- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين... يا رب أنت غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فحاشا يا رب أن نفتقر في غناك، وأن نضل في هداك، وأن نذل في عزك، وأن نضام في سلطانك، فما من مخلوق يعتصم بك من دون خلقك، فتكيده أهل السماوات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دونك، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه.
الحمد لله الذي كتب البلاء على عباده المؤمنين، أحمده سبحانه إذ جعل أشد الناس بلاء الأنبياء والمرسلين.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد الصابرين أفضل ما أعده لعباده المتقين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، قدوة الصابرين، وإمام الشاكرين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
المحاضرة التي ألقاها البابا بينيدكت السادس عشر على مدرج جامعته في ألمانيا:
موضوع الخطبة اليوم هو الموضوع الساخن، فقد ألقى البابا بينيدكت السادس عشر الحالي محاضرة على مدرج جامعته في ألمانيا يوم الثلاثاء الواقع في الثاني عشر من أيلول الجاري، قال فيها:
إنّ العقيدة الإسلامية تقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل ولا المنطق. ثم إن محمداً لم يأت إلا بما هو سيئ وغير إنساني، كأمره بنشر الإسلام بحد السيف.
وقبل تقديم الإضاءة الإسلامية لما انطوت عليه كلمات البابا أضع بين أيدي الأخوة الحاضرين، والمستمعين الحقائق التالية:
الحقائق التالية هي إضاءات إسلامية لما تحتاجه هذه المحاضرة :
1 ـ مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن :
التعاليم القرآنية، والتوجيهات النبوية، تمنعنا أن نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وسألتزم الأدب النبوي حينما أرسل النبي الكريم رسالة إلى قيصر ملك الروم، فقال له فيها: من محمد رسول الله إلى عظيم الروم.
2 ـ القصد من هذه الخطبة التوضيح والبيان :
ليس القصد من هذه الخطبة التي تلقى في هذا المسجد الأموي الكبير التجريح أو النيل من شخصية دينية في العالم الغربي، إنما القصد التوضيح والبيان وهذه أمانة العلماء، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
3 ـ تمتع المسلمون والمسيحيون في بلادنا بنوع من التفاهم والتعايش :
يتمتع المسلمون والمسيحيون في بلادنا بنوع من التفاهم والتعايش والتعاون قل مثيله في بلدان أخرى، قال تعالى:
﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾
4 ـ المسيحيون في بلادنا عبروا عن أسفهم
المسيحيون في بلادنا عبروا عن أسفهم الشديد ، وعن استنكارهم الأكيد للكلمات التي أدلى بها بابا الفاتيكان، فلا يؤخذ أحد بجريرة أحد، والتعميم من العمى، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
5 ـ ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية :
وقد تناقلت وسائل الإعلام العالمية تصريحاً للبابا أنه لم يقصد الإساءة للمسلمين، وأنه تأسف أشد الأسف لما حصل من تداعيات لكلماته.
6 ـ رفض اللجوء إلى العنف :
ونحن في هذا البلد الطيب نرفض أشد الرفض اللجوء إلى العنف، فرد الفعل الانفعالي ضار مثل الفعل تماماً؛ فالفكرة ترد بالفكرة، والقول بالقول، والتصريح المعلن بالتصريح المعلن، والمحاضرة بالمحاضرة، والحوار بالحوار.
وقد نقل قداسة البابا هذه المقولة متبنياً لها عن الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني في كتاب أصدره في القرن الرابع عشر الميلادي، وهي مقولة افتراء على الإسلام ظالمة وقديمة لم ينطلق فيها من دراسة موضوعية بل من انطباع شخصي انفعالي، مع أن قداسة البابا يحمل دكتورا في مقارنة الأديان، ولا تغيب عنه حقيقة الدين الإسلامي.
تصريحات البابا لا تخدم السلام في العالم ولا حوار الحضارات :
الخطورة في هذا الخطاب البابوي، أنه غير معهود، وغير مسبوق، وقد خالف فيه أصول الخطاب والحوار، وخالف فيه الحقيقة والواقع، وخالف فيه سياسة سلفه الراحل، فقد كنا نعتقد أن الحبر الأعظم هو أبعد جهة في الغرب عن أن تسيس الدين لمصلحة الأقوياء، وعن أن تقدم الغطاء الديني من أعلى مرجعية مسيحية للعدوان الغاشم الذي يقوده الغرب على العالم الإسلامي، كما يقدم عندنا بعض المفتين في العالم الإسلامي الغطاء الإسلامي لمواقف وتصرفات حكامهم.
فمثل هذه التصريحات... لا تخدم السلام في العالم، ولا حوار الحضارات، ولا التعايش السلمي بين الأديان.
فليس مسموحا عندنا - نحن المسلمين - أن يتبوأ رجل درجة الإمامة العظمى ويبلغ أعلى منصب ديني، ثم لا يعرف أبسط الحقائق عن الأديان السماوية الأخرى، وفق منهج علمي، يمنحه الحق فيما بعد، أن يكون مجادلاً بالتي هي أحسن.
مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل لمثل هذه الاتهامات الظالمة :
وكالعادة... بدأت ردود الفعل في العالم الإسلامي، بالشجب، والاستنكار، والمطالبة بالاعتذار... ونحن نعتقد أن هذا الأسلوب لا يليق بأمة لها شهودها على الأمم، وفيها أكثر من مليار وخمسمئة مليون، أن تكتفي بهذه المطالبات؛ بل أعتقد أن طلب الاعتذار والتوضيح وحده يقزّم حجمنا، ويقلل من قدسية ديننا، ولا يعني ذلك اللجوء إلى العنف، بل يعني أن ننهض لمقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، فهذا من حقنا، بل هو واجب علينا، فمثل هذه الاتهامات الظالمة للإسلام؛ بالعنف، والتطرف، والفاشية، والإرهاب، التي تصدر من كتاب وصحفيين من الصف الرابع ألفناها ومللناها، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به، ولكن العجب العجاب أن تصدر هذه الاتهامات الظالمة من أعلى سلطة سياسية العالم الغربي، ومن أكبر مرجعية دينيةً فيه.
استشهاد قداسة البابا بمقولة ملك جاهل حاقد :
استشهد قداسة البابا بمقولة ملك جاهل حاقد، أن النبي محمداً لم يأت إلا بما هو سيئ وغير إنساني.
1 ـ هل من السيئ التعريف الرائع بمعجزة ميلاد السيد المسيح ؟
هل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم التعريف الرائع بمعجزة ميلاد السيد المسيح:
﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾
2 ـ هل من السيئ التعريف الكريم الودود بالشخصية الوجيهة بالسيد المسيح ؟
هل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم التعريف الكريم الودود بالشخصية الوجيهة بالسيد المسيح:
﴿ إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾
3 ـ هل من السيئ التعريف بإعجاز نبوة المسيح ورسالته ؟
هل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: التعريف بإعجاز نبوة المسيح ورسالته:
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾
4 ـ هل من السيئ التعريف بالإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا المسيح ؟
هل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: التعريف بالإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا المسيح:
﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾
5 ـ هل من السيئ تمجيد أم المسيح الصدّيقة مريم وترسيخ اليقين بطهرها ؟
وهل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: تمجيد أم المسيح الصدّيقة مريم والدفاع عنها، ورفع ذكرها في الكتاب، وترسيخ اليقين بطهرها:
﴿ وَإِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾
6 ـ هل من السيئ أنه وصف صنفاً من أهل الكتاب بالتقوى والصلاح ؟
وهل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: أنه وصف صنفاً من أهل الكتاب، بالتقوى والصلاح، فقال تعالى:
﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ*يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
7 ـ هل من السيئ أن جعل رسول الإسلام الإيمان بالمسيح عيسى بن مريم من أركان؟
وهل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: أن جعل رسول الإسلام الإيمان بالمسيح عيسى بن مريم من أركان الإيمان في الدين الإسلامي، ومدخلا إلى الجنة فقال عليه الصلاة والسلام:
((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وأن عيسى عبدُ الله ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنةُ والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل))
وقوله صلى الله عليه وسلم:
((أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ورؤيا أمي آمنة))
8 ـ هل من السيئ أن وصف العلاقة بين رجال الدين في الديانتين بأنها مبنية على المودة؟
وهل من السيئ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أن وصف العلاقة بين رجال الدين، في الديانتين، بأنها مبنية على المودة والتقدير، فقال تعالى:
﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
أي سوء في هذا العدل، والإنصاف، والكمال، والجمال، والذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ؟.. وأي عقل وأي منطق هذا الذي يحول الحسن إلى قبح، والكمال إلى نقص، وتوقير السيد المسيح وأمه ودينه إلى إساءات غير إنسانية؟!
*****
مايكل هاردت جعل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام على رأس المئة من عظماء العالم.
كنا ـ نحن المسلمين ـ نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على كتاب المئة الأوائل في تاريخ البشرية الذي ألفه الباحث الفلكي الأمريكي مايكل هاردت عام ألف وتسعمئة وثمانية وسبعين وهو كاثوليكي المذهب، بعد أن قرأ عن عظماء العالَم الشيء الكثير، واختار من عظماء العالَم في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً، آلاف الشخصيات، واختار من الآلاف مئةً عَدَّها من الأوائل، وجعل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام على رأس هذه المئة، بحسب المقاييس التي وضعها وهي: قوة التأثير، ونوع التأثير، واتساع رقعة التأثير، وامتداد أمد التأثير، هذه المقاييس طبَّقها على هؤلاء المئة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في طليعتها.
الفيلسوف الروسي تولستوي الذي انبهر بشخصية النبي صلى الله عليه و سلم.
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه الفيلسوف الروسي تولستوي الذي انبهر بشخصية النبي صلى الله عليه و سلم و ظهر ذلك واضحاً على أعماله فيقول في مقالة له بعنوان من هو محمد: إن محمداً هو مؤسس و رسول و كان من عظماء الرجال الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، و يكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق و جعلها تجنح إلى السكينة و السلام و منعها من سفك الدماء وفتح لها طريق الرقي و المدنية و هو عمل عظيم لا يقدم عليه إلا شخص أوتي قوة و رجل مثله جدير بالاحترام و الإجلال، وقد قدمت بعثته خدمة كبيرة للبشرية فقد أرست دعائم الصلح، والاستقرار، والرخاء، وفتحت طريق الحضارة والرقي للأجيــال،
ومثل هذا الشخص - و بلا شك - يستحق كل إكرام و تقدير واحترام.
ما قاله الباحث الغربي كمال الدين :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه الباحث الغربي واسمه بعد إسلامه كمال الدين، قال: كان محمد قائماً على أعظم دعوة شهدتها الأرض، الدعوة التي حققت للإنسان وجوده الكامل، وتغلغلت في كيانه كــله، ورأى الناس الرسول الكريم تتمثل فيه هذه الصفات الكريمة، فصدقوا تلك المبادئ التي جاء بها كلها، ورأوها متمثلة فيه، ولم يقرؤها في كتاب جامد، بل رأوها في بشر متحرك، فتحركت لها نفوسهم، وهفت لها مشاعرهم، فكان أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، و كان هادياً و مربياً بسلوكه الشخصي، قبل أن يكون بالكلم الطيب الذي ينطق به.
قول أحد المفكرين الغربيين في سيدنا محمد :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه أحد المفكرين الغربيين حيث يقول: الحقيقة أن محمداً قد جاء برسالة لا يمكن إنكارها، وهي خلاصة الرسالات السابقة، بل وتعلو عليها، بناء على هذا فإن رسالته للعالم دستور ثابت، وأقواله تنسجم وذوق البشر وإدراك بني الإنسان في هذا العصر.
ما قاله ميلر في النبي محمد :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه ميلر الكاتب البريطاني المعروف يقول: بزوغ بعثة محمد صلى الله عليه و سلم وسطوع شمس الإسلام، أثبت هذا النبي أن دعوته موجهة للعالمين، و أن هذا الدين المقدس يناسب كل عصر وكل عنصر وكل قومية، وأن أبناء البشر في كل مكان وفي ظل أية حضارة، لا غنى لهم عن هذا الدين، الذي تنسجم تعاليمه مع الفكر الإنساني.
ما ذكره الكاتب الفرنسي كورسيه في سمو أخلاق النبي الكريم :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه الكاتب الفرنسي كورسيه حيث يقول: عندما نهض محمد بدعوته وقبل و بعد انطلاق بعثته كان شاباً شجاعاً شهماً، يحمل أفكاراً تسمو على ما كان سائداً من أفكار في مجتمعه، و قد تمكن محمد بسمو أخلاقه من هداية عرب الجاهلية المتعصبين الذين كانوا يعبدون الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد، و في ظل حكومته الديمقراطية الموحدة، تمكن من القضاء على كل أشكال الفوضى، والاختلاف، والاقتتال الذي كانت شائعاً في جزيرة العرب، وأرسى بدل ذلك أسس الأخلاق الحميدة، محولاً المجتمع العربي الجاهلي إلى مجتمع راق ومتحضر.
تخصيص توماس كاريل فصلاً من كتابه لنبي الإسلام :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على ما كتبه الفيلسوف البريطاني توماس كاريل و قد خصص من كتابه فصلاً لنبي الإسلام، بعنوان البطل في صورة رسول، عدّ فيه النبي صلى الله عليه و سلم واحداً من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ ، ووالله لقد كانت في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار و الفلوات، المتورد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة.
وصف بعض كتاب السيرة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التعاملية :
وكنا نتمنى على قداسة البابا قبل أن يتبنى قول إمبراطور بيزنطي جاهل بأقدار الأنبياء..... أن يطلع على حقيقة نبي المسلمين من كتب المسلمين لا من كتب أعدائهم الحاقدين، وهذا من أولى مبادئ البحث الموضوعي، وما تقتضيه درجة الأستاذية في الجامعة، فقد وصف بعض كتاب السيرة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التعاملية فقالوا: لقد كان صلى الله عليه و سلم جمّ التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، يكون آخر من يسحب يده إذا صافح، و إذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، و إذا جلس جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يرَ ماداً رجليه قط، و لم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، و كان يذهب إلى السوق و يحمل بضاعته و يقول: أنا أولى بحملها، و كان يجيب دعوة الحر و العبد و المسكين، و يقبل عذر المعتذر، و كان يرفو ثوبه، و يخصف نعله، و يخدم نفسه، و يعقل بعيره، و يكنس داره، و كان في مهنة أهله، و كان يأكل مع الخادم، و يقضي حاجة الضعيف و البائس، يمشي هوناً خافض الطرف متواصل الأحزان، دائم الفكر لا ينطق من غير حاجة، وكان طويل السكوت، إذا تكلم تكلم بجوامع الكلم، و كان دمثاً ليس بالجاحد و لا المهين، يعظم النعم و إن دقت، و لا يذم منها شيئاً، و لا يذم مذاقاً و لا يمدحه و لا تغضبه الدنيا و لا ما كان لها، و لا يغضب لنفسه و لا ينتصر لها، إذا غضب أعرض و أشاح، و إذا فرح غض بصره، و كان يؤلف و لا يفرق، يقرب و لا ينفر، يكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم، يتفقد أصحابه و يسأل الناس عما في الناس، يحسن الحسن و يصوبه و يقبح القبيح و يوهنه، و لا يقصر عن حق و لا يجاوزه، و لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو ما يسره من القول، كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ و لا غليظ، و لا صخاب و لا فحاش، و لا عياب، و لا مزاح، يتغافل عما لا يشتهي، و لا يخيب فيه مؤمله، كان لا يذم أحداً و لا يعيره و لا يطلب عورته و لا يتكلم إلا فيما يرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، و يتعجب مما يتعجبون، و يصبر على الغريب و على جفوته في مسألته و منطقه، و لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، و الحديث عن شمائله صلى الله عليه و سلم حديث يطول لا تتسع له المجلدات و لا خطب في سنوات و لكن الله جل في علاه لخصها بكلمات فقال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
ما نتمناه على قداسة البابا :
وأخيراً كنا - نحن المسلمين - نتمنى على قداسة البابا أن ينهج منهج سلفه البابا يوحنا بولس الثاني الذي حث على التعايش السلمي بين الأديان.
وأن ينهج منهج سلفه البابا بولس السادس الذي أعلن اعترافه بالإسلام كدين سماوي، وأوقف التبشير في العالم الإسلامي، وأعلن أن المؤمن برسالة محمد ناج يوم القيامة، ولو لم يؤمن بالمخلص، وأرسل برقيات تهنئة لبعض زعماء العالم العربي والإسلامي بعيد الأضحى المبارك، واستقبل وفداً من كبار رجال الدين الإسلامي معظمهم من بلدنا سورية، وأكرمهم أيما إكرام.
*****
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن المسلمين لم يبنوا مجدهم على أنقاض الآخرين، ولم يبنوا غناهم على إفقار الآخرين، ولم يبنوا أمنهم على إخافة الآخرين، ولم يبنوا عزهم على إذلال الآخرين، والمسلمون لا يسعون إلى إضلال الآخرين، ولا إلى إفسادهم، ولا إلى نهب ثرواتهم، ولا إلى إبادتهم.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن تاريخ المسلمين ليس ممتلئاً بأعنف صور التدمير الحضاري، والإبادات الجماعية، واستغلال خيرات الشعوب، والسطو على مقدراتها ، وأن المسلمين لم ينشئوا محاكم التفتيش، ولم يبيدوا الهنود الحمر، ولم يستعبدوا الزنوج، ولم يستعمروا الشعوب، ولا أدلّ على ذلك من الغزو الفرنجي للعالم الإسلامي قديماً باسم الحروب الصليبية، وحديثاً باسم الحرية والديمقراطية.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن الإسلام لم يكن هو السبب الذي لأجله اندلعت حربان عالميتان قتل فيهما ما لا يقل عن ثمانين مليون إنسان، وعشرات ملايين المعاقين.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن المسلمين ليسوا هم الذين قرروا قصف مدينة هيروشيما و ناغازاكي في اليابان، بالقنبلة الذرية فقتل ثلاثمئة ألف إنسان في ثوان معدودات، ولم يكن المسلمون هم الذين استخدموا أسلحة الدمار الشامل المحرمة دولياً كالقنابل الذكية، والعنقودية والفسفورية، وقنابل اليورانيوم المخضب، لقتل النساء والأطفال والشيوخ، وتدمير الجسور والمنشآت، والبنية التحتية لشعب أعزل ضعيف، والمسلمون لم يعذبوا المساجين الوطنيين الذين قاوموا الاحتلال في العراق بطريقة يندى لها جبين الإنسانية.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن الإسلام ليس عقيدة الذين هاجروا إلى بلاد بعيدة وتحدثوا كثيراً عن الحرية، بعد أن أبادوا عشرات الملايين من سكانها الأصليين، فالمسلمون لا يعرفون التطهير العرقي الذي اعترف به الغربيون حينما قالوا: إننا حينما استأصلنا الهنود الحمر في أمريكا، والإنكليز حين استأصلوا سكان أستراليا الأصليين، نجحنا في حسم المعركة، إذن ليس عند هؤلاء الأقوياء مبادئ ولا قيم، ولا شعور إنساني، إنما الذي عندهم سيناريو متقن أو غير متقن، وصفقة كبيرة أو صغيرة.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى أن المســلمين لا يرمون آلاف الأطنان من الحبوب و كل صنوف المواد الغذائية في البحار، ولا يعرفون إتلاف المحاصيل الزراعية حفاظاً على أسعارها المرتفعة، وتسميمها خوفاً من أن يأكلها الفقراء مجاناً فيقل الطلب على شرائها، والمسلمون لا يعرفون إطلاق النار على عشرين مليوناً من الأغنام ودفنها تحت الأرض حفاظاً على أسعارها المرتفعة، في الوقت الذي تموت فيه بعض الشعوب جوعاً بعد أن فتكت فيها المجاعات، وهي في أمس الحاجة إلى اللحوم والألبان والمحاصيل.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى المسلمين لا يرسلون نفاياتهم الذرية إلى الشعوب الضعيفة التي فتكت فيها المجاعات والحروب الأهلية مصحوبة ببعض المساعدات الغذائية حتى تسبب لها الأمراض السرطانية بشكل وبائي ولآلاف السنين.
كنا نود أن ينتبه قداسة البابا إلى المسلمين لا يسمحون بتجريب الأدوية على شعوب متخلفة ضعيفة وكأنهم فئران تجارب ليدرؤوا عن شعوبهم خطر الأدوية التي لم تثبت سلامتها.
*****
همسة في أذن المسلمين :
ولكن لابد من همسة في أذن المسلمين. لماذا ندين الأقوال ولا ندين الأفعال أو على الأقل نتغاضى عنها؟ ألم تسخّر الكثير من الجهات العربية والإسلامية كل طاقاتها الإعلامية والثقافية والدعائية والفقهية والقمعية لاقتلاع مفهومات الدين الصحيحة من عقول المسلمين؟ لماذا نطلق عشرات القنوات الفضائية الهابطة، أليس لإفساد العقول وتمييع الشباب وتزييف الوعي؟ ماذا كان هدف تلك المحطات الإعلامية التي تحاصرنا من كل حدب وصوب سوى إخصاء المجتمعات الإسلامية، وتحويلها إلى راقصين وراقصات، وماجنين وماجنات، وفاسدين وفاسدات، ومخنثين ومخنثات؟ هل هناك هدف لمعظم وسائل الإعلام التي تبث عبر الأقمار سوى الحض على الفساد والإفساد، والابتعاد عن المفهوم الحقيقي للإسلام؟
أيهما أخطر على الإسلام والمسلمين جملة قالها الحبر الأعظم، أم الضخ الإعلامي اليومي وغسل الأدمغة العربية والإسلامية بطريقة منظمة وممنهجة وتطهيرها من قيم النخوة والعزة والإباء والحمية والكرامة؟
أيها الأخوة المؤمنون؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
محاربة الآخر للإسلام مع أنه دين الاعتدال و المحبة و التسامح :
ليس خافياً أن توقيت هذه الإساءة جاء في مرحلة يمكن أن تسبب انفجاراً واسع النطاق، على مستوى صراع الأديان، أو صدام الحضارات، أو أن تضيف على الأقل احتقانا عقديا إلى احتقانات عقدية وإنسانية وسياسية سابقة، فتصنف هذه الإساءة مع القذائف القاتلة، وتضيع محاولات رأب الصدع، تحت تأثير تنوع الضربات، وتعدد مصادرها.
فلا يمكن القبول بأن كلمات قداسة البابا هي زلة لسان، أو كلمات أسيء فهمها، فهذا لا ينتظر من قداسته ، لاسيما أنه يحمل درجة الدكتوراه والأستاذية في علم الأديان، وأنه لم يرتجل كلمته، بل ورد كلامه من محاضرة، نصها مكتوب أمامه، خضع للمراجعة والتنقيح والضبط مثلما هي عادة كل بحث علمي يقدمه أستاذ جامعي متخصص، قبل أن يكون رجل الكنيسة الكاثوليكية الأول في روما، ورئيس دولة الفاتيكان.
ولعل القصد من كلمات قداسة البابا - وأرجو أن أكون مخطئاً - أن يدفع المسلمين إلى التطرف، لأن تطرف الغرب وإرهابه الدولي والمنظم يحتاج إلى تطرف إسلامي مستمر، ليكون تبريراً لمتابعة خططه التي لا يستطيع إعلانها، فإن لم يكن هناك تطرف إسلامي..... دفع هؤلاء القادة السياسيون والقادة الروحيون المسلمين إليه، أو صنعوه هم ونسبوه إليهم، بطريقة أو بأخرى.
وقد شرح هذه التحليل، وذاك التفسير السيد الرئيس في مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد بكوالالامبور في ماليزيا مؤخراً، فقال في خطابه:
في الثمانينات كانوا في الغرب يدعمون التطرف الإسلامي وليس الإسلام، أما اليوم فهم يحاربون الإسلام لا التطرف الإسلامي. ولو تساءلنا لماذا يحارب هؤلاء المتعصبون الإسلام وهو دين العدل والمحبة والتسامح لكان الجواب البديهي لأن الإسلام الحقيقي هو الذي يمنع التطرف، لأنه دين الاعتدال، وهؤلاء المتعصبون يتمنون ويعملون عكس ما يعلنون، من انتهاك للسيادة، والحصار الاقتصادي، إلى الاجتياح الثقافي، والتمويل السري لبعض الهيئات لاستمرار واتساع التطرف الإسلامي، أو أي تطرف آخر، لأنه المعادل الموضوعي لتطرفهم، والمبرر الأكيد لبقائهم في مواقع السيطرة في مناطق عديدة في هذا العالم، فالتطرف يعيش على تطرف مقابل وهو يضمحل في بيئة الاعتدال.
تعزيز الدين الإسلامي الصحيح :
إن علينا أن نعزز الدين الإسلامي الصحيح عقيدة وسلوكاً ففيه تحصين للإسلام والمسلمين وإضعاف لأعدائهم وهذا يبدأ بمكافحة وتجنب كل الممارسات الشاذة الناجمة عن فهم خاطئ للدين والتي تسيء إليه بشكل مباشر وتعطي الآخرين من أصحاب النيات السيئة الحجة والمبرر لوصف الإسلام بشتى الصفات السلبية واللاإنسانية. وان كنا نرفض وبقوة كل المحاولات التي تجعل من صفة الإرهاب خاصة بالدين الإسلامي فإننا نرفض وبنفس القوة كل محاولة لربط الممارسات الخاطئة لبعض الأفراد بديانة أو حضارة معينة.