- أحاديث رمضان
- /
- ٠01رمضان 1415 هـ - قراءات قرآنية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
هدف المؤمن الكبير الوصول إلى الله عز وجل :
في قصة سيدنا نوح -عليه الصلاة والسلام- التي تليت البارحة :
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾
هذه رؤية الكافر للمؤمن في كل العصور :
﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾
طالب الحق لا يطلب الدنيا ، يطلب الآخرة ، لذلك لا يحفل بها كثيراً ؛ ليست من طموحه ، ليست محط رحاله ، ليست منتهى آماله ، يسعى فيها ليأخذ منها ما يكفيه ، لذلك يبدو طالب الحق في دنياه أقل من طالب الدنيا .
شيء طبيعي جداً إنسان ذهب إلى مكان ليدرس ، طموحه الدكتوراه ، يمكن لا يذهب إلى مقاصف المدينة ، ولا إلى أنديتها ، ولا إلى بساتينها ، ولا إلى حدائقها ، هدفه من هذه البلدة أن ينال هذه الشهادة ، فهؤلاء المؤمنون ، الدنيا ليست في طموحهم ، وليست منتهى آمالهم ، وليست محط رحالهم ، إنهم يستعينون بها لبلوغ آخرتهم .
دخل رجل على سيدنا أبي عبيدة بن الجراح ، وكان قائداً لجيوش المسلمين ، رأى في بيته قدر ماء مغطى برغيف خبز ، وجلداً يجلس عليه ، وسيفاً معلقاً على الحائط ، قال : ما هذا ؟ قال : هو للدنيا وعلى الدنيا كثير ، ألا يبلغنا المقيل ؟
إذاً : المؤمن هدفه الكبير الوصول إلى الله ، وهو يسعى لجنة عرضها السموات والأرض ، فإذا كانت دنياه متواضعة أو خشنة أحياناً ، أو أن الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة لئلا يشغله بها ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
((إن الله يحمي صفيه من الدنيا ، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام ، إن الله ليحمي المؤمن من الدنيا ، كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة))
أعظم نعمة ينالها الإنسان أن يكون على بينة من ربه :
الكافر منظاره دنيوي ، يقيّم الشخص بمتاعه ، بمساحة بيته ، بماركة سيارته ، بدخله ، برصيده في البنك فقط ، لا يعبأ إلا بهذه القيم المادية ، فنظرة الكافر للمؤمن في كل العصور ، هذه هي :
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾
كلمة أراذل هنا لا تعني الشعبي ، العامي ، الذي نعنيه الآن ، الأراذل : الفقراء فقط، فلان رذيل بالقاموس الفقير فقط ، الكلمة لها معنى آخر الآن سيئ الأخلاق .
أحياناً الكلمة لها معنى بحسب العصور ، كلمة جرثومة تعني أصل الشيء .
شاعر كبير وصف خليفة عظيماً ، قال له : " أنت جرثومة الدين ، والإسلام ، والحسب " أي أنت أصل الدين ، أما الآن فجرثوم لها معنى آخر ، تقول لشخص : أنت جرثومة الصف مثلاً ، إذا أستاذ قال لطالب هذه الكلمة ، هذه كلمة قبيحة ، فكلمة أراذلنا لا تعني إلا أنهم فقراء فقط :
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾
اسمعوا الجواب ، الجواب مهم جداً :
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾
وضوح ، الهدف واضح ، الكون له تفسير ، والحياة لها تفسير ، والإنسان له تفسير، يعرف التكليف ، يعرف حقيقة الملائكة ، حقيقة الحيوانات ، حقيقة الجمادات ، لماذا أنا في الدنيا؟ أين كنت ؟ ما مهمتي في هذه الدنيا ؟ ماذا بعد الموت؟
أي المؤمن على بينة ، أي عنده تصور للكون والحياة والإنسان مطابق للواقع ، أي أعظم نعمة ينالها الإنسان أن يكون على بينة من ربه :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً﴾
﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
إنسان يمشي في طريق خاطئ ، وهو يظن أنه على حق ، لذلك النبي من أدعيته الشريفة يقول :
((اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً))
معنى ذلك هناك من يرى الحق باطلاً والباطل حقاً .
رحمة الله تجلّ إلهي يُلقى في قلب المؤمن يملؤه سكينة و سعادة :
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾
والله لا أملك تفسير كلمة رحمة ، لكن سأضرب أمثلة مقربة لكم : بموجة البرد الشديدة الآن ، درجة الحرارة دون الصفر بأربع درجات ، إذا الإنسان بالتعبير العامي عظامه باردة ، ودخل إلى غرفة دافئة ، بماذا يشعر ؟ بأنها دافئة جداً ، إذا كان في درجة العطش الشديد الذي لا يحتمل بأيام الصيف ، يوم كان رمضان في الصيف ، وانطلقت مدافع الإفطار ، وشرب كأس ماء بارد ، بماذا يشعر ؟ إذا الإنسان في حالة حرب لا يحتمل ، دخل لغرفة مكيفة، بحالة جوع لا يحتمل ، جلس إلى طعام نفيس ؛ الطعام النفيس ، والجو البارد في أيام الصيف ، والجو الدافئ في أيام الشتاء ، والماء الزلال عند العطش ، هذه أمثلة ، كيف أن الجسم يراها شيئاً لا يقدر بثمن ؟ حسناً الجسد يحتاج إلى الدفء في الشتاء ، وإلى البرد في الصيف ، والجسد يحتاج إلى الماء عند العطش ، وإلى الطعام عند الجوع ، هذه النفس التي هي ذات الإنسان ما غذاؤها؟ رحمة الله؛ تسميه سفينة سمّه ، تسميه تجلياً سمّه ، تسميه طمأنينة سمّه ، لكن لا أملك إلا هذه الأمثلة فقط ، المؤمن في رحمة الله :
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
خلقت من أجل رحمة الله :
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
مثل ما الغذاء للجسم أساسي ، والجو الدافئ بالشتاء أساسي ، والجو البارد بالصيف أساسي ، وكأس الماء البارد الفرات العذب الزلال أساسي ، كذلك رحمة الله للمؤمن هي الغذاء ، فلذلك المؤمن إذا وجدته متمسكاً بدينه ، حريصاً على مجالس العلم ، حريصاً على الصلوات في المساجد ، حريصاً على هذه العبادات ؛ على الصوم ، والصلاة ، والحج ، والزكاة ، لأنه من خلال هذه العبادات تأتيه رحمة الله ، رحمة الله تجلٍّ إلهي يُلقى في قلب المؤمن ، يملؤه سكينة ، يملؤه طمأنينة ، يملؤه سعادة .
حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :
الآن هناك مفارقات ممكن إنسان لا يملك من الدنيا شيئاً ، لكن قلبه ممتلئ برحمة الله ، بميزان السعادة الحقيقي ، هذا الإنسان أسعد مليار مرة من إنسان جاءته الدنيا كلها ، لكن حجبت عنه رحمة الله .
إنسان فقير ، جائع ، مريض ، لكن قلبه مهبط لرحمة الله ، هذا أسعد من إنسان يملك ألوف الملايين ، يسكن أفخر البيوت ، يركب أحدث المركبات ، لكن الله سبحانه وتعالى حجب عنه رحمته :
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾
أنتم ماديون ، تقيسون الإنسان بدخله ، بأكله ، ببيته ، بزوجته ، بأولاده ، بمنصبه ، بمتاعه .
سيدنا علي قال هذا الشيء ، قال : " في آخر الزمان قيمة الرجل متاعه فقط" .
تستمد مكانتك من نوع الثياب ، يقول لك : هذه القطعة أجنبية ، إذا أنت سكت ينبهك ، هذه أجنبية و ليست وطنية ، لأنه لا يوجد عنده شيء ثان ، مكانته كلها من ثيابه ، من بيته ، من أثاث بيته ، من مركبته ، أما المؤمن فحجمه عند الله بحجم عمله الصالح ، وحجم عمله الصالح يتناسب مع رحمة الله في خلقه :
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾
أنتم لا ترون شيئاً ، المؤمن عنده يقين أن هؤلاء الذين حوله من أهل الدنيا ، الغارقون في متعها الرخيصة ، المنهمكون في جمع درهمها ودينارها ، صغار في نظره .
إنسان ذهب إلى مكان ، وبإمكانه أن يجمع اللؤلؤ والألماس ، فجمع الحصى ، جمع الحصى والصدف ، ولم يجمع اللؤلؤ والألماس ، الألماس ثمنه نصف مليون ، وكوم الحصى سيارة رمل بكاملها ، يقول لك : ثمنها ألف ليرة :
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾
أنت مخير في الدنيا ، هذا خيار هذا ، المؤمن اختار طاعة الله ، اختار رحمة الله، لذلك انظر الآية ما أجملها :
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
يقول لك : معمل مكلف أربعمئة مليون ، كل يوم ربحه مليون ليرة :
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
عنده ألف دونم ، تضاعف سعرها مئة ضعف :
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
أهل الدنيا متعلقون بدنياهم .
الرابح من تجلى الله على قلبه و أطلعه على سرّ ملكه :
لذلك : إذا الإنسان الله عز وجل تجلى على قلبه ، ورحمه ، وأطلعه على سرّ ملكه، ومنحه طمأنينة ، وسكينة ، وسعادة ، هذا هو الإنسان الفائز ، وهذا هو الرابح ، وهذا هو السعيد، علامة الإخلاص :
﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾
إذا الإنسان طلب الدنيا من خلال الدين ، يُشك في إخلاصه :
" إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي - كما ورد بالأثر القدسي- ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
الدين لله ، يجب أن يبقى في العلياء ، يجب أن يبقى صافياً ، منزهاً عن كل قصد، وأقول لكم دائماً قول الإمام الشافعي : "لأن ارتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين " .
الدين دعه في عليائه ، دعه مبدأ سامياً ، دعه سلوكاً نظيفاً ، دعه علاقة مع الله خالصة ، لا تجعله في الوحل ، لا تجعله من أجل الدنيا ، لا تجعله من أجل عرض قريب .
من علامة الداعية الصادق عدم التمييز بين الناس :
ثم قال تعالى :
﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
الداعية الصادق ، المؤمنون ولو كانوا فقراء ، ولو كانوا من أطراف البلاد ، هؤلاء لهم شأن عند الله عز وجل ، لذلك الإنسان عندما ينظر لإنسان نظرة أساسها مادي ؛ أن هذا غني ، هذا فقير ، هذا مثقف ، هذا غير مثقف ، هذا من لب البلد ، هذا بعيد عن البلد ، هذه نظرة جاهلية ، هذه نظرة عنصرية ، ولا يمكن لإنسان يعرف الله عز وجل أن يميز بين الناس، كلهم عباد الله :
﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾
أنتم قلتم عنهم : هؤلاء أراذل فقراء ، هؤلاء لا أحد يعرفهم ، دائماً الإنسان المنافق يتعلق بالوجهاء ، أي إذا دعي لخمسين دعوة من أناس عاديين ، لا يلبي ، يقول لك : والله ما عندي وقت ، أما إنسان ومن وجهاء القوم من الأغنياء ، إذا دعاه يلبي سريعاً ، أما المؤمن فيلبي دعوة المؤمن ولو كان فقيراً . النبي الكريم قال :
(( لو دُعيتُ إلى كُراَع ))
كراعٍ خارج المدينة لأجبت . هناك أشخاص لا يلبون إلا دعوة الكبراء ، والأغنياء ، والوجهاء ، والأقوياء ، أما الفقراء المؤمنون فخارج حساباتهم . موقف سيدنا نوح :
﴿ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾
من تعمقت معرفته بالله تعمقت عبوديته له :
بعد ذلك شيء آخر : كلما تعمقت معرفتك بالله ، تتعمق عبوديتك له :
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾
ليست عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولست ملكاً ، أنا بشر ، أنا بشر مثلكم :
﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾
يمكن إنسان . . .
((رُبَّ أَشْعَثَ - أغبر ذي طمرين- مَدْفُوعٍ بالأبواب ، لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ))
دخل صحابي فقير على النبي -عليه الصلاة والسلام- ، قال له :
((أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال : أو مثلي ؟ قال : نعم يا أخي ، خامل في الأرض علم في السماء))
هذه قيم المادة ، يجب أن تكون تحت أقدامنا جميعاً ، الإنسان قيمته بمعرفته ، واستقامته ، وعمله الصالح ، ولما أنت تحترم إنساناً لماله ، ذهب ثلثا دينك :
(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
تحترم قوياً لأنه قوي ، ذهب ثلثا دينك ، يجب أن تحترمه لإيمانه ، واستقامته ، وعمله الصالح ، ويجب أن تعامل أقل إنسان بمقاييس المجتمع إذا كان مؤمناً كما تعامل أعظم الناس عندك ، يجوز أن يكون حاجباً بدائرة ، هذا قد يكون أقرب إلى الله عز وجل من مديره ، والنبي قال: " رب مركوبة خير من راكبها " دابة أدت وظيفتها بإخلاص ، فالنظرة العنصرية أن تقيس الناس بمقاييس مادية ، أو مقاييس عرفية ، أو مقاييس إقليمية ، أو مقاييس سلطوية ، يجب أن تقيس الناس بمقياس الإيمان وحده :
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾
أنا مفتقر إلى الله مثلكم :
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾
الله يعلم الغيب :
﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾
أنت لا تستطيع أن تتفلت من قضاء الله عز وجل ، أنت في قبضة الله .
كلمة : (ما أنتم بمعجزين) ؛ أي لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً ما أراده الله ، ولا تستطيعون أن تتفلتوا من عقاب الله ، أنتم في قبضته .
من اعتقد بأن الله يجبر الإنسان على الغواية فلا ينفعه النصح :
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾
هذه الآية تحتاج إلى توضيح ؛ بعضهم قال في تفسيرها : إذا أنتم اعتقدتم أن الله مجبركم على هذه الغواية :
﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾
إذا الإنسان اعتقد بالجبر ، هذا لا يهتدي لله عز وجل ، أي أنا مكتوب عليّ كذا من الأزل ، انتهى الأمر .
إذا الإنسان اعتقد أن الله يجبر عباده على المعصية ، وأنه كتبها عليهم قبل أن يُخلقوا ، وانتهى الأمر ، ولن يبدل شيء ، إن اعتقد الإنسان هذا الاعتقاد ، فهذا لا ينتصح ، ولا ينتفع بالنصح .
والمعنى الثاني : إذا استحكمت الشهوات في أنفسكم ، وكانت الحكمة البالغة أن تصبح عملاً ، هو الإغواء ، أي إخراج ما في النفس ، عندئذ أنتم لا تستمعون إلى هذا المعنى الثاني :
﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾
عدم جواز قتل الابن أمام أبيه :
وهناك إشارة لطيفة هنا في الآية أن الله سبحانه وتعالى رحمة بالأب ، حجب عنه موت الابن ، لأن كل أب عنده محبة للابن قطعاً :
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
لذلك : يُستنبط من هذه الإشارة القرآنية اللطيفة : أنه لا يجوز ، ولا يمكن أن يقتل ابن أمام أبيه ، ولو كان مجرماً ، إذا استحق إنسان الإعدام ، ينبغي ألا يقتل أمام أبيه ، لأنه شيء فوق طاقة البشر :
﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
التعلق بالله عز وجل دائماً :
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾
يروون أنه يوجد امرأة جاءت سيدنا نوح ، قالت له: متى الطوفان يا نوح ؟ لا تنسني يا نوح ، فوعدها ، - قصة رمزية- ، فلما جاء الطوفان ، وركب نوح مع قومه في السفينة ، تذكر هذه المرأة المسكينة ، نسي أن يذكرها ، فتأسف أشد الأسف ، فلما انتهى الطوفان ، وابتلعت الأرض ماءها ، جاءته ، قالت له : يا نوح متى الطوفان؟ .
أي إذا نسيها نوح فرب نوح لم ينسها ، أنت دائماً تعلق بالله عز وجل :
﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾
إياكم أن تفهموا من هذه الآية أنه ليس ابنه ، لأن نساء الأنبياء لا يخنّ أزواجهن خيانة فراش لكنهن يخنّ خيانة دعوة :
﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾
لذلك :
((لَوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَهَا))
هكذا قال النبي .
أدب الأنبياء :
أيها الأخوة الكرام ؛ لا يتسع الوقت للوقوف عند أبرز آيات قصة يوسف عليه السلام ، ولكن نكتفي بالخاتمة : ربنا سبحانه وتعالى يقول في آخر هذه السورة على لسان هذا النبي الكريم :
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾
هو كان في البئر ، وفي السجن ، والبئر أشد خطراً ، البئر فيه موت ، أما السجن فحياته مضمونة ، وطعامه مضمون ، ولكن خلق هذا النبي الكريم استبعد البئر لئلا يذكر أخوته بفعلتهم ، وهذا من أدب الأنبياء :
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾
وهذا أدب آخر ، لم يجعل نفسه مبرءاً وأخوته مذنبين ، قال : الشيطان دخل بيننا :
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾
ويقول الله عز وجل :
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾
نبي كريم يقول :
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾
وقد نفهم أنه صار عزيز مصر ، فإذا كانت هذه نعمة عظمى ، فهناك ملوك كثيرون في الأرض يحكمون شعوبهم ، فهل هذا هو الملك الذي أراده الله بهذه الآية ؟
هناك من يقول : " إن الملك ؛ أن هذا النبي الكريم وصل إلى ما وصل إليه من رفعة عند الله عز وجل ، لأنه ملك شهوته " .
وقد قال العلماء : " إن هناك عشرة أسباب تجعله يستجيب لإغراء امرأة العزيز ، أولاً : هو شاب ، وغير متزوج ، وغريب ، وسيدته التي دعته ، ذات منصب وجمال ، وليس من صالحها أن يفشو الأمر ، وغلقت الأمر ، وأمرته أن يأتيها ، ومع ذلك :
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾
فالملك أن تملك شهوتك ، أن تملك هواك ، بهذا ترقى عند الله ، والدليل :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾
﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
أساس الدين كله أن تملك نفسك وشهوتك في سبيل مرضاة ربك ، إذاً : تستحق جنة عرضها السموات والأرض .
الاستعاذة بالله من الشرك :
أيها الأخوة ؛ ويقول الله عز وجل :
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
وهذا هو الشرك الخفي ، نعوذ بالله من الشرك الخفي ، ما علمنا منه وما لم نعلم .
ورد بالحديث الشريف : " أن الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على جور ".
إنسان نصحك نصيحة بمنتهى الأدب ، لكنك لم تقبلها ، استكبرت أن تقبلها ، فهذا الشرك ، أو أحببت إنساناً وفيه معصية لمصلحة ما ، وهذا شرك :
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
من يدعو إلى الله على بصيرة فهو متبع لرسول الله :
الآن استمعوا :
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾
البصيرة الدليل ، البصيرة التعليل ، البصيرة الكتاب والسنة ، البصيرة إن كنت ناقلاً فالصحة ، إن كنت مدعياً فالدليل ، البصيرة أن تشف عن النص الصحيح ، المؤول بالتأويل الصحيح ، هذه البصيرة :
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
فكل من يدعو إلى الله على بصيرة ، فهذه بشارة له ، لأنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
العالم لا يملك إلا أن ينقل أمر الله و أمر النبي :
من يذكر لي ما العلاقة بين نهاية الآية مع أولها ؟ ما علاقة الشرك هنا بهذه الآية؟
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل سرية ، وأمَّر عليها أنصارياً ذات دعابة ، فأمر بإضرام نار عظيمة ، وقال : اقتحموها ، فلما تردد أصحاب رسول الله ، بعضهم قال : نقتحمها ، لأن طاعة الأمير طاعة رسول الله ، وبعضهم قال : كيف نقتحمها وقد آمنا بالله فراراً منها ؟ فاختلفوا ، فلما رفعوا أمرهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، قال عليه الصلاة والسلام : " والله لو اقتحمتموها لا زلتم فيها إلى يوم القيامة ، إنما الطاعة في معروف " .
العقل لا يُعطَّل إطلاقاً مع أي إنسان ، حتى إن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما يأمر ، وحينما ينهى ، ربنا عز وجل يقول :
﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾
أي هناك شيء تشريعي في حياة النبي ، وهناك شيء خاص فيه ، لو أنه ما أحب أكلة ، أو أحب أكلة ، الضب لم يأكله ، هل هو محرم ؟ قال : " لا ، ولكن تعافه نفسي ، أحب اليقطين " .
فإذا إنسان لم يأكل اليقطين هل يعني هذا أنه محاسب عند الله ؟ لا . ولا يعصينك في أوامرك التشريعية في معروف .
أيها الأخوة ؛ ما العلاقة بين الشرك وبين أول الآية ؟
إذا الإنسان أعطى أوامر ، وأعطى نواه ، بلا دليل ، وبلا أصل من كتاب أو سنة ، صار نفسه مشرعاً ، أشرك مع الله في التشريع ، والأمر ، والنهي ، العالم لا يملك إلا أن ينقل ، ناقل أمين فقط ، ناقل آمن لأمر الله عز وجل ، ولأمر النبي عليه الصلاة والسلام ، لا يمكن أن يضيف شيئاً ، ولا أن يحذف شيئاً ، أي ينقل بأسلوب محبب ، هذا كل جهده :
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
أي لو دعوت على غير بصيرة ، من غير كتاب أو سنة ، لأشركت نفسي مع الله بالتشريع ، وهذا منزه عنه النبي عليه الصلاة والسلام .
عملية تأخير النصر عملية ابتلاء و زلزلة للمؤمنين :
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾
يبدو أن هذا شأن الله مع خلقه ، لماذا يؤخر النصر ؟ لماذا ؟ الإنسان لمجرد أن يعمل صالحاً ، يأتيه النصر ، ويأتيه الجزاء ، ولمجرد أن يعمل سيئاً يأتيه العقاب ، هكذا أفضل، أما تجد الإنسان يعمل السوء سنوات طويلة ، وهو صحيح ، قوي البنية ، متمكن ، قوي المكانة ، غني ، وكل أجهزته بيد الله عز وجل ، لماذا يمده الله ؟ وقد يأتي إنسان آخر يعمل الصالحات ، يتوب إلى الله ، ينيب إليه ، يستغفره ، ومع ذلك قد يعاني من متاعب كثيرة في حياته ، لماذا يتأخر عليه الفرج ؟ ولماذا يتأخر العقاب ؟
إذا كان العقاب جاء بعد الذنب مباشرة ، الناس جميعاً يطيعون الله لا حباً به ، ولا رغبة بمرضاته ، ولا عبادة له ، ولا طلباً للجنة ، من أجل أن ينالوا الخير العاجل ، ولو أن العاصي جاءه العقاب فوراً ، رأساً يستقيم ؛ لا حباً بالله ، ولا طلباً للجنة ، ولا خوفاً منه ، ولكن هروباً من العقاب ، الغِ الاختيار ، لذلك : من شأن الله مع عباده أن يرخي لهم الحبل ، وهذه أخطر فكرة ، إياك أن تطمئن ، إذا كنت تملك الدنيا كما تريد ، ولم تكن مستقيماً على أمر الله ، هناك ضربة ، لكن تأتي مفاجئة :
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾
لا تركن إلى قوتك ، ولا إلى مالك ، ولا إلى علمك ، ولا إلى مكانتك ، فالإنسان إذا ركن إلى هذه ، ولم يكن على منهج الله قائماً ، يأتيه العقاب ولكن بعد حين :
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾
تأخر الفرج ، تأخر ، تأخر ، إلى أن استيئس الرسل ، ليسوا أكثر الناس يأساً ، حاشا لله ، ولكنهم آخر الناس يأساً ، الله فعلها مع أصحابه متى ؟ مع أصحاب النبي في الخندق:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
حتى قال أحدهم :
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾
كله خلط بخلط لأنه قضية ساعات ، وانتهى الإسلام كله ، لم يبق شيء إطلاقاً ، الجزيرة كلها جاءت لتستأصلهم ، واليهود نقضوا عهدهم ، حتى قال أحد من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام : " أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ؟ ".
حسناً سؤال : النبي في الهجرة مهدور دمه ، ملاحق ، مئتا ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، يلحق به سراقة ، - والقصة معروفة عندكم - ، يقول له – دققوا ؛ ملاحق ، دمه مهدور ، مئتا ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام- : " كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ " .
كلام تعرفونه ، لكن دققوا فيه ، معنى ذلك أن النبي مؤمن أنه سيصل إلى المدينة ، وأنه سينتصر على قريش ، وأن الجزيرة ستدين له ، وستفتح بلاد كسرى ، وستأتي جيوش المسلمين بكنوز كسرى ، وسيلبس هذا الصحابي سراقة سواري كسرى ، و هذا الإيمان دليل النصر ، ويجب على كل مؤمن أن يثق أن زوال الكون أهون على الله من أن يتخلى عن دينه ، وعن عباده ، وعن المؤمنين .
لما وصل الكفار إلى غار ثور ، ورأوا النبي مع صاحبه ، قال له : لقد رأونا ، فقال : يا أبا بكر ، ألم تقرأ قوله تعالى :
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
لو كان النبي مكتفياً على أخذه بالأسباب المادية ، وصلوا لعنده ، انتهى الأمر ، وقتله صار محققاً ، لكن ثقة النبي بالنصر لا حدود لها .
بالطائف ، قال له سيدنا زيد :
((كيف تعود إلى مكة وقد أخرجتك؟ فقال : إن الله ناصر نبيه))
هذه ثقة النبي . لذلك الآية الأخيرة :
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ﴾
الله يؤخر ، كلما أخر النصر يتساقط بعض الكاذبين ، يقول لك : أين الله ؟ لا يبقى إلا المؤمن الإيمان القوي ، إذاً : عملية تأخير النصر ، عملية ابتلاء ، عملية زلزلة للمؤمنين :
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾
الله عز وجل لا يقبل إلا أن يكون الإنسان قوي الإيمان :
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
حكمة الله عز وجل من ذكر قصة سيدنا يوسف :
الآن ما حكمة أن الله سبحانه وتعالى روى هذه القصة الكريمة للنبي ولنا ؟ قال في آخر السورة :
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
أما في آية أدق فيقول الله عز وجل :
﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾
الآن وازنوا إذا كان فؤاد النبي يثبت ، ويزداد إيماناً إذا تليت عليه قصة نبي دونه فنحن إذاً إذا تليت علينا قصة ، ونحن لسنا أنبياء ، ولسنا صديقين ، ولسنا من كبار المؤمنين ، فنحن من باب أولى أن نزداد بهذه القصة إيماناً ، لأن هذه قصص الشباب ، الآن الشاب أغلب الظن أنه بعيد عن المعاصي الكبيرة ، إلا موضوع النساء ، فهذا النبي الكريم قدوة للشباب :
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
فبلغ أوج الرقي ، الإنسان عندما يعف عن الشهوة يرقى عند الله ، وتأتيه بعدئذ وهي راغمة ، كل شيء بحساب دقيق .
إذا الإنسان اكتفى بحلاله :
((اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك))
في أول القراءة الله عز وجل قال بموضوع سيدنا شعيب :
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
هذه المرأة زوجتك ، هذا ما بقي لك من النساء ، وكل النساء أجنبيات عنك :
﴿ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
هذا الدخل حلال ، هذا ما بقي لك من المال . يقول الله عز وجل :
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾
هناك ألف دخل حرام ، ودخل واحد حلال ، هناك ألف علاقة مع أنثى محرمة ، و علاقة واحدة محللة هي الزوجة ، فالإنسان المؤمن يرضى بما سمح الله له ، وينفر أشدّ النفور مما حرمه الله عليه .
على كلٍّ هذه قصة سيدنا يوسف عليه السلام ، تحتاج إلى وقفات متأنية جداً ، لم نذكر إلا الفقرة الأخيرة منها .