الإنسان أوسع استخدام ، لو سألت أعلم علماء الأرض في الكهرباء لَمَا أعطاك جواباً شافياً ، ما طبيعة الكهرباء ؟ كل شيء فوق طبيعة البشر ، لكن آثاره قضية مقدور عليها ، لكن الآن اتضح أن البرزخ الذي بين البحرين هو الحاجز الذي يفصل مياه كل بحر عن مياه البحر الآخر، فلا تختلط المياه ، ولا سيما في أماكن الاتصال ، بل إن لكل بحر ملوحته وكثافته ومكوناته وخصائصه ، الأمر الذي يلقي ضوءاً كاشفاً على إعجاز هذه الآية العلمي ، فالقرآن الكريم فيه إشارات لبعض حقائق الكون من دون تفصيلات ، لئلا يصبح الكتاب كتاب علم ، وهو كتاب هداية ، لكن من أجل أن تتيقن أن الذي أبدع الأكوان هو الذي أنزل القرآن تأتي هذه الآيات العلمية فيها إشارات لطيفة إلى حقائق لم يتم اكتشافها حين نزول القرآن ، ولكنها بعد حين من الزمن أصبحت واضحة جلية .
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾
لا تبغي مياه بحر على مياه بحر آخر ، بفضل هذا البرزخ الذي وجد بين البحرين لا يختلطان ، طبعاً هذا من باب الاستعارة ، في سورة الكهف قال تعالى :
﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾
أعطي هذا الجدار صفة الإنسان ، أو شبه به ، وحذف المشبه به ، وبقيت بعض لوازمه ، وهي الإرادة فقال :
﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾
هذا في البلاغة اسمه الاستعارة ، أنت حينما تقول :
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
***
أنشبت أظفارها ، شبهت المنية بوحش ، وحذف الوحش ، وبقيت بعض لوازمه ، وهو إنشاب الأظفار ، هذه استعارة يسميها علماء البلاغة مكنية ، أما الاستعارة التصريحية فشيء لطيف ، قال بعض الشعراء يصف بنتاً صغيرة تبكي :
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العناب بالبرد
***
أمطرت دموعاً كاللؤلؤ على خد كالورد ، فأمطرت لؤلؤاً من نرجس ، من عيون كالنرجس ، وعضت على الأصابع كالعناب بأسنان كالبرد ، هذه استعارة تصريحية ، والمكنية كما قال تعالى :
﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾
هنا شبه البحر بعدو يبغي على خصمه ، فقال تعالى :
﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ﴾
والحقيقة أن قواعد البلاغة شيء رائع جداً ، وربما ألقت ضوءاً كاشفاً على حقيقة إعجاز القرآن الكريم :
﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾
الله يخاطب الإنس والجن .
الفرق بين البرزخ و الحجر المحجور :
هناك آية ثانية في هذا الموضوع ، قال تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾
البرزخ بين البحرين ، أما الحجر المحجور فبين البحر والنهر .
أستاذ عبد الحليم ، يوجد ينابيع في البحرين ، يركب الإنسان قارباً ليصل إلى نبع في البحر ، وفي الساحل السوري ينابيع كثيرة في وسط البحر ، وهذا أيضاً من إعجاز القرآن الكريم ، فالمياه العذبة لا تختلط بالمياه المالحة ، يتضح هذا واضحاً جلياً في مصبات الأنهار ، نهر كالأمازون الذي كثافته ثلاثمئة ألف متر مكعب في الثانية قد يمشي في البحر خمسين إلى ستين إلى ثمانين كيلو مترًا ، وتبقى المياه عذبة ، لذلك أكبر تجمع لصيد السمك في البحار هو مصبات الأنهار ، لأن مياه الأنهار عذبة ، ومياه البحار مالحة ، وبينهما حجر محجور ، يمنع اختلاط المياه العذبة بالمالحة .
لذلك أسماك المياه العذبة تبقى في المياه العذبة ، ولا تنتقل إلى المياه المالحة ، أكبر تجمع صيد السمك في مصبات الأنهار ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾
الإنسان حينما يركب البحر ، وتغرق السفينة ، ويستقل قارب نجاة قد يموت عطشاً كما قال الشاعر :
كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء من فوق ظهورها محمول
***
إنسان يركب البحر يموت عطشاً .
المذيع :
فضيلة الدكتور ، إن أردنا أن نفسر بعض الكلمات في هذه الآية الكريمة :
﴿ عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾
،
﴿ وَحِجْراً مَحْجُوراً ﴾
تفسير كلمات العذب الفرات و الحجر المحجور :
الدكتور راتب :
العذب الفرات الماء المستساغ ، الماء العذب الطيب الذي تستسيغه النفس البشرية، ملح أجاج الذي يمجّ ، لا يحتمل ، يتقيؤه الإنسان ، لا يستساغ ، عذب فرات يستساغ .
بقي شيء ؛ أن هذا الذي اكتشف هذه الحقيقة ظن أنه بلغ الثريا ، فلما أنبأ أن في القرآن الكريم آية تشير إلى ذلك لم يصدق ، وفي بعض المقالات لعله أسلم ، هو كشف أن بين البحرين حاجزاً ، بينهما حجر محجور ، العذب والفرات ، ثم ظن أنه كان الأول في هذا الكشف العلمي ، فإذا في القرآن الكريم آية تشير إلى أن القرآن جاء بهذه الحقيقة قبل ألف وأربعمئة عام، فهناك من يقول : إنه أعلن إسلامه .
خاتمة و توديع :
المذيع :
إذاً كنا في هذه الحلقة مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، وفسرنا الآية الأولى :
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾
والآية الأخرى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾
أيها الأخوة والأخوات ؛ آيات فيها إعجاز كبير ، تدلنا على قدرة الخالق ، وعلى أن هذا هو كتاب الله ، وعلى أن هذا هو القرآن الكريم ، الذي أتى وحياً للنبي صلى الله عليه وسلم .
طبعاً نشكر فضيلة الدكتور في هذه الحلقة ، وإلى حلقة قادمة ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .