- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
النسب الذي يعود إليه النبي محمد عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة، والحديث اليوم عن مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فأول بند في هذا الموضوع نسبه صلى الله عليه وسلم، وقد حدثتكم في درس سابق أن النسب تاجٌ يتوج به أهل الحق، أما إذا أضيف النسب إلى أهل الباطل فلا قيمة له إطلاقاً، والدليل قوله تعالى:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾
فالذي يتعرف إلى الله، ويستقيم على أمره، ويحرص على مرضاته إذا كان نسبه من النوع العالي فهذا تاجٌ يتوج به، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد بن عبد المطلب، ابن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، ابن كلاب، وينتهي نسبه إلى عدنان، وأمه آمنة بنت وهب، من بني زُهرة، ويلتقي نسب أمه بنسب أبيه في كلاب بن مرة، وقد قال الله عز وجل :
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾
وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم, يقول:
" الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم "
هل النبوة أمر كسبي أم أمر وهبي أم بهما معاً ؟
أيها الأخوة، النبوة هبة من الله، وفيها جانب كسبي، بمعنى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
حينما يجتهد الإنسان في طلب مرضاة الله عز وجل، من كمال الله وكرمه يهيئ له عملاً يتناسب مع طموحه، والعبرة أن تطمح لعمل جليل، فالأعمال بيد الله، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل، ونسبه إليك، الله عز وجل يوفق، ويحفظ، ويلهم، ويجري الخير على يديك بشرط أن تطلب الخير,
" ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء, وأنا أحب إليك من كل شيء "
فأنت حينما تسعى في مرضاة الله، وحينما تخطب ود الله عز وجل، فالله يهيئ لك عملاً صالحاً ترقى به عنده، وتسعد به إلى أبد الآبدين,
" ابن آدم كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يفرحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد "
إليكم هذا المثال للتقريب :
لو أردنا أن نضع مثالاً يوضح هذه الحقيقة: لو أرادت دولة أن تعين سفيراً في بلد مهم جداً، طبعاً تختاره من حملة الشهادات العليا، وفي بعض الدول تشترط دراسة أدبية وعلمية وحقوقية، وهذا من كسب الطالب، بعد أن تختاره تمنحه صلاحيات، وحقيبة دبلوماسية ، وتعطيه كتاباً تقدمه للدولة التي سيقوم بها، ففي هذه الوظيفة جانب كسبي، وجانب وهبي، الجانب الكسبي يؤكده الله عز وجل حينما يقول:
﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾
ويؤكد الجانب الكسبي قول الله عز وجل:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
خير القرون قرني :
أيها الأخوة, يقول عليه الصلاة والسلام:
" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه "
لذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم خيرية القرون الأولى، فقال:
" خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "
قد تقول أنت: نحن في عصور التقدم، وفي عصور المخترعات، وفي عصور ترويض الطبيعة لصالح الإنسان، النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف قرنه بأنه خير قرن ، هذا متعلق بسعادة الإنسان الأبدية، وقد ذكرت في درس سابق أن الدنيا إذا كانت مريحة جداً ، وكانت الدنيا عريضة، وفيها كل ما تشتهيه الأنفس ربما كانت حجاباً بين العبد وربه، وأن بعض الشدائد التي في ظاهرها شدائد ربما كانت عوناً للإنسان على طاعة الله، لذلك الآية التي ينبغي ألا تنسى، وأن تكون ماثلة أمام أعيننا جميعاً, قوله تعالى:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
فخيرية قرن النبي، والقرن الذي أتى بعده، والذي أتى بعده خيرية متعلقة بسعادة الإنسان الأبدية، لكن الإنسان اليوم غارق في متع حسية، ووقته مليء بملهيات لا تنتهي، لكن إذا جاءه ملك الموت يشعر بالخسارة التي لا تعوض, قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
الصفات الخَلقية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام :
النبي صلى الله عليه وسلم صفته: كان متوسط القامة، ليس بالنحيف ولا بالجسيم، عريض الصدر، ضخم اليدين والقدمين، مبسوط الكفين، قليل لحم العقبين، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة، وهو أحسن الناس وجهاً، وهو أبيض اللون بياضاً مزهراً، مستدير الوجه، واسع الفم، طويل شق العينين، رَجِل الشعر، ولم يشب من شعره الأسود إلا اليسير , وإضافة إلى حسن خلقه، وسلامة حواسه وأعضائه فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتني بمظهره من النظافة وحسن الهيئة .
أيها الأخوة، المؤمن لا ينبغي أن يهمل مظهره، ولا ملبسه، فقد ورد في بعض الأحاديث:
" أن أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس "
لأن الإنسان في أول لقاء الانطباع يؤخذ من هندامه، ومن مظهره، ومن نظافته، ومن رائحته العطرة، من أجل أن تكون سفيراً لهذا الدين الرباني ينبغي أن تعتني بمظهرك، قال عليه الصلاة والسلام:
" أن أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس "
الاعتناء بالنظافة، والاعتناء بالمظهر، جزء من الدين .
الصفات الخُلقية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام :
أما صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم فحدثوا ولا حرج، الله عز وجل وصفه بأنه:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
والخُلق أيها الأخوة جانب كسبي في الإنسان، الله عز وجل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم وسائل الدعوة، أعطاه ذاكرة ينفرد بها, قال تعالى:
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
أعطاه شكلاً جميلاً، أعطاه وجهاً مليحاً، أعطاه فصاحة ما بعدها فصاحة، قال:
" أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش "
أعطاه نسباً رفيعاً، ولكن حينما أثنى عليه، أثنى على خلقه، كما لو أنك منحت ابنك بيتاً ، لا يعقل أن تقيم حفل تكريم لهذا البيت، لكن تقيم له حفل تكريم إذا نال الدرجة الأولى، فالأصل أن يثنى على الإنسان بما في كسبه، ويقابل ذلك أنت حينما تزدري إنساناً لأن شكله لم يعجبك، هذا اعتراض على الله عز وجل، وزوجته عائشة رضي الله عنها قالت عن أختها صفية قصيرة، فقال عليه الصلاة والسلام:
" لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته "
خطأ كبير أن تعير إنساناً بشكله، أو بلونه، أو بطوله، هذا ليس من كسبه، هذا من خلق الله عز وجل، فكأنك تعترض على الله، وكأنك تزدري صنعة الله عز وجل فهذا فظاظة وللجاجة لا تليق بالمؤمن .
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أوتي الكمال في أفعاله، وفي أقواله، وفي شكله، وأوتي الفصاحة، وأوتي البيان، وهو سيد ولد آدم، وأوتي المعجزات، وأوتي القرآن والوحي، وأيده الله بنصره، ومع كل هذه الخصائص, يقول الله له أنت بالذات:
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
بربكم هذا الذي لم يؤتَ فصاحة، ولا شكلاً جميلاًَ، ولا وجهاً منيراً، ولا نسباً أصيلاً، ولم يؤتَ معجزة، ولا وحياً، ولا قرآناً، وهو فظ غليظ القلب في دعوته, لمَ؟ سيد الخلق وحبيب الحق، يقول الله له:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
هذا درس بليغ للدعاة إلى الله عز وجل .
الحكمة الربانية التي أخفاها على عباده في موضوع التسيير :
أيها الأخوة, نحن كما تعلمون مخيرون، الدليل:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
الآيات تؤكد أن الإنسان مخير، بربكم هل أنتم مخيرون في آبائكم وأمهاتك؟ أنت لست مخيراً فيما كنت ذكراً أو أنثى، ولست مخيراً في أمك وأبيك، ولست مخيراً في مكان ولادتك، ولست مخيراً في زمن ولادتك، هذا ليس من اختيارك، هذا أنت فيه مسير، ولكن حقيقة أنقلها لكم تثلج الصدر: الذي لم يكن في اختيارك هو أكمل شيء إليك، لخص هذا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى, فقال: " ليس في الإمكان أبدع مما كان "، وفسر هذا القول فقال: " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " .
فاعتقد يقيناً أن الذي لست مخيراً فيه هو لصالحك مئة في المئة، وحينما يكشف الله لك يوم القيامة عن سر هذه الأشياء التي لم تكن مخيراً بها، ينبغي أن تذوب كالشمعة محبة لله عز وجل وامتناناً منه، فالذي كنت به مسيراً هو لصالحك، وليس في الإمكان أبدع مما كان .
النبي قدوة لنا معاشر المسلمين :
أيها الأخوة, السيدة عائشة أم المؤمنين كانت تؤكد حينما تُسأل عن خلقه, تقول:
" كان خلقه القرآن "
بل إن بعضهم, يقول: القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي، ونستنبط من هذه الأوصاف أن المؤمن لا يتأثر الناس بكلامه بل بمعاملته، وأن دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال، وهذا درس للآباء والمعلمين والدعاة إلى الله عز وجل، دلالة الحال أبلغ من دلالة المقال ، وحال واحد في ألف خير من مقالة ألف في واحد، إذاً: قوة التأثير لا تتأتى من الفصاحة، بل تتأتى من أن هذا المتكلم صادق فيما يقول، ومطبق لما يقول
ومن أدق الآراء التي قرأتها عن أحد العلماء أن الذي يدعو إلى الله بمضمون غير متماسك، أو يدعو إلى الله بأسلوب غير علمي وغير تربوي، أو يدعو إلى الله ولا يجد مصداقية في الداعية، هذا المدعو إلى الله في هذه الطريقة لا يعد عند الله مبلغاً، ويقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة, فلذلك رتبت المعاصي والآثام ترتيباً تصاعدياً، فكان في أعلاها, قوله تعالى:
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "
" يا ابن عمر، دينك دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا "
النبي جمع الكمال البشري :
من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد تواضعاً مقترناً بالمهابة، والقاعدة أيها الأخوة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، التهور رذيلة، والجبن رذيلة، والشجاعة بين التهور والجبن، البخل رذيلة، وتبذير المال رذيلة، والكرم بين التبذير والبخل، فالفضيلة وسط بين طرفين .
فيا أيها الأخوة، سهل جداً أن تأخذ الحد الأقصى، سهل جداً وأنت تربي أولادك أن تكون قاسياً إلى أبعد الحدود، تضربهم ضرباً مبرحاً، وسهل جداً أن تسيبهم، ولكن البطولة أن يحبك أولادك إلى درجة عالية جداً، وأن يهابوك أيضاً لدرجة عالية جداً، هذا هو المنهج الوسطي والإسلام وسطي, فلذلك كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع المهابة، إنسان يتواضع مع الذل، ارفع رأسك، متى أمت علينا ديننا, قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾
أحياناً يتطرف المؤمن متهماً أنه متواضع، فإذا هو ذليل، فالمتكبر على المتكبر صدقة ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه قبيل المعركة يتبختر أمام الأعداء, فقال عليه الصلاة والسلام:
" إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن "
أي الطرف الآخر قوي لا تراه ضعيفاً، فقد قرن تواضعه بالمهابة، وقرن حياءه بالشجاعة، في شجاعة، وفي وقاحة، وفي خجل، والخجل مرض نفسي، والوقاحة غلظة خلقية ، وبينهما الحياء والشجاعة، والحياء من علامة الإيمان، الإيمان والحياء متلازمان، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر، فكان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها،
" وقد رأى رجلاً استأجره يغتسل أمام الناس عرياناً، فقال له: خذ أجارتك لا حاجة لنا بك، إنك لا تستحي من الله "
لذلك علامة الإيمان الحياء،
" الإيمان بضع وسبعون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "
لكن هناك فرق بين الحياء والخجل، الخجل أن تستحي أن تطلب حقك، الخجل أن تستحي أن تنصح أحداً، الخجل أن تستحي أن تقول لا، ففي حياة المؤمن كلمة لا، لا ورب الكعبة، فالذي يؤكد شخصيتك أحياناً كلمة لا، لا كلمة نعم, ومن أدق صفاته أنه من رآه بديهة هابه، ومن عامله أحبه، له هيبة, دخل عليه رجل فأصابته رعدة، قال:
" هَوِّنْ عَلَيْك، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ "
لذلك المؤمن له هيبة أما إذا عاملته أحببته، وكان كريماً وصادقاً في كرمه، بعيداً عن حب الظهور، الإنسان أحياناً تذل قدمه من الكرم إلى حب الظهور، بقدم لك مالاً ليسهم ببناء مسجد، ولكنه يشترط لوحة رخامية يكتب فيها أنشأ هذه المئذنة المحسن الكبير، وقد علمت أن محسناً كبيراً في بعض البلاد الإسلامية قدم رقمًا فلكيًّا للدعوة، ولتعليم طلاب العلم، الرقم فلكي ، فسمع أحد الزائرين عن هذا المحسن، وعن هذا الرقم، فتمنى أن يراه، فدعي هذا المحسن إلى الطعام، ودعي الضيف معه ليلتقيا، فجاء الضيف، ولم يأت المحسن، قال: أين ضيفنا؟ قال : هو إلى جانبك، من شدة تواضعه ما عرفه، الإنسان أحيانا يدفع مبلغاً محدوداً جداً يجب أن يملأ الدنيا ضجيجاً بهذا المبلغ .
ما هو الإخلاص ؟
أخوتنا الكرام، علامة إخلاصك أن عملك لا يزداد بالثناء، ولا يضعف بالذم، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، والإنسان حينما تذل قدمه إلى استجداء المديح تضعف مكانته، الإنسان إذا ضعف إخلاصه علق الأمل على المديح، فإن شح المديح استشار من حوله ، كيف وجدت الطعام؟ أعجبك الطعام، هو يستثيره كي يمدح هذه الوليمة، كيف وجدت هذا البيت؟ كيف وجدت هذا الأثاث؟ كيف وجدت هذا الدرس؟ يستثيرك كي تمدحه، هذه حالة مرضية اسمها استجداء المديح، لذلك الإخلاص من لوازمه أنك لا تعلق أهمية لا على المادحين، ولا على القادحين، لأنك تبتغي وجه الله عز وجل، هذه علامة من علامات الإخلاص .
العلامة الثانية: أن المخلص لا يزداد عمله أمام الناس، ولا يقل في خلوته، خلوته كجلوته، وظاهره كباطنه، ومع الناس كخلوته أيضاً، وكان أميناً بأوسع معاني هذه الكلمة .
إليك إخلاص النبي :
لذلك أيها الأخوة قريش تهاجمه، وترد دعوته، وتسفك دينه، وتقدح في رسالته وأموالها عنده، وحينما أراد النبي أن يهاجر ترك ابن عمه في مكانه ليرد الودائع إلى أصحابها ، وأصحابها مشركين، فما بال هؤلاء المسلمين اليوم إذا ذهب إلى بلاد الغرب يشتري بطاقة ائتمان بآلاف الدولارات، ويظن أن هذه غنيمة من حقه أن يأكلها، هذا سوء فهم, هؤلاء الذين أودعوا عند النبي مالاً أليسوا مشركين؟ لمَ لم يقل هؤلاء مشركون؟ أبقى ابن عمه، ووضعه تحت خطر القتل من أجل رد الودائع لأصحابها، وما لم تكن مستقيماً مع كل الناس لا يقبلك الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل:
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا﴾
مع هؤلاء الذين تكرهونهم, قال تعالى:
﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾
ما لم تكن محسناً مع الآخرين، مع البعيدين، مع الشاردين، لن يظهر دينك على أنه دين الله عز وجل .
وكان صادقاً في القول والعمل, قال عليه الصلاة والسلام:
" وإن الصدق يهدي إلى البر "
فقد كان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الإخلاص، والإخلاص أيها الأخوة ينفع مع قليل العمل، وعدم الإخلاص لا ينفع لا مع قليل العمل ولا مع كثيرة,
" يا رب تعلمت العلم، يقال له يوم القيامة كذبت، تعلمت العلم ليقال عالم وقد قيل خذوه إلى النار، يا رب قاتلت في سبيلك، يقال له كذبت، قاتلت ليقال عنك شجاع وقد قيل خذوه إلى النار "
لذلك ينبغي أن نرعى قلوبنا، وأن نهتم بنوايانا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر:
" إنما الأعمال بالنيات "
أهمية دراسة السيرة النبوية :
أيها الأخوة، لماذا نحن ندرس سيرة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأن دراسة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم، دققوا فرض عين على كل مسلم، لماذا؟ لأن الله يقول:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
كيف يكون النبي أسوة لنا؟ إن لم نعرف سيرته في بيته، مع زوجته، مع أولاده, مع أقربائه، مع أصحابه، في سلمه، في حربه، في غناه، في فقره، إذاً: هو أسوة لنا .
الامتحانات التي مر بها النبي :
أيها الأخوة, أذاقه الله الفقر، دخل بيته، وسأل أهله:
" أعندكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم "
أحياناً المسلم يتأخر الطعام يقيم الدنيا ويقعدها، ويغضب، ويزمجر، ويكسر, ويعلو صياحه في البيت إذا تأخر الطعام، أما النبي صلى الله عليه وسلم:
" أعندكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم "
أذاقه الله النصر، فدخل مكة مطأطئ رأسه حتى كادت عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله،
(( ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم}, اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
وذاق القهر في الطائف فدعا دعاءً يحتاجه المسلمون اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم:
" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي "
أذاقه الله موت الولد, فقال:
" إن العين لتدمع، والقلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون "
أذاقه الله أن تتهم زوجته بأثمن ما تملك، وتأخر الوحي أربعين يوماً، لو أن الوحي بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاءت آية التبرئة بعد ساعة، لكن أراد الله أن يتأخر الوحي بتبرئة السيدة عائشة أربعين يوماً، إذاً: الوحي لا يملكه النبي لا رداً ولا استدعاء .
شيء آخر، لما جاءت آية تبرئة السيدة عائشة,
" فقال أبو بكر لابنته: قومي فاشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله لا أقوم إلا لله، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: عرفت الفضل لأهله "
كيف يستقبل المؤمن في هذه الأيام الابتلاء ؟
معظم المؤمنين هداهم الله إلى ما هو أفضل ما داموا في بحبوحة، وفي نعيم، وفي صحة جيدة، وفي دخل وفير شاكرون حامدون، فإذا امتحنهم الله بشيء تضعضعوا، وضعفت ثقتهم بالله عز وجل، والبطولة أن تنجح بالامتحان , سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فقال: لن تمكنوا قبل أن تبتلوا .
وأنا أؤكد لكم أنه يستحيل أن تصل إلى الجنة من دون ابتلاء، لقوله تعالى:
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
أيها الأخوة، نحن ممتحنون بمادتين بالذي أعطانا، وبالذي زوي عنا، ممتحن بالصحة ، وممتحن بالمرض، ممتحن بالغنى، وممتحن بالفقر، ممتحن بالقوة، وممتحن بالضعف، ممتحن بالوسامة، وممتحن بالدمامة، من هنا يأتي الدعاء الرائع:
" اللهم وما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب "
إليكم فصاحته التي كانت تشرق من فمه الشريف كالدر المنثور :
أيها الأخوة, كان فوق كل هذا فصيح اللسان، وقد يقال جمال الرجل فصاحته، والفصاحة ككأس من الماء، المعاني مضمون هذا الكأس، والفصاحة شكل هذا الكأس، فأنت لا تقبل على شراب نفيس بكأس لا يليق، كما أنك لا ترضى أن تشرب شراباً خسيساً بكأس نفيس ، فلا بد من أن يجتمع المضمون مع الشكل، والمؤمن له شكل مقبول، فصيح اللسان, وقد قال سيدنا عمر: تعلموا العربية فإنها من الدين، الإنسان الضعيف في اللغة مشكلته كبيرة جداً, ولغتنا دقيقة جداً، عندنا في اللغة, كلمة لمح لها معنى، وكلمة لاح لها معنى، لاح يعني ظهر واختفى، أما لمح يعني نظر, وفرق كبير بين لاح ولمح، فهذه المعاني دليل على اتساع اللغة, واختارها الله لتكون لغة كلامه, قال تعالى:
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾
وتعلموا العربية فإنها من الدين، أنا لست متشائماً لكن لا أصدق طالباً جامعياً يحمل إجازة في اختصاصه نكلفه أن يقرأ صفحة من كتاب الله دون أن يخطئ عشرات الأخطاء، أخطاء كثيرة جداً، هذه وصمة عار في حق المسلم، تعلموا العربية فإنها من الدين، كان عليه الصلاة والسلام فصيحاً, ويقول:
" أنا أفصح العرب بَيد أني من قريش "
وقريش أفصح قبيلة في العرب، هذا أسلوب اسمه تأكيد المدح بما يشبه الذم, قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فكان صلى الله عليه وسلم فصيح اللسان، ثابت الجنان، في حنين قال:
" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب "
وكانت معركة حنين فاصلة، فأخذ تراباً وذره في عيون القوم, وقال:
" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب "
وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه: كنا إذا حمي الوطيس لذنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أقرب إلى العدو منه .
هذا هو نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام :
أيها الأخوة, كان عليه الصلاة والسلام قوياً في عقله, وكان عليه الصلاة والسلام رحمةً للكبير والصغير، لين الجانب، رقيق المشاعر, يحب الصفح والعفو عن المسيء, وإليكم مثال ذلك: حاطب بن بلتعة ارتكب خيانة عظمى، كتب كتاباً إلى قريش إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم، في كل نظام العالم جزاء الخيانة العظمى الإعدام، فجاء عمر، وقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر، إنه شهد بدراً، لم يهدر عمله السابق، تعال إلي يا حاطب، ما حملك على ما قلت؟ قال: والله يا رسول الله، ما كفرت ولا ارتدت، لكن كنت لصيقاً في قريش، فأردت في هذا الكتاب أن أحفظ مالي وأولادي، وأن واثق أن الله سينصرك، فاغفر لي ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً، فكان يحب العفو, والصفح عن المسيء .
جاء عكرمة مسلماً، من عكرمة؟ ابن أبي جهل، ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفنن عشرين عاماً للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال عليه الصلاة والسلام:
" يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت "
وكان عليه الصلاة والسلام صابراً في مواطن الشدة، وكان جريئاً في قول الحق .
غداً إن شاء الله :
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع فقه سيرته صلى الله عليه وسلم، ونحاول أن نستنبط منها الدروس والعبر التي تنفعنا في حياتنا، لأن هذا النبي الكريم جعله الله أسوة لنا، ومن لوازم أن يكون أسوة لنا أن نتعرف إلى سيرته ليكون الشخصية التي نمشي على طريقها .