- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠2فقه السيرة النبوية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
إليكم هذه المقدمة التي تتحدث عن فلسفة الأشياء:
أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية
درجت كتب السيرة أنها تتحدث بعد الوحي الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم عن فحوى الدعوة الإسلامية، لذلك هذا الدرس مخصص لإلقاء الضوء على مضامين هذه الدعوة الإسلامية.
كمقدمة فلسفية: الجماد شيء يشغل حيزاً له أبعاد ثلاثة، له طول وعرض وارتفاع، وله وزن، أليس كذلك؟ أما النبات فشيء يشغل حيزاً، وله أبعاد ثلاثة، وله وزن، لكنه ينمو, أما الحيوان فشيء يشغل حيزاً، وله أبعاد ثلاثة، وله وزن، ينمو ويتحرك, أما الإنسان فشيء يشغل حيزاً، وله أبعاد ثلاثة، وله وزن، ينمو، ويتحرك، ويفكر.
لذلك ميز الله الإنسان بالقوة الإدراكية، وما لم يلبِ الإنسان حاجة عقله إلى العلم هبط من مستوى إنسانيته إلى المستوى الذي لا يليق به.
ماذا تعني كلمة اقرأ ؟
أيها الأخوة, أول كلمة نزلت من القرآن الكريم، وأول كلمة جاء بها الوحي, هي قوله تعالى:
﴿اقْرَأْ ﴾
أي تعلم، لأن الإنسان خُلق ليعرف الله، الدليل:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
علة وجودك في الأرض أن تعرف ربك من خلال خلقه، قال تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾
لذلك أول كلمة نزلت بالوحي، هي قوله تعالى:
﴿اقْرَأْ ﴾
إن أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإن أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإن أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.
أيها الأخوة، أزمة أهل النار وهم في النار, هي الجهل, قال تعالى:
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
لأن كل إنسان مجبول على حب وجوده، وعلى حب سلامة وجوده، وعلى حب كمال وجوده، وعلى حب استمرار وجوده، ولا يتحقق هذا إلا إذا طبق تعليمات الصانع, الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تُتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة، قال تعالى:
﴿اقْرَأْ ﴾
ينبغي على المسلم أن يتجه نحو العلم الذي يفضي به إلى معرفة ربه وخدمة دينه:
أيها الأخوة, الآن بالعالم يطبع في اليوم الواحد من الكتب بلغة واحدة لا نستطيع أن نقرأها في 200 عام، ماذا نقرأ؟ قال تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
يجب أن يكون الهدف أن تؤمن بالله، ليس هناك علم من أجل العلم فقط، العلم من أجل أن تعرف الله، وأن تعبده، وأن تسلم، وتسعد في الدنيا والآخرة, قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
هذه القراءة الأولى، ما لم تكن القراءة تتجه نحو الإيمان بالله فلا قيمة لهذه القراءة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع, ومن أذن لا تسمع، وأعوذ بك من هؤلاء الأربع ))
(( دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسجده، فإذا رجل تحلق الناس حوله، سأل سؤال العارف, من هذا؟ قالوا: هذا نسابة، فقال: وما نسابة؟ قالوا: يعرف أنساب العرب، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك علم لا ينفع من تعلمه، ولا يضر من جهل به))
إذاً: ما لم يكن الهدف من طلب العلم الإيمان بالله، الإيمان بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، الإيمان بالله موجوداً، وواحداً، وكاملاً، الإيمان بأن أسماء الله تعالى حسنى، وأن صفاته فضلى، فهذا العلم لا يُعتد به، بل هو حرفة من الحرف، أبداً.
عندنا حِرف يدوية، وعندنا حِرف فكرية، آلاف الحِرف تعتمد على الفكر، لكن العلم الذي أراده الله عز وجل هو العلم به، العلم الذي يسمو بالإنسان.
أقسام العلوم التي تتعلق بالذات الإلهية وبيان أشرفها:
أيها الأخوة، هناك علم بخلقه، وهناك علم بأمره، وهناك علم به، فالعلم بخلقه اختصاص جامعات العالم، الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والمنطق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، والطب، والهندسة، والفلك، والجغرافيا، والتاريخ, واللغة، واللغات الأجنبية، وجامعات العالم متخصصة في هذه العلوم
أما العلم بأمره هو معرفة الحلال والحرام، وأحكام الفقه، والأحوال الشخصية، وفقه البيوع، وفقه المواريث، هذا العلم بأمره من اختصاص كليات الشريعة في العالم الإسلامي، أما العلم به فهو شيء آخر، العلم به يقتضي المجاهدة، ولا يقتضي المدارسة، العلم بخلقه، والعلم بأمره, يقتضيا المدارسة، وقد قال بعض العلماء الكبار: " جاهد تُشاهد ".
أنت حينما تطبق منهج الله عز وجل، وحينما تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وحينما تضبط إنفاقك وإيرادك، وحينما تضبط جوارحك، وحينما تضبط بيتك، وحينما تضبط عملك، عندئذٍ يسمح الله لك أن تعرفه معرفة تسعد بها في الدنيا والآخرة.
مضامين الدعوة الإسلامية هي:
1- قراءة بحث الإيمان:
أيها الأخوة, قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
العلم لا مبرر له إلا أن يكون وسيلة لمعرفة الله، ثم لطاعته، ثم للسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة، هذه القراءة الأولى القراءة الإيمانية, قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾
الغرب كله مع النعمة، لكن المؤمن مع المنعم، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
من خلق الإنسان؟ من خلق الحيوان؟ من خلق النبات؟ الشجرة تعمل بصمت، بلا صوت، وبلا دخان، وبلا ضجيج، تعطيك ثمار شهية بألوانها، وروائحها, وحجمها، وقوامها، وفائدتها، من خلق البقر؟ تعطيك الحليب ومشتقاته, من خلق الفواكه والثمار؟ من خلق السموات والأرض؟ من خلق النجوم؟ من خلق الأطيار؟ من خلق الأسماك؟ من خلق أنواع النباتات؟ من خلق هذا الطفل الذي يملأ بيتك فرحة؟ من خلق هذا؟ قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
هذا الخلق يدل على علم، وعلى حكمة، وعلى رحمة، وعلى قدرة، وعلى جمال، إذاً: ينبغي أن تتفكر في خلق السموات والأرض، ينبغي أن تقف عند هذه الآيات.
أخواننا الكرام، مثل واضح جداً أن الإنسان إذا كان فقيراً، ولم يتح له في كل حياته أن يلعق لعقة عسل واحدة، لكنه قرأ كتباً عن النحل ففاضت عيناه بالدموع من عظمة الله عز وجل في خلق النحل والعسل، هذا الإنسان الفقير الذي لم يذق طعم العسل حقق الهدف الأول من خلق النحل والعسل، لأنه تعرف من خلالهما إلى الله، والذي كان غنياً مترفاً، وأكل من العسل كميات كبيرة، ولم يعرف ربه من خلال خلقه فهذا عطل الهدف الأكبر من خلق النحل والعسل، فلذلك لما النبي عليه الصلاة والسلام رأى هلالاً, قال:
(( هلال خير ورشد))
انظر إلى آيات الله في جسمك أيها الإنسان:
1- في موضوع أصل التكوين:
قد تقول: أنا كيف أعرف المجرات؟ هناك 230 ألف مليار مجرة، أرقام يصعب تصديقها، وكل مجرة فيها ملايين الملايين، والكون لا نهاية له، وبعض المجرات تبعد عنا 20 مليار سنة ضوئية، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
نقول لك: أنت ينبغي أن تتعرف إلى الله من خلال خلقه، ولكن عندك آية بين جنبيك, هي قوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾
ألست متزوجاً؟ تقول: نعم، عندك أولاد؟ تقول: نعم، هذا الابن, كيف أصبح طفلاً سوياً؟ في اللقاء الزوجي, الإنسان يفرز أكثر من 300 مليون نطفة إلى 500 مليون، والنطفة الواحدة لا ترى بالعين، تحتاج إلى مجهر، نطفة واحدة تدخل إلى بويضة، والبويضة حجمها كحجم حبة الملح، ضع لعابك على طرف إصبعك، وضعه على ملح بأقل ضغط، ترى حبات صغيرة لا ترى بالعين المجردة، البويضة حجمها كحجم حبة الملح، والنطفة أصغر بكثير، فهذا المخلوق آية من آيات الله التي تدلك على معرفته.
2- في الدماغ:
دماغ 140 مليار خلية سمراء استنادية لم تعرف وظيفتها بعد، على 14 مليار خلية قشرية، على 300 ألف شعرة، على 130 مليون عصية ومخروط بشبكية العين، على 800 ألف عصب بالعصب البصري، على 35 مليون عصارة هاضمة بالمعدة على طريق في الكليتين طوله 100 كيلومتر، مليون نترون، على أوعية دموية طولها 150 ألف كيلومتر، على أسناخ رئوية مساحتها 200 متر مربع, قال تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾
- في الشعر:
يا أيها الأخوة الكرام، ما هذه الحكمة الرائعة أن الإنسان ليس له أعصاب حسية في شعره؟ لو فيه أعصاب حسية بشعره, أين يذهب؟ إلى المستشفى، اعمل عملية حلاقة، لأنه تحتاج إلى تخدير كامل، ألا تنظر إلى حكمة أن الشعر ليس به أعصاب حس، توزع الأعصاب، شيء لا يحتمل، هناك شعر في الأنف، لكن ليس بالفم شَعر، فكرت في هذا, لو في الفم شعر شيء لا يحتمل، وحلاقته صعبة، يمكن أن يقص لسانه الحلاق في أثناء الحلاقة، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾
4- في بقية أعضاء الجسد:
أيها الأخوة, هذه المثانة، لو ما فيها عضلات لاحتاج الإنسان إلى إفراغها إلى ربع ساعة، وقد لا يستطيع
أما بالعضلات ففي دقائق، حكمة بالغة، لو أمضينا سنوات في الحديث عن حكمة خلق الإنسان لا ننتهي, قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾
بالميليمتر مربع في العين مئة مليون مستقبل ضوئي، بينما أعلى آلة تصوير رقمية احترافية في الميليمتر مربع عشرة آلاف مستقبل ضوئي، فالله عز وجل قال:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
علقة، طفل، دماغ، عينان، أذنان، أنف، فم، لسان, مريء، لو علقت إنسانًا من رجليه، ثم سقيته الماء، الماء ينتقل إلى المعدة، عن طريق العضلات بالمريء، تتقلص بشكل متزامن، فتنقل الماء إلى المعدة، وأنت نائم نوم عميق تأتي إشارة من الفم أن اللعاب كثر، إشارة إلى الدماغ، الدماغ مستيقظ، يتخذ قرار إغلاق القصبة الهوائية، وفتح المريء، يبلع ريقه، وهو نائم, كم مرة؟ مئات المرات، أما عند طبيب الأسنان, فيقول لك: افتح فمك، الريق ينزل، يضع لك شراقة
وأنت نائم تأتي إشارة من العضلات التي تحت الجهاز العظمي أنه انضغطنا، الأوعية ضاقت، ضعفت التغذية، يأتي أمر للعضلات الإنسان يتقلب على جهة ثانية، الله قال:
﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾
لولا التقلب لنسلخ لحم الإنسان، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
هذه القراءة قراءة الإيمان، إذاً: العلم في خدمة الإيمان، قال تعالى:
﴿اقْرَأْ﴾
2- قراءة شكر وعرفان:
القراءة الثانية: قراءة شكر وعرفان, قال تعالى:
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾
لا شك أن أحد أخواننا الكرام فتح كتابًا، وقرأ أنه تم طبعه في عام 1932، هو ولد 1938، في أثناء طبع هذا الكتاب كان شيء في الأرض اسمه سعيد نورسي؟ لا, قال تعالى:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
كلنا جميعاً لنا وجود, لنا قيد نفوس بالنفوس؟ معنا هويات، الله عز وجل منحك نعمة الإيجاد، ثم منحك نعمة الإمداد، أمداك بالطعام والشراب والدفء، وما شاكل ذلك، فهناك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾
القراءة الأولى قراءة بحث وإيمان، القراءة الثانية قراءة شكر وعرفان، إذاً: من أجل أن تتعلم من أجل أن تؤمن، وأن تتعلم من أجل أن تشكر.
أنت حينما تؤمن، وحينما تشكر, حققت الهدف من وجودك، لذلك قال تعالى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
إذا آمنتم، وشكرتم, يتوقف العلاج الإلهي، تتوقف المصائب، يتوقف كل شيء، لأنك إن حققت الهدف من وجودك فلا داعي لكل المصائب.
ما المقصود بكلمة البيان في الآية , ومن أجل ماذا ؟
أيها الأخوة, لكن الله من أجل أن تعرفه منّ عليك بنعمة البيان, قال تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ *عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
البيان أن تُعبر عن حاجاتك، وعن أفكارك، وعن مشاعرك شفهياً، هذا البيان الشفهي، والبيان أن تتلقى أفكار الآخرين ومشاعرهم، وحاجاتهم شفهياً، هذا الاستماع، لكن الإلقاء والاستماع يحتاج إلى لقاء، لكن أنت حين تكتب مقالاً، أو تؤلف كتاباً، يأتي إنسان لم يلتقي بك، لكنه قرأ كتابك فانتفع به، قال تعالى:
﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾
بالقلم تتنقل المعارف من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، وبالترجمة تنتقل المعارف من أمة إلى أمة، كلمة بليغة جداً, قال تعالى:
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾
أعطاك البيان، كم لغة في الأرض؟ ثلاثة آلاف لغة، الإنجيل إلى كم لغة مترجم؟ إلى 1300 لغة، القرآن الكريم إلى كم لغة مترجم؟ إلى 30 لغة فقط، وحي السماء، أرأيت إلى عنايتهم بكتابهم، وإلى تقصيرنا بكتابنا، قال تعالى:
﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾
هذه قراءة شكر وعرفان.
3- قراءة وحي وإذعان:
القراءة الثالثة: قراءة وحي وإذعان، من أين نأتي بها؟ قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
أنت إذا نظرت إلى الشمس تعلم أن لها خالقاً، لكن أحكام الزكاة, من أين أتتنا؟ من الوحي، أحكام الزواج, من أين أتتنا؟ من الوحي، المحرمات من النساء, من أين أتانا ذلك؟ من الوحي، المحرمات من الطعام؟ من الوحي، العبادات، أداء الصلوات، أحكام الحج, أحكام العمرة، المعاملات، القرض، الحوالة، الكفالة، من الوحي، فأنت ينبغي أن تقرأ قراءة بحث وإيمان، ثم ينبغي أن تقرأ قراءة شكر وعرفان، ثم ينبغي أن تقرأ قراءة وحي وإذعان, فمضمون الدعوة, هي قوله تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
أهمية الوحي في حياة الإنسان:
أخواننا الكرام، أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به بالوحي، أنت عندك محل تجاري، وبحاجة إلى ميزان، فاشتريت ميزانا من أرقى الأنواع، لكن هذا الميزان مصمم لمحل تجاري من خمسة غرامات إلى خمسة كيلو، خطر في بالك أن تزن به سيارتك، وضعته بالأرض، ومشيت فوقه، كسرته، أخي لم يشتغل هذا الميزان؟ أنت استخدمته بخلاف تعليمات الصانع، هذا الميزان محدود من خمسة غرامات إلى خمسة كيلو، سيارتك وزنها طن وربع، الشركة الصانعة محترمة جداً، كتبت لها وزنها على مكان بالسيارة، قالت لك: 1392 كيلو وزنها, فأي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به, قال تعالى:
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
4- قراءة عدوان وطغيان:
القراءة الرابعة: قراءة عدوان وطغيان، قنبلة خارقة حارقة، لو ألقيناها على ملجأ سماكته متر اسمنت مسلح، تخرق هذه المسافة، وتحترق في داخل الملجأ، تقتل ألف واحد، خارقة حارقة، هناك قنبلة انشطارية، هناك قنبلة ذكية هناك سلاح جرثومي، هناك سلاح كيميائي، هناك صواريخ مدمرة، هذا العلم علم إفناء البشرية، علم السيطرة على الكون، علم نهب الثروات، هذا علم أيضاً، لكن وراءه شياطين، وراءه وحيد القرن، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾
نموذج طرحه القرآن من الأقوام الطاغية الذين أفسدوا الأرض وأهلها:
الله عز وجل أعطانا أنموذجاً لقوم طغاة، نموذج متكرر، إنهم قوم عاد, قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
تفوقوا في شتى المجالات، جيش قوي، فن واسع جداً لإفساد أهل الأرض، على المطارات، على الطرقات، على المعامل، على الاقتصاد، على عملة غالية جداً، قال تعالى:
﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
مع التفوق في شتى المجالات غطرسة, قال تعالى:
﴿وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾
الله عز وجل ما أهلك قوماً إلا وذكرهم أنه أهلك من أشد منهم قوة، إلا عاداً حينما أهلكها قال:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾
يعني ما كان فوق عاد إلا الله، أعطانا الله مثلا، ماذا فعلت عاد؟ قال:
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
عندهم أداتان فعالتان، عندهم قصف، وعندهم إفساد بالأفلام، جهة شكلها خماسي تقصف، وجهة نساء كاسيات عاريات لإفساد البشر، هل أفسدوا بلادهم؟ لا، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ﴾
كلها، ليس في بلادهم، دقق في كلام الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
سرعة الريح الآن كم؟ 160، لا تبقي ولا تذر, قال تعالى:
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾
طيب، ماذا فعلوا؟ قال:
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوق عمراني يفوق حد الخيال، وتفوق صناعي يفوق حد الخيال، قال:
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾
تفوق عسكري يفوق حد الخيال، تفوق علمي يفوق الخيال, قال تعالى:
﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾
من تفوق عمراني، إلى تفوق صناعي، إلى تفوق عسكري، إلى تفوق علمي، إلى غطرسة، إلى إفساد وطغيان، إلى تفوق في شتى الميادين.
هناك إشارة دقيقة جداً، قال تعالى:
﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى ﴾
معنى ذلك هناك عاد ثانية، ترونها وتسمعون أخبارها كل يوم، وهي أتت من أجل الحرية والديمقراطية طبعاً، فلذلك قوم عاد في القرآن يمثلون الأمم الطاغية متفوقون في العلم كثيراً، ما نوع علمهم هذا؟ من النوع الرابع، هذا العلم الذي يعد جريمة في حق الإنسان.
احذر يا عبد الله من الغفلة عن صراط ربك:
أيها الأخوة الكرام، هذا مضمون سورة اقرأ التي نزلت أول ما نزلت من وحي السماء, قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
لكن الإنسان حينما يغفل عن الله عز وجل, يقول الله عز وجل:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾
﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
الإنسان في قبضة الله، في أية لحظة هو في قبضة الله، قال تعالى:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
إذا استغنى عن طاعة الله يطغى، فلذلك قال تعالى:
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾
أصناف البشر:
1- صنف صدق بالحسنى وعمل لها:
أخواننا الكرام، صدقوا أن البشر الآن على اختلاف مللهم، ونحلهم، وألوانهم، وأعراقهم, وأجناسهم، ومذاهبهم، وطوائفهم، ودياناتهم، لا يزيدون عن نموذجين، أول نموذج, هو قوله تعالى:
﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
يصدق أنه مخلوق للجنة، فبناء على هذا التصديق اتقى أن يعصي الله، وبناء على هذا التصديق بنى حياته على العطاء، يعطي كل شيء، يعطي وقته، وماله، وجهده، وخبرته، ووقته من أجل الله، وبناء على هذا التصديق بنى حياته على العطاء الرد الإلهي, قال تعالى:
﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
الله يختار له شكل معين, قدرات معينة، جنس معين، أب معين، أم معينة، حرفة معينة، دخل معين، إمكانات معينة، كي تكون له عون على بلوغ الجنة.
2- صنف كذب بالحسنى ولم يعمل لها:
النموذج الثاني, هو قوله تعالى:
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
هذا النموذج الثاني كذب بالحسنى، وصدق الدنيا، الدنيا هي كل شيء عندهم، هي محط رحالهم، ونهاية آمالهم، بناء على هذا التكذيب بالآخرة والتصديق بالدنيا استغنى عن طاعة الله، وبناء على هذا التكذيب بالآخرة والتصديق بالدنيا بنى حياته على الأخذ.
إذاً: يبني مجده على أنقاض الآخرين، ويبني قوته على ضعفهم، ويبني أمنه على خوفهم، ويبني غناه على فقرهم، ثم يبني حياته على موتهم، هذا الإنسان يسير لخلاف ما خلق له، يسير إلى الشقاء في الدنيا, والهلاك في الآخرة.
خاتمة الدرس:
أيها الأخوة, قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾
هذه السورة أول سورة نزلت من وحي السماء، وفيها إشارات إلى مضامين الدعوة الإسلامية.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتقل في درس قادم إلى الدعوة السرية، أول ما بدأت سرية إلى أن مكن الله المؤمنين، وأصبحت دعوة جهرية.