- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عرض تفصيلي لواقع المدينة قبل أن ينظم النبي هذا المجتمع :
أيها الأخوة الكرام ؛ مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، وقد وصلنا في الدرس السابق إلى المؤاخاة التي أحدثها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .
وننتقل اليوم إلى فقرة ثانية من التنظيمات الإدارية التي نظمها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت القاعدة الصلبة للدولة الإسلامية .
كانت المدينة عشية وصول رسول الله صل الله عليه وسلم تشكل مزيجاً إنسانياً متنوعاً من حيث الدين والعقيدة ، ومن حيث الانتماء القبلي والعشائري ، ومن حيث نمط المعيشة ، ففيهم المهاجرون ، وفيهم الأوس والخزرج ، والوثنيون من الأوس والخزرج ، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة بنو قينقاع ، و بنو النضير و بنو قريظة ، والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب ، والموالي ، والعبيد ، والأحلاف ، وكانت موارد رزقهم متنوعة بين العمل في التجارة والزراعة والصناعة والرعي والصيد والاحتطاب ، وكان توزعهم السكني قائماً على هيئة قرى ، أو آكام ، أو حصون تحيط بها البساتين والأراضي المزروعة ، يدخلون حصونهم بعد حلول الظلام ، ويحرسون منازلهم خوف الغزو والغارة ، وتبلغ عدد تجمعاتهم السكنية تسعة و خمسين ، ولكل عشيرة منهم زعامة تقوم على رعاية شؤونها ، وضمان عيشها وأمنها ، ولم تندمل بعد جراحات الأوس والخزرج التي خلفتها بينهم حرب بعاث ، ويمكن وصف الحالة العامة في المدينة بأنها قائمة على تحكم النظام العشائري ، وأعراف القبائل السائدة مع شيوع الجهل والأمية لدى معظم سكان يثرب ، بينما كان أهل الكتاب أهل علم ودين ، لكنهم يمارسون الربا واستغلال التجارة ، ويعملون على إثارة النزاعات بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من ضمان سيادتهم ، ومصالحهم ، وسلامتهم .
ولا شك في أن النموذج النبوي الذي بدأ النبي تطبيقه في المدينة يتوزع في مسارين متوافقين ، أولهما يتعلق بالمسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله ، وانقادوا لشرع الله يعملون به ويطبقونه ، وثانيهما يتعلق بالتآلف والتعايش السلمي بين المسلمين ومَن لم يعتنق الإسلام من الوثنيين من الأوس والخزرج وأهل الكتاب .
وأعظم مهمة أنفذها النبي صلى الله عليه وسلم إقامة نظام عام ، ودستور شامل لجميع ساكني المدينة بين المسلمين وبين سواهم من سكان المدينة .
أيها الأخوة ؛ هذا عرض تفصيلي لواقع المدينة قبل أن ينظم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع ، ليكون هذا المجتمع على شكل أمة ، على شكل بنية متماسكة تمهيداً لبناء دولة .
التنظيم حضارة و رقي :
أيها الأخوة ؛ يظن الطرف الآخر أن المسلمين فيهم سذاجة ، فيهم تخلف ، سوف ترون الشيء الذي لا يصدق ، كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم نظم هذا المجتمع تنظيماً يتوافق مع أعلى درجات المواطنة ، ومع أعلى درجات الحقوق والواجبات .
فلذلك التنظيم حضارة ، والتنظيم دين ، والتنظيم رقي ، والله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون وفق النظام الرائع ، والإنسان خليفة الله في الأرض ، وينبغي أن يقيم النظام الرائع في مجتمعه ، وهذا دليل التفوق في الحياة .
التخلف في الدين يساوي الفوضى ، التخلف في الدين يساوي التسيب ، مثلاً : النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبّ فَهُوَ ضَامِن))
فهو مسؤول ، وسيحاسب ، وكان عليه الصلاة والسلام يؤكد أن كل إنسان مسؤول عما أنيط به من عمل ، وقد قال الله عز وجل :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
وأي مجتمع لا يحاسب أفراده عن أخطائهم فهو مجتمع سائر في طريق الهلاك ، فلابد مِن محاسبة دقيقة ، ومفاهيم موحدة .التعايش بين الأطراف والشرائح والأطياف والانتماءات جزء من الدين :
شيء آخرسوف ترون بعد قليل كيف أن التعايش بين الأطراف ، والشرائح والأطياف ، والانتماءات جزء من الدين ، ما بال هؤلاء الجهلاء يرفضون الآخر ؟! الآخر مقبول في المجتمع الإسلامي ، بمعاهدة دقيقة جداً ، فيها المهاجرون ، والأوس والخزرج والوثنيون من الأوس والخزرج ، واليهود من الأوس والخزرج ، والقبائل اليهودية ، بنو النضير وبنو القينقاع ، كيف جمعت هذه الوثيقة هذه الأطراف المتنوعة والمتباعدة ؟ إنّ مفهوم المواطنة أصيل في الدين، ومفهوم قبول الآخر أصيل في الدين ، مفهوم التعايش بين الفئات المتعددة أصيل في الدين ، وهذه النغمة التي نسمعها من حين إلى آخر أن المسلم لا يقبل الآخر هذه افتراء من أعداء الدين، سيد الخلق وحبيب الحق ، سيد ولد آدم ، النبي المرسل ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، حبيب رب العالمين ، بحياته ، وبوجوده ، وبتوجيهه ، وبتنظيمه أجرى معاهدة ضمت قريشاً ، وبني عوف ، وبني الحارث من الخزرج ، وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني النجار ، وبني عمرو بن عوف ، وبني النبيت ، وبني الأوس ، هؤلاء طوائف ، واتجاهات ، وألوان ، وشرائح ، وأطياف ، وكلهم ضمتهم معاهدة فيها توضيح شديد للحقوق والواجبات ، ما لنا وما علينا ، فما بال المسلمين اليوم لا يقبلون الطرف الآخر ؟ هذا من الدين ؟
بنود الوثيقة التي ضمت جميع القاطنين في يثرب :
1 ـ جميع القاطنين في يثرب ومَن تبعهم وجاهد معهم أمة واحدة :
أيها الأخوة ؛ بنود الاتفاقية طويلة جداً ، قبل أن نأخذ بعض بنودها أعطيكم عنها دراسة ، البند الأول في هذه الدراسة أن هذه الاتفاقية ، وأن تلك المعاهدة جعلت جميع القاطنين في يثرب من مهاجرين ، ويثربيين ، ومَن تبعهم ، وجاهد معهم أمة واحدة ، وفي ذلك بعْد آني لمن يقطن يثرب ، وبعدٌ مستقبلي لمعنى الأمة حيث تضمن هؤلاء جميعاً ، ومن يلحق بهم ، ويجاهد معهم .
إن أول مفهوم للأمة ظهر في المدينة ، أما في مكة فقد قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾
منع النبي الرد على كل استفزاز ، بل على كل تحرش ، بل على كل جريمة ، لأنه بمكة أراد أن يبني الإيمان ، ولأن في كل بيت عنصراً مسلماً ، وعنصراً مشركاً ، فإذا قاوم في مكة نشبت حرب أهلية ، وهذا مما كان عليه الصلاة والسلام يحرص على الابتعاد عنه ، لذلك ورد في قوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ﴾
هذه الصواعق ، وحديثاً الصواريخ .﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾
هذه الزلازل وحديثاً الألغام .﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
هذه الحرب الأهلية .﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
إذاً كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس بعداً عن الحرب الأهلية ، ففي مكة جاء التوجيه القرآني :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
إذاً : لا بد من مرحلة إعدادية يعد فيه المؤمن إعداداً إيمانياً قوياً ، بل يعد المؤمن نفسه إعداداً إيمانياً قوياً ، لكن بعد حين لا بد من كيان إسلامي ، لا بد من شخصية إسلامية لابد من كلمة إسلامية ، لا بد من موقف إسلامي ، لا بد من رد إسلامي ، لا بد من تحليل إسلامي ، لا بد من حركة إسلامية ، هذا كان في المدينة ، النبي عليه الصلاة والسلام أقام أُسس الدولة الإسلامية في المدينة ، قبِل الواقع ، واحتواه ، واستوعبه ، وفهِم الخصوصيات والمتغيّرات ، هو وأصحابه بند ، وهناك بنود كثيرة ، طوائف ، وقبائل ، وعشائر ، وأديان اليهود ، والوثنيون ، والمسلمون .إذاً أول خصيصة لهذه الوثيقة أنها جعلت جميع القاطنين في يثرب من مهاجرين ويثربيين ، ومن تبعهم ، ومن جاهد معهم ، أمة واحدة ، وفي ذلك بعد آني لمن يقطن بيثرب ، وبعد مستقبلي لمعنى الأمة التي تضمن هؤلاء جميعاً ، ومن يلحق بهم ويجاهد معهم .
2 ـ الاعتراف بخصوصية كل مجتمع :
التحليل الثاني لهذه الوثيقة : اعترفت هذه الوثيقة ، وتلك المعاهدة بالحال الخاص لكل فئة من السكان ، كل فئة لها خصوصياتها ، بل كل فئة لها تركيبها ، هذا الاعتراف بخصوصية كل مجتمع ذكاء وحنكة وحكمة .
عدم اعتراف الطرف الآخر بخصوصية الشعوب :
الآن مشكلتنا مع الطرف الآخر أنه لا يعترف بخصوصيات الشعوب ، يريد العولمة ، يريد أن يطبق نظامه ، وقيمه ، وإباحيته ، وانحلاله الخلقي على جميع الشعوب بالقوة ، وما هذه الحروب التي ترونها إلا صورة من صور هذا القهر ، يريد الطرف الآخر أن يعمم ثقافته على كل الشعوب ، الطرف الآخر يتجاهل قيمها ، مبادئها ، ثقافتها ، دينها .
إنّ من سمات آخر الزمان ظهور الأعور الدجال ، ومع الاحتفاظ بالمعنى الأصولي لهذا المصطلح هناك نموذج معاصر هو أعور ، أعور يرى ثقافته ، ولا يقبل ثقافة الآخرين ، يرى مصالحه ، ولا يعترف بمصالح الآخرين ، يرى كرامته ، ويجرح كرامة الآخرين ، يهدم بلداً عن آخره من أجل أسيرين ، يعتقل عشرة آلاف أسير ، ونخبة من علية القوم من الوزراء ، والنواب في المجلس التشريعي من أجل أسيرين ، أليس هذا بين أيديكم ؟ من هو الأعور ؟ الذي يرى بعين واحد ، يرى كرامته ولا يرى كرامة الآخرين ، يرى ثقافته ويقدسها ولا يقبل ثقافة الآخرين ، يرى مصالحه ويتجاهل مصالح الآخرين ، هذا هو الأعور .
الصفة الثانية أنه دجال ، يكذب ، يدخل جندي إلى بيت في العراق مع شلة من زملائه فيغتصبون الفتاة ، ويقتلونها ، ويقتلون أباها وأمها وأخاها ، ثم يحرقون البيت ، هذا من أجل الحرية والديمقراطية ، أرأيت إلى دجلٍ فوق هذا الدجل ؟! تهدم البلاد ، تنهب الثروات ، تقهر البشر ، تثار الفتن الطائفية تحت اسم الحرية والديمقراطية ، الأعور الدجال وصفُ جامعٌ مانع لإنسان آخر الزمان القوي .
عاد نموذج متكرر في كل عصر :
ذكرت لكم من قبل أيها الأخوة كيف أن الله سبحانه وتعالى وصف قوم عاد أنها طغت في البلاد ، لم يقل : طغت في بلدها ، طغت في البلاد ، في جميع البلاد .
﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
أسلحتهم الفتاكة تقصف ، وأفلامهم تفسد ، طغيان وفساد ، مع غطرسة لا تحتمل .﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾
مع تفوق مذهل في العمران .﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوق عسكري :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
تفوق علمي :﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾
غطرسة لا تحتمل :﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾
ماذا فعلوا أيضاً ؟ فعلوا أنهم :﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
وما أهلك الله قوماً إلا ذكر أنه أهلك من هو أشد منهم قوة إلا قوم عاد حينما أهلكهم قال:﴿ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾
ما مصيرها ؟ مصير هؤلاء القوم الطغاة الجبارين أن الله أهلكهم :﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾
هذا الشرح فيه إشارة قرآنية إلى أن قوم عاد قوم طاغوت كنموذج ، ولهم أمثال في كل عصر ، والدليل قوله تعالى :﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى﴾
ما معنى عاداً الأولى ؟ أي أن هناك عاداً ثانية .﴿ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ﴾
وثيقة النبي فيها اعتراف بخصوصيات كل فئة و بزعامتها وبمشكلاتها :
إذاً أيها الأخوة ؛ الشيء الدقيق أن وثيقة النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن الاتفاقية والعهد الذي بين المسلمين ، وبين بقية الأطراف ، فيها اعتراف بخصوصيات كل فئة اعتراف بزعامتها ، اعتراف بمشكلاتها ، اعتراف بأعرافها ، بتقاليدها ، وبعقائدها الدينية ، هذا المفهوم الحضاري ، أنت مسلم لك عقيدتك ، ولك عبادتك ، ولك منهجك ، ولك قيمك ، ولك أهدافك ، لكن إذا وجدت في بلد فيه أناس من غير دينك ينبغي أن تسالمهم ، وأن تتقاسم معه الغنائم ، وأن تعرف خصوصياتهم ، وأن تعرف مشاعرهم ، وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام .
3 ـ مساعدة الفقراء و الانتباه إلى مشكلاتهم :
التحليل الثالث لهذه الوثيقة :يساعد المؤمنون الذين تعرضوا لوضع مالي شديد من افتقار ، أو كثرة عيال ، ولعل ذلك يشبه صندوق تكافل لجميع الأهالي ، وخاصة في الفدية ، فهؤلاء الفقراء قنابل موقوتة ، فإن لم تنتبه إلى حاجتهم ، وإلى مشكلتهم ، وإلى مأساتهم ، وإلى فقرهم ، وتجاهلتهم ، كان هناك خلل في المجتمع يسهم في انهياره ، وقد قال سيدنا علي :
(( كاد الفقر أن يكون كفراً ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :(( إنما تنصرون بضعفائكم ))
الضعفاء هم الذين إذا نصرناهم تتماسك طبقات المجتمع ، فهذا الضعيف إن كان فقيراً فينبغي أن تطعمه ، وإن كان مريضاً فينبغي أن تعالجه ، وإن كان مشرداً فينبغي أن تؤويه ، وإن كان جاهلاً فينبغي أن تعلمه ، وإن كان مظلوماً فينبغي أن تنصفه ، إذا نصرت الضعيف تماسك المجتمع ، وأصبح سداً منيعاً لا يمكن اختراقه .4 ـ منع حدوث تجاوزات في روابط الولاء :
منع حدوث تجاوزات في روابط الولاء للحفاظ على الثقة والتعاون بين الجميعفلا تجاوزات ، وكل إنسان ينبغي أن يلزم حده ، وأن يقف عنده ، وهناك قوانين تحكم جميع الفئات ، لذلك :
(( إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ . وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدّ . وأيْمُ الله ، لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
ما لم يقم في المجتمع قواعد صارمة يلتزم بها جميع فئاته فلن ينهض المجتمع .امرأة سرقت فكان الحكم قطع يدها ، وهي من بني مخزوم ، فجاء حِبُّ رسول الله أسامة بن زيد يشفع لها ، فغضب النبي أشد الغضب ، وقال : ويحك يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ؟
(( إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ . وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدّ . وأيْمُ الله لَوْ أنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ))
أن يأتي إنسان من أعلى أرومة من قريش من وجهاء قريش ، وفي ساعة غضب دون أن يشعر وجه كلمة قاسية لسيدنا بلال ، فقال لك : يا بن السوداء ، فقال عليه الصلاة والسلام وقد غضب غضباً لا يوصف ، قال له :((يا ذَرّ إِنّكَ امْرُؤ فِيكَ جَاهِلِية ))
فما كان من أبي ذر إلا أن وضع رأسه على الأرض وشدد على بلال أن يطأ رأسه بقدمه .أما سيدنا الصديق فحينما رأى بلالاً يعذبه سيده صفوان ، اشتراه منه ، فقال له صفوان : والله لو دفعت به درهماً لبعتُكَه ، فقال الصديق : والله لو طلبت به مئة ألف لأعطيتكها، هذا أخي في الله ، قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
(( كَانَ عُمَرُ يَقُولُ : أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا ، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا ، يَعْنِي بِلَالاً ))
وكان عمر يخرج إلى ظاهر المدينة ليستقبل بلالاً ، هذا هو الإسلام .إذاً : هذه الوثيقة ، وتلك المعاهدة ، منعت التجاوزات في روابط الولاء للحفاظ على الثقة والتعاون بين الجميع .
5 ـ سيادة الدستور والقانون :
الآن هذه الوثيقة تؤكد أن الجميع متعاونون في مقاومة أي معتد ، أو آثم ، أو ظالم ، أو مفسد ، ولو كان ولد أحدهم ، وفي ذلك سيادة الدستور والقانون ، طبقوا العدالة والمساواة وعندها تحقق الأمن والسلامة للجميع .
جميع المواطنين تحكمهم قوانين واحدة ، جميع المتعاهدين سواء ، مكانة صغيرهم مثل مكانة كبيرهم في الحقوق والواجبات ، وكلهم يد واحدة ، وذو اعتبار واحد ، هذا مجتمع المسلمين، هذا مجتمع حضاري ، هذا مجتمع ، جميع الناس سواء في الحقوق والواجبات ، هم يد واحدة على من عاداهم ، يجير أدناهم ، يجير مستجيرهم ، ولليهود وهم أعداء تقليديون مثل ما لغيرهم في هذا العهد ، ولليهود دينهم ، و للمسلمين دينهم ، فما من مشكلة أبداً ، لهم دينهم ، هذا هو التعايش ، وهذه هي المواطنة ، وهذا هو الفهم العميق لخصائص الحياة الدنيا ، مجتمعات فسيفسائية كمجتمعاتنا ، أنت مسلم يجب أن تقيم أمر الله ، وأن تقبل الآخر دون أن تضحي بدينك ، دون أن تفسد دينك ، أقم أمر الله ودع الطرف الآخر يعيش على تطوره ، وعلى مبادئه ، وعلى قيمه .
6 ـ المؤمنون وغير المؤمنين سواء ينصر بعضهم بعضاً :
المؤمنون وغير المؤمنين سواء ينصر بعضهم بعضاً ، هناك ميثاق ، هناك معاهدة دفاع مشترك بالمصطلح الحديث ، لا يحل لأحد ممن عاهد ووافق على هذه الوثيقة وقبل هذه الاتفاقية أن يحدث حدثاً ، أو يؤوي محدثاً ، وإذا فعل ذلك وقع عليه غضب الله ولعنته ، وحرمانه من الحقوق العامة .
هذا هو التشريع ، هذا هو الالتزام ، لكن لهذا المجتمع رأساً ، مرجعية واحدة ، قراراً نافذاً ، الله عز وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشاور أصحابه ، قال :
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
لكن :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
7 ـ من أخلّ بالاتفاقية من اليهود فهو ظالم لنفسه و لأهله :
ومن بنود هذه الاتفاقية : من أخلّ بعده من اليهود فإنه ظالم لنفسه وأهله ، وليس له على أهل هذا العهد ذمة ولا ميثاق ، يتحمل كل فريق مشارك في هذا العهد نصيبه في الحرب ، والسلم ، والنفقة ، وعليهم التعاون والمشاركة ، وبينهم النصح ، والبر ، من دون إثم .
8 ـ لا يتحمل أحد وزر غيره :
من أبلغ ما في هذه المعاهدة وتلك الاتفاقية أنه لا يتحمل أحد وزر غيره لقوله تعالى :
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
من أشد المنكرات في المجتمع البعيد عن الله قضية الثأر ، يُقتل إنسان من قبيلة ، كان جميع أفراد القبيلة التي منها القاتل معرّضين للقتل ، بلا سبب ، هذا الثأر وصمة عار بحق الأمة ، علاج الثأر أنه :﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
قبل شهرين أو ثلاثة اتصل بي أخ من محافظة بالجنوب ، وقد قُتل من بعض العشائر إنسان ، العشيرة التي منها القاتل هربت ، واختفت ، وسافرت إلى أطراف البلاد ، ولأهل المقتول اتجاه ديني ، اتصلوا بي هاتفياً ، فقلت لهم : ينبغي أن يذهب رئيس عشيرتكم إلى العشيرة التي منها القاتل ، وأن تطمئنوهم ، أننا لن نقتل واحداً منكم ، والقاتل هناك من سيحاسبه ، أما أن نأخذ بالثأر فهذا سلوك جاهلي ، وسلوك لا يرضي الله عز وجل لقوله تعالى :﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
هذا العهد لا يلغي الالتزامات السابقة على المعاهدين ، ولا يعفي ظالماً أو آثماً من جزائه أو معاقبته ، وليس هذا العهد للحرب فقط ، بل هو للسلم أيضاً ، وجعل هذا العهد المدينة المنورة بلداً حراماً .أيها الأخوة ؛ هذه بعض بنود هذا العهد الذي أبرمه النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة حينما وصل إليها ، وصدقوا أيها الأخوة ؛ والله لا أبالغ إنه من أرقى الاتفاقيات الحضارية التي يشار إليها بالبنان .
إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .