وضع داكن
27-04-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة الأحقاف - تفسير الآيات 29 - 32 الدعوة البيانية.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة والعشرون والتي بعدها من سورة الأحقاف، والتي تبدأ بقوله تعالى:

﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)﴾

[سورة الأحقاف]

 أيها الإخوة، عندنا عذاب أليم، وهذا العذاب قد لا يحَتمِلُ الإنسان وبِمُجرَّد أن يُجيب داعِيَ الله أيْ أن يستجيب له، فربُّنا عز وجل يقول:

 

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 ماذا تُفيد مِن هذه ؟ لماذا لم يقل ربنا عز وجل يغْفر لكم ذنوبكم ؟ علماء التفسير قالوا: هذه مِن تُفيد التَّبعيض، يعني يغْفر لكم بعض ذُنوبِكم التي بينكم وبينه، أما التي بينكم وبين العباد فلا تُغْفر إلا بالأداء أو المُسامحة، فإمَّا أن تؤدّي الحق وإما أن يُسامِحَك، لذلك الذي يتوهَّم أنَّه إذا ذَهَب إلى الحج غفرَتْ له كلّ ذنوبه، فهذا وَهمٌ خاطئ، فالذُّنوب لا يُغْفَرُ منها إلا التي بينك وبين الله، أما التي بينه وبين العباد فلا بدّ أن يؤدِّيَها، حتَّى لا يقعَ الإنسان في وَهم.
قال تعالى:

 

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 والحقيقة أنَّ أَكْمَل شيءٍ في الإنسان أن يسْتجيب للدَّعوة البيانِيَّة، وهو صحيح مُعافى قَوِيٌّ، وغنِيٌّ عن الناس، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول: اللَّهمّ من أحبَّني فاجْعَل رِزْقهُ كفافًا، هكذا دعا لنا النبي عليه الصلاة والسلام، ثمَّ إنَّ هناك حقيقة ثانِيَة، وهو أنَّ الذي يُحِبُّ رسول الله لا بدَّ مِن أن يُنْفِقَ ماله على حُبِّه، لأنّ أحدًا سألهُ فقال: يا رسول الله، إنِّ أُحِبُّك فقال: اُنظر ماذا تقول ؟ هذا الفقْر اسْمُهُ فقْرُ الإنفاق ويُقابِلُهُ كما قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)﴾

 

[سورة التوبة]

فالمؤمن الذي أحبَّ الله ورسوله تجدهُ يُنْفقُ، فإذا افْتَقر فهذا فقْر الإنفاق وعندنا فقر الكسل ؛ هذا مذموم
 والإنسان محاسب عليه، ويوجد فقر القدَر ؛ الإنسان معذور ؛ إذْ أنّه قضاء الله وقدره، فالإنسان العاجز، والإنسان كفيف البصر، والمُصاب بشلل طفل عنده كساح هذا فقير إنه لا يستطيع أن يكسب قوت يومه فهذا فقير فقر القدر، أما إنسان كسول مهمل، لا يتقن عمله، ولا يداوم، وينام إلى الظهر، وإذا عمل عملا لا يتقنه، يسوِّف، يماطل، يهمل، فهذا إذا فتقر ففقره عقاب، اسْمُهُ فقْر الكسَل، ونحن عندنا فقْر القَدَر، وفقْر الكسَل، والفقْر الثالث هو فقْر الإنفاق ؛ فالصحابة الكرام كانوا يُنفقون أموالهم في سبيل الله، والنُّقطة الدقيقة أنَّه يستحيل عليك أنْ تُحِبَّ الله، وتُحِبَّ رسوله وأن تكْنِزَ الذَّهَب والفِضَّة، ولأنّ الله عز وجل يقول:

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)﴾

[سورة المائدة]

 فإذا الإنسان أحبَّ فتاةً، وخطَبَها وعقَدَ عليها، فلا يأتيها إلا ومعه هدِيَّة وهذا شيء معقول، فالمؤمن إذا أحبَّ الله عز وجل يُقَدِّم له هَدِيَّة، أن يُنْفقَ مِن ماله على عباد الله تعالى، مرةً دُعيت إلى طعام لأيْتام، فالطَّعام نفيس جدًّا، وليس مِن صُنع المطاعم، ولكن مِن صُنْع البيوت،علمت أن هناك أسر تتنافس وتأخذ دور كي تصنع طعام للأيتام في رمضان، وهذا شيء جميل جدًّا، فالإنسان حينما يحب الله يبحث عما يرضيه، عن عملٍ يرضيه، عن إنسان يكرمه، لذلك المؤمن ينفق ماله، وإذا افتقر المؤمن فهذا ليس فقْر قَدَر ولا فَقْر كَسَل إنما فقر إنفاق، قال: انظر ما تقول قال: والله إني أحبك، قال:إن كنت صادقا فيما تقول لَلفقر أقرب إليك من شِرْك نَعْلَيْكَ، لذا أجمل شيء أن تستجيب لله وأنت صحيح معافى، وأنت قوي شاب وغَنِيّ، لكن الإنسان قد لا يسْتجيب فيأتي التَّأديب، فهو إن اسْتَجاب مع التَّأديب فهذا شيءٌ جيِّد، لكنَّ الأَجْوَدَ منه أن يستجيب إذا دُعِيَ إلى الله عز وجل، وأحيانًا يُعطي الله تعالى هذا العبد التائِهَ الشارد الدُّنيا، فنقول: الأولى أن يشْكر فإذا لم يسْتَجِب، ولم يشْكر، ولم يَتُب، فهذا موتُهُ خير مِن حياته، وهذا يأتي القَصْم فَيُنْهيه، قال تعالى:

 

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 أي لا تسْتَطيعوا أن تُجيبوا داعِيَ الله إلا إذا آمنْتُم به، لأنَّك إذا عرفتَ الأمر، ولم تعرف الآمر تفنَّنْتَ في معْصِيَة الآمِر، وفي حِيَلٍ تتهرَّبُ بها من طاعته أما إذا عرفْتَ الآمِر، ثمّ عرَفْتَ الأمْر تتفانى في طاعته.
الجواب، قوله تعالى:

 

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾

 

[سورة الأحقاف]

 في الدنيا مغفرة وفي الآخرة نجاة من عذاب أليم، قال تعالى:

 

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)﴾

 

[سورة آل عمران]

 ثمَّ قال تعالى:

 

﴿ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)﴾

 

[سورة الأحقاف]

 قال له عليه الصلاة والسلام: قل آمنت بالله ثم استقم..."، فقوله ليس بِمُعْجِزٍ أي لا يستطيع أن يتفلَّتَ من ملَكِ الموت، وتُرْوى قِصَّة رَمْزِيَّة وهي أنَّ سليمان الحكيم كان عنده إنسان، وكان عندهُ ملَكُ الموت، فصار ملكُ الموت يُحدِّقُ في هذا الإنسان فسأل هذا الإنسان سليمان ؛ مَن هذا الذي يُحدِّق فيَّ ؟ فقال: ملَكُ الموت فانْخَلَع، وطلبَ منه أن يُرْسِلَهُ إلى أقْصى الدُّنيا على بِساطٍ الريح ! فَنُقِلَ إلى الهِنْد، بعد يومين ماتَ هناك، فسُليمان الحكيم سأل ملك الموت: لماذا كُنْتَ تُحِدُّ في البصَر ؟ فقال له: عَجِبْتُ له أنا كان معي أمْر قبْض روحِهِ بالهِند فما الذي جاء بِهِ هناك ؟! فكلُّ مَخلوقٍ يموت، ولا يبقى إلا ذو العِزَّة والجبروت، الليل مهما طال فلا بدَّ من طلوع الفَجر، والعمر مهما طال فلا بدّ مِن نزول القبر.
 قالوا: أنَّه بِقديم الزَّمان كان هناك ملِك جبَّار وبطَّاش، غضِبَ على أحد رعاياه، وكان يعْملُ نجَّارًا، فطالبَهُ بمائة كيس نجارة، فأدْرَكَ النَّجار أنَّه قاتِلُه، لأنَّ الطَّلَب مستحيل، فودَّع أهله، وكتَب وصِيَّتَهُ، ومع الفجْر طُرِق الباب، فقبَّل أهْلهُ وذهب لِيُقْتَل، فإذا الخَبَر أنَّ المَلِك هو الذي مات ! قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾

 

[سورة الأحقاف]

فَسُبحان مَن قهَر عبادهُ بالموت ! فلا بدّ من الموت، فهذا معنى.
 المعنى الثاني، لا يستطيع المؤمن لإنسان مهما كان قوِيًّا أن يتفلَّتَ مِن عِقاب الله، كنتُ عندَ طبيب، وجاءَهُ اتِّصال هاتفي من طبيب، فالذي سَمِعتُهُ، وكنتُ قريبًا من الهاتف، قال له: أيّ مكان بالعالم، وأيّ مبلَغ نحن جاهزون له ! فقال له الطبيب: والله لا يوجد أمَل ! فالسَّرَطان في الدَّرجة الخامسة، فالمرض يأتي أحيانًا في أوج نشاط الإنسان.
أيها الإخوة، كلمة قاسي هي كلمة توصف بها المواد التي تُقاوِم قِوى الضَّغط، فأقسى عنصر في الأرض هو الألْماس، وعندنا قِوَى الشَّدّ فالله تعالى:

﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(183)﴾

[سورة الأعراف]

 فما معنى متين ؟ أمْتَنُ شيءٍ الحِبال الفولاذِيَّة فالتِّيليفريك يُحمل بها، أما أقسى شيءٍ هي الألماس، فالإنسان مهما كان قَويًّا، ومهما كان جبَّارًا، ومهما كان ذَكِيًّا، ومهما كان مُتَمَكِّنًا فالحَبْل متين لا ينْقَطِع، وبِلَحظة واحِدَة يأتي في قبْضَةِ الله، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾

 

[سوة الأحقاف]

 الإنسان في الدنيا له جماعة، وأنصار وأقْرباء وأعوان، وقد يقع الإنسان بِوَرْطة فيتَّصِل بفلان وفلان، أما في الآخرة قال تعالى:

 

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)﴾

 

[سورة الأنعام]

تحميل النص

إخفاء الصور