- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (014) سورة ابراهيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، الإنسان يميل إلى أن يُحَمِّل أخطاءَهُ للآخرين فالإنسان يَحْتَجّ أنَّ البيئة سيِّئَة، والمُجْتَمَع فاسِد، والشَّيْطان وَسْوَس وزَوْجَتُهُ ضَغَطَتْ عليه ! فَحينما يتبرَّأ مِن ذَنْبِهِ، ويُلْقي التَّبِعَة على الآخرين، يكون قد ضلَّ ضلالاً بعيدًا، فربُّنا عز وجل في الآية الثانية والعشرين من سورة إبراهيم يُحَدِّثُنا عن الشَّيْطان، وكيف أنَّ هذا الشيطان ليس له على بني آدمَ سُلطان، أما أن يقول الإنسان: لَعَنَ الله الشيطان، والله يخزيه فهو الذي وَسْوَس لي، ودفعَني إلى هذا العَمَل هذا كلام لا معنى له إطلاقًا.
يقول الله عز وجل:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾
أي أنَّ الله جلّ جلاله حَكَمَ بين الخلائِق ؛ فريق إلى الجنَّة، وفريق إلى السعير، ففي الدنيا هناك تصانيف كثيرة ؛ أغْنِياء وفقراء، أقْوِياء وضُعَفَاء، وأصِحَّاء ومرْضى، مِن الشرق الذي يُؤمن بالجماعة، وبالغرب الذي يُؤْمِن بالفَرْدِيَّة، وهذا أصلُهُ سامي، وذاك آمي، وبيض وسود وطبقة كادِحَة وطبقة وُسْطى وطبقة أرستقراطِيَّة ؛ هذه التَّصْنيفات تنتهي في النِّهاية إلى صِنْفَيْن مؤمنٍ وكافر، ومُتَّصِل ومُنقَطِع، مُحْسِنٍ ومسيء وصادِق وكاذب، ووفِي وخائِن، رحيم وقاسٍ، فالمؤمن مُصَدِّق بِرَبِّهِ ومُتَعَرِّف إلى منهَج ربِّه، ومُتَّصِف ومُنضَبِط، ورحيم ومُحْسِن ومُنْصِف، أما الكافر فَمُكَذِّب ومَقْطوع ومُتَخَلِّف ومُسيء ؛ فريق إلى الجنَّة وفريق إلى السَّعير، فحين يُقْضى الأمْر ويُساق كلّ الناس إلى مصيرِهم الأبَدِي، ما معنى أبَد؟! قد نقولها ولا نعرف معناها ! معنى اللانِهاية لو تصَوَّرْت أكبر رقم وقسَّمْتَهُ على ما نِهايَة تكون النتيجة صِفْر، ما معنى خالدين فيها أبدًا ؟ معنى ذلك لو أنَّ الإنسان عاشَ سنَةً أو مائتان أو ألف سنة ومليون سنة، ومليار مليار...حتى ينقطِعَ النَّفَس لو قِسْتَ هذا بالآخرة ؛ فما عاش شيئًا ! لذا الإنسان لما يكفر بالله عز وجل أتدْرون ماذا خَسِرَ ؟ خسِرَ الأبد، وهذه هي الخَسارة الأبَدِيَّة قال تعالى:
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(21(﴾
قد يحترق محلّ فيَقُول الناس: هذه خَسارة ! لا، هذه ليْسَتْ خَسارة، فقد يكون هذا سبب الهِدايَة، فالخسارة قد تكون سبب الهِدايَة في الدنيا، أما الخَسارة الحقيقيَّة أن تَخْسَر الأبَدَ، قال تعالى:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)﴾
لذا يقول الإمام عليّ رضي الله عنه: الغِنَى والفقْر بعد العَرْض على الله فالغِنى أن تدْخل الجنَّة، والفقْر أن تُحْرَمَ منها، والغِنى غِنى العمل الصالِح، والفقْر فقرُكَ من الأعمال الصالِحَة، ألم يقُل سيِّدنا موسى حينما سقى بنتي سيِّدنا شُعَيْب:
﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾
لماذا هو فقير ؟ للأموال الطائلة والأجْنبِيَّة وغير المنْقولة للعقارات... فالعمل الصالح هو الشيء الرابح يوم القيامة.
ربنا عز وجل يقول:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾
قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾
ظنَّ هنا بِمَعنى أيْقَنَ، وحينما كنتُ في الدنيا علمْتُ أنَّ هناك يوم آخر وهناك جنَّة إلى الأبد ونار إلى الأبد، قال تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي(26)يَالَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34)﴾
هذا اليوم المُخيف، والذي إن غَفَلَ عنه الإنسان فَهُوَ أحْمَق، هو يوم الحِساب والدَّيْنونة والجزاء، اِعْمَلوا ما شئْتُم فكلّ شيء مكتوب، قال تعالى:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)﴾
ردَّ عليهم الله وقال:
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾
فالإنسان إذا أَيْقن أنَّ كلّ ما فعَلَهُ مُسَجَّل شيء مُخيف، ففي أوروبا يضَعون جهاز تَصْوير لِمَن يُخالف قوانين السَّيْر ويعمل ليل نهار، فإذا الواحِد أيقَنَ أنَّه هذا الشارِع مُراقب بالرادار لن يُسْرِع، فالإنسان إذا أيْقَنَ أنَّ الله تعالى رقيب عليه انتهى الأمر.
قال تعالى:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾
ضَحِكْتُ عليكم قال تعالى:
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)﴾
فالشَّيْطان يُخَوِّفُك ويَعِدُكَ الفقْر، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾
خالق الكون يؤَكِّد لك في ثمان آيات في كتابه، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39)﴾
وعدك بالتَّعْويض ووعدَك بالنَّصْر قال تعالى:
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾
وقال تعالى:
﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(141)﴾
فالشَّيْطان يُخَوِّفُك ويَعِدُكَ الفقْر.
قال تعالى:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾
هذه الآية تكفي، وما وَجَدْتُ مثلاً يُوَضِّحُ هذه الآية كالمَثَل التالي: إنسان يلبس بدْلة أنيقة ثمنها ثمان مائة ألف، وإذا به يصطدم بِبِرْكة، فيذْهب للشرطة يشْتكي، فإن قيل له: مَن الذي دَفَعَك ؟ يقول لا أحد، وهل مِن أحد رماك هناك ؟ فيقول: لا، فيقولون له: مَن إذًا ؟ فيقول: قال لي أحدهم اُدخل في هذه البركة !! بِرَبِّكم ألا يُعْتَبَرُ هذا مَجنونًا، قال تعالى:
﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾
لذا لا يقل الإنسان: لعن الله الشيطان فهو الذي أغواني !! فالشيطان لا علاقة له ولا سلطان له عليك، وليس له أن يفعل بك شيئًا، لكنَّه يَمْلِك أن يُوَسْوِسَ لك، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾
كلام خالق الكون، قال تعالى:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ(42)﴾
أنت يكفي أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وانتهى الأمر، قال تعالى:
﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200)﴾
قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾
قال تعالى:
﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾
مُلَخَّص الآية أنَّ الإنسان مسؤول ولا يتوهَّم أنَّ هذا لا علاقة له فيها ؛ يقول لك: البيئة والمُورِّثات، والضّغوط والأشرة والمُجتمع، لا تستطيع أن تدَّعي هذا الكلام لأنَّك حرّ، ومتى اسْتَعْبَدْتُم الناس وقد وَلَدَتهم أُمَّهاتهم أحْرارًا ورِزْقك وحياتك بيَدِ الله وحْدهُ، وكلمة الحق لا تقطع رِزْقًا ولا تُقَرِّب أجلاً، ولما الإنسان يُحجِم عن طاعة الله من أجل إنسان قويّ فهذا فهْمٌ سقيم، والأمر كلّ بيَدِ الله، إلهٌ يَدَعُكَ لِخَلْقِهِ ويقول لك: اعْبدني فلو أوْكَلَ أمرَكَ إلى الخلق لما اسْتَحَقَّ العبادة، وما معنى لا إله إلا الله ؟ لا مَعْبود بِحَقٍّ إلا الله، ومَن هو المَعْبود ؟ الذي يخلق ويُميت، ويعطي ويَمْنَع، ويعزّ ويذِلّ، ويرفع ويخفض، فهذه الآية أساسِيَّة في موضوع الشيطان، فلا أحد يَحْتَجّ بالشيطان، لأنّ لا علاقة له، اِلْعَنْهُ وتعوَّذ منه ولكن لا تجْعلْهُ السَّبب، فلو لم تكن هناك رغْبة مُمَاثِلَة لما فعَلْتَ ما أمرَكَ به.