- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠14برنامج ربيع الإيمان - قناة اليرموك
مقدمة :
المذيع :
أعزائي المشاهدين ؛ مرحباً بكم إلى حديقة ربيع الإيمان ، هذا البرنامج الطيب الذي نتفيأ فيه أشجار الإيمان الوارفة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، مع فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً وسهلاً فضيلة الشيخ .
المذيع :
بارك الله بكم ، ونفع بكم .
الدكتور راتب :
أعزائي المشاهدين ؛ كنا قد توقفنا في الحلقة القادمة عن أمانة التكليف ، ثم أمانة التبليغ ، ثم أمانة التبيين ، ونحن إن شاء الله نعود إلى الحديث عن الأمانة وميادينها الفسيحة التي تتناول كل أوامر دين الله ، فحديثنا اليوم عن الأمانة مع فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي .
دكتور تحدثنا عن أمانة التكليف وجلينا شيئاً طيباً منها ، ثم أمانة التبليغ وهم عليهم السلام ، ثم أمانة التبيين للعلماء ، هل عندكم إضافة دكتور عن أمانة التكليف ؟
أمانة التكليف :
الدكتور راتب :
والله لعل أخطر أنواع الأمانة هذه الأمانة الذي تفضلت بها ، التكليف ، لأنها تتصل بمصير الإنسان ، وأحياناً يخطر في بالي أن بعض الموضوعات في حياتنا موضوعات مصيرية تحدد مصيرنا ، أحياناً للتقريب ينجح الطالب من الصف السابع إلى الثامن ، من الثامن إلى التاسع ، من العاشر إلى الحادي عشر ، أما الشهادة الثانوية فتحدد مصيره ؛ إما طبيب أو مهندس أو محامي إلى آخره ، الأمانة موضوع مصيري ، النقطة الدقيقة جداً هو أن الإنسان يعيش عمراً محدداً لكن هو خلق لجنة الله عز وجل ، خلق للأبد ، والدليل قوله تعالى :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
الشاهد قال تعالى :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
صدَّق أنه مخلوق للجنة ، والفرق كبير جداً بين أن تتيقن أنك مخلوق للجنة وأن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، لأنه مؤقت ، ولم يحزن لشقاء ، لأنه مؤقت - هذه مؤقت إدراج مني - قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
معرفة سرّ وجودنا يحدد حركتنا في الحياة :
أنا أتصور أنه ما من إنسان يسلم ويسعد في هذه الدنيا إلا إذا عرف حقيقة الدنيا ، فبين أن تراها محط الرحال ، ومنتهى الآمال ، وتسعى إليها وتنسى كل شيء ، وبين أن تراها دار مرور وليست دار استقرار ، والحقيقة إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها ، بين أن تراها ممراً و ليست مقراً ، بالضبط كالعام الدراسي البطولة في العام الدراسي الدراسة والمتابعة وحضور الدروس والانتباه للمعلم وأداء الواجبات ، أما الثياب والطعام والشراب والنزهات فهذه أشياء غير ممنوعة في العام الدراسي لكن ليست هدفاً بذاتها ، فالإنسان حينما يأتي إلى الدنيا ويعرف سرّ وجوده يسعد ، أنا أضرب مثلاً بسيطاً ؛ إنسان سافر إلى باريس لو سأل : إلى أين أذهب ؟ عجباً من هذا السؤال ، نسأله نحن : لماذا أتيت إلى هنا أصلاً ؟ إن جئت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن جئت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات .
أي أنت كائن متحرك هذه الحركة إما أن تصح فأنت من أهل الجنة ، وإما ألا تصح فالإنسان من أهل النار ، شيء خطير جداً ، فالحركة متى تصح ؟ إذا عرفت سرّ وجودك وغاية وجودك ، وفي حلقات سابقة أشرت إلى أن سرّ الوجود هو العبادة ، بالمفهوم الشمولي الواسع أن تخضع لمنهج الله ، منهج الله عز وجل كما قلت قد يزيد عن خمسمئة ألف بند ، تفاصيل حياتك ، كسب المال ، إنفاق المال ، الزواج ، تربية الأولاد ، لقاؤك مع من هو أقوى منك ، ماذا ينبغي أن تفعل ؟ مع من هو أضعف منك ، علاقة الإنسان بالمرض ، بالصحة ، بالغنى ، بالفقر ، موضوعات لا تعد ولا تحصى ، هذا منهج تفصيلي ، فالذي يفهم الإسلام على أنه أداء عبادات شعائرية ليس غير هذا الذي أوصل المسلمين إلى ما هو عليه ، النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))
فإذا هم مليار وثمانمئة مليون الآن وليست كلمتهم هي العليا ، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل ، عندنا خلل خطير ، ما لم نكتشف هذا الخلل ، وما لم نكتشف الحلول الناجعة لهذا الخلل ، لن نكون كما ينبغي ، إذاً قضية أن نعرف سر وجودنا هو الذي يحدد حركتنا في الحياة .
المذيع :
دكتور ما وجه الأمانة في معرفة سرّ والوجود وهذا الفهم الطيب الكريم ؟
الفرق بين النجاح و الفلاح :
الدكتور راتب :
الإنسان هو المخلوق الأول رتبة ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾
لأنه قبِل حمل الأمانة سخر الله عز وجل له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، هو قبِل حمل الأمانة ، ما الأمانة ؟ هنا نفسه التي بين جنبيه ، جعلها أمانة عندك ، وقال لك :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
ولا بد من أن نشير إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين النجاح والفلاح ، النجاح جزئي أما الفلاح فشمولي ، قد تنجح في جمع المال ، قد تنجح في تسلم منصب رفيع ، قد تنجح في الزواج ، قد تنجح في تأسيس معمل ، هذا النجاح جزئي أما الفلاح فأن تحقق الهدف من وجودك، الفلاح أن تنجح في الدنيا والآخرة ، أن تنجح بدءاً من نجاحك وإلى أبد الآبدين ، هذا هو النجاح ، فلذلك لا يسمى من نجح في الدنيا فالحاً ، الفلاح للذي نجح في الدنيا والآخرة معاً، والفلاح مسعد جداً ، أنت حققت الهدف من وجودك ، الإنسان دائماً لو فرضنا انتسب إلى جامعة ونجح ، هناك مشاعر للنجاح مسعدة جداً لأن الهدف تحقق ، فأنت خلقت لمعرفة الله ، خلقت للعمل الصالح ، إذا جاءت الحركة اليومية وفق هذا الهدف ، هذا يحقق سعادة كبيرة جداً ، سماها علماء النفس : فرح الإنجاز ، الإنسان إذا أنجز عملاً خطيراً يفرح ، إذا نجح يفرح ، إذا نجح في تجارته يفرح ، نجح في تأليفه يفرح ، فالفرح متعلق بالإنجاز ، فالإنسان إذا عرف سرّ وجوده وغاية وجوده هناك سعادة كبيرة تأتيه .
الفرق بين اللذة و السعادة :
الحقيقة أن السعادة شيء عميق جداً ، الناس يتعاملون باللذائذ ، والفرق كبير بين اللذة والسعادة ، اللذة متعة حسية تأتيك من الخارج ، وتحتاج إلى وقت وصحة ومال ، ولحكمة بالغة بالغة بالغة دائماً ينقص الإنسان أحد هذه الشروط الثلاثة ، في البدايات صحة جيدة و وقت لكن لا يوجد مال ، في منتصف الحياة في أعلى درجة من النجاح هناك صحة و مال لكن لا يوجد وقت ، تقدم به السن سلم عمله لأولاده صار عنده وقت ومال لكن لا يوجد صحة .
الإنسان حينما ينقل أهدافه للآخرة يجب أن تتبدل كل شروط حياته ، إذا نقلت الهدف للآخرة ، وأقسم لك بالله وأرجو ألا أكون حانثاً في هذا القسم أن الإنسان إذا آمن بالآخرة الإيمان الذي أراده الله لا بد من أن تنعكس كل مقاييسه ، الإنسان إذا آمن بالدنيا مقياسه الأول مقدار ما أخذ ، أما إذا آمن بالآخرة فمقياسه الأول مقدار ما أعطى ، والفرق كبير بين أن تعطي وبين أن تأخذ ، لذلك الذي ألف كتاباً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم له بهذا الكتاب : يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ .
لذلك أنا أقول : يقع على رأس الهرم البشري - سبعة مليارات - زمرتان ، الأقوياء والأنبياء ، الأنبياء ملكوا القلوب ، الأقوياء ملكوا الرقاب ، وفرق كبير بين أن تملك قلب الإنسان وبين أن تملك رقبته ، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا ، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا ، أما معظم البشر فأخذوا وأعطوا .
المذيع :
دكتور لعل هذا المعنى يستنبط من قول النبي صلى الله عليه وسلم :
((لا إيمان لمن لا أمانة له))
الإيمان والأمانة .
التفكر أوسع باب ندخل منه على الله :
الدكتور راتب :
الحقيقة أخطر موضوعات الأمانة أمانة التكليف ، أن تؤدي الأمانة التي خلقت من أجلها ، أي أن تعرف الله ، وأن تستقيم على أمره ، وأن تتقرب إليه بالعمل الصالح ، هذا أخطر موضوع في الأمانة ، أنا جئت إلى الدنيا من أجل أن أعرفه ، وأن أخضع لمنهجه ، وأن أتقرب إليه بالعمل الصالح ، فإذا كنت في هذا وهذا وهذا حققت الهدف من وجودي ، لذلك النقطة الدقيقة الله عز وجل سخر هذا الكون لهذا الإنسان تسخيرين ، تسخير تعريف وتسخير تكريم ، من أين أخذنا هذا ؟ من قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى هلالاً قال :
(( هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))
خير ننتفع بضوئه ، ورشد يرشدنا إلى الله .
المذيع :
﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾
الدكتور راتب :
وأنا أؤكد أن كل شيء على الإطلاق بدءاً من الذرة وانتهاء بالمجرة له وظيفتان ؛ وظيفة نفعية ننتفع بها ، ووظيفة إرشادية ، ترشدنا إلى الله عز وجل ، لذلك التفكر في خلق السموات والأرض هو العبادة الأولى ، لأن هذه العبادة تضعك وجهاً إلى وجه أمام عظمة الله عز وجل ، هذه العبادة التفكر هي أقصر طريق إلى الله ، وأوسع باب ندخل منه على الله .
المذيع :
دكتور أكرمكم الله ، بعد فاصل يسير أعزائي المشاهدين سنعود بعد فاصل ...
أعزائي المشاهدين ؛ نعود معكم من الباب الواسع الذي وقفنا عنده ولن نخرج منه أبداً بإذن الله ألا وهو التفكر بمعرفة الله عز وجل ، والوقوف أمام الأمانات والمسؤوليات ، وعودة إلى فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، قلنا : إن التفكر أوسع باب لمعرفة الله عز وجل.
أصل الدين معرفة الله عز وجل :
الدكتور راتب :
الحقيقة أن أصل الدين معرفة الله عز وجل ، أنت إذا عرفت الآمر وهو الله تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في معصيته ، هذا حال بعض المسلمين اليوم ، قيمة الأمر من الآمر ، فأنت حينما تتلقى أمراً وأنت في الخدمة الإلزامية من عريف غير الأمر من لواء ، فأنت إذا عرفت من هو الآمر تتفانى في طاعته ، فلذلك لعل السّر في انصراف الناس عن الدين مع أنهم درسوا في التعليم العبادات والمعاملات والأمانة والصدق إلى آخره هو ضعف معرفتهم بالآمر .
المذيع :
دكتور أنت تضرب مثالاً جميلاً في الذي يملك خريطة القصر ولا يملك القصر ، لأن الناس ربما لم يعرفوا ربهم حق المعرفة فلم يتذوقوا حلاوة الطاعة .
الفرق الكبير بين حقائق الإيمان و حلاوة الإيمان :
الدكتور راتب :
((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ طَعْمَ الإيمان))
الحقيقة الفرق كبير كبير بين حقائق الإيمان وبين حلاوة الإيمان ، حقائق الإيمان عندك خارطة قصر ، معك مساحته ، معك عدد غرفه ، معك شرفاته ، حدائقه ، معك مئة معلومة لكن كل هذه المعلومات ورق بورق ، أما أن تملك هذا القصر وأن تسكنه فمسافة كبيرة جداً ، هذه حلاوة الإيمان ، حلاوة الإيمان تسعد بها ولو فقدت كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء ، الذي يجعلك كالمرجل حلاوة الإيمان ، الذي يجعلك تندفع كالمحرك حلاوة الإيمان ، الذي يدفعك أن تضحي بالغالي والرخيص والنفس والنفيس حلاوة الإيمان .
المذيع :
لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف .
الصلة بالله أن تشعر أن الله يحبك و هو معك أينما كنت :
الدكتور راتب :
والذي قالها ملك ، هذا كلام إبراهيم بن الأدهم الذي كان ملكاً فصار عارفاً بالله ، قال: لو يعلم الملوك - وكان ملكاً - ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف .
لأن الإنسان أحد أسباب لذته في الدنيا أن يتصل بشيء منحه الله ومضة من جماله ، فمنظر البحر جميل ، جبل أخضر جميل ، طفل صغير له شكل جذاب جميل ، يوجد طعام طيب ، ومنظر جميل ، فهذا الإحساس بالجمال ناتج عن اتصالك بشيء أخذ من الله مسحة من جماله ، فكيف إذا اتصلت بأصل الجمال ؟
فـلو شاهدت عيناك من حسننــا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــــــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــــا
ولو ذقت من طعم المحبــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــة لــمت غريباً واشتياقاً لقربنـــــــــــــــا
ولو لاح مـن أنوارنا لك لائــــــــح تــركت جميع الكائنات لأجلنـــــــــــــا
فما حبنا سهل و كل من ادعـى سهولته قلنا له قـد جهلتنـــــــــــــــــا
فأيسر ما في الحب للصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
***
أقول لك بدقة بالغة إن شاء الله : ما من شيء يؤلم المؤمن كأن يحجب عن الله ، والله أقرأ الآية يقشعر منها بدني ، قال تعالى :
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾
الصلة بالله أن تشعر أن الله يحبك ، الله معك ، أنت تحت مظلته ، أنت تحت رعايته، أنت تحت عنايته ، شيء رائع جداً أنا أقول كلمة إن لم تقل : أنا أسعد من على الأرض إلا أن يكون أحد أتقى مني يكون في الإيمان مشكلة .
أحد أخواني ذهب إلى الحج فلما عاد زرته في البيت و هنأته بعودته ، أقسم لي بالهو وبكى قال لي : والله ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ، الإيمان شيء مذهل ، الإيمان أنت عرفت خالق الأكوان ، عرفت ملك الملوك ، أنا مالك الملوك ، وملك الملوك ، عرفت القيوم ، عرفت الحي ، عرفت الرحمن الرحيم ، عرفت العليم ، أنت تعرف الله ، عرفت كل شيء ، لذلك :
(( ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ))
المذيع :
دكتور هل هذا يشبه ما قاله بعض العارفين أو بعض العلماء : الذي يترك مجالسة الملوك والأدباء والعلماء والكبراء والأكابر إلى مجالسة الناس الأصاغر هذا قد جحد نعمة الله عز وجل ، لعل هذا المقصود أن يبتعد الإنسان عن لذة حلاوة الإيمان إلى لذائذ الدنيا التي ذكرتها .
كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك :
الدكتور راتب :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾
نحن عندنا نقطة دقيقة ، نتوهم أحياناً أن الأوامر الإلهية خمسة فقط ؛ الصوم والصلاة والحج والزكاة والشهادة ، أنا أرى هناك خمسمئة ألف أمر، أي أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب .
المذيع :
إلا إذا ورد قرينة تصرفه عن أن يكون أمر تهديد .
الدكتور راتب :
قرينة تصرفه عن أن يكون أمر تهديد مثلاً قال تعالى :
﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
هذا أمر تهديد طبعاً .
المذيع :
دكتور الحديث عن التكليف ربما لا ينتهي ، وهناك ميادين أخرى للأمانة جاء الإسلام وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤكدها ومنها أمانة الأسرة ، أمانة الأعراض ، أمانة تربية الأبناء .
الدكتور راتب :
لكن القسم الأول أريد أن أختمه بكلمة واحدة ، أنك إذا عرفت الله وعرفت منهجه وأطعته وتقربت إليه حققت و أديت أمانة التكليف ، وهي أكبر أمانة ، وهي الأمانة الأولى، والأمانة المصيرية ، والأمانة التي تتعلق بالآخرة .
المذيع :
دكتور الإنسان كلما تفانى في طاعة الله وعبادة الله كلما كان أكثر أداء للأمانة التي حملها ، هذا معنى جميل .
من تفانى في طاعة الله كان أكثر أداء للأمانة :
الدكتور راتب :
مبدئياً سوف نعدد أمانات معينة ما دليلها ؟ قال تعالى :
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾
جاءت جمعاً إذاً هناك أمانات عديدة .
المذيع :
قول الله عز وجل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾
جاءت مجتمعة ، نعرج على أمانة الأسر والتربية ، وأمانة المجالس والأعراض ، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الزوج أو الزوجة التي تبيت مع زوجها أو يبيت مع زوجته ثم يصبح في اليوم التالي ينشر سترها ، ويفضح ما دار في غرفة النوم ، أو في العلاقات الخاصة من سرّ زوجته لا سيما أثناء الخصومة ، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من علامات النفاق :
(( .. إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ...))
ولا شك أن الأسر والعلاقات الخاصة من الأمانة .
ارتباط الدين بالإحسان و التفوق :
الدكتور راتب :
الحقيقة أذكر قصة أن سائق سيارة كبيرة عامة في لندن ، صعد راكباً من الركاب -وهو راوي القصة - أعطى السائق ورقة نقدية كبيرة ولتكن عشرة جنيهات ، ردّ له السائق التتمة ، عَدّها ، فإذا هي تزيد عشرين بنساً على ما يستحق ، دخل في صراع ، إنها شركة عملاقة ، ودخلها فلكي ، والمبلغ يسير جداً ، وأنا في أمسّ الحاجة إليه ، ثم قال : هذا المبلغ ليس لي ، فالنتيجة ، لما وقف ليغادر المركبة مدّ يده إلى جيبه وأعطى السائق العشرين بنساً ، فابتسم السائق ، وقال له : ألست إمام هذا المسجد ؟ يبدو أنه كان يركب المركبة العامة بشكل مستمر وينزل عند المسجد ، قال : بلى ، قال : والله حدثت نفسي قبل يومين أن أزورك في المسجد لأتعبد الله عندك ، ولكنني أردت أن أمتحنك قبل أن آتي إليك ، وقع الإمام مغشياً عليه ، فلما صحا من غفوته قال : يا رب كدت أبيع الإسلام كله بعشرين بنساً .
كم مسلم في الأرض يبيع دينه بيمين كاذبة ؟! كم مسلم يبيع دينه ببيت يحتله بحسب القانون وليس له ؟! هناك مليون معصية هي بالحقيقة مخالفة للأمانة ، الأمانة موضوع خطير لعله أخطر موضوع في هذه الحلقات ، الأمانة شيء خطير جداً ، الآن إيمانك أداء للأمانة ، استقامتك أداء للأمانة ، عملك الصالح أداء للأمانة ، هذه الأمانة الأولى أمانة التكليف، الآن تزوجت قبل موضوع نشر سترها أو كذا ، هذه الزوجة أمانة في رقبتك ، هل أخذت بيدها إلى الله ؟ إذا أكرمتها أخذت بيدها إلى الله ، إذا قسوت عليها وبخلت عليها أبعدتها عن دينك .
أنا سأقول كلمة : أولاً الكلمة لها شقان ، الآن لا يحترم دينك في هذا العصر بالذات وقد تعفيني من الدليل ، لا يحترم دينك إلا إذا تفوقت في دنياك ، هذه واحدة ، لا يقبل منك التوجيه الديني إلا إذا كنت محسناً ، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
فلا يقبل دينك عند الآخر إلا إذا كنت متفوقاً ، طالب درس بجامعات أجنبية أخذ الدرجات الأولى إذا كان يصلي ، ويؤدي واجباته الدينية ، ويغض بصره ، أعطى للدين مكانة كبيرة ، لذلك الأشخاص المتفوقون إذا تدنوا لهم أثر كبير جداً جداً ، أنا أتمنى إذا إنسان أكرمه الله بتفوق دراسي ، تفوق بمنصب هذا إذا طبق الدين اتبعه الناس ، مرة في مستشفى ممرضة تصلي لكن لا أحد يصلي معها إطلاقاً ، فلما عرفت أن أكبر طبيب جراح في المستشفى يصلي شعرت بطمأنينة وسعادة لا توصف ، هؤلاء الذين أكرمهم الله بمنصب معين ، بمكانة معينة ، بعلم معين ، بشهادة معينة ، هؤلاء إذا تدينوا كانوا قدوة للآخرين .
خاتمة و توديع :
المذيع :
دكتور بارك الله بكم ، وأحسن الله إليك ، هذه الحقيقة ، الإطلالة الجميلة على ربيع الإيمان وعلى أزهاره اليانعة اليافعة لا بد لنا من عودة سنعود في خلقة قادمة للحديث عن أنواع الأمانة الأخرى .
أعزائي المشاهدين لم ننته بعد من رحلتنا وجولتنا في حديقة ربيع الإيمان ، وحديقة الأمانة بشكل خاص نعود لها في حلقة قادمة ، أشكركم شكراً جزيلاً على حسن متابعتكم ، كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .