- موضوعات علمية
- /
- ٠2ندوات الإعجاز العلمي
مقدمة :
المذيع :
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله و صحبه أجمعين .
أخوة الإيمان والإسلام ؛ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، لما كانت المعارف مكتسبة في تطور مستمر وجب على أمة الإسلام أن ينفر منها في كل جيل نفر من علماء المسلمين ، الذين تزودوا بالأدوات اللازمة للتعرض لتفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله ، كالإلمام باللغة العربية ، ودلالات ألفاظها ، وأساليب التعبير بها ، وقواعدها النحوية والبلاغية ، وغير ذلك من علومها المختلفة ، ويجب طبعاً المعرفة بأصول الدين ، وبأسباب النزول ، وبالناسخ والمنسوخ ، والمأثور في التفسير ، وبجهود السابقين من كبار المفسرين ، وبالقدر اللازم من العلوم المتاحة عن الكون ومكوناته ، وغير ذلك مما يحتاجه كل من يتشرف بالقيام بمثل هذه المهمة العظيمة .
مع تفسير هذه الآيات الكونية والآيات القرآنية ، ومع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق ، والخطيب والأستاذ الديني في جوامع دمشق ، أهلاً و سهلاً بك .
الدكتور راتب :
أهلاً وسهلاً بكم يا سيدي .
المذيع :
الكون عبارة كبيرة جداً ، ودلالتها كبيرة أيضاً ، نريد أن نتعرف أكثر فأكثر على هذه الكلمة ومدلولاتها .
التعريف بالكون :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عبد الحليم - جزاك الله خيراً -ـ بادئ ذي بدء الكون ما سوى الله ، في القرآن الكريم يقابله السموات والأرض ، في المصطلح الحديث الكون ، والكون ما سوى الله , وقد تحدثت في لقاء سابق عن أن الله واجب الوجود ، بينما ما سواه وهو الكون ممكن الوجود ، ممكن أن يكون ، أو ألا يكون ، ممكن إذا كان أن يكون على ما هو كائن ، أو على خلاف ما هو كائن .
على كلٍّ في صحيح ابن حبان عن عطاء أن عائشة رضي الله عنها قالت :
(( أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي ، وقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي عز وجل ، فقام إلى القربة ، فتوضأ منها ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد حتى بلّ الأرض ، ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي ، وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
قال عليه الصلاة والسلام : ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها ))
وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام :
(( أمرني ربي أن يكون صمتي فكراً ، و نطقي ذكراً ، و نظري عبرًا ))
الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى قال : " من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ، ومن لم يكن نظره عبرة فهو لهو ".
والله عز وجل الذي خلق السموات والأرض بالحق يقول :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
والحق هو القرار والثبات والسمو والعلو ، ونقيضه الباطل ، وهو الزوال والزهوق والتردي والعبث ، قال تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ﴾
آيات الله في الآفاق :
فأين هي آيات الله في الآفاق ؟ الآن دخلنا إلى الموضوع ، ورد أن عدد النجوم في السماء بعدد ما في الأرض من مدر وحجر ، والعجيب أنه قبل أسبوعين أو ثلاثة صدر تصريحٌ لأحد علماء الفلك الكبار يقول فيه : إن عدد نجوم السماء بعدد رمال الأرض ، وهذا تقريب للعدد ، أي بعدد ذرات التراب والحجارة ، فعلماء الفلك في الماضي كانوا يعدون النجوم بالألوف ، وبعد أن ارتقت كفاءة مراصدهم صاروا يعدونها بالملايين ، ثم وصلوا إلى المليارات ، أي ألوف الملايين ، أما اليوم فإنهم يقدرون عدد نجوم السماء في مجرتنا درب التبابنة من خلال المراصد العملاقة بثلاثين مليار نجم ، علماً أن مجرتنا مجرة متوسطة في حجمها ، وهي واحدة من عشرات ألوف الملايين من المجرات التي لا يعلم عددها إلى الله ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾
المذيع :
هذا عن عدد النجوم ، وذكرنا أنها بالملايين ، فكيف إذا ذكرنا الحجم الكبير لكل نجم ؟
الحجم الكبير للنجوم :
الدكتور راتب :
أستاذ عبد الحليم ، إذا علمنا أن حجم الأرض يساوي مليون مَليون متر مكعب، وأن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، وأن المسافة بينهما مئة وخمسون مليون كيلو متر ، وأن نجماً من النجوم في برج العقرب - كما ذكرت قبل هذا في حلقة سابقة- يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، وأن نجماً اسمه منكب الجوزاء يزيد حجمه على حجم الشمس بمئة مليون مرة ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾
المذيع :
إذاً فضيلة الدكتور الأعداد مهولة ، والحجم كبير كما ذكرت ، طبعاً هناك مسافات بين النجم والأرض ؟
المسافات الفلكية بين النجوم و الأرض :
الدكتور راتب :
مسافات فلكية ، أي نحن في الأرض إن أردنا أن نذكر رقماً غير معقول ، رقماً يفوق حدّ التصور نقول : إنه رقم فلكي .
الحقيقة أن ما بينها من مسافات تقدر بالسنين الضوئية ، فالضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، إذاً هو يقطع في السنة عشرة آلاف مليار من الكيلو مترات ، فإذا علمنا أن القمر يبعد عنا ثانية ضوئية واحدة ، وأن الشمس تبعد عنا ثماني دقائق ضوئية ، وأن المجموعة الشمسية لا يزيد قطرها على ثلاث عشرة ساعة ضوئية ، وأن أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، ولكي نعلم ماذا تعني أربع سنوات ضوئية ، لو اتجهنا إلى هذا النجم بمركبة تساوي سرعتها سرعة مركبة القمر لاستغرقت الرحلة أكثر من مئة ألف عام ، ولو ساوت سرعة هذه المركبة سرعة السيارة في الأرض لاستغرقت الرحلة هذه قريباً من خمسين مليون عام ، هذا ما تعنيه أربع سنوات ضوئية ، أي إن أردنا أن نصل إلى هذا النجم بمركبة أرضية لاحتاج إلى خمسين مليون عام ، فما القول في سديم المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليوني سنة ضوئية ؟ بل ما القول في مجرة اكتشفت حديثاً تبعد عنا عشرين ألف مليون؟ أي عشرين مليار سنة ضوئية ، لقد صدق الله العظيم إذ يقول :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ *﴾
هذا ولم نتحدث عن حركات النجوم ، وعن سرعاتها العالية ، ولا عن مداراتها الواسعة ، ولا عن شدتها ، ولا عن قوة إضاءتها ، ولا عن قوى التجاذب التي تربطها ، ولا عن توازنها الحركي ، وعلى كلٍّ فالعجز عن الإدراك إدراك ، قال تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
المذيع :
قال الله تعالى :
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾
تحدثنا فضيلة الدكتور عن الكون بشكل عام ، وعن النجوم كم لها من الحجم الكبير ، والعدد المهول ، ولكن إن أردنا أن نعطي فكرة صغيرة عن مدارات الكواكب هل ذكر في القرآن الكريم مثلاً ؟
مدارات الكواكب :
الدكتور راتب :
لاشك أن هناك استنباطاً لطيفاً من قوله تعالى :
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
هذه الآية على ظاهرها تدل على أن للشمس مداراً ، وللقمر مداراً ، ومدار الشمس لا يتصل بمدار القمر ، ولن تصطدم الشمس بالقمر ، بل كل في فلك يسبحون ، والآن الطائرات - أستاذ عبد الحليم - كل طائرة لها مسار ، لو لم يكن هناك مسارات خاصة لكل طائرة ، ولكل رحلة لكان هناك فواجع في الجو ، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾
أي أن تنحرف عن مسارها الذي رسم لها ، وقوله :
﴿ أَنْ تَزُولَا﴾
أي أن تنحرفا ، والزوال في وقت الظهيرة انحراف الشمس عن كبد السماء .
لقد فهم من هذه الآية الكريمة أن كل كوكب في الفضاء له مدار يدور فيه ، حتى إن بعضهم حينما تلا قوله تعالى :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾
رأى أن هذه الآية فيها أدق رسم للسماء ، فما من كوكب أو نجم في السماء إلا وله مدار يدور فيه ، و يعود إلى ما كان بعد حين ، فهذا المذنب الذي يرقبه الناس كل يوم ، طبعاً مضى وقته ، كان هناك إعلان إخباري عن أن هناك مذنبًا سوف يقترب من الأرض ، فهذا المذنب الذي راقبه الناس كل يوم مذنب هالي منذ أن خلق الله السموات والأرض يدور في مدار لا يحيد عنه قيد أنملة ، يصل إلى نقطة تقترب من الأرض ثلاثمئة مليون كيلو متر ، له ذيل يزيد طوله على ثلاثة وتسعين كيلو مترًا ، ويخاف الناس أن يبقى في سيره مستقيماً فيرتطم بالأرض ، أما الآية الكريمة فتقول :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾
المذيع :
إذاً للمذنب مدار معين حول الأرض ؟
لكلّ مذنب مدار معين حول الأرض لا يحيد عنه :
الدكتور راتب :
نعم لا يحيد عنه أبداً :
﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
إن بقاء هذا المذنب في مداره ملايين السنين ، وبقاء الأرض في مدارها ملايين السنين ، وبقاء الشمس في مدارها ملايين السنين في حدّ ذاته آية عظيمة جلّت من آية ، قال تعالى :
﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
قد لا نصدق أن هذه الساعة الشهيرة في لندن ساعة بيغ بن ، والتي يقال : إنها قد تزيد أو تنقص في العام ثانية واحدة ، على ماذا تضبط ؟ على حركة نجم ، حركة النجم الذي يقطع ملايين مَلايين ملاَيين مَلايين ملايِين الكيلو مترات ، يأتي في وقت لا يقصر ولا يسبق ولا ثانية واحدة .
مثلاً : لو أن قطاراً يقطع من الخرطوم إلى القاهرة ، انطلق في الساعة السادسة، وقيل : سوف يصل في الساعة السادسة والدقيقة الواحدة والثلاثين ، أليس من الروعة ومن الإنجاز العلمي أن يصل في وقت يحسب بالدقائق ؟ هذا من صنع إنسان ، كذلك هذا النجم العملاق الذي يقطع مليارات مَليارات مليارَات الكيلو مترات يصل بدقة تضبط عليها ساعة بيغ بن .
فكل كوكب له مدار لا يزيد ولا ينقص ، والكوكب لا يسرع ولا يبطئ ، فالشمس لن ترتطم بالقمر ، ودورة الأرض حول نفسها ثابتة ، وطول الليل لا يتغير ، أي إن التقاويم بعد مئة عام تبقى صحيحة ، بعد ألف عام تبقى صحيحة ، بعد خمسة آلاف عام تبقى صحيحة ، والدليل أن كل بيت فيه تقويم يمكن أن تقول : في عام ألفين وثمانمئة الشمس في يوم ثلاثة وعشرين من شهر شباط تشرق الساعة الخامسة والدقيقتين ، ماذا يعني هذا ؟ ثبات حركة النجوم، ثبات الأزمنة والأمكنة والمسارات والمدارات ، هذا شيء يلفت النظر .
المذيع :
دقة في التصميم والتنظيم لابد أنها قدرة الخالق .
الدقة في خلق الكون :
الدكتور راتب :
وأن تكتشف قبل خمسة آلاف عام أن الشمس في اليوم الثالث والعشرين من شهر شباط سوف تشرق في الساعة الخامسة والدقيقتين ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
دورة الأرض حول نفسها ثابتة ، وحول الشمس ثابتة ، وكل في فلك يسبحون ، لكن علماء الذرة دهشوا من هذه الآية ، قوله تعالى :
﴿ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
فعلام تدل كلمة :
﴿ كُلٌّ ﴾
هذه الآية تعود على كل شيء خلقه الله عز وجل ، فالمنبر فيه ذرات ، وفي الذرات نترونات تدور حول نفسها ، ونظام الذرات كنظام المجرات ، وكل شيء تقع عينك عليه مؤلف من جزئيات ، والجزيء مؤلف من ذرات ، والذرة مؤلفة من نواة ، ومن كهارب لها مدارات، ولها سرعة ثابتة ، هذه الآية التي تشير إلى الذرة ، قال تعالى :
﴿ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
أي كل شيء خلقه الله في فلك يسبحون ، ذرات الصخر والحجر والخشب والماء والبلور والطاولة ، وكل شيء تقع عينك عليه إنما هو جسم مؤلف من جزئيات ، والجزيء من ذرات ، والذرة من نواة .
خاتمة و توديع :
المذيع :
في نهاية هذه الحلقة هناك الكثير مما استفدنا منه عن الكون ، وعن النجوم ، والعدد الهائل لهذه النجوم ، وأحجامها ، كما أن مدارات الكواكب بهذه الدقة حتى ذكرت لنا أن ساعة بيغ بن تضبط على حركة نجم .
أيها الأخوة والأخوات ، مع هذه الدقة في هذه الحلقات ، ومع إعجاز القرآن الكريم نتابع مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي في حلقات أخرى حول هذا الموضوع ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته .