وضع داكن
20-07-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 063 - التبتل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

منزلة التبتّل:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والستين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم التبتل، وقبل أن نمضي في شرح هذه المنزلة لابدّ من أن أضع بين أيديكم هذه الحقيقة.
أية دولة في نظامها الوظيفي مراتب ودرجات، هناك مرتبة عاشرة، تاسعة، ثامنة، سابعة، سادسة، خامسة، رابعة، ثالثة، ثانية، أولى، وكل مرتبة ثلاث درجات، فعشرة بثلاثة ثلاثون، موظفو الدولة ولو بلغوا مليونين، لابد من أن يقعوا في هذه المراتب الثلاثين حصراً، أما عند الله إذا كان هناك خمسة آلاف مليون إنسان، عنده خمسة آلاف مليون مرتبة، كل إنسان له درجة، الإنسان لا يستطيع أن يُصَنف الناس بأكثر من درجات محدودة، أي مثلاً إنسان يحمل أعلى شهادة باختصاص نادر جداً، من أرقى دولة، ومن أرقى جامعة، دكتوراه دولة، يتعين فرضاً خامسة أولى، يأتي إنسان يحمل شهادة من أسوأ دولة، ومن أقل جامعة مكانةً، وقد تكون دكتوراه شكلية، يتعين بالدرجة نفسها، هذه طاقة البشر، أي هؤلاء المليونا موظف يجب أن يقعوا في هذه المراتب الثلاثين، أما عند الله عز وجل كل إنسان له مرتبة، بحسب معرفته، وبحسب استقامته، وبحسب عمله الصالح، وبحسب تضحياته، وبحسب ميله عن الصوارف، وبحسب تجاوزه العقبات، وبحسب صبره على المُلمات، قال تعالى:

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

فمن السذاجة أن تتوهم أن الدين مرتبة واحدة، الدين مراتب تبدأ ولا تنتهي، طبعاً أنا أمهد لهذا الموضوع، التبتل انقطاع لله عز وجل، إذا نحن ما وصلنا إلى هذه المرتبة، لا يوجد مانع أن نتحدث عنها، حتى تكون من طموحاتنا، أنا حينما أتحدث عن مرتبة عالية جداً، قد أقول: إن معظم الناس، وقد أكون أنا منهم، لكن هذا لا يمنع أن نتحدث عن مراتب عالية حتى نُصعّد ميولنا ونُصعِّد طموحاتنا.
 

الإنسان بمعرفته واستقامته وإخلاصه له عند الله مرتبة هي أهم شيء في حياته:


التبتل ورد في القرآن الكريم:

﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)﴾

[ سورة المزمل ]

هي المنازل منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ولا يمكن أن تكون هناك منزلة إلا ولها أصل في القرآن الكريم، وكتاب الله عز وجل منهج لنا، الله عز وجل أكبر، وأعظم، ومنزه عن أن يقول كلاماً لا معنى له، لما ربنا عز وجل يأمر: ﴿واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً﴾ معنى هذا أمر وجوب، أنت ليس لك خيار فيه، إن أردت أن تكون محسوباً على الله، إن أردت أن تكون من أهل الإيمان، من أصحاب المراتب العلية عند الله عز وجل، لابدّ من أن تنتبه لهذه المرتبة، هذه مرتبة التبتل، وما الذي يمنع أن تبذل كل جهدك كي تصل إلى الله؟ ما الذي يمنع أن تصل إلى المراتب العالية؟
ذكرت لكم أن قطعة لحم طازجة وأنت جائع لا تقدر بثمن، وقطعة لحم متفسخة، لو شممت رائحتها تكاد تخرج من جلدك، وكلاهما قطعة لحم، هذا في قِطَع اللحم، في البشر أبلغ، قد تجد إنساناً كما وصف النبي خيراً من ملء الأرض من البشر، واحد، أعتقد الأرض-لكن أنا الآن لست مجهزاً نفسي لحسابها-ممكن نعرف حجمها من محيطها، وأخذنا حجم الإنسان المتوسط متراً مربعاً مثلاً، قسمنا حجم الأرض على متر، ممكن نعرف لو أن الأرض مجوفة كرة مفرغة وملأناها من بني البشر، ممكن نعرف كم إنسان تستوعب الأرض؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينطق عن الهوى، هو رسول الله يقول: هناك رجل يساوي ملء الأرض من غيره، فالبشر متشابهون بأشكالهم المادية، ولكن بمراتبهم عند الله متفاوتون تفاوتاً عجيباً، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ أي أنت بمعرفتك، واستقامتك، وإخلاصك، ونواياك الطيبة، وتضحياتك، وبذْلك، وانضباطك، وورعك، ومؤاثرتك، لك عند الله مرتبة، هذه المرتبة هي أهم شيء في حياتك، لأن هذه مرتبة لها منعكس أبدي إلى يوم القيامة.
 

الدنيا تنتهي عند الموت فلا قيمة لها:


دقق في هذه الفكرة؛ هناك في الدنيا أشياء كثيرة، ولكن تنتهي عند الموت، لا قيمة لها، أي إنسان توفاه الله عز وجل، لو أردت أن تؤبّنه هل بالإمكانك أن تتحدث عن بيته؟ عن مساحة بيته؟ عن أناقة بيته؟ عن تزيينات بيته؟ أبداً، هل بإمكانك أن تتحدث عن مركبته؟ عن حجمه المالي؟ أبداً، لا تستطيع أن تتحدث إلا عن عمله الصالح، أنا والله حضرت جنازة في أحد مساجد دمشق، وصاحب الجنازة المتوفى صناعي، عنده معمل، دخلت إلى بيته، كان هناك زيارات متبادلة، فعلاً شيء يُدهش، صناعي من الطراز الأول، متفوق جداً، أذواقه عالية جداً، رحلاته إلى أوروبا وأمريكا سنوية، فلما وضع في النعش في المسجد قام أحد علماء دمشق لتأبينه، قال بالحرف الواحد، قال: أخوكم أبو فلان كان مؤذناً ترحموا عليه، انتهى، أنا صُعقت، قلت: يا رب ألا يمكن أن يقال دقيقة واحدة عنه؟ دنيوي من الطراز الأول، وكان صالحاً، ما كان سيئاً، أنا فيما أظنه ولا أزكي على الله أحداً كان صالحاً، لكن لا يوجد عمل يلفت النظر، الدنيا تلفت النظر أما الآخرة لا تلفت النظر، فماذا يقول هذا العالم الجليل؟ قال: كان مؤذناً ترحموا عليه، فأنا قلت في نفسي: يا ليت الإنسان يعمل عملاً يؤبّن في دقيقة ستين ثانية، أو يؤبن في خمس دقائق، أو يتحدث عن عمله في ساعة، أنت لك حجم عند الله عز وجل، حجمك لا بأناقتك، ولا بطعامك، ولا بشرابك، ولا بأثاث بيتك، ولا بموقع بيتك، ولا بمساحة بيتك، ولا بنوع مركبتك، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط، مع الإخلاص، مع الانضباط، فإذا تحدثنا عن مرتبة التبتل، ليس معنى هذا أن هذه مرتبة مألوفة معظم الناس في مستواها، لا، قد تكون مرتبة نادرة، لكن هذا لا يمنع أن نتحدث عن مرتبة عالية كي ترتفع أهدافنا، وهناك من يأكل ويشرب وتنتهي كل همومه عند طعامه وشرابه، هناك من يأكل ويشرب ويتزوج وتنتهي كل همومه عند طعامه وشرابه وزواجه، وهناك من يطمح إلى أن يعمل عملاً يرضي الله عز وجل، قل لي ماذا يهمك أقل لك من أنت؟ ما الذي يهمك؟
 

تعريف بالمؤمن الصادق:


إخواننا الكرام؛ المؤمن الصادق يحمل هموم المسلمين، المؤمن الصادق له أهداف في الحياة تسمو عن حاجاته اليومية، وتسمو عن ميوله ورغباته، وتسمو عن مصالحه، المؤمن شخصية فذة، لا يُسَخِّر القيم ولا يَسْخر منها، يقود نفسه ولا تقوده، يُسيِّر هواه ولا يُسَيّره، سما حتى اشرأبت إليه الأعناق، وارتقى حتى مالت إليه النفوس.
بصراحة المؤمن الصادق يجب أن تحبه، تحبه لمزاياه الأخلاقية، أنا ذكرت قبل يومين أن الله عز وجل يقول:

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾

[ سورة الأعراف ]

أي أنت لا تستطيع أن تتصل بالله إلا بكمال مشتق منه، الله عز وجل رحيم، لن يسمح الله لك أن تتصل به، ولن يلقي في قلبك شيئاً من سكينته إلا إذا رحمت خلقه، الله عز وجل عَدْل، لن تستطيع الإقبال عليه إلا إذا كنت عادلاً، الله عز وجل مُحسِن لعباده، لن تستطيع أن تكشف الحجاب بينك وبينه إلا إذا كنت مُحسناً، لن تستطيع أن تتصل به إلا بكمال مشتق منه، فإذا المؤمن على جانب من الكمال، المؤمن صِبغة الله.
الآن نحن في بعض الشركات الضخمة في العالم، حينما ترى العلامة التجارية لهذه الشركة تشتري بلا تردد، هذه الشركة الفلانية، الآن يوجد حرب علامات تجارية، ترى الشركة لها اسم كبير، تدقق، تجد مصنوعة في الصين، آخذة اسم لمّاع برّاق، لكنها صنع بلد من الدرجة العاشرة مثلاً، فهذه حرب علامات تجارية الآن، فهو-إن صح التعبير-المؤمن علامته التجارية: 

﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)﴾

[ سورة البقرة ]

أي من أعلى درجة، أي مُتَخلّق بالكمال الإلهي، يشتقّ كمال الله عز وجل، فتحتار برحمته، بعدله، بإنصافه، بتواضعه، بإنكاره لذاته، بخدمة الخلق، فأنا هذا التمهيد من أجل أن تعلموا أنَّ هذه المرتبة قد تكون عالية جداً؛ ولكن لابد من شرحها.
 

معنى التبتُّل في اللغة:


التبتّل هو الانقطاع، وهو التفعّل من البتل، وهو القطع، بتل قطع، تبتّل تفعّل، ما معنى تفعّل؟ العمل المتكرر، العمل المستمر فيه تفعّل، مثلاً قد تقول: فلان كتب، كتب مرة واحدة، أما اكتتب أصبح كاتباً، اتّخذ الكتابة حرفةً له، فالتبتّل هو التفعّل من البتل وهو القطع، وسمِّيت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها، قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)﴾

[ سورة آل عمران ]

لماذا الاصطفاء مرتين؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ الاصطفاء الأول اصطفاء قرب، معنى ذلك أن الإنسان مخير، معنى ذلك أن النبوة اصطفاء، النبوة فيها جانب كسبي وجانب وهبي، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذا الجانب الكسبي، بعد أن اصطفاهم وجعلهم أنبياء ورسلاً أعطاهم الوحي، أعطاهم المعجزات، هذا وهبي، يوجد جزء كسبي وجزء وهبي، كذلك مريم البتول، ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ لمحبتك، لمعرفتك، لإخلاصك، لإقبالك، واصطفاك جعلك تلدين من دون زوج، الاصطفاء الأول اصطفاء قرب، والاصطفاء الثاني اصطفاء معجزة، ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ ففاقت نساء الزمان شرفاً وفضلاً.
ومصدر بتّل تبتّلاً كتعلّم تعلّماً، أي بتّل تبتلي وتبتّل، ما معنى بَتَّل؟ إنسان قطع اللحمة، الفرق بين قَطَعَ وقَطّعَ فرق واضح، فيه مبالغة، قَطَعها قطعةً واحدة، أما إذا قطّعها قطّعها آلاف القطع، كالفرق بين كَسَرَ وكَسّرَ، قد يقع هذا الكأس من يدك فينكسر، أما إذا جئت بمطرقة، وضربته عشرات الضربات حتى أصبح طحيناً، هذا اسمه: كَسَّرَ، غير كَسَرَ، قال تعالى:

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف ]

أغلقت الباب أصبح الباب مغلقاً، أما غلَّقت الأبواب أترجتها، هل ترى الفرق بين كَسَرَ وكَسّرَ، وغَلَقَ وغَلّقَ، وقَطَعَ وقَطّعَ؟ فالتبتّل التفعّل من البتل، قال تعالى:

﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)﴾

[ سورة المزمل ]

فالتبتّل المفاعلة من البتل، البتل مبالغة كماً ونوعاً، فالتبتّل كالتعلّم والتفهّم، تفهّم تفهُّماً، تعلّم تعلُّماً.
 

أسرار البلاغة في القرآن الكريم:


لكن الشيء الذي يلفت النظر: ﴿وَتَبَتَّلْ﴾ ما قال: تبتلاً، قال: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾   يوجد سرّ، التبتيل يعطي معنى آخر، فربنا عز وجل جاء بالفعل أعطى معنى، وجاء بمصدر آخر أعطى معنىً آخر، فلذلك هذا من أسرار بلاغة القرآن الكريم، التبتيل فيه تكلُّف وتعمُّل وتكثُّر ومبالغة، فصار في تفعيل من تبتّل، وفي تكلف وتعمُّل وتكثُّر ومبالغة من تبتيل، ما قال: وتبتل إليه تبتُّلاً، قال: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ فالمصدر أعطى معنى والفعل أعطى معنى، فأتى بالفعل الدال على أحدهما، وبالمصدر الدال على الآخر، فكأنه قيل: بتِّل نفسك إلى الله تبتيلاً، وتبتل إليه تبتُّلاً، ففهم المعنيان من الفعل ومصدره، وهذا كثير في القرآن الكريم، وهذا من أحسن الاختصار، لعلها ليست واضحة لكم أضرب مثلاً آخر؛ لو فتحنا المعجم على فعل أحسن، في المعجم أحسن إليه، إلى من لوازم أحسن، بالقرآن الكريم قال تعالى: 

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾

[ سورة الإسراء ]

جاء أحسن بـ، الباء تفيد الإلصاق، فمعنى الإحسان أضيف إليه الإلصاق، أي يجب أن تُحسِن إليهما مباشرةً من دون وسيط، هذا المعنى، فأخذنا معنى الإحسان من الفعل، ومعنى الإلصاق من الباء، فجمعنا المعنيين في معنىً واحد.
 

معنى التبتل في المصطلح الشرعي:


التبتُّل الانقطاع إلى الله بالكلية، وقوله عز وجل:

﴿ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)﴾

[ سورة الرعد ]

أي يجـب أن تكون خالصاً له وحده، لأنه أهلٌ أن تكون له، ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ فالتبتُّل هو الانقطاع عن ملاحظة الخلق، بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأُجرة، فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر، قال تعالى:

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه مرتبة، أما الآن يوجد واو:

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه الواو ليست عاطفة، هذه واو استئنافية، يوجد مرتبة أدنى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ الطبقة الثانيـة عملت لمصلحتها:

﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾

[ سورة آل عمران ]

الطبقة الثانيـة عملت لمصلحتها فنالت الأجر كهذا المعنى هنا تماماً، أحياناً الإنسان يحب الله ولا يسأله شيئاً، من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا، يوجد إنسان يحب الله حتى يوفقه، يعطيه صحة طيبة، ،ويجعله غنياً، يهيىء له زوجة صالحة، يجعله محبوباً بين الناس، يحب الله لعلة يريدها، مقبول عند الله، على العين والرأس، لكن الأول أعلى، الذي يحب الله من دون شيء.
هكذا يقول بعض العارفين بالله أو بعض علماء القلوب: هناك من يعبد الله حباً به، وهناك من يعبد الله طمعاً في جنته، وهناك من يعبد الله خوفاً من ناره، فالأجير همه الأجرة فإذا أخذها انتهى الأمر، أي إنسان رغبان بالصحة، أعطاه الله صحة، يرغب أن يُوفق بتجارته توفق، يتوفق بزواجه فتوفق، عنده بيت، عنده مركبة، انتهى، ليس له شيء عند الله، أراد الاستقامة ليكسب الدنيا فكسبها، لا يوجد عنده هذا الشوق لله عز وجل، هذه المرتبة مقبولة ما دام هو يخافه ويرجو رحمته مقبولة ولكن ليست راقية هذه المرتبة، صلى الله عليه كان يصلي حتى تتورم قدماه، قالت له السيدة عائشة:

(( عن المغيرة بن شعبة: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا [أي حديث: صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلم حتَّى انتفخَت قدماهُ، فقيلَ لَهُ: أتتَكَلَّفُ هذا وقد غُفِرَ لَكَ ماتقدم من ذنبِكَ وما تأخَّرَ، قالَ: أفلا أَكونُ عبدًا شَكورًا. ))

[ صحيح مسلم ]

نحن نعمل عملاً طيباً نرتاح، نجتهد في عمل، نستريح فترة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام طوال النهار في خدمة الخلق، وفي الليل في الاتصال بالحق، أي الله تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته، وإن لم يوجب لداعية بها ثواباً فإنه يستحقها لذاته، أي كماله يجعله أهلاً أن تحبه دون أن تطالبه بشيء، مثلاً إذا صديق غني، كلما زرته يعمل لك عشاء، يطعمك على حسابه، يصحبك في نزهة، فأنت تحبه، لكن يا ترى تحبه لذاته أم لكرمه؟ الله أعلم، لو أنك زرته مرتين ثلاث، ما قدم لك شيئاً، ولا خدمك أبداً، تنصرف أنت عنه، معنى هذا أن إقبالك عليه لم يكن من أجل كماله بل من أجل نواله.
 

كيفية الوصول إلى مرتبة التبتل: 


الإنسان أحياناً يطلب الله عز وجل، يرى أمراضاً مخيفة؛ سرطانات، شللاً، جلطات مبكرة، حادث سير مخيف، فقراً مدقعاً، يخاف، يلتجئ إلى الله، لكن طالب السلامة، طالب الغنى، طالب السعادة، جيد على العين والرأس، لكن هناك مرتبة أعلى بكثير، أن تحب الله دون أن تُعلّق محبتك له بشيء من عنده، من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا:

هم الأحبة إن جاروا وإن عدلوا           فليس لي عنهم معدل وإن عدلوا

والله وإن فتتوا في حبهـم كبدي           باق على حبهم راض بما فعلــوا

[ عبد الرحيم بن البرعي اليمني ]

* * *

هذا متى يظهر؟ يظهر لما الإنسان يكون متألقاً عند الله ثم تأتيه مصيبة فيصبر، قال تعالى:

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾

[ سورة ص  ]

بالتعبير الدارج الله عز وجل ألا يحق له أن يسوق لك أشياء غير واضحة، تقول له: يا رب أنا راض بما قضيت، أحياناً أب محترم جداً، كامل، عالم، مربّ، غني، مقتدر، إذا أعطى أمراً لابنه غير واضح مثلاً: لا تأكل يا بني، قال له: حاضر، الأب الذي قدم لأولاده كل شيء ألا يحق له أن يعطيهم أمراً غير واضح وأن يقبلوه؟ الله عز وجل أحياناً يمتحننا امتحان عبودية له، يكون أحدنا مستقيماً، متألقاً عند الله، يحبّ الله، تأتيه مصيبة ليس لها تفسير، فالمؤمن يقول: يا رب أنا راض بقضائك وقدرك، نجح، أخذ درجة تامة، مثلاً الإنسان استقام، الله عز وجل أحياناً بعد استقامته مباشرةً يعطيه الدنيا، حتى يشجعه، يكون ضعيفاً، لكن يوجد إنسان آخر يستقيم، ويبقى سنوات وسنوات بوضعه المادي السابق، هذا أرقى، هذا ما علق أهمية، ما اتّخذ الاستقامة تجارة، بل إن الله عز وجل لو يعاقب المذنب مباشرةً، ويكافئ المحسن مباشرةً، التغى الاختيار، كل الناس يخافون العقاب السريع فينضبطون، ويرجون العطاء السريع فينضبطون، أما الله عز وجل سياسته يسمح لك أن تفعل ما تشاء إلى أمد بعيد ثم يحاسبك.
 

الحق لله وحده:


صار التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى، لأنه أهل أن يعبد وحده، ويُدعى وحده، ويُقصد وحده، ويُشكر وحده، ويُحمد وحده، ويُحب، ويُرجى، ويُخاف، ويُتوكل عليه، ويُستعان به، ويُستجار به، ويُرجأ إليه، ويُصمد إليه، فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده، ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ أي له وحده أن تدعوه كلياً، هذه المعاني إذا قامت بنفس الإنسان، أي دعا الله وحده، قصده وحده.
السيدة عائشة لما الله برأها، قالت لها أمها: قومي إلى النبي فاشكريه، قالت: والله لا أقوم إلا لله، على مسمع من النبي، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: عرفت الحق لأهله، فحينما تعبده وحده، وتدعوه وحده، وتقصده وحده، وتشكره وحده، وتحمده وحده، وتحبه وحده، وترجوه وحده، وتخافه وحده، وتتوكل عليه وحده، وتستعين به وحده، وتستجير به وحده، وتلجأ إليه وحده، فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده، هذا التبتل، ليس لك علاقة بالخلق أبداً؛ تعاملهم، تلاطفهم، تُحسن لهم، تُكرمهم، أما قلبك معلق بالله، لا تعلق عليهم أية أهمية.
 

تعليق الأمل بالله عز وجل فقط:


بالمناسبة الله عز وجل من أساليبه العظيمة في تربية خلقه أنه حينما تعتمد على جهة أرضية لحكمة بالغة بالغة الله عز وجل يُلهم هذه الجهة الأرضية التي اعتمدت عليها أن تُخيّب ظنك فيها، أبداً، لأن الله يغار، حينما تعتمد على جهة أرضية، الله عز وجل يُلهم هذا الإنسان أن يتخلى عنك في أحرج وقت، لو قال لك أحدهم: زرني، ماذا تريد يُحقق؟ فأنت ارتحت، علقت الأمل كله عليه، ونسيت الله عز وجل، تزوره يتجاهلك، يسألك: ما الاسم الكريم؟ قد لا يقول لك: تفضل اجلس، أنت تُصعق بهذا الموقف، هذا الموقف مُفتعل، حينما تُعلِّق أهمية على جهة أرضية، إذا كان الله يحبك ويغار عليك، يلهم هذه الجهة الأرضية أن تخيب ظنك بها، لا تحزن.
قال: رجل افتقر، وله قريب يعمل مدير مكتب السلطان عبد الحميد، شدّ إليه الرِّحال، علق عليه الآمال كلها على قريبه مدير مكتب السلطان، كان حاكماً ثلث العالم، فقدّم استدعاء مدير المكتب لقريبه لتعيينه بوظيفة، لم يوقعها السلطان، أول يوم لم يوقعها، ثاني يوم لم يوقعها، ثالث يوم لم يوقعها، أول أسبوع، ثاني أسبوع، ثالث أسبوع، أبداً لم يوقعها، فهذا الرجل يبدو على معرفة بالله، أعطى توجيهاً للخادم أن يصرفه، قال له: يا أخي، الضيف ثلاثة أيام، مضى شهر، كأنه طرده، فهذا خرج هائماً على نفسه ويبكي، قال له: اتبعه، انظر أين يسكن؟ فدخل لخان وسكن فيه، في اليوم الثاني وضع الاستدعاء للسلطان فوقعها فوراً، فاستدعاه، قال له: بقيت شهراً بأكمله معتمداً عليّ، فلما يئست مني واعتمدت على الله وقّع السلطان، طبعاً قصة لها معنى، لما علّقت الأمل على إنسان خيّب الله ظنك بهذا الإنسان، فلما علّقت الأمل على الله عز وجل، الله عز وجل أكرمك بما كنت تريد.
 

الأمران اللذان يجمعهما التبتل:


أيها الإخوة؛ ندخل في التفاصيل؛ التبتل يجمع أمرين؛ اتصالاً وانفصالاً، لا يصح إلا بهما، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله رغبة فيه أو مبالاة به أو فكراً فيه، أي يجب أن تقطع نفسك عن كل ميل يُزاحم مُراد الله منك، هذا الانفصال، النفس تميل إلى النوم، ويوجد دعوة إلى الذكر والاستيقاظ والصلاة، فيجب أن تقطع نفسك عن حظها من النوم، لأن هذا الحظ يُزاحم مراد الله منك في أن تصلي، والاتصال لا يصح إلا بعد هذا الانفصال، وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له حباً، وخوفاً، ورجاءً، وإنابةً، وتوكلاً، فالتبتل انقطاع واتصال، انفصال عما سوى الله وعن حظوظ النفس وإقبال على الله، والذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك حينما ترضى بحكم الله عز وجل وقسمته لك، فمن رضي بحكم الله وقسمته لم يبقَ لرجاء الخلق في قلبه موضع:

لا تســــألـن بنيّ آدم حاجــــة            وســـــل الذي أبوابه لا تغـلـق

الله يغضــب إن تركت سؤاله           وبنـي آدم حيـــن يسأل يغضب

[ الشافعي ]

* * *

يجب أن تحسم مادة رجاء من المخلوقين حينما ترضى بقضاء الله وقدره، والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله، فإنه من سلّم لله، واستسلم له، وعلِم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلِم أنه لم يصبه إلا ما كتب الله له، لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضاً، حينما تعلم أن الأمر بيد الله، وأن الله لن يُسلمك إلى أحد، وأن مصيرك مع الله، وأن الفعل كله بيد الله، لا تخاف أحداً، قيل بكلام جامع مانع موجز: لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه، إذاً إن بلغت هذه المرتبة لا معنى للخوف من غير الله عز وجل، فالانفصال عن الخلق وعن هوى النفس الذي يُزاحم مراد الله منك، والاتصال بالإقبال على الله.
 

من فرّغ نفسه من حبّ الدنيا امتلأ قلبه محبة لله: 


في التسليم أيضاً فائدة لطيفة: هو أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يد عدو عاد، ولا بغي باغ عات، أنت حينما تدع الأمر لله عز وجل يتولى عنك كل شيء، أما إذا اتّكلت على نفسك أوكلك الله إياها، فلما سلمت ضمِنت النجاح، إن لم تُسَلِّم أخفقت، هذا هو الانقطاع عن الخلق، لكن التبتل لا يكتمل حتى يكون انقطاع المتبتل عن النفس لا عن الخلق وحدهم، ولكن عن حظوظ النفس بمجانبة الهوى، وتَنَسُّم روح الإنس، فإن في مجانبة الهوى ومخالفته ونهي النفس عنه تَنَسُّم روح الأنس بالله. 
يوجد نقطة دقيقة: افرض نفسك وعاء ممتلئاً بالدنيا، لا يوجد مكان لحبّ الله عز وجل، إذا نزعت حبّ الدنيا من قلبك، البديل الطبيعي حبّ الله عز وجل.
مثل آخر، نقطتان؛ الآخرة والدنيا، إن اقتربت من الآخرة ابتعدت حكماً عن الدنيا، وإن اقتربت من الدنيا ابتعدت حكماً عن الآخرة، فكل فراغ لابد من أن يُشغل، فإذا فرغت نفسك من حبّ الدنيا لابد وأن تملأ محبة الله قلبك، قال تعالى: 

﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذا الروح الذي تشعر به هو بسبب إعراضك عن الهوى، صار عندنا هوى وروح، من ترك الهوى امتلأ قلبه روحاً وريحاناً، من اتجه إلى الهوى خَسِر إقبال القلب على الله عز وجل، النفس لابدّ لها من التعلُّق، فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله عز وجل. 
 

شرف المؤمن أن يكون عبداً لله وحده:


أنا كنت أقول هذه الكلمة: إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم، أنت عبد؛ فإما أن تجعل الله إلهك، وإما أن تجعل عبداً لئيماً إلهك، فإذا أنت رفضت أن تكون عبداً لله، أنت عبد لمليون شهوة،

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ   عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّع».  ))

[ صحيح البخاري ]

فإن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لشهواتك، إن لم تكن عبداً لله فأنت عبد لعبد لئيم، إن لم تخضع لله سوف تُقبّل الأرجل لغير الله، أبداً، أنت مصمم أن تكون عبداً، فشرفك ومكانتك أن تكون عبداً لله، فالمؤمن الصادق يصدع بالحق عند من يخافه ويرجوه، وقد زهِد في مدحهم وثنائهم، يصيح فيهم بالنصائح جِهاراً، ويُعلن لهم بها ويُصرّ لهم إصراراً.
 

التبتل مرتبة عالية جداً فيها انقطاع عن الخلق وعن هوى النفس:


التبتل مرتبة عالية جداً، فيها انقطاع عن الخلق، وعن هوى نفسك، واتجاه إلى الحق، وهناك تكامل، بقدر ما تنقطع عن الخلق تتجه إلى الحق، وبقدر ما تُفرِّغ نفسك من حبّ الدنيا تُملأ هذه النفس بحب الله ورسوله، والقضية قضية مرتبة، نرجو الله أن نصل إليها، مرتبة التبتل، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ فالتبتل الأول الانقطاع، لكن مع التفعيل، انقطاع مع التفعيل، أما التبتل التبتيل مصدر آخر فيه معنى التكلُّف، والتعمُّل، والتكثُّر، والمبالغة، صار عندنا خمسة معان:

﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)﴾

[ سورة المزمل ]

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور