الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، سورة اليوم هي سورة الكافِرون، وربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ (1)لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ (2)وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ (3)وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ (4)وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ (5)لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ (6)﴾
قد يتساءل بعضُ الناس عن سِرِّ هذا التَّكْرار؟ وقد يبْدو لأوَّل وهْلَة أنَّهُ تَكْرار، مع أنَّهُ ليس في كتاب الله سبحانه وتعالى تَكْرار، فلِكُلِّ آيةٍ معْناها، ولو دقَّقْنا في الفُروق الدقيقة بين هذه الآيات المُتماثِلَة في الظاهر، لَوَجَدْنا هناك فُروقاً تقْتضي معانيَ مُتغايِرَة، على كُلٍّ قبل الحديث عن التَّكْرار لا بدَّ من تعْريف الكُفار قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ أما كلمة (قُل) فماذا تعْني؟ أحْياناً يُصْدِرُ مُديرُ مُؤَسَّسة قراراً فَيَكون في مُقَدّمة هذا القرار: إنَّ مدير مُؤَسَّسة كذا بِناءً على كذا وكذا يُقَرِّر ما يلي؛ هذا القرار صادِر عن هذه المؤسَّسة ومُديرِها، أحْياناً يأتي قرار من رئيس الوُزراء، مُدير هذه المؤسَّسة لا يفْعل شيئاً إلا أنّه يُحيل هذا القرار للتعْميم، فهذا من مُسْتوى أعْلى، فما سَيَقولُه النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الكُفار ليس من عِنْده؛ هذا مِن قِبَل الله وهو من أعلى مصْدر وهو الخالق.
الذي سَيَأتي في هذه السورة ليْس من عند رسول الله إنَّهُ من عند الله سبحانه:
كَلِمَة (قُلْ) في قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾
وفي قوله تعالى:
﴿ قُلۡ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)﴾
هذه السُّوَر الأخيرة التي تُفْتَتَحُ بِـقوله تعالى ﴿قُلۡ﴾ أيْ هذا لَيْسَ من عِنْدك، إنما هو من عندي، من عند الله عز وجل، فَشَتان بين أنْ يصدر قرارٌ من مدير المؤسَّسة، وبين أنْ يأتي قرار من أعلى مصْدر في الدوْلة، حينها ليس على المدير إلا أنْ يُعَمِّمَ هذا القرار، ويُبَلِّغُه من يلْزَم، لكن حينما نقول: نُحيلُ إليكم مَرْسوم رئيس الوُزراء، أصبح هناك وضْعٌ ثانٍ أكبر مما يُتَوَهَّم –طبْعاً هذه الأمْثِلَة للتَّوْضيح– فهذا الذي سَيَأتي في هذه السورة ليْس من عند رسول الله؛ إنَّهُ من عند الله سبحانه وتعالى، وما مُهِمَّةُ النبي عليه الصلاة والسلام إلا التبْليغ، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ ما معنى كلمة الكافر؟ كلمةُ كَفَرَ؛ مِن معانيها الكَفْرُ، أيْ الغِطاء، والكُفْر الإعْراض، فالإنسان إذا كان في عَمًى عن حقيقة ما فهو كافِرٌ بها، فإذا غفل الإنسان عن نِعَم الله فهو كافِرٌ بها، وإذا أدْبر واسْتَكبر، وإذا ولى ظَهْرَهُ للدنيا، وأعْرض عن الله عز وجل فهو كافر، هناك من يكْفر بالخلق؛ بالله خالقاً، وقليل ما هم، وهناك من يكْفر بِرَبِّ العالمين؛ يكْفُر بِتَرْبِيَتِه، لا يرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يُمِدُّ كُلَّ مخْلوقٍ بِما يحْتاج إليه؛ من طعامٍ وشرابٍ وهواءٍ، من شروط؛ توفير الحرارة والرطوبة وأنواع المعادن وأشْباهها، وأنواع الفيتامينات، والكائِنات الحَيَّة، والأمْطار والسَّحاب؛ هذا كُلُّهُ تَرْبِيَة، الله سبحانه وتعالى خَلَقَنا وخلَق هذا الجَوَّ المُناسب، وخلق الحرارة المُناسِبَة، وخلق الهواء، خلق الطعام والشراب؛ كُلُّ هذا من باب التَّرْبِيَة، لذلك هناك من يكْفر بالله مُرَبِّياً، يرى أنَّ الحياة تجْري هكذا وحْدها، وأنَّ الإنسان يعْمل ويكْسب المال، ويشتري الطعام ويأكل، وحينما يغْفل الإنسان عن ترْبِيَة الله عز وجل فَهُوَ كافِرٌ بِها.
هناك من يكْفر بالله مُسَيِّراً وإلهاً، فلا يرى أنَّ الأمور كلها بِيَدِه، وأنَّهُ لا حركة ولا سَكَنَة، ولا عطاء ولا منْع، ولا رِفْعَة ولا خفْض ولا رزْقَ إلا بِيَد الله سبحانه وتعالى، لا يرى ذلك! إذاً هناك كفْرٌ بالألوهِيَّة، وهناك كُفْر بأسْماء الله الحُسْنى، فقد يُعايَن الإنسان بعض الأخْبار السَيِّئة؛ كوارِث وفيضانات ومجاعات في العالم؛ تراهُ يشْمَئِزُّ قائِلاً: إنَّ الحياة كُلُّها قَسْوة وشقاء، والأغْنِياءُ وَحْدَهُم السُّعداء، والفقراء مسْحوقون؛ فهذا كُفْرٌ بِأسْماء الله الحُسْنى، وكُفْر بِحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِه وعدالتِهِ، فالكُفْر أنْ تكون في عَمًى عن حقيقةٍ ما، فإذا كان شيء أمامي فإما أنْ أضَعَ بيني وبينه سِتاراً فأنا لا أراه، وإما أنْ أنْصَرِفَ عنه فأنا لا أراه، فإما أنْ تكون الغشاوةُ سَبَب الكُفْر، وإما أن يكون التَوَلي سبب الكُفْر، وعلى كُلٍّ يُخْطِئ من يظُنّ أنَّ الكافر هو الذي يُنكِرُ وُجود الله سبحانه وتعالى! ذلك هو المُلْحِد، فالإلْحادُ إنْكارُ وُجود الله، فهناك إلْحادٌ بِوُجود الله، وهناك إلْحادٌ في أسْمائه، وهناك إلْحادٌ بِتَصَرُّفاته، فهناك مَن يقول: الإنسان خالق أفْعاله، كالمُعْتزلة الذين يقولون: الإنسان خالق أفْعاله، هذا إلْحادٌ في تَصَرُّفاته، فلْنَدَع الإلْحاد جانِباً، فالكُفْرُ إعْراض، لِنَضْرب مَثَلاً، قد يكون الطالبُ في الصَفّ، وأمامه مُدَرِّس ملء السَّمْع والبصر، إنْ تلَهى عن دَرْسِه، وشُغِل عن شَرْحه، والْتَفَتَ إلى أشْياء سخيفة، مُعْرِضاً عن عِلْمِهِ، فهذا كافرٌ بِمُدَرِّسِه، مع أنَّهُ يملأُ سمْعَهُ وبصرهُ، فالكُفْر هو الإعْراض، قال تعالى:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾
يُنْفِقون أموالهم، وهم يُصَلُّون، وقد كفروا بالله ورسوله.
سورة الكافرون هي سورة حَسْمٍ:
الكُفْر تضيقُ معانيه حتى يُظَنَّ أنَّ الكافر هو المُلْحِد، وتَتَّسِعُ مَدْلولاته حتى يشْمل كُلَّ منافق، قال تعالى:
﴿ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّنۢ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (67)﴾
المنافقُ يُصَلي ويصوم ويَحُجّ ويُزَكي، ﴿إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ﴾ لأنَّهُ أعرض عن الله عز وجل واشْترى بآياته ثَمَناً قليلاً، وأدار ظَهْرهُ للدِّين، والْتَفَتَ للدنيا فجعلها أكبر هَمِّهِ، ومَبْلَغَ عِلْمِه، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( من كانت الآخرةُ همَّه، جعل اللهُ غناه في قلبِه، وجمع له شملَه وأتتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدنيا همَّه جعل اللهُ فقرَه بين عينَيه وفرَّق عليه شملَه ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له. ))
نعوذ بالله من هذا، فالكُفْر البُعْدُ عن الله عز وجل، والإعْراضُ عنه تعالى، والكُفْر الالْتفاتُ إلى الدنيا، وأنْ تكون الدنيا مالِئَةً قلبك، وشاغِلَةً بالك، هذا كُلُّهُ من معاني الكُفْر، فالكافرون لا يلْتَقون مع المؤمنين والحلُّ الوَسَط مُنعدم! لا وجود لأنْصاف الحُلول في الإسلام، والسَّيْر إلى نِصْف الطريق بِهَذه الكلمات الحديثة، هذا لا مكان له في الإسلام، فالكُفْرُ هو الكُفْر، والإيمان هو الإيمان، وهو لا يلْتَقي مع الإيمان، فلا ترْقيع ولا تطْعيم ولا تداخل ولا حلَّ وسَط ولا لِقاءات ولا تعاوُن، لأنَّ الكافر له طريقتُهُ وتفْكيرهُ وقِيَمُه المُنْحَطَّة، وله شَهْوانِيَّتَهُ ومُيوله الدنيئة، وله مصالِحُه وأنانيَّتَهُ، مُتَعَلِّقٌ بالدنيا ولا يرى سِواها، ولا يعْرف الأخلاق ولا القِيَم ولا ما المَعاد، الدنيا عنده هي كُلُّ شيء! فَكَيف يلْتقي هذا الإنسان بِإنْسان آخر يرى الآخرة هي كُلُّ شيء، والدنيا كُلُّها لا تعْدِلُ عند الله جناح بعوضَة، ويرى العَمَل الصالح هو الغِنى الحقيقي، ويرى أنَّ مَحَبَّةَ الله هي كُلُّ شيء، وأنَّ طاعَتَهُ هي الفَوْز العظيم، يرى أنَّ الحياة مُؤَقَّتة، وأنَّهُ في الدنيا كَعَابرِ سبيل أو مُسافر، ويرى أنَّهُ غريب فيها، فهذا الإنسان كيف يلْتقي مع ذاك؟ كيف يلْتقي الصحيح مع المريض؟ لا بد أن يمْرض هذا الصحيح! إذا كان هذا المريضُ مُصاباً بِمَرَض سارٍ، فلا بدّ أن يُعْدِيَهُ، فالله عز وجل جعل الحسْم، فهذه السورة هي سورة حَسْمٍ، فيا أيها الكفار لا نلْتقي معكم لا من قريبٍ ولا من بعيد، لا في أشْياء صغيرة ولا في أشْياء كبيرة، لا يُمْكن أنْ نتعاون لأنَّ تفاوُتاً كبيراً ومُفارقة حادَّة بين مُنطَلَقاتِنا ومُنطلقاتِكم، وبين أهدافِنا وأهْدافكم، وبين وسائِلِنا ووسائِلِكم، وبين قِيَمِنا وقِيَمِكم، وبين طُموحاتِنا وطُموحاتكم.
العُبودِيَّة لله هي قِمَّةُ الكمال البشري :
قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ أما العبادة، فقال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
هِيَ عِلَّةُ خلْق الله سبحانه وتعالى للبشر، خلقنا لِنَعْبُدَهُ ولا نعْبده إلا إذا عرفْناه، وإذا عرفناه عبدْناه، وإذا عبدناه سَعِدْنا بِقُرْبه، خلقنا لِيُسْعِدنا، فالعبادة شيء ثمين جداً حتى قال بعضهم: إنَّ أعلى مقامٍ يبْلُغُه الإنسان في الأرض أنْ يكون عَبْداً لله؛ أشْهد أنْ لا إله إلا الله وأشْهد أنَّ سيدنا محمَّداً عبْده ورسوله، فالعُبودِيَّة لله هي قِمَّةُ الكمال البشري، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ ما معنى هذه الآية؟
﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ يبْدو أنَّ هذا من باب المعاني المُطْلقة، لكِنَّنا إذا أردْنا أن نُقَيِّد هذه السورة بِأسْباب نُزولها، فقد ورد في بعض التفاسير أنَّ المُشْركين جاؤوا للنبي عليه الصلاة والسلام وقالوا له: يا محمَّد، هَلُمَّ فَلْنَعْبُد ما تعبد، وتَعْبُد ما نعْبُد! – مُشاركة وأنصاف حُلول – ونَشْتَرك نحن وأنت في أمْرنا كُلِّه، فإنْ كان الذي جِئْتَ به خيراً مما في أيْدينا شارَكْناك فيه، وأخَذْنا بِحَظِّنا منه، وإنْ كان الذي بِأَيْدينا خيراً مما بِيَدِك كنت قد شَرِكْتنا في أمْرنا، وأخَذْتَ بِحَظِّكَ منه، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾
إذا أردْنا أن نأخذ هذه السورة كَتَوْجيهٍ إليْنا نحن فلا بُدَّ من التمايُز:
إذا أردنا توْجيهَ هذه الآيات بِحَسَبِ أسباب نُزولِها، فَهُناك لِقاءٌ تمَّ بين كبار المُشْركين وبين النبي عليه الصلاة والسلام على أن تكون بينهما هُدْنَة وتَعايُشٌ سِلْمي -كما يقولون- نَعْبُد ما تعْبد وتعبدُ ما نعبد! فإن كنت على حق شاركناك في الأمر، وإن كنا على حق شركتنا في الأمر ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾
تَوْجيهٌ آخر مما توحي به هذه السورة، أنَّهُ لا يسْتطيعُ الواحدُ منا أنْ يصِلَ إلى الإيمان الحق إلا إذا تَمَيَّزَ عن الكُفار، فما دام يعيشُ معهم، ويحْضُر نَدَواتِهم، ويذْهَبُ معهم إلى مُتَنَزَّهاتِهم، ويُعامِلُهم ويُحِبُّهم ويُحِبُّونه، ويأخُذ منهم ويُعْطونه، ويُشارِكُهم بأمواله، ويُزَوِّجُهم ويتَزَوَّجُ منهم، عندئِذٍ لن يكون مؤمناً، فلا بدَّ من التمايُز، ولا بد للمؤمن أن يكون في حيِّزٍ مُسْتَقِلّ، لأنَّ له عاداتُه وقِيَمُهُ وورَعُهُ وطُموحُهُ، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ إذا أردْنا أن نأخذ هذه السورة كَتَوْجيهٍ إليْنا نحن فلا بُدَّ من التمايُز، قال تعالى: ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ قد يذهب إنْسانٌ وزَوْجَتُهُ لِيَجْلسَان في مَقْهى يصدح بالغناء والاخْتِلاط ويُقَدَّمُ المَشْروب وزَوْجَتُه مُحَجَّبَة حِجاباً شَرْعِياً! هذا المكان ليس لكما، أنت لك مكانٌ آخر قال تعالى: ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ .
هذه السورة فيها تَوْجيهٌ حَيٌّ يَنْبُض بالحياة:
أنت لا يُمْكِنُكَ أنْ تسْتسيغَ هذه الجَلْسَة؛ في السَّهرات والندوات واللِّقاءات والولائِم، وفي الأعراس، دُعِيَ أُناسٌ إلى عرس محتلط في فُندق كبير، فبعض الأُسَرٌ ذَهَبَتْ إلى الحفل، يقول لك: هذا العرس لا يُفوَّت، ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾ فهذا الاختلاط لا يجوز.
فإذا لم تتَمَيَّز عن الكُفار في كُلِّ نمطِ حياتك فأنت منهم؛ في نمط سكنك؛ بيْتٌ مَكْشوف يُطِلُّ على الجيران! أنت مُسْلم فلا بدّ أنْ تضع حِجاباً ساتِراً، بَيْتُ المُسلم يبْدو واضِحاً ومُسَترواً، وهذا العريس في حفلة العرس يجلس مع زوجته أمام خمسين امرأة، يلبسن ألبسة غير لائقة! يقول: أحْرَجوني، وخِفْتُ أنْ يظُنوا بيَّ الظنون! وأنَّ فيَّ عَيْباً، أنا لا عيب فيّ والحمد لله ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ أنا لا أجلسُ على هذا الكُرْسي، وهذه الجِلْسَة حرام، هل هذا الذي يقوله الناس دينٌ أم شَرْعٌ أم شيء من الله مُنَزَّل؟ لا، تقاليد وعادات ما أنزل الله بها من سُلْطان، لا يبْلغ الإنسان درجة الإيمان حتى يضَع تحت قَدَمِه كُلَّ التقاليد والعادات التي تُخالِفُ الشَّرْع، ضرَبْتُ هذه الأمثلة لأنَّ بعضُهم يظنُّ أنَّ هذه السورة رَدٌّ من الله تعالى على قول المُشْركين في مكة فحسب، ولكِنَّها قُرْآن، وتُتْلى إلى آخر الزمان، معنى ذلك فيها تَوْجيهٌ حَيٌّ يَنْبُض بالحياة، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ أريد أنْ أصِل إلى أنَّ مِحْور هذه السورة أنَّ الكُفار شيء والمؤمنين شيء آخر، هؤلاء لهم عالم وهؤلاء لهم عالم آخر، وهؤلاء في وادٍ وأولئك في وادٍ آخر، لا يلْتَقِيان؛ فلا تضافر ولا تقْريب وِجْهات نَظَر، هذه أنْصاف حُلول، وتَرْقيعٌ، وهذا كُلُّهُ مُسْتحيل، إنْ صاحَبْتَه كافراً يحرجك بوجود زوجته على أنَّها مثل أُخْتِك، وهذا زور وبهتان! وإنْ ذهَبْتَ معه إلى النُّزْهة يسمعك الأغاني، ويحدثك عن الناس مغتاباً، وإنْ عاملته بالمال قال لك: معْقول أن تجمد مبْلَغاً كهذا ولا تضَعُهُ في البنْك، وتأخذ الفائدة! أين تفْكيرُك؟ هذا مال، صَعْبٌ أنْ تُشارك الكافر، وأن تتعاون معه، وأنْ تُزَوِّجَهُ ابْنَتَك، وقد قلنا كافراً بالمفهوم الواسع، قال تعالى:
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّآ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ (54)﴾
لذلك ما على الإنسان المؤمن إلا الاتصال بِأَهْل الإيمان، ولْيُعامِلْهُم وحْدَهُم، قال تعالى:
﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)﴾
(لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) و(وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) أربعة معانٍ من هذا التَّكْرار:
1 ـ المعنى الأوَّل تَكْرار التَّعْظيم والتَّهْويل :
قولـه تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ﴾ المعنى الأوَّل: لا أعبُدُ ما تعْبدون، فلا أعبُد أصْنامكم، فهذا هو المعنى الذي كان قائِماً عند نُزول هذه السورة، وإذا وَسَّعْنا هذا المعنى فَكُلُّ ما يعْبُدُهُ الناس من دون الله في العُصور اللاحِقَة يدْخُل في هذه الآية، فقد يعْبدون الدِّرْهَم والدينار، قال عليه الصلاة والسلام:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ. ))
[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ ]
من أجْل ألاّ تنكمش ثِيابَهُ لا يصَلي حتى يعود مساء إلى البيت! تَعِسَ عَبْدُ الفَرْج، وتعِسَ عبدُ البَطْن، سَواءٌ أكان المعنى الأوَّل، وهو أَنَّ هذه الأصْنام؛ اللات والعُزى، ويغوث، ويعوق، ونسْراً التي كانت تُعْبَدُ من دون الله في الجاهِلِيَّة، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وكذلك في الجاهِلِيَّة الثانِيَة أنْ يُعْبَد الدِّرْهم والدينار من دون الله، وأن تُعْبد المرأة من دون الله، الشَّهَوانِيُّون يعْبُدونها أيْ يخْضَعون لها فيما تأمر، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا. ))
إنّ الدِّرْهم والدِّينار يُعْبدان من دون الله، والمرأة في عُصور الشَّهْوة والفِتَن تُعْبد من دون الله، وقد يعْبُدُ بعضُنا بعْضاً، وقد يتَّخِذُ بعضُنا أرْباباً من دون الله، ويَكْفي أنْ ترى أنَّ فُلاناً الفُلاني بِيَدِهِ أمْرُك ورِزْقُك، وبيده ترقيتك وتحْطيمُكَ، بيده كل شيء فأنت بهذا قد عَبَدْتَهُ وأنت لا تدْري، لذلك قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ لا من الأصْنام القديمة ولا من كل شهَوة حديثة متبعة في عصور التخلف، (ما) هنا على قول بعضِ المُفَسِّرين اسم موصول، أيْ لا أعْبُد الذي تعْبدونه، وكذا قوله تعالى: ﴿وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ﴾ لا يُعْقَلُ أنْ تعْبدوا الذي أعبُدهُ إذْ لو أنَّكم عَبَدْتُموهُ لَكَفَّكم عن شَهَواتكم ولسْتُم بِتاركيها! أحْياناً يتَكَلَّفُ الإنسان جهداً كبيراً ليُناقِش إنساناً شَهَوانياً، أنا أقول له: لا تُناقِشْهُ، هذا إلههُ شَهْوَتُه، فلن يَدَعَها من أجلك، فهذا إذا عبد ربه كفُّ عن شَهَواتِهِ كُلِّها، وبالتالي ينْضَبِط، لكنه لا ينضبط، إذاً: ﴿وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ﴾ فلا يتَحَمَّل هذا المُشْرك أن ينقطع عن بعض شَهَواتِهِ، هذا المعنى الأوَّل.
2 ـ المعْنى الثاني أنَّ نَفْيَ الإمْكانِيَّة أبْلَغُ من نَفْيِ الحَدَث:
المعنى الثاني: قوله تعالى: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وقوله ﴿وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾ فما الفرق بينهما؟ لا فرق! قال بعض المُفَسِرين: هو التَّكْرار، وهو تَكْرار التَّهْويل والتعظيم، هذا معنى.
وقال بعضُهم الآخر: ﴿لَآ أَعۡبُدُ﴾ هذا فِعْلٌ مُضارع، ﴿وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ﴾ هذه اسمُ فاعل، وشَتانَ بين الكلمتين، فإذا قلتَ: لا أعبد، فأنا أنْفي عن نفْسي فِعْل العِبادة، ولكن إذا قلت: ولا (أنا عابد)، فأنا أنْفي عن نفْسي إمْكانِيَّة العِبادة، كأن تقول: فُلانٌ لم يسْرِق، فأنت هنا نَفَيْتَ عنه فِعْلَ السرقة، أما إذا قلتَ: ما هو بِسارِق فقد نَفَيْتَ عنهُ إمْكانِيَّة السَّرِقة، فلا يُعْقَلُ أنْ يسرِق، فاسمُ الفاعل أشَدُّ في النَّفْي من الفِعْل المُضارع، فله معنى الاسْتِمْرار، مثلاً أنا أكتب، يُمْكن أنْ أكْتُبَ مَرَّةً في ِحِياتي، فَيُقال: أنا أكتُب، فعل مُضارع، أما أنا كاتب، اسم فاعل، فَهِيَ تعْني أنَّ مِهْنتي الكِتابة، فربنا عز وجل قال: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وفي الثانِيَة: ﴿وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾ فلا أعبد آلِهَتَكم، وليس عندي إمْكانٌ إطْلاقاً أنْ أعْبُدها، لا أعبُدها ولن أعْبُدها! فالإمْكانِيَّة مُنْعَدِمة، فالأوَّل نَفَيْنا به الفِعْل، وفي الثاني نَفَيْنا الإمْكانِيَّة؛ هذا معْنى آخر من معاني التَّكْرار.
3 ـ المعنى الثالث لا أعبدُ أصْنامكم ولا أتعبّد بِطَريقَتِكم:
المعْنى الثالث: قوله تعالى: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وقوله: ﴿وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾ قال بعض المفسرين: (ما) الأولى اسم موصول، أيْ لا أعبدُ الذي تعْبدون، وقال بعضهم (ما) الثانِيَة مَصْدَرِيَّة، أيْ ولا أنا عابدٌ عبادَتَكم، فكيف أصبح المعنى؟ أيْ: أنا لا أعبد الذي تعْبدونه، وليْسَتْ عبادَتي كَعِبادَتِكم؛ كيف؟ عبادتي فيها صِدْقٌ وإخْلاص، أما عِبادتكم ففيها الشِّرْك والنِّفاق، نَفَيْنا أنْ نعبدَ ما يعْبدون، ونَفَيْنا أنْ نعبد آلِهَتَهم كَعِبادَتِهم بِإشْراكٍ ونِفاقٍ ودَجَلٍ، وما سِوى ذلك.
4 ـ المعنى الرابع لا أعبُدها الآن ولن أعْبُدها في المُسْتَقْبل:
وهناك معنى رابع: وهو قوله تعالى: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ الآن، إنّ أكثر الناس إذا نظروا إلى شَخْصٍ تَدَيَّن يقولون: دَعْهُ بعد سَنَتَيْن يعود إلى ما كان عليه! لا يعرفون أنَّهُ سَيَزْداد تَدَيّناً، وأكثر الناس إذا وَجَدوا شَخْصاً تَدَيَّن وغضّ بصره، وحَرَّرَ دَخْلَهُ، وحضر مجالس العِلم، والْتَزَم بالشَّرْع يقولون لك: هذا ثَوَران عاطفي، وسَيَعود إلى ما كان عليه! والحياة سَتَجُرُّهُ إلى صفوفها، فهذا هو المعنى الرابع، الآن: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وإن كنتم تطْمَعون أنْ أعبُدَ آلِهَتَكم في المُسْتَقْبل فاطْمَئِنوا من الآن فلم أعْبُدْها، ولن أعبدَها.
أصْبَحَ لدينا أربعة معانٍ من هذا التَّكْرار:
• المعنى الأوَّل: تَكْرار التَّعْظيم والتَّهْويل.
• والمعْنى الثاني: أنَّ نَفْيَ الإمْكانِيَّة أبْلَغُ من نَفْيِ الحَدَث؛ إنْ قلتَ: فلان لم يسْرق، وفلان ليس بِسَارِق، نفيت عنه إمكانية السرقة.
• والمعنى الثالث: لا أعبدُ أصْنامكم، ولا أتعبّد بِطَريقَتِكم، فَطَريقَتي فيها إخْلاص، وطريقتِكم فيها نِفاق.
• والمعنى الرابع: لا أعبُدها الآن، ولن أعْبُدَها في المُسْتَقْبل.
فأين هو التَّكْرار؟! (ما) تَخْتَلِفُ؛ ففي الأولى مَوْصولية بِمَعْنى الذي، أي لا أعبد الذي تعبدون، والثانِيَة مَصْدَرِيَّة؛ ولا أنا عابِدٌ عِبادتكم، أيْ طريقَتَكم في العِبادة، فثمّة فرقٌ بين أن تكون (ما) اسم موصول، وبين أنْ تكون مَصْدَرِيَّة، وثمة فَرْقٌ بين الفعل المضارع (أعْبُد) وبين اسم الفاعل (عابِد) ، والنَّفْيُ بالاسم أبْلغ من النَّفْي بالفِعْل، وفَرْقٌ بين الحال والاسْتِقْبال، وتَكْرار تعْظيم، وهذا هو وَجْهُ تَكْرار هذه الآية مَرَّتَيْن، قال تعالى: ﴿لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ﴾ .
ما دام الكافر قد خَطَّ طريقه نحو الشَّهوات
ثمَّ قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ﴾ ما دام الكافر قد خَطَّ طريقه نحو الشَّهوات، وانْغَمَس فيها إلى قِمَّة رأسِهِ، وأصَرَّ عليها، وجعلها أكبر هَمِّه ومَبْلَغَ علمه، وقاتل من أجْلِها، وقد يُقْتَلُ المرء في سبيل شَهْوَتِه، فما دام كذلك فهذا لن يعْبُد الله عز وجل، ولن يأتمِرَ بِأَمْرِه، ولن يسْتقيم على أمره.
ثمَّ قال تعالى: ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ فلا بدَّ من التمايز، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
وقال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَٰنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلْإِيمَٰنِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(23)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾
﴿ لَّا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِى شَىْءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَىٰةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُۥ ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ(28)﴾
الحَلُّ الوَسَط لا وجود له ولا بدَّ لنا من التَمَايز:
الحَلُّ الوَسَط لا وجود له، فلا بدَّ لك أنْ تتَمَيَّز، فإذا كان للمرْء أصْحاب من أصْحاب الجاهِلِيَّة فَعَلَيْه أنْ يقْطعهم واحداً واحداً، فإذا بقِيَ على مَوَدَّتِهم فأغْلب الظنّ أنهم سيسْحبونه إلى طَرَفِهم، ولا بدَّ أن يسْحبوه، يقولون لك: لا زِلْتَ صغيراً، عندما تكْبر اِلْتَزِم، ولم يعلمون أنه ومن شَبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيءٍ حُشِرَ عليه.
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً أَوْ غِنًى مُطْغِياً أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ. ))
[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
لذلك من كان صادِقاً في طَلَب الحقّ، أنتم تستَمِعون إلى الحقّ، فالاسْتِماعُ شيء والتَّطْبيق له شيءٌ آخر، الاسْتِماعُ شيء وأن تكون مؤمناً حقاً شيءٌ آخر، العُمْرُ ثمين، هذا الذي يسْتمعُ إلى الحقّ له حِسابٌ خاص، فإذا تَعَلَّمَ عِلْماً فهُوَ حُجَّةٌ عليه وليس له، الذي أُلاحظه أنَّ الله عز وجل يُعامل هؤلاء الذين يسْتمعون إلى العِلْم، ويتَعَلَّمون الحقائق، يُعامِلُهم معامَلَةً خاصَّة، ويُعاقِبُهُم عِقاباً أليماً؛ لماذا؟ أنتم تعرفون فَكَيْفَ تنْحرفون؟ فهذا الذي يفعل السوء بِجَهالة تَوْبَتُهُ سَهْلة، أما هذا الذي يفْعَلُ المعاصي أو يُقَصِّر أو لا يُطيع الله تعالى؛ وهو يعْرف فهذا عِقابُه عند الله كبير، لذلك: ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ فلا بدّ أن تتَمَيَّز! ولا تَقُل: هذه نُزْهَةٌ مُغْرِيَة لن تفوتني! وفيها اخْتِلاط، أنت بِهذا أذْهَبْتَ دينك، ومن علامات قِيام الساعة أنَّ الإنسان يُمْسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل، لِسَبَبٍ تافِهٍ تجِدُهُ ترك الدِّين، فلو قرأ هذه السورة: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾
هذه السورة من أجل كُلِّ زمان ومكان فهي تَحضُّ على التمايُز:
حَدَّثني أحدهم أنَّهُ دُعِيَ لِطَعامٍ نفيسٍ، حَفْلَة كبيرة، وكان فيها مَشْروب، فقال: إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين، وما وَجَد أَكْلاً يأكُلُه إلا القليل؛ فهذا وِسامُ شَرَف، وهذا هو المؤمن لا يخْتَلِطُ مع المُشْركين، لا في احْتِفالاتِهِم، ولا في مُتَنَزَّهاتِهم، ولا في جَلْساتِهِم، ولا في مُزاحِهِم، ولا في عاداتِهم، ولا في تقاليدِهم، لقد أصبح المسلمون وللأسَف أشَدَّ تَعَلُّقاً بالأعْياد الأجْنَبِيَّة، وبالتقاليد الأجْنَبِيَّة، وبِأَنْماط الطعام والشراب، فهذه الأصول المُتَّبَعة في كُلِّ المُناسبات أكثر اِلْتِصاقاً بالأجانب منهم بِدينهم الحنيف، مع أنَّ كُلَّ هذا حرام! وهناك أمرٌ خطيرٌ جداً؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( من هَوِيَ الكَفَرَة حُشِرَ معهم، ولا ينْفَعُهُ عَمَلُه شيئاً. ))
[ المعجم الأوسط للطبراني عن جابر مرفوعاً ]
أي حبط عمله ولو كان يُصَلي، لقد أصْبَحَ الناس ينسِبون لأنفسِهم سوء الفَهْم، ويُزَكون الأجانب، قائِلين: هؤلاء يفْهمون، وليسوا كَحالِنا، وانظُر إلى الأبْنِيَة والحدائِق والمِترو، لا بدّ لنا من خمْسين سنة حتى نُصْبِح مِثْلَهم، فهذا التعْظيم كبير للأجانب (هَوِيَ الكَفَرَة حُشِرَ معهم، ولا ينْفَعُهُ عَمَلُه شيئاً) ، أحْياناً يأتي منْدوب شَرِكَة فَيَطْلُبُ الخَمْر فَيُقَدَّم له حُجّة: إنَّ مصالِحي مرْبوطَةٌ معه، فلن أحزنه، أين الدِّين؟! قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ*لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*وَلَآ أَنَا۠ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمۡ*وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ*لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ﴾ إنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل أنْ ينام يقرأ هذه السورة، ويَخْتُمُ نهارَهُ بِهذا المَوْقِف، والتَّنَزُّه عن الكفار، وعن معتقداتهم السخيفة، وعن عاداتِهم الذميمة، هناك أشْخاصٌ مُعْجبون بدور اللهو وبالنوادي والصالات الفُلانِيَّة، فَهُناك أماكن فيها أُبَّهة -كما يقولون- ورفاهَة، فهذا ليس لك، العشاء في الفُنْدق الفُلاني، ولكن فيه اختلاط، فهذه السورة من أجل هذا الزمان وكُلِّ زمان، فهي تَحضُّ على التمايُز، فأنت لك مكانك المُناسب من مُتَنَزَّهات وسَهَراتِك البريئة مع أهلك وإخوانك دون اختلاط، ولك حديثك الدّيني، لكَ تَرْتيبات خاصَّة فإياك أنْ تخْلِط هذا بِهذا.
الملف مدقق