- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
السنة النبوية من دعائم هذا الدين :
أيها الأخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية
ذلك لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، وصفاته ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده ، لذلك أقواله سنة ، وأفعاله سنة ، وإقراره سنة ، وصفاته سنة أي منهج ، والله عز وجل قال :
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾
أي أن كل كلمة قالها النبي عليه الصلاة والسلام وحي غير متلو ، لأن الله عز وجل يقول :﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾
أقواله تشريع ، لذلك هناك وحيان : وحي متلو ، ووحي غير متلو ، الأحاديث الشريفة وحي غير متلو ، وسلوكه وحي غير متلو ، وإقراره وحي غير متلو .لذلك أيها الأخوة ؛ أعداء المسلمين لا يستطيعون إلغاء هذا الدين ، إنه كالطود الشامخ ، ولكنهم يحاولون أن يقوّضوا دعائمه من الداخل ، والسنة النبوية من دعائم هذا الدين .(( أوتيت القرآن ومثله معه ))
وهناك من يقول : يكفينا القرآن الكريم ، مع أن القرآن الكريم يقول :﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
فالذي يكتفي بالقرآن الكريم يلغي القرآن الكريم ، لأن القرآن الكريم يأمرك أن تأخذ ما آتاك النبي ، وأن تنتهي عما عنه نهاك ، والقرآن الكريم يبين أن مهمة النبي لتبين للناس ما نزّل إليهم ، فكأن القرآن الكريم قانون ، وكأن السنة شرح لهذا القانون ، فإذا ألغينا الشرح ألغينا القانون .لذلك أيها الأخوة ؛ لا بد من أن نحتفي بسنة رسول الله قولاً ، وعملاً ، وإقراراً ، وصفات ، وأؤكد لكم أنه لو لم يكن إلا السيرة بين أيدينا لكانت منهجاً كافياً لنا ، إن أفعاله تشريع، وكما تعلمون أن كل واحد من الناس في حياته شخصية يكونها ، وشخصية يكره أن يكونها ، وشخصية يتمنى أن يكونها ، وهذا الدرس وهذه السيرة لمن ؟ قال تعالى :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
إذاً : أن تحتفي بمواقف النبي ، بإنسانية النبي ، برحمة النبي ، بعدل النبي ، بتواضع النبي ، بإنصاف النبي ، وأن تجعل نفسك تطمح أن تكون على طريقه ، وعلى خطاه فأنت مؤمن، أما إذا كنت لا تعنيك السيرة إطلاقاً فأنت تبحث عن شيء آخر ، أنت إذاً لا ترجو الله واليوم الآخر ، لأن الله عز وجل يقول :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
محبة النبي صلى الله عليه وسلم عين محبة الله :
أريد في هذا الدرس أن أقف قليلاً عند أهمية هذه السيرة النبوية العطرة ، الحقيقة هناك مثالية نجدها في الكتب ، قد نقرؤها ، ونعجب بها ، ولكنها لا تكفي لتحفيزنا إلا أن نطبقها، ما الذي يحفزنا إلى تطبيق السيرة ؟ حينما ترى أنك إنسان بشر .
(( إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :(( أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
إذاً : هو بشر ، ولأنه بشر ، ولأنه تجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر ، فما لم تكن طموحاتك ورغباتك متوجهة إلى أن تمشي على خطا النبي ففي الإيمان خلل ، وفي الإيمان ضعف ، وتكفيكم هذه الآية :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
بل إن الله جل جلاله لن يقبل دعوى محبته إلا بالدليل ، قال تعالى :﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
معنى ذلك أن الذي لا يفكر أن يتبع سنة النبي العملية ، ولا يفكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة له في حياته فهو بنص القرآن الكريم لا يحب الله :﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾
بل إن العلماء قالوا : إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم عين محبة الله ، وإن محبة الله عز وجل عين محبة النبي ، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه ﴾
بضمير المفرد ،﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ ﴾
بحسب قواعد اللغة ترضوهما ، لأن الله قال :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه ﴾
قال العلماء : إرضاء الله عز وجل عين إرضاء النبي ، وإرضاء النبي عليه الصلاة والسلام عين إرضاء الله ، ومحبة الله عين محبة النبي ، ومحبة النبي عين محبة الله ، لذلك محبة النبي فرع من محبة الله ، فالذي لا يحب النبي لا يحب الله ، والذي يحب النبي يحب الله .(( يا عمر كيف أصبحت ؟ قال : والله با رسول الله أصبحت أحبك أكثر من أهلي وولدي والناس أجمعين إلا نفسي التي بين جنبي ، قال : يا عمر لم يكمل إيمانك ، بعد حين جاءه وقال : الآن يا رسول الله أصبحت أحبك أكثر من أهلي ، وولدي ، ومالي ، حتى نفسي التي بين جنبي ، فقال عليه الصلاة والسلام : الآن يا عمر ))
الصلاة معراج المؤمن :
أيها الأخوة ؛ يقول بعض الصحابة الكرام ، وهو سيدنا سعد بن أبي وقاص : ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، وكلمة رجل في القرآن لا تعني أنه ذكر ، وفي السنة لا تعني أنه ذكر ، بل يعني القرآن بكلمة رجل أنه بطل .﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ﴾
﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾
فكلمة رجل لا تعني أنه ذكر ، تعني أنه بطل ، سيدنا سعد بن أبي وقاص استخدم هذا المعنى فقال : ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس - ما هذه الثلاثة ؟ - يقول هذا الصحابي الجليل : ما صليت صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أنصرف منها .(( الصلاة عماد الدين ))
من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين ، والصلاة معراج المؤمن .(( الصلاة ميزان ، فمن أوفى استوفى ))
من وفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها .أن تتابع المسلسلات ليلاً ثم تقوم كي تصلي العشاء تقف وتكبر تكبيرة الإحرام ، وتقرأ الفاتحة وسورة ، وتركع وتسجد ، لكن لا تستطيع أن تقبل على الله ، لأنه قيل :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن الــــعــــــــــلم نــــــــــور ونـور الله لا يُهدى لعاصـــي
***
ولكن ورد في بعض الآثار القدسية أنه :
(( ليس كل مصلّ يصلي ، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكف شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب كل ذلك لي ، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً ، والظلمة نوراً ، يدعوني فألبيه ، ويسألني فأعطيه ، ويقسم علي فأبره ، أكلأه بقربي ، وأستحفظه ملائكتي ، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها ))
النبي الكريم أسوة لنا :
قال سيدنا سعد : ثلاثة أنا فيهن رجل ، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس ، ما صليت صلاةً فشغلت نفسي بغيرها حتى أنصرف منها ، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول - ونحن قبل هذا الدرس صلينا على أحد الموتى المسلمين ، هل فكر واحد منا أنه لا بد من يوم يكون في نعش ، ويدخل إلى المسجد لا ليصلي ، بل ليصلى عليه ؟ وبعدها تذهب هذه الجنازة إلى مقبرة ، وبعدها يوضع في القبر ، ويحاسب عن كل شيء ؟- ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها . ورد في بعض الآثار أن الميت ترفرف روحه فوق النعش ، تقول : يا أهلي ، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعة عليّ .
ورد في بعض الأحاديث :
(( فو الذي نفس محمد بيده ما من بيت إلا وملك الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات ، فإذا رأى أن العبد قد انقطع رزقه ، وانقضى أجله ، ألقى عليه غمّ الموت فغشيته سكراته ، فمن أهل البيت الضاربة وجهها ، والصارخة بويلها ، والممزقة ثوبها ، يقول لهم ملك الموت : فيمَ الفزع ؟ ومم الجزع ؟ ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ، ولا قربت له أجلاً ، وإني لي فيكم لعودة ، ثم عودة ، حتى لا أبقي منكم أحداً ، فوالذي محمد بيده لو سمعوا كلامه ، ورأوا مكانه ، لذهلوا عن ميتهم ، ولبكوا على أنفسهم ))
(( لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاماً على شهوة أبداً ، ولا شربتم شراباً على شهوة أبداً ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به ، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم ، وتبكون على أنفسكم ))
ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها - ولكن الشاهد في الثالثة ، هنا الشاهد - ولا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حق من الله تعالى .﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
المؤمن الصادق إذا قرأ سيرة النبي كيف إذا دخل بيته ألقى على أهله السلام ، وكيف إذا دخل بيته كان بسّاماً ضحّاكاً وكيف يقول عن النساء :(( أكرموا النساء ، فوالله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً))
كيف كان عليه الصلاة والسلام في مهنة أهله ، يخصف نعله ، ويرفو ثوبه ، ويكنس بيته ، وكان في مهنة أهله .أنت كمؤمن يجب أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قدوة لك ، أسوة لك وهو في بيته ، وهو مع زوجاته ، وهو مع أولاده ، كان يقول عليه الصلاة والسلام :
(( علموا ، ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف ))
كان يسلم على الصبيان ، كان يداعبهم ، كان يقبلهم ، كان يحملهم وهو يصلي ، مرة كان على المنبر رأى ابن ابنته الحسين رضي الله عنه يتعثر في مشيته ، فنزل من على المنبر وحمله بيده ، وصعد به إلى المنبر ، هكذا كان مع الصغار .هكذا كان مع النساء مرة غضبت عائشة ، كسرت طبقاً على الأرض جاءها من صفية ، أصابتها الغيرة ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( غضبت أمكم ، غضبت أمكم ))
كان زوجاً ناجحاً ، كان أباً ناجحاً ، كان صديقاً وفياً ، كان جاراً .أيها الأخوة ؛ أردت بهذا الدرس أن نعرف أنه ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته ، في بيته ، مع أخوانه ، في مسجده ، ما لم يكن قدوة لنا فلسنا على ما ينبغي .صلى أعرابي وراء النبي ، أحد أصحابه أصابه عطاس ، فقال له في الصلاة : يرحمك الله ، فالصحابة الكرام ضربوا على أرجلهم بأيديهم ، أن هذا لا يكون ، فخاف هذا الأعرابي ، خاف أن يلقى تعنيفاً شديداً ، أو خاف أن يُضرب بعد الصلاة ، فأوجس خيفة ، فلما انتهى النبي من صلاته قال : تعال يا عبد الله ، إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس ، فقال هذا الأعرابي : بأبي هو وأمي ، والله ما عنفني ، ولا كهرني ، فقال له : اللهم ارحمنا ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( يا أخي ، لقد حجرت واسعاً ))
كان لطيفاً ، كان متواضعاً . دخل عليه رجل أصابته رعدة ، فقال له :(( هون عليك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة ))
كان مع أصحابه في سفر أرادوا أن يعالجوا شاة ، قال أحدهم : عليّ ذبحها ، وقال الثاني : عليّ سلخها ، وقال الثالث : عليّ طبخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب ، قالوا : يا رسول سلله نكفيك ذلك ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه .إذاً : أريد من هذا اللقاء الطيب حقيقة دقيقة ؛ وهي أنه ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لك ، وأسوة لك في حياتك ، فلستَ متّبعاً له .
النبي الكريم قدوة لنا في فقره و غناه و قهره ونصره :
في فقره : دخل عليه الصلاة والسلام بيته ، فقال :
(( هل عندكم من طعام ؟ ـ لا يوجد شيء إطلاقاً ـ قالوا : لا ، قال : فإني صائم ))
رأى زعيم قبيلة وادياً من الغنم لرسول الله فقال :(( لمن هذا الوادي ؟ قال : هو لك قال : أتهزأ بي ؟ قال : لا والله هو لك ، قال : أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر ))
هو قدوة لنا في فقره ، وقدوة لنا في غناه ، قدوة لنا في قهره ، في الطائف قهر والآن المسلمون يقهرون في العالم ، قال :(( يا رب ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي ))
سمح له أن ينتقم منهم ، جاءه ملك الجبال ، قال : يا محمد ، أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين ، قال : لا يا أخي ، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون .امتحن بالفقر فنجح ، امتحن بالغنى فنجح ، امتحن بالقهر فنجح ، امتحن بالنصر دخل مكة فاتحاً ، عشرة آلاف رجل يأتمرون بكلمة من شفته ، هؤلاء صناديد قريش الذين ناصبوه العداء عشرين عاماً ، وقتلوا أصحابه ، وحاربوه ثلاث مرات ، كان بإمكانه وهو القوي المنتصر أن يبيح المدينة لجيشه ، أو أن يلغي وجودهم ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
نجح بالنصر ، ودخل مكة فاتحاً ، وكادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل .الآن مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه ، قالوا : أتبكي ؟ قال :
((إن العين لتدمع ، وإن القلب ليخزن ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ))
امتحن نجح بامتحان موت الولد ، طُلقت بنتاه ، فامتحن فنجح بالامتحان ، اتهمه المنافقون بأن زوجته زانية ، في حديث الإفك ، فصبر ، حتى برأها الوحي من فوق سبع سماوات، لما برأها الوحي كان عنده الصديق فقال لابنته : قومي فاشكري رسول الله ، السيدة عائشة قالت : والله لا أقوم إلا لله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام ، وقال : عرفت الحق لأهله .أمسكه مرة أعرابي فظ غليظ من ثوبه حتى أثّر في عنقه الشريف ، قال : يا محمد هذا المال ليس مالك ولا مال أبيك أعطني منه ، فقال : صدق إنه مال الله :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
تسأله السيدة عائشة : كيف حبك لي ؟ الآن معظم الأزواج الجهلاء ، يقول لك : قصيرة ، لا يبقي عيباً إلا ويعيرها به ، فتنهدم العلاقة بينهما ، تسأله السيدة عائشة : كيف حبك لي ؟ يقول لها : كعقدة الحبل ، تسأله من حين لآخر : كيف العقدة ؟ يقول : على حالها متينة .حدثته مرة السيدة عائشة عن قصة لزوجين مثاليين ، أبو زرع وأم زرع ، كان أبو زرع شهماً ، شجاعاً ، كريماً . . .إلخ ، لكنها في نهاية القصة قالت له متأسفة : غير أنه طلقها ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( كنتُ لك لأبي زرع لأم زرع ، غير أني لا أطلقك ))
ما لم تكن سيرة النبي في مخيلتنا ، ما لم تكن هذه الشخصية الفذة ، شخصية النبي بأخلاقه ، بشمائله ، بتواضعه ، برحمته ، بإنصافه ، بعدله أمامنا نبراساً لنا ففي الإيمان ضعف وخلل .أيها الأخوة الكرام ؛ كان إذا صلى صلاة الفجر كان يقرأ آيات كثيرة ، لكن مرة سمع غلاماً يبكي ، فاختصر الصلاة ، وسلم سريعاً ، تعجب أصحابه فقال : سمعت بكاء صغير ينادي أمه ببكائه ، فرحمتها .
(( ليس منا من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه ))
هكذا قال عليه الصلاة والسلام ، فيا أيها الأخوة ، ليس القصد أن نستمع لهذه الأخبار عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، القصد أن تترجم هذه السيرة إلى واقع نعيشه .معرفة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم :
لذلك النقطة الدقيقة جداً أن معرفة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم ، السبب أن هناك قاعدة أصولية تقول : ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، الصلاة تتم من دون وضوء ؟ الصلاة فرض والذي لا يتم إلا به فهو فرض أيضاً ، الوضوء فرض ؟ إذا قال الله لعباده المؤمنين :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
بصراحة كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا إن لم نعرف سيرته ؟ كيف تعالج ضغطك المرتفع وهو القاتل الصامت إن لم تعرف أنك مصاب بالضغط ؟ تماماً معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم ، لأن الله يقول :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
ولا يمكن أن يكون النبي أسوة لنا إلا إذا عرفنا ماذا فعل ، كيف أكل ، كيف نام ، كيف عامل زوجته ، كيف عامل أخوانه ، كيف عامل أولاده .لذلك أيها الأخوة ؛ معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم، كما أن معرفة سنة النبي القولية فرض عين على كل مسلم ، الدليل قوله تعالى :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
كيف نأخذ ما آتانا إن لم نعرف ما آتانا ؟ وكيف ننتهي عمن عنه نهانا إن لم نعرف ما الذي عنه نهانا ؟ فما لا يتم الواجب به فهو واجب ، وما لا يتم الفرض به فهو فرض ، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة .ضرورة حضور دروس فقه السيرة لمعرفة أخلاق النبي الكريم :
إذاً : حضور درس فقه السيرة النبوية للمؤمن ضروري جداً كي يعرف كيف كانت أخلاق النبي في بيته .أحيانا يخطب إنسان فيتحدث عن شخص له مكانة ، له منصب ، بجفاء ، بقسوة ، باسمه فقط ، ويظن أن هذا إيمان ، لا ، النبي أرسل رسالة إلى قيصر ملك الروم ، فقال :
(( من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم ))
هو قيصر ليس عظيماً عند النبي ، لكن هذا لقب ، فأنت حينما تكون قريباً تتبع سيرة النبي عليه الصلاة والسلام .أنا أريد أن أقول : يمكن أن تتعلم من السيرة كل شيء ، آداب الطعام والشراب ، ما رئي ماداً رجليه قط ، هو سيد الخلق وحبيب الحق ، ما رئي ماداً رجليه قط ، طبعاً أحياناً يكون الإنسان معذوراً ، هذا وضع آخر ، أما من دون عذر فما رئي كذلك .
ما ذم طعاماً قط ، فإذا قدّم لك شخص دعوة لطعام ، وقد تعب في تحضيره ، فلا تقل له : الطعام ليس طيباً ، إنها منتهى الغلظة ، ومنتهى الفظاظة ، ما عاب النبي طعاماً قط أبداً .
ما عامله أحد أصحابه إلا ظن أنه أقرب الناس إليه ، هذه بطولة ، أبو بكر مني كالسمع والبصر ، وما ضرّ عثمان ما فعله بعد اليوم ، وخالد سيف الله ، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة ، والزبير بن العوام حواري هذه الأمة ، ما من صحابي إلا وخصه بوصف ، لذلك ما عامله أحد من أصابه إلا ظن أنه أقرب الناس إليه .
(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))
هذا خالي فأروني خالاً مثل خالي .هذا من سيرته ، مع زوجاته الطاهرات كان زوجا ناجحاً جداً ، وكان يعدل بينهن ، وكان صادقاً ، كانت حينما تقول له السيدة عائشة وقد ضجرت من كثرة ثنائه على خديجة وقد توفاها الله ، قالت له : ألم يبدلك الله خيراً منها ؟ قال : لا والله ، صادق ، لا والله ، لا والله .
يا أيها الـأخوة ، الذي أريده أن نترجم مواقف النبي في خصوصياته في بيته ، في بيعه ، في شرائه ، مع أخوانه ، مع أصحابه ، في الحرب والسلم إلى واقع نعيشه .
اعتماد سيرة النبي طريق خلاص المسلمين :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
هذه الآية واضحة جداً في حياة النبي ، لكن ما معنى الآية بعد موت النبي ؟ أي يا محمد ما دامت سنتك قائمة بعد موتك في حياتهم ، وفي بيوتهم ، وفي أعمالهم ، وفي مساجدهم، وفي بيعهم ، وفي شرائهم ، وفي كسب أموالهم ، وفي إنفاق أموالهم ، وفي احتفالاتهم ، وفي مسراتهم ، وفي أحزانهم ، فهم في بحبوحة من عذاب الله .﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
إذاً : نحن حينما نقصر في تطبيق السنة ، ونستغفر فنحن في بحبوحة ، وحينما نطبق السنة فنحن في بحبوحة ، وطريق خلاص المسلمين الآن أن يعتمدوا سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ويطبقوها في حياتهم فلعل الله يرحمهم .