الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع بلاء:
أيها الإخوة الكرام؛ تعلمون يقيناً أن الإنسان هو المخلوق الأول عند الله رتبة لقوله تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

فلما قَبِل هذا الإنسان حمل الأمانة أعطاه مقوماتها، أعطاه عقلاً، وأعطاه نفساً، أعطاه منهجاً، أعطاه شهوة، أعطاه حرية، أعطاه أشياء كثيرة، هذه الأشياء مقومات هذا الاختيار، الشيء الواقع أنه لحكمة بالغة بالغة جعل الله من عباده من هو قوي ومن هو ضعيف، ومن هو غني ومن هو فقير، ومن هو وسيم ومن هو غير وسيم، تفاوت الحظوظ له حكمة بالغة بالغة، هذا التفاوت يعني أن الإنسان مُمتَحن بحظوظه التي آتاه الله إياها سلباً أو إيجاباً، أعطاه المال ممتحن بالمال، حرمه المال ممتحن بحرمانه من المال، أعطاه الوسامة ممتحن بالوسامة، لم يعطه وسامة ممتحن بخلافها، أعطاه القوة ممتحن بالقوة، لم يعطه القوة ممتحن بخلافها، فهذه
الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، لذلك بحياتنا أناس أقوياء وأناس ضعفاء، والقوي ممتحن بالقوة، هل ضبطها؟ هل جعلها وفق منهج الله؟ هل استعان بها على عمل صالح تمتد آثاره إلى أبد الآبدين أم استغل هذه القوة بشهواته ومآربه الشخصية؟ يُمتحَن الإنسان بالقوة، أعطاه مالاً يُمتَحن بالمال، هل أنفقه على كل محتاج ومسكين أم أنفقه على ملذاته وشهواته؟ أعطاه مكانةً، أعطاه علماً، أيّ شيء أعطاك الله إياه أنت ممتحن به، وأي شيء زُوِي عنك أنت ممتحن بهذا الإزواء، لذلك من الأدعية:
(( اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ))
[ رواه الترمذي عن عبد الله بن يزيد الخطميّ الأنصاري ]
القوة الحقيقية مستمدة من الله -جلّ جلاله-:
أيها الإخوة الكرام؛ لو تحدثنا في هذا اللقاء الطيب عن موضوع القوة، الله -جلّ جلاله- وحده هو القوي ولا قوي سواه، وكل قوة في الأرض في الذوات والأشياء مستمدة من قوة الله وحده؛ تأييداً، أو استدراجاً، أو تسخيراً لحكمة بالغةٍ بالغة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، في اللحظة التي تتوهم أنك قوي وهذه القوة من صنعك وقعت في شرك كبير، وأيها الضعيف حينما تتوهم أنك ضعيف ولا تملك شيئاً، أنت قوي بالله، وأنت غني بالله، وأنت حكيم بالله، لذلك قد نستنبط من الأحداث أن الذي يتوهم أنه قوي ومعه كل أوراق القوة يفقدها في يوم واحد، والذي يتوهم أنه ضعيف ولا يملك من أسباب القوة شيئاً قد يتملكها في يوم واحد؛ فلذلك الله هو القوي، وكل إنسان أراد أن يكون قوياً ينبغي أن يستمد قوته من الله -عزَّ وجلَّ-، لذلك قال تعالى:
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ (165)﴾
القوة كلمة واسعة جداً، هناك قوة بالمال، وقوة بالمكانة، و قوة بالمنصب، وقوة بالجمال،
﴿أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ ، لذلك إن أردت قوة حقيقية لا تتحول عنك فابحث عن قوة لا تحتاج إلى غيرها إنها قوة الله -عزَّ وجلَّ-، إن أردت أن تكون قوياً طوال حياتك فابحث عن قوة ليست مرتبطة بإنسان، فلو أُزِيح هذا الإنسان فقدت كل القوة، إن أردت القوة الحقيقية فابحث عنها عند الله؛ لأن هذه القوة لا تزول أبداً، لذلك إن الجُبن والخَوَر، والاستكانة والاستسلام، والانهزامية والذل،

وجميع هذه المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة المؤمنين، فأنت كائن لم تُخلَق إلا لتكون قوياً، قوياً بالله، عزيزاً بالله، حكيماً بالله، عالماً بالله، هذا أعظم ما في الدين، أنت إنسان ضعيف لا تعلم، لا تقوى، لست حكيماً، لست قوياً، لست غنياً، لكنك إذا أقبلت على الله أنت قوي به، أنت حكيم به، أنت عليم به، أنت رحيم به، لذلك من أدعية النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. ))
[ رواه أبو داود عن أبِي سعِيد الخُدْريّ ]
قهر الرجال أصعب شيء.
﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْآيَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
هذه الصواعق قديماً والصواريخ حديثاً، ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ هذه الزلازل والألغام، دققوا في الثالثة: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ هذه الحروب الأهلية، نحن بفضل الله -عزَّ وجلَّ- نجانا الله منها: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾
أيها الإخوة؛ الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف أو السكوت عليه، بل هي دعوة لاستشعار القوة حتى في حالة الضعف، أنتم لو تابعتم هذه الأحداث ترون أن الذي يملك كل أسباب القوة فقدها في يوم، والذي لا يملكها أمسكها في يوم، معنى ذلك أن الله هو القوي، قد يعطيك القوة فتُمتحَن بها، وقد يأخذها منك فتُمتحَن بأخذها.

أيها الإخوة؛ ما هي أسباب القوة؟ نحن كمؤمنين أنت مسلم، موظف بسيط، عندك محل تجاري بسيط، ما هي أسباب القوة عندك؟ قال العلماء:
التوحيد أحد أكبر أسباب القوة، التوحيد تحرير الإنسان من كل عبودية إلا لربه الواحد الديان، إذا كنت تابعاً لإنسان فقوتك منوطة بقوته، فإذا أُزيح عن مكانه فقدت كل القوة، أما إذا كنت تابعاً للواحد الديان، فأنت قوي إلى كل الحياة، لذلك الله -عزَّ وجلَّ- خلق الإنسان فسواه، وكرّمه فأعطاه، وجعل التوحيد تحريراً لعقله من كل الخرافات والأوهام، والتوحيد تحرير لضميره من الخضوع والاستسلام، والتوحيد تحرير لحياته من تسلط الأرباب والمتألّهين، التوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي توضّحت في الحياة وجهتها، وتوحدت غايتها، وتَحدّدَ طريقها، فليس لها إلا إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يلد ولم يولد؛ هذه الذات الإلهية الكاملة، يتجه المؤمن إليه في الخلوة والجلوة، يدعوه في السراء والضراء، يرضيه في الصغيرة والكبيرة، قال تعالى:
﴿ يَٰصَىٰحِبَىِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ (39)﴾
أنت لله.
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
[ رواه الألباني عن عبد الله بن مسعود بسند ضعيف ]
وقد ورد في الأثر: "اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها" ، التوحيد -أيها الإخوة- ألا ترى مع الله أحداً، لا تقل زيداً وعبيداً، لا تقل فلاناً وعلاناً، لا تقل الجهة الفلانية، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، التوحيد يملأ النفس إيماناً، وأمناً، وطمأنينة، فلا تستبد بالنفس المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك، فقد سدّ المُوحِّد منافذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم، الخوف على الرزق، والخوف على الأجل، والخوف على النفس، والخوف على الأهل والأولاد، والخوف من الإنس، والخوف من الجن، والخوف من الموت، والخوف مما بعد الموت، أما المؤمن الصادق الموحد فلا يخاف إلا الله، ولا يخشى غير الله، لهذا تراه آمناً إذا خاف الناس، مطمئناً إذا قلق الناس، هادئاً إذا اضطرب الناس، دقق في هذه الآية:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
أن ترى نفسك بيد إنسان، أن تتوهم أنه بإمكانه أن يُسعدك أو يُشقيك، هذا هو الشرك، التوحيد –أيها الإخوة- ألا ترى مع الله أحداً، يمنح النفس قوة هائلة تمتلئ هذه النفس بالرجاء بالله تعالى، وبالثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر على بلائه، والاستغناء به عن خلقه، فالمؤمن الموحد راسخ كالجبل، لا تزحزحه الحوادث، ولا تزعزعه الكوارث.
من كان مع الله كان الله معه:
لما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي العراق، وتعلمون أنه طغى وتجبّر، وكان الحسن البصري أحد الرجال القلائل الذين بيّنوا للناس الحق والحقيقة، لم تأخذه في الله لومة لائم، بيّن الحق والحقيقة، وصدع بكلمة الحق من دون خوف أو وَجَل، فعلم الحجاج بذلك، فماذا فعل؟ دخل إلى مجلسه وهو يتميز من الغيظ، وقال لجُلَّاسه: "تباً لكم، سحقاً لكم، يقوم عبد من عبيد أهل البصرى ويقول فينا ما يشاء أن يقول ثم لا يجد فيكم من يردّه أو ينكر عليه، والله لأسقينّكم من دمه يا معشر الجبناء"، ثم أمر بالسيف والنطع -والنطع قماش يُوضَع فوق السجاد لئلّا يتأذى السجاد بالدم إذا قُطع رأس المقتول- ودعا بالسيّاف فمَثلَ واقفاً بين يديه، ثم وجّه إلى الحسن بعض جنده وأمرهم أن يأتوا به ليقطع رأسه وينتهي الأمر، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسن، فشخصت نحوه الأبصار، ووجفت عليه القلوب، فلما رأى الحسن السيف والنَّطع والسيّاف علم ما ينتظره، فحرّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج وعليه جلال المؤمن، وعزة المسلم، ووقار الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاج على هذه الحال هابه أشد الهيبة، وقال له: "هاهنا يا أبا سعيد، اجلس هنا، تعال اجلس هنا"، فما زال الحجاج يوسّع له ويقول: "هاهنا"، والناس لا يصدقون، جِيءَ به ليُقتَل، لقد طُلِب ليُقتَل والنطع جاهز، والسياف واقف، وكل شيء جاهز لقطْعِ رأسه، ما الذي حصل؟ وكيف يستقبله الحجاج ويقول له: "تعال إلى هنا يا أبا سعيد"، حتى أجلسه على سريره ووضعه إلى جانبه! ولما أخذ الحسن مجلسه التفت إليه الحجاج، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسن يجيبه عن كل مسألة بجَنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: "أنت سيّد العلماء يا أبا سعيد"، ثم دعا بغالية -نوع من أنواع الطيب الغالي جداً- وطيّب بها لحيته وودّعه إلى باب القصر، ولما خرج الحسن البصري من عنده تبعه حاجب الحجاج وقال له: "يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيف والنطع حرّكت شفتيك، فماذا قلت لربك"؟ فقال الحسن: لقد قلت: "يا وليّ نعمتي يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم"، وانتهى الأمر.
التوحيد قوة، إذا كنت موحداً لا ترى مع الله أحداً، إذا أصلحت علاقتك مع الله، إذا تبت إليه، إذا اصطلحت معه، إذا أقبلت عليه، إذا كنت صادقاً، أميناً، مطيعاً، قائماً بعباداتك، متبعاً منهج رسولك، إذا كنت معه كان معك وإذا كان معك فمن عليك؟! من يستطيع أن ينال منك؟! من يستطيع أن يهينك؟! إذا كان الله معك فمن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟ إذا كان عليك لو أنك تملك كل أسباب القوة، الأحداث في شمال إفريقيا هؤلاء الثلاثة يملكون كل أسباب القوة، وفي يوم واحد فقدوها كلها، وهذه الشعوب الضعيفة لا تملك شيئاً من أسباب القوة، وتملّكتها في يوم واحد، إذا كان الله معك فمن عليك؟! وإذا كان عليك فمن معك؟!
إخواننا الكرام؛ الأحداث التي تُنقَل إلينا عبر وسائل الإعلام هذه تُفهم فهماً دولياً أحياناً، وفهماً عربياً، وفهماً إسلامياً، وفهماً وطنياً، تُفهَم بزوايا كثيرة، لكن البطولة أن تفهمها فهماً توحيدياً.
﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)﴾
التوحيد قوة، إذا كنت موحداً لا ترى مع الله أحداً، إذا كنت معه كان معك، وإذا كان معك لا أحد على وجه الأرض يستطيع أن يصل إليك.
شيء ثانٍ: العلم قوة، بل هو قوة هائلة، فالعلم يعطيك طاقة لا تتقيد بحدود الزمان والمكان، والعلم يُكسِب صاحبه علواً ومنزلة، وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة، والدليل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍۢ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)﴾
دخل سليمان بن عبد الملك الحرم المكي ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، وقادة الجيش، وكان حاسِرَ الرأس، حافِيَ القدَمَيْن، ليس عليه إلا إزارُهُ ورداؤه، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ محرم من المسلمين، ومن خلْفِهِ ولدان وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً، وكأكْمام الورْد نضارةً وطيباً، وما إن انتهى خليفة المسلمين -وهو أعظمُ مُلوك الأرض- من الطَّواف حول البيت العتيق، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ، وقال: "مَن عالم مكة"؟ هذا خليفة المسلمين كان يحكم ثلث الأرض، ومع ذلك سأل مَن عالم مكة؟ فقالوا: "عطاء بن أبي رباح"، قال: "أروني عطاء هذا"، فالتقى به، فوجده شَيْخاً حبَشِيّاً، أسْوَدَ البشَرَة، مُفَلْفَل الشَّعْر، أفْطَس الأنف، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد، كأن رأسه زبيبة، مشلولاً نصفه، لا يملك من الدنيا درهماً ولا ديناراً، فقال سليمان: "أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟" قال: "هكذا يقولون"، قال: "بمَ حصّلت هذا الشرف"؟ اسمعوا أيها الدعاة إلى الله، اسمعوا يا طلاب العلم، قال: "باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي" ، فإذا عكستها استغنى الناس عن علمك، وأنت بحاجة إلى دنياهم، سقط العلم، يجب أن تستغني عن دنياهم وأن يحتاج الناس إليك، تستغني عن دنياهم بأن يكون لك حرفة مثلهم، تأكل من كَدِّ يدك وعرق جبينك، تستغني عن دنياهم إذا عملت مثلهم، ومعظم علماء المسلمين الكبار كانت لهم حِرَف يحترفونها، "باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي، الذي انقطعت له ثلاثين عاماً" ، فقال سليمان: "لا يفتي في المناسك إلا عطاء"، وحدث بعد اللقاء الأول أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: "خذوني إلى عطاء بن أبي رباح"، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس متحلّقون حوله، فأراد سليمان أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: "يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس، فإن الناس قد سبقوك إلى هذا المكان"، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: "يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فوالله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد"؛ لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبداً حبشيًّا لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته وإن كان ذا حسب ونسب، العبرة بالطاعة:
(( سلمان منَّا آل البيت ))
[ رواه الحاكم والطبراني عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده بسند ضعيف ]
سلمان إنسان فقير، سيدنا الصديق من أعلى أَرُومة في قريش، لما اشترى بلالاً قال له سيد بلال: "والله لو دفعت به درهماً لبعتكه" لا قيمة له عنده، فقال له الصديق: "والله لو طلبت به مئة ألف لأعطيتكها"، فلما دفع ثمنه وضع يده تحت إبطه وقال: "هذا أخي حقاً"، فكان الصحابة الكرام إذا ذكروا الصديق قالوا: "هو سيدنا وأعتق سيدنا"، هذا الإسلام لا فيه حسب ولا نسب، ولا مكانة، ولا جاه.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
أية أمة تجعل المرجح بين الناس مقياساً موضوعياً ترقى إلى أعلى عليين:
بالمناسبة أية أمة في هذا العصر تجعل المُرجِّح بين الناس مقياساً موضوعياً ترقى إلى أعلى عليين، إن جعلت المرجح بين الناس مقياساً انتمائياً تهوي إلى أسفل سافلين، كلمتان المرجح بين الناس مقياس موضوعي أو انتمائي، انتمائي تهوي، موضوعي ترقى، لذلك -أيها الإخوة- قال سليمان لأحد ولديه: "هذا الذي رأيْتَهُ يا بنيّ، ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه، هو وارِث عبد الله بن عبَّاس" ، الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم، ثمَّ أرْدَفَ يقول: "يا بنيّ! تَعَلّم العِلْم، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع، وينْبُهُ الخامِل، ويَعْلو الأرِقَّاء إلى مراتب المُلوك" ، وقِيل: "رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب، تعلَّموا العِلم، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم".
أيها الإخوة الكرام؛ أردت من هاتين القصتين أن أبيّن أنك إذا كنت موحداً وكنت طالباً للعلم فأنت من الأقوياء، ولو كان ترتيبك الاجتماعي من الضعفاء، أنت قوي بالله، وغني بالله، وعالم بالله، وحكيم بالله.
أيها الإخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
قصة جليبيب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-:
أيها الإخوة؛ التوحيد قوة، والعلم قوة، والعبادة قوة، رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمه جُليبيب، رجل فقير معدوم، عليه أَسمَال بالية، جائع البطن، حافي القدمين، مغمور النسب، لا جاه، ولا مال، ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث، ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، وِسادته ذراعه، وفراشه الأرض، هل هناك أقل من هذا؟ وكان في وجهه دمامة (ليس فيه جمال إطلاقاً)، لكنه صاحب ذكر لربه، وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات، ولا في كل الغزوات، ويُكثِر الجلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي هو واحد في الطبقة الدنيا الدنيا الدنيا، لا يملك شيئاً، لا يملك بيتاً، ولا مأوى، ولا ثياباً، ولا طعاماً، ولا شراباً، لا وسامة، قال له النبي الكريم ذات يوم: يا جُليبيب ألا تتزوج؟ فقال: يا رسول الله ومن يزوجني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنا أزوجك يا جُليبيب، هنا هذه اللقطة من الصعب أن تُصدَّق، لكن هكذا كان أصحاب النبي، لتعلموا من هم أصحاب النبي، فالتفت جُليبيب إلى الرسول فقال: إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله-ليس هناك من يعطيني- فقال عليه الصلاة والسلام: غير أنك عند الله لست بكاسد"، عند الناس كاسد، لكن عند الله لست بكاسد، وكل واحد منكم -ولو كان شاباً صغيراً- بإمكانه أن يكون علَماً في السماء؛ لأن طاعة الله بين يديك، والطريق إليه سالك، اطلب العلم واعمل به.
جاء في أحد الأيام رجلٌ من الأنصار قد توفي زوج ابنته، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه ليتزوجها النبي، فقال له النبي: نعم، لما قال له: نعم، والد الفتاة اختل توازنه من الفرح، صارت ابنته زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لا أتزوجها أنا، فسأله الأب: لمن يا رسول الله! فقال: أزوجها جُليبيباً، تصور إنساناً لا يملك شيئاً، لا يملك بيتاً ولا جمالاً، فقال ذلك الرجل: يا رسول الله تزوجها لجُليبيب؟! معقول! انتظر حتى أستأمر أمها -يريد أن يخرج من الموضوع- ثم مضى إلى أمها، وقال لها: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب إليك ابنتك، قالت: نِعمَ رسول الله، فقال لها: إنه لا يريدها لنفسه، قالت: لمن؟ قال: يريدها لجُليبيب! قالت: لجُليبيب! لا لعمر الله، لا أزوجها إليه، وقد منعناها فلاناً وفلاناً، فاغتمّ أبوها غمّاً لا يُحتمل، ثم قام ليأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصاحت الفتاة من خدرها، وقالت لأبويها: من خطبني إليكما؟ قال الأب: خطبك رسول الله، قالت: أفتردّان على رسول الله أمره؟! أي هل من المعقول أن يُرَد أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، هكذا كان أصحاب رسول الله، ادفعاني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني، البنت وافقت - جُليبيب لا يوجد أدنى منه في المدينة، إنسان فقير، يعيش في الطرقات، ليس له بيت- ثم ذهب إلى النبي الكريم وقال: يا رسول الله شأنك بها، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- جُليبيباً ثم زوّجه إياها، ورفع النبي الكريم كفَّيه الشريفتين، وقال: "اللهم صُبَّ عليهما الخير صباً، ولا تجعل عيشهما كداً"، ثم لم يمضِ على زواجهما عدة أيام حتى خرج النبي الكريم مع أصحابه في غزوة، وخرج معهم جُليبيب، فلما انتهى القتال اجتمع الناس، وبدؤوا يتفقدون بعضهم بعضاً، فسألهم النبي الكريم: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم يا رسول الله نفقد فلاناً وفلاناً، ونسوا جليبيباً، ليس له مكانة إطلاقاً، فقال النبي الكريم: ولكنني أفقد جُليبيباً، فقوموا فالتمسوا خبره، فقاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال، وطلبوه مع القتلى، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب وقد استشهد، وقف النبي الكريم أمام جسده المُقطَّع، ثم قال: "أنت مني وأنا منك"، لاحظوا أن الإسلام ألغى كل هذه الفوارق، لا يوجد أقل منه، قال: "أنت مني وأنا منك"، ثم تربع النبي الكريم بجانب هذا الجسد، ثم حمل هذا الجسد ووضعه على ساعديه، وأمرهم أن يحفروا له قبراً، قال أنس: فمكثنا والله نحفر القبر وجُليبيب ليس له فراش غير ساعدَي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال أنس: فعدنا إلى المدينة وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب حتى تسابق إليها كبار الصحابة، هذا هو الامتحان.
إخواننا الكرام؛ هؤلاء الصحابة وصلوا إلى ما وصلوا إليه لأن القيم المادية كانت تحت أقدامهم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق