- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (035) سورة فاطر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية الثانية و الثلاثون و التي بعدها من سورة فاطر
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)﴾
من " هنا للتبعيض
﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾
لم يأخذ هذا الكتابَ و لم يهتد به و لم يطبِّق أحكامه، و هذه هو أشدُّ أنواع الظلم،
﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾
ومنهم مقتصد، أخذ بالرخَصِ و فعل المباحات و لم يفعل العزائمَ
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
فأنت لك موقفٌ مع هذا الكتاب إما أن يكون الإنسان سابقا بالخيرات و إما أن يكون مقتصِدا و إما أن يكون ظالما لنفسه، فإن لم يفهم هذا الكتابَ ولم يتدبَّرْ آياته و لم يحلَّ حلالَه و يحرِّمْ حرامه و لم يعبأ بوعده و لا بوعيده و لم يتَّعِظْ بقصصه و لم يصدِّق أخبارَه، ظلم نفسَه ن كتاب هداية و سعادة، منهم ظالم لنفسه، وهناك إنسان آخر اتَّخذ الحدَّ الأدنى، هذا ينجو، ومنهم مُقْتَصِد وهو مِن أصْحاب اليمين، وهناك إنسان جَعَل هذا القُرآن ربيعَ قلْبِهِ، وجَعَلَهُ منْهَجًا دقيقًا، وأخذَهُ بِكِلْتا يدَيْه، وقرأه آناء الليل وأطراف النَّهار، وعاشَ في رِحاب مَعانيهِ وصدَّق أخْبارَهُ، وأخَذَ وَعْدهُ ووعيدَهُ على مَحْمَل الجدّ، ومنهم سابِق بالخَيْرات، قال تعالى
﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾
أما هناك مَن يرى أنَّ الفضْل الكبير أن تشْتري بيتًا بِعشرين ألف ليْرة واليوم ثَمَنُهُ سبعين مليون ليرة، فالفَضْل الكبير أن تكون وكيل شَرِكَة لها بِضاعة رائِجَة ومَحصورة فيك، ولكنَّ الله عز وجل يُخْبرُنا وهو العَليم الخبير، وهو رب العالمين أنَّ الفضْلَ الكبير أن يكون القرآن ربيعَ قلبِكَ، قال تعالى:
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾
هذا الفضْل الكبير ينتهي إلى جنَّاتٍ عَدنٍ يدْخُلونها، حينما تُحِلُّ حلاله وتُحَرِّم حرامه، وتُصَدِّق وَعْد ووعيدَهُ، وتأخذ بما أمر وتنتهي عمَّا عنه نهى وزَجَر ؛ هذا هو الفضْل الكبير، فهذه العقيدة وذاك السُّلوك وهذا الحال ينتهي بِكَ إلى الجنَّة، فأحيانًا تَجِدُ الدارس سبعة سَنَوات دِراسَة كي يُعْطُونه ورقَة فيها كلمة ماجِسْتير، ولكنَّ هذه الوَرَقة الصَّغيرة تنتهي بِكَ إلى دَخْلٍ كبير، وهذا الفضْل الكبير ينتهي بِكَ إلى الجنَّة، فالله تعالى قال
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)﴾
كلّ ما في جنَّة غير ما في الأرض، أعْدَدْتُ لِعِبادي الصالحين ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خَطَر على قلْبِ بشَر ؛ فهذا الوَصْف مِن باب التَّقريب.
قال تعالى:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)﴾
فالله تعالى وَعَدَنا بالجنَّة وهذه هِيَ الجنَّة، بِرَبِّكُم كم يوجد مِن مَصْدَرٍ للحَزَن ؟ مليون مصْدَر، مليون همّ مِن جِسْمِكَ ! ومليون ثاني مِن بيْتِكَ !! ومِن دَخْلك!! كلَّ هذه الهُموم تزول يوم القيامة، وينتهي الحَزَن مِن دون رَجْعة، والدُّنيا أيُّها الإخوة كلُّها أحْزان، ولا تَصْفو لِمُؤْمِن، ويقولون لا راحَةَ لِمُؤْمِنٍ إلا بِلِقاء وجْهِ ربِّه، فأحَدُهم سَمِعَ هذه الكلمة فقال: ولا الكافر يرْتاح !! فهذه الحياة مَبْنِيَّة على المتاعِب مِن أجل أن تسْعى إلى الجنَّة، فأجْمَل صِفَة للدُّنيا أنَّ الدنيا كلُّها حُزْن ومُقْلِقات والجنَّة راحةٌ ما بعدها راحة، ففي الدُّنيا شَبَح الأولاد والزَّوجة والفقْر ؛ هذه كُلُّها مشاكِل.
ثمَّ يقول تعالى:
﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)﴾
على ما كان مِنْك، وشَكَر أعمالكَ الصالحة، فآلَتْ بِكَ الأمور إلى الجنَّة، قال تعالى:
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)﴾
فلا تعَب ولا مشاكِل، ولا سِنَّ يُؤلِمُك، ولا بيت بالأُجْرة، فهذا حال أهل الجنَّة.
ثمَّ قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)﴾
ما قرؤوا القرآن وما عبئوا به، وما الْتَزَموا به، وما أحَلُّوا حلاله، وما حرَّموا حرامهُ، قال تعالى:
﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)﴾
أصْعَب أن تكون دون مَوتٍ ودون حياة، لا حَرْب ولا سِلْم.
ثمّ قال تعالى
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾
ثلاثة وسبْعون سنة فهذا العُمْر كافي لِمَعرفة الله، أفلا يتذَكَّر فيه مَن تذَكَّر ؟! فهذا العمر كافي للتَّوبة وإصلاح الأخطاء، قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)﴾
ما هو النَّذير ؟ هذا القرآن، والنبي العَدنان، وسِنُّ الأربعين والسِّتين والنَّذير الشَّيْب، عَبْدي كبرتْ سِنُّك، وضَعُف بصرُك، وانْحَنى ظَهْرك، وشاب شَعرك، فاسْتحي مِنِّي فأنا أسْتحي منك
إلى متى أنت باللَّذات مَشْغول وأنت عن كلّ ما قدَّمْتَ مسؤول
تَعْصي الإله وأنت تُظهر حبَّه ذاك لَعَمْري في المقال بديعُ
لو كان كان حُبُّك صادِقًا لأطعْته إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ يُطيعُ
فالنَّذير ما سبَقَ وَصْفه، ومن دَخَل الأربعين دَخَل أسْواق الآخرة والنَّذير سِنُّ السِّتين، والنَّذير المصائِب، ومَوْتُ الأقارِب، هكذا قال الإمام القرطُبي في تَفسير معنى كلمة النَّذير، قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)﴾
هذه الآخرة قُدِّمَت لنا صُوَر منها، وكأنَّنا نراها رأْيَ العَين، فالله سرَّب لنا مشاهِد الآخرة، وهذا كلام آخر الكون، وكلام الله تعالى وهو الذي قال لك: الفضْل الكبير أن تأخذ بِهذا الكِتاب، وتعملَ به وأن تُصَدِّق وَعْده، وتخاف من وعيدِهِ، قال تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾
أحدهم سأل أحد العلماء: كم الزَّكاة ؟ فقال له: عِندنا أم عِندكم ؟! فقال: وهل لنا زكاة ولكم زكاة ؟!! فقال: يا ابني أما عندنا فالعَبد ومالهُ لِسَيِّدِه، وأما عندكم اثنان ونصف بالمائة ! قال تعالى:
﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾
فإيتاء المال على حُبِّه شيءٍ، وإيتاء الزَّكاة شيءٌ آخر، فلَكَ أن تأخذ الحدّ الأدنى وأنت مُقْتَصِد بهذا، ويمْكِنُ أن تأخذ الحدّ الأعلى فأنت سابق بالخيرات، لذا هذا الكتاب الكريم لك مِنه ثلاثة مواقف: فإن لم تعْبأ به فقد ظَلَمتَ نفْسَكَ، وإن أخَذْت الحدّ الأدْنى اقْتَصَدْت، وإن أخَذْتهُ بكلِّك سبَقت الخيرات، لذلك قالوا: العِلْم لا يُعْطيكَ كُلَّه إلا إذا أعْطَتَهُ كُلَّك، فإذا أعْطَيْتَهُ بعْضَكَ لم يُعْطِكَ شيئًا، ويظلُّ المرء عالمًا ما طلب العِلم فإذا ظنَّ أنَّه عَلِمَ فقد جَهِل.
نسأل الله أن يجْعلنا من السابقين أو أقلّ شيء مِن المُقْتَصِدين، إما أن نكون من الظالمين فنَعوذ بالله تعالى من هذا.