- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (012) سورة يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة الكرام، الآن بعد أن اسْتَغَلَّ سيِّدُنا يوسف هذين الفتَيَيْن الذان اسْتَفْتَياهُ في رؤْيا رأوْها، الآن جاء دَوْرُ تَفْسير الرؤيا.
وذَكَرْنا في دَرْسٍ سابق أنَّ المؤمن إذا أناط به الله أُناسًا، وجعَلَهُ قيِّمًا عليهم ؛ أبًا أو رئيس دائِرَةٍ أو مُديرًا، هؤلاء الذين عَهِدَ الله بِهم إليك، وأناطهم بك، عليك أن تُوَجِّههُم إلى الآخرة، وتُصْلِحَ دينهم، ألا ترَوْن الدعاء النبوي الشريف: اللهم أصْلِح لنا ديننا الذي هو عِصْمة أمرنا..." فأنت إذا أصْلَحْتَ شأن مَن حَوْلَكَ، وأصْلَحْتَ دُنْياهم عليك أن تُصْلِحَ آخرَتَهم.
قال تعالى:
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ﴾
فالأوّل يُطْلَقُ سراحُهُ، ويَعود إلى عَمَلِهِ في قَصْر المَلِك، ويَخْدِمُهُ ثمَّ قال تعالى:
﴿وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾
أي سَوْفَ يُقْتَل، وهناك رأْي لِبَعْض العلماء أنَّ قَوْلَهُ تعالى:
﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)﴾
أنَّ المرء إذا رأى رؤيا مُخيفة، وفيها تَحْذير، لو أنَّهُ تاب إلى الله تعالى فإنَّها لا تَقَع أما إن لم يَتُب وَقَعَت فلَعَلَّ هذا النبيَّ الكريم رأى من أحدهما اسْتِهْزاءً بِهذا التَّفْسير ؛ فقال:
﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)﴾
فالإنسان إذا رأى رؤيا واضِحة كالشَّمْس، ومُخيفة، وكان مُنْحَرِفًا ومُتَلَبِّسًا بِمَعْصِيَة وآكِلاً لِحَقٍّ، فهذه الرؤيا تَقَعُ ولا تَقع ! تقَعُ إن لم يتُب ولا تَقع إذا تاب.
نُريد أن تكون هذه الحقيقة واضِحَةً في أذْهانِنَا، إنسان مُتَلَبِّس بِمَعْصِيَة مالٍ حرامٍ، أو ظالمٍ، أو مُقَصِّر في أداء حُقوق، وهو يعْلَمُ ذلك فرأى رؤْيا مُخيفَة، ورأى أنَّهُ وقَعَ مِن بناءٍ شاهِق فَنَزَل ميِّتًا، وأنَّ حيوانًا نهَشَهُ، وأنَّ محلَّهُ حُرِق، واسْتَيْقظ رْهوبًا، فهذه الرؤيا من الله عز وجل ؛ تَحْذير لما فيه مَعْصِيَة، وهل تقع هذه الرؤيا ؟ الجواب: هذه الرؤيا تَقَعُ ولا تَقع ! تقَعُ إن لم يتُب، ولا تَقع إذا تاب، وبعض المُفسِّرين لعلَّ أحدهما استهزئ فقال يوسف عليه السلام:
﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)﴾
قال تعالى:
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)﴾
هناك من يقول: أنَّ يوسف عليه السلام طلب مِن هذا الفتى الذي هو ناجٍ أن يَذْكرَهُ عند ربِّه ولذا أبْقاهُ الله تعالى في السِّجْن بِضْعَ سِنين عِقابًا له !! فهذا الكلام ليس صحيحًا، والعلماء قالوا: يجوز للمؤمن أن يبْتَغِيَ إلى الله الوسيلة، وأن يسْعى لإنقاذ نَفْسِهِ عند إنسان قَوِيّ ؛ فهذا يجوز، ولكن لا يجوز أن تعْتَقِدَ أنَّ هذا الإنسان سَيُنْجيه، ويكون بِهذا قد أشْرَك، أما إذا أخذَ بالأسباب، وتوَكَّل على ربِّ الأرباب فلم يُشْرِك، وهذا من باب الشَّفاعة، قال تعالى:
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا(85)﴾
هذا مَشْروع، والله عز وجل في حديث دقيق جدًا:
((إنَّ الله يلوم على العَجْز، عليكم بالكَيْس ؛))
فهذا الحديث الشريف لو طبَّقَهُ الناس لكانوا سادَةَ الدنيا أنت اِسْع وتظلَّم واشْتكي، وقابِل، وأقْنِعْهُم بالحُسنى والمعروف فإذا غلبَكَ أمْرٌ وما اسْتَطَعْتَ حينها تقول: حسْبِيَ الله ونِعْمَ الوكيل، وهذا بعد السَّعْي والأخْذ بالأسباب، فلا يجوز قَوْلُها قبل التَّسبُّب.
((إنَّ الله يلوم على العَجْز، عليكم بالكَيْس ؛))
دَبِّر وخَطِّط وفَكِّر وبيِّن ووضِّح وتحرَّك، وعندما يغْلبك الأمْر فقُل: حسْبِيَ الله ونِعْمَ الوكيل إذًا لا يجوز أن تسْتَسْلِم للمَقْضِيّ، والعلماء فرَّقوا بين القضاء والمَقْضِيّ فالقضاء كالزِّلزال والمطر الشَّحيحة، والمرض لكنَّ المَقْضِيّ هو أن يَعْتَدي عليك إنسان، وأن يسْرُقَك، حينها لا تَقُل هذا قضاء عليّ وتتْرُكهُ يسْرق، ولكنْ عليك أن تكْمشَه.
سيِّدُنا عمر كان في طريقِهِ إلى الشام فَعَلِموا أنَّ بها وباءً هو الطاعون فتَحيَّروا في الأمر ؛ بعضهم قالوا: ندْخُل، ولا نَفِرُّ من قضاء الله والآخر قالوا: لا ! فلمَّا عرضوا الأمْر على عمر رضي الله عنه قال: لا نَدْخُل، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، أَتَفِرُّ مِن قَضاء الله ؟ فقال: نعم، أنا أفِرُّ مِن قَضاء الله إلى قضاء الله ! لو أنَّ راعِيًا معه شياه وهناك أرضان إحْداهما مُجْذِبَة والآخرة مخْصبة، أليس لو حوَّل غنَمَهُ من المجذبة إلى المخْصِبَة فرَّ مِن قضاء الله إلى قضاء الله !!
فالقضاء ما يأتي من الله مُباشَرَةً، أما المَقْضِيّ ما يأتي من ظُلْمِ العباد فالمَقْضِيّ يُقاوَم ويُعارَض، لذا لا تَقْبَل أن يُؤْخَذ منك حقُّك وأنت ساكت ليس هذا من خُلق المُسْلِم، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)﴾
قال تعالى:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40)﴾
فإذا غلبَ على ظنِّك أنَّ عَفْوَكَ على أخيكَ يُصْلِحُهُ ويُقَرِّبُهُ فيَجِبُ أن تَعْفوا، أما إذا غلَبَ على أمْرِكَ أنَّ عفْوَك يزيدُه عُدْوانًا وبَغْيًا وتطاوُلاً يجب أن تأخذ حقَّك دون اسْتِسلام، ولكن إذا أخَذْت حقَّك ينبغي أن لا تزيد على حَقِّك شيئًا.
لذا سيِّدُنا يوسف لمَّا قال: اُذكرني عند ربِّك ما فعَلَ شيئًا بِهذا ! وما فعَلَ شيئًا خِلاف مَنْهج الله تعالى، فهو لا يعْتَقِد النَّجاة من غير الله تعالى، ففي بعض التَّفاسير كما قلنا قالوا: أبقاه سبع سنوات في السِّجن من أجل ان قال: اُذكرني عند ربِّك ! فهذا الكلام لا أصْل له، ونحن كَمُؤمنين بِإمْكانِنَا أن نصِل إلى أهْدافِنا عن أسباب لا تضُر إيماننا ولا تَقْدَحُ في تَوْحيدِنا.
قال تعالى:
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)﴾
هذه هي الرؤيا التي رآها المَلِك، قال تعالى:
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾
سبْع سنوات تُغِلّ غلاَّت وفيرة ثمَّ قال تعالى:
﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)﴾
وهذه إشارة في عِلْم الزِّراعة أنَّ القَمْح إذا بَقِيَ في سُنْبُلِه يُحْفَظُ سبْع سنواتٍ بالتَّمام والكمال، ثمَّ قال تعالى:
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)﴾
أي البِذار ثمَّ قال تعالى:
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)﴾
هل هناك إنسان يصْدُر أمْر الإفْراج عنه من السِّجْن، ولا يخْرج ؟ المؤمن كرامتُه عالِيَة، وشرَفُ المؤمن قِيامُهُ باللَّيل، وعِزُّه اسْتِغْناؤُهُ عن الناس فلو أنَّهُ كانَ سجينًا عاديًّا ما إن سَمِع بِإطلاق سراحِهِ حتَّى تراه مُسْرِعًا ولكن قال له قال تعالى:
﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)﴾
وهذا نأخُذه في دَرْسٍ قادِمٍ إن شاء الله.
والمُلاحظ أنَّ الله تعالى يَمْتَحِنُ الناس بالرَّخاء والشِّدَّة، تأتعي سبْعة سنوات خير، وأخرى شرّ، فالناس إذا فُتِحَت عليهم الأمور يَفْسُقون وإذا ضُيِّقَت يَكْفرون، والله تعالى قال:
﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)﴾
فالمؤمن في الرَّخاء شَكور، وفي البَلاء صَبور، وغير المؤمن في الرَّخاء ساهٍ وغافلٍ، وفي الشِدَّة يَيْأس وهي كُفْر، والغَفْلَة أيْضًا بُعْدٌ عن الله تعالى، فالله تعالى عالَجَ هؤلاء بِسَبْعِ سَنوات عِجاف وأخرى خَيِّرات، والمًُلاحظ في البلاد الإسلامِيَّة هذه المَوْجات ؛ انْفِتاح وانْغِلاق أما المؤمن الصادِق فلا ينسى فضْل الله تعالى في الرَّخاء، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((أمرني ربي بِتِسْع: خَشْيَةُ الله في السرّ والعلانِيَة، وكلمة العدل في الغضب والرِّضا، القَصْد في الفقْر والغِنى وان أصِل منْ قطني، وأن أعْفُوَ عمَّن ظلمني، وأُعْطِيَ مَن حرَمَني وأن يكون صَمْتي فِكْرًا، ونُطقي ذِكْرًا، ونَظري عِبْرَةً.))