الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أسماء الله الحسنى كلها تدخل في أفعاله:
أيها الإخوة المؤمنون سورة اليوم هي سورة الكوثر، قال تعالى:
﴿ إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ (3)﴾
إنني (أنا)، يأتي الحديث عن ذاته بضمير المفرد، والحديث عن أفعاله بضمير الجمع، (إنا)، أما كلمة أَعۡطَيۡنَٰكَ، الكاف للخطاب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو المقصود بهذه السورة.
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ. ))
[ مسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]
الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعرِّفهم بذاته وإذا عرفوا ذاته سعدوا به:
كلمة (أعطينا) من قِبَل الله عز وجل تعني شيئاً عظيماً، لأصرب لكم مثلاً: ولو قلنا: الملك أعطى فلاناً، فلو لم تتابع الجملة، ما دمت تقول: الملك أعطى فلاناً فلا بد من أن يكون العطاء كبيراً، وهل يُعقل أن يعطي الملِكُ قلم حبر، ليس معقولاً، أقل شيء بيت وسيارة، فلما ربنا عز وجل يقول: إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ معنى هذا العطاء كثير، لذلك (الكوثر) ورد فيها تفسيرات عدة:
• أحد هذه التفسيرات "النبوة" ، وهذا عطاء ما بعده عطاء، لأن هؤلاء الأنبياء صفوة الخلق، والنبي عليه الصلاة والسلام في رأس القائمة، سيد الأنبياء والمرسلين.
• بعضهم قال: القرآن ، إنما أُنزِل عليه.
• وبعضهم قال: أصحابه الكرام ، هؤلاء الرجال العظام الذين خصهم الله بالنبي الكريم.
• بعضهم قال: الحكمة ، ويؤكد هذا قوله تعالى:
﴿ يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ(269)﴾
بالحكمة تعرف أن الدنيا زائلة، فتسعى للباقية، وبالحكمة تعرف لماذا خُلقتَ في هذه الدنيا، فتسعى للجنة، قبل أن أفصّل في موضوع الكوثر لا بد من تمهيد يسير.
إنّ الله سبحانه وتعالى كان ولم يكن معه شيء، ثم شاءت إرادته أن يخلق الخلق، لماذا خلقهم؟ بادئ ذي بدء، سؤال كبير، ما من إنسان فيه ذرة من عقل يقوم بعمل ما إلا وله هدف، فإذا قمت من مكانك إلى مكان آخر، يبدو أن الصوت كان ضعيفاً فغيرت مكانك، إذا جلست في مكان معين، ويبدو أن هذا المكان فيه هواء، فما من إنسان فيه ذرة عقل يتحرك حركة إلا ولها سبب، ولن يتحرك حركة بلا هدف، فإذا كان المخلوق الضعيف لا يتحرك إلا بهدف، فالله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلْق، وحينما خلق المجرات، مثلاً مليون ملْيون مجرة، وهذا أحدثُ رقمٍ تقريبي لعدد المجرات، في كل مجرة مليون ملْيون كوكب، وبعض المجرات تبعد عنا ثمانية عشر ألف مليون سنة ضوئية، وهذا الكون الكبير بمجراته وبأرضه وبشمسه وبقمره، وهذه الأرض وما فيها من مخلوقات وحيوانات ونباتات وتضاريس وجبال ووديان وصحارى وسهول وبحار وينابيع، لماذا خلقها الله عز وجل! إذاً الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعرِّفهم بذاته، وإذا عرفوا ذاته سعدوا به.
الإنس والجن قبلا الأمانة وتحملاها :
قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)﴾
الله عز وجل خلق الخلق، كل هذا الذي تراه أعينكم مخلوقات؛ الجبل مخلوق، الماء مخلوق، النبات مخلوق: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ فربنا عز وجل عرضَ عطاء غير متناهٍ، عطاء كبيراً جداً، بل هو أعظم عطاء عرضه على الخلق كلهم، فأبوا، والملائكة خافوا من الأمانة، فملّكوا أنفسهم لله عز وجل، يسبحون له لا يفترون، والحيوانات خافوا من الأمانة، طلبوا الدنيا من دون مسؤولية، فكان لهم ما أرادوا، يعيشون لشهواتهم من دون حساب، وأما الإنس والجن فقد قبلا الأمانة وتحملاها، فما هي الأمانة؟ عطاء لا حدود له، ولكن له ثمن باهظ، فما هو الثمن الباهظ؟ أن يأتي الإنسان إلى الدنيا، وقد رُكِّبت فيه الشهوات وأُعطِي الفكر، وخلق الله الكون كي يتعرف إليه.
الميزة التي أعطاها الله للإنس والجن يقابلها عذاب لا نهاية له إذا خانوا الأمانة:
كونٌ يعرِّفه بالله، وفكرٌ هو أداة المعرفة، ونفسٌ فيها شهوات تعينه على الرقي إلى الله عز وجل، فبالفكر يَعرِفُ، وبالشهوة يرقَى، فإذا فكر في الكون عرف الله، فإذا آثر رضاء الله على شهوته ارتقى إلى الله، فسبيل السعادة الأبدية غير المتناهية، أن يُركَّب في الإنسان شهوة وفكر، وكون دال على أسمائه الحسنى، فإذا جاء الإنسان إلى الدنيا وفكّر في الكون وعرف الله عز وجل، واستقام على أمره، وآثر ما يرضي الله على ما يرضي شهواته ارتقى، فإذا جاء يوم القيامة سعد بهذا العمل إلى الأبد، فما هو العمل؟ قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾
أنت أيها الإنسان مخلوق عُرضت عليك الأمانة وقبلتها، ومعنى قبلتها قبلت أن تأتي إلى الدنيا، وقد رُكِّبتْ فيك الشهوات، ومُنِحتَ الفكر، وسخر الله لك ما في السماوات والأرض لخدمتك، ولأجل أن تعرف الله من خلال خلق السماوات والأرض، فمن فكّر في الكون، واستقام على أمر الله، وعمل الصالحات تقرباً إلى الله استحق هذا العرض الثمين، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ التكليف يعني، كل المخلوقات، كل بني البشر والجن تحملوا الأمانة، وقد أُتِيح لهم أن يسعدوا سعادة ما بعدها سعادة، هم قمة الخلق.
رُكِّب الإنسان من عقل وشهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكِّب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكِّب الإنسان من كليهما، فإنْ سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام حمل الأمانة، وأداها حق أدائها، وجاء إلى الدنيا فعبد الله عز وجل، وتعرف إليه، وأطاعه فسعد به، لذلك نقول في الصلاة على النبي: اللهم صل على سيدنا محمد، اللهم صل على أسعدنا محمد، إنه أسعد خلق الله قاطبة بمعرفة الله عز وجل، فلأنك إنسان إذاً أنت ممّن حمل الأمانة، وأنت الآن في فرصة، إما أن تسعد بها إلى الأبد، وإما أن تشقى إلى الأبد، طبعاً هذه الميزة الكبيرة التي أعطاها الله للإنس والجن يقابلها عذاب لا نهاية له إذا خانوا الأمانة.
كل ميزة يقابلها مسؤولية، فما دام الله عز وجل قد أعطى الإنس والجن أرقى سعادة، أعدّ لهم أرقى سعادة، إنْ هم خالفوها فسوف يحاسبهم أشد حساب، في حياتنا الدنيا مُنِح الإنسان صلاحية كبرى، له مظهر فخم، يقابل هذا المظهر الفخم أنه إذا لم يحسن استخدام هذه الصلاحية يُحاسَب حساباً عسيراً، وكذلك الإنسان لأنه رضي حمل الأمانة إذا قصّر في حق الله عز وجل، شقي شقاوة أبدية.
فيكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى الدنيا ليعرّفنا هذه الأمانة، وليعرفنا الغاية من خلقنا، خُلقنا لماذا؟ جيء بنا إلى الدنيا لماذا؟ ما هو أثمن ما في الدنيا؟ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ الآن أقف وقفة يسيرة عند عطاء الله في الدنيا، هذا الذي يعطيه الله للإنسان في الدنيا لا يُسمى عطاء، أبداً، لأنه ينتهي بالموت، المال ينتهي بالموت، والجاه العريض ينتهي بالموت، والرفاه الشديد ينتهي بالموت، والمنزل الفاخر ينتهي بالموت، وكل مباهج الدنيا يأتي الموت ويضع لها حداً، إذاً هذا ليس عطاء العظيم، هذا ليس عطاء الله سبحانه وتعالى، هذا يؤكده حديثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
[ الترمذي عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ]
(( إن الدنيا عرَضٌ حاضر يأكل منه البر والفاجر. ))
(( إن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ))
[ تخريج المسند لشاكر بسند ضعيف ]
قال الإمام علي رضي الله عنه: "يا بني ما خير بعده النار بخير" ، أي ما هو الشيء الثمين جداً عند الناس، دخْلُه مليون كل يوم، تُحَل كل مشاكله، أيخاف من ارتفاع الأسعار إذا كان دخله كل يوم مليوناً؟ "ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، الغنى والفقر بعد العرض على الله سبحانه وتعالى" .
لو كُشف الغطاء لكانت السعادة الكبرى أن تعرف الله:
إذا ظننت أن الله سبحانه وتعالى إذا منح فلاناً مالاً، وإذا ظننت أن هذا عطاء من الله عز وجل فأنت في ضلال مبين، هذا ليس عطاءً، قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك، فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي.
هذه الجلسة لو كُشف الغطاء لكانت السعادة الكبرى أن تعرف الله، أن تعرف لماذا جاء بك إلى الدنيا، وأن تعرف أثمن ما فيها.
كل إنسان يرى شيئاً ثميناً في الدنيا؛ هذا يرى المال أثمن ما في الدنيا، وذاك يرى المتع الرخيصة أثمن ما في الدنيا، هذا يرى الشأن الكبير في الحياة أثمن ما في الدنيا، هذا يرى حيازة الشهادات العليا، أن يُقال له: دكتور مثلاً، الباحث الكبير، العلّامة، يشعر بالخَدَر حينما يسمع هذه الكلمات، هذا يرى هذا اللقب العلمي أثمن ما في الدنيا، لذلك يسعى إليه ليلاً ونهاراً.
إذا عرفت أثمن ما في الدنيا حقيقة وسلكت السبيل الصحيح فأنت أسعد الناس، فكم من إنسان أمضى حياته في عمل ظنه مسعداً فإذا ظنه يخيب به فيراه طريقاً مسدوداً، قال تعالى:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104)﴾
﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
ربنا عز وجل خلقنا ليُسعدنا، خلقنا ليرحمنا، خلقنا لنعبده، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
أي لنعرفه فنطيعه فنسعد بقربه، هذا تعريف العبادة المختصر، ثلاث مراحل؛ تعرفه أولاً، وتطيعه ثانياً، فتسعد بقربه ثالثاً، وهذا هو الهدف.
أقوال في معنى كلمة (الكوثر):
حينما يأتي الإنسان إلى الدنيا ويعرف الهدف، يركز جهوده كلها في بؤرة واحدة، فيحقق نجاحاً كبيراً، وقد تقول عن إنسان: إنه ضائع، أي لا يعرف لماذا جاء إلى الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام:
(( مَثَلُ المُنافِق كَمَثَلِ الشَّاة العائِرَةِ بيْنَ الغَنَمَيْنِ؛ تَعِيرُ إلى هذِه مَرَّةً، وإلَى هذِه مَرَّةً. (وفي رواية) تَكِرُّ في هذِه مَرَّةً، وفي هذِه مَرَّةً. ))
فربنا عز جل يسلِّي نبيه عليه الصلاة والسلام، ويطمئنه، ويَعِده بالخير الكثير.
﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ ما هو الكوثر؟
• بعضهم قال: نهر في الجنة ، وقد ورد هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام.
• وبعضهم قال: الحوض يوم القيامة .
• وبعضهم قال: القرآن الكريم.
• وبعضهم قال: النبوة .
• وبعضهم قال: أصحابه الكرام.
• وبعضهم قال: رِفعة الذكر في السماء والأرض "لا إله إلا الله محمد رسول الله" قُرِن اسمه مع اسم الله عز وجل، في الأذان وفي الصلاة وفي عبادات كثيرة.
• وبعضهم قال: نور في قلب النبي عليه الصلاة والسلام دله على الله، وقطعه عمن سواه.
وبعضهم قال: الصلوات الخمس.
• والأصح من هذا كله؛ أن كلمة الكوثر تعني الخير الكثير ، كل هذا الذي ذكرته مجتمعاً وشيء آخر لا نعرفه: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾
• وبعضهم قال: الحكمة ، لقوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ إذا عرفت أن في هذا البناء كنزاً يغنيك إلى آلاف السنين، فهذه المعرفة أثمن من الكنز، لأنك عرفت الكنز بها، هذه الحكمة، فالحكمة تعرفك أن الله أثمن من كل شيء، فإذا عرفته عرفت كل شيء وإذا فاتَك فاتك كل شيء، تعرف هذا بالحكمة، وبالحكمة تعرف أنه من يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً، وبالحكمة ترى أن الله سبحانه وتعالى وحده يستحق المحبة، ولا شيء في الأرض يستحق معه المحبة.
الحكمة هي عطاء الله الكبير للأنبياء:
الآيات التي ذكر الله بها عطاءه الكبير للأنبياء:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(22)﴾
﴿ إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُۥ قَوْمُهُۥ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ(76)﴾
مفاتيحه فحسب، لا يستطيع سبعة رجال أشداء أن يحملوها، فكيف بالكنوز نفسها؟ لمن أعطى الله هذا؟ لقارون، وماذا أعطى الأنبياء والمرسلين؟ الحكمة، قال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(2)﴾
فلذلك إذا أوتيت طرفاً من الحكمة، لا أقول: الحكمة بكاملها، إذا أوتيت طرفاً منها فقد فُقْتَ الناس كلهم، وليس في الأرض من هو أسعد منك إلا أن يكون أتقى منك.
السعادة تأتي بالحكمة لا بالمال:
إذا شعرت أن فلاناً العاصي أعطاه الله وحرمك من هذا العطاء فأنت لست مؤمناً، قال تعالى:
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)﴾
يعبر عنها الناس الآن بقولهم: فلان هنيئاً له، لديه بيت لا يوصف، وله محل وعنده أرض تضاعفت ثلاثين ضعفاً، ترى أن الناس يسيل لعابهم على هذه الأرقام، وهم لا يعرفون الله عز وجل، وليتهم عرفوا الله سبحانه وتعالى، فمن عرفه فقد عرف كل شيء، ومن جهله فقد جهل كل شيء، هذه السعادة، هذه تأتي بالحكمة، وحضور هذه المجالس يعلمك الحكمة، تمشي على بصيرة، قال تعالى:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
القرآن حمّال أوجه وإعجازه في إيجازه:
ربنا عز وجل قال: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ ماذا أعطاه؟ أعطاه كل شيء تقول: نبوة، نعم نبوة، قرآن، نعم قرآن، ذكر عالٍ، نعم، سعادة لا توصف كذلك صحيح، حكمة ما بعدها حكمة كذلك صحيح، نهر في الجنة صحيح، الحوض المورود صحيح، القرآن مطلق، يحتمل معان كثيرة، القرآن ذو وجوه، القرآن حمّال أوجه، إعجازه في إيجازه: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ الآن إذا أُعطي رجل مِن كل شيء؛ مالاً كثيراً، وجاهةً، بيتاً، مزرعة، بيتاً في المصيف، زوجة، أولاداً، يقول: نال من كل شيء بطرف، وجمع أطراف المجد، هذا في الدنيا، فربنا عز وجل خاطب النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ وفي بعض الأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فسر هذا الكوثر، فقال: الخير الكثير، وكلمة كثير من الله كثير، كلمة أعطيناك من الله تعني عطاءً كبيراً، ليس معقولاً مِن ملك أنْ يعطي قلم حبر، أنعمنا عليك بقلم، لا تصح هذه مع ملك، عطاء الكبير كبير، عطاء العظيم عظيم.
دائرة المسموعات لا حدود لها ودائرة الخواطر لا نهاية لها:
يروى أن امرأة وقفت بباب أمير تسأله حاجة، فأعطاها عطاءً كثيراً، فلامه بعض جلسائه، قالوا: أيها الأمير إنه يرضيها القليل، وهي لا تعرفك أنك كريم، فأجابه إجابة تُسجل بماء الذهب، قال: "إن كان يرضيها القليل فأنا لا أرضى لها إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي".
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾
هذه الآية تؤكد مدلول القصة آنفة الذكر، إلا قليل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ ۗ قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾
العظيم يقول لك قليل:
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة ]
(مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ) دائرة المشاهدات محدودة، لكن دائرة المسموعات كبيرة جداً، فأنت لم تر إنساناً وزنه ثلاثمئة كيلو، لكنك سمعت أو قرأت في كتاب أن وزنه ثلاثمئة كيلو، وأنت لم ترَ بناء مئة وطابقين رأيت في محيطك أربعين أو ثلاثين طابقاً، أما حسب مسموعاتك فموجود، فدائرة المشاهدات محدودة جداً لكن دائرة المسموعات واسعة جداً، كل حدث يحدث في الأرض الآن مهما بدا غريباً يصل إلى أسماعنا، وإن كانت دائرة المسموعات لا حدود لها فدائرة الخواطر لا نهاية لها، قد يخطر لك أن دخلَ فلانٍ مئة ألف مليون في اليوم، فهذا خاطر غير محقق، انظر إلى الحديث كم هو دقيق: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) .
الحياة كلها مدرسة جئنا إليها لنعرف الله عز وجل ونستقيم على أمره:
خُلِقت لهذه الحياة، وأنت في الدنيا في مدرسة فيها من كل شيء من أجل أن تعرفه: النبي عليه الصلاة والسلام ألقى نظرة على الهلال فقال:
(( عن قتادة أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا. ))
[ أبو داود عَنْ قَتَادَةَ ]
في الدنيا وسائل إيضاح، فيها كتب، هذا الكتاب المقرر، وكل كلمة بهذا الكتاب يقابلها وسيلة إيضاح، قال تعالى:
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)﴾
الإبل موجودة، السماء موجودة، الجبال موجودة، الأرض موجودة.
﴿ وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا (1)وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2)وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3)وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا (4)وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5)وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا (6)وَنَفۡسٍ وَمَا سَوَّىٰهَا (7)فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8)﴾
أنت في مدرسة، وهذه الحياة كلها مدرسة، جئت إليها لتعرف الله عز وجل، وتستقيم على أمره، وتفعل أفعالاً تقربك إليه، وتخالف فيها شهواتك التي أودعها الله فيك، فإذا جاء وقت اللقاء سعدت بقربه إلى الأبد، هذا هو سر الخلق، وهذا هو الهدف الكبير من خَلق الإنسان.
قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَر﴾ إنّ هذه النعم فيضٌ من الله، لكن العلماء قالوا: تمام النعمة الهدى، فالهدى واحد والمال صفر، فصاروا عشرة، ومع الهدى زواج، صفر ثان، فهو مهتدٍ، وله دخل يعيش به وله زوجة، الأولاد صفر ثالث، الشأن العالي في المجتمع صفر رابع. الآن لو حذفت الواحد لكان كل الذي أمامه أصفار، لذلك:
﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)﴾
سُميت نَعمة وليست نِعمة، لكن النِّعمة:
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2)﴾
المهتدي يسمى المال عنده نِعمة:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15 (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾
أي؛ هذه المقولة ليست صحيحة، ليس عطائي في الدنيا إكراماً، إنه ابتلاء، وليس حرماني إهانة، إنه معالجة، ﴿كَلَّا﴾ ، فالله سبحانه وتعالى نفى أن يكون عطاؤه في الدنيا إكراماً، إذا أعطاك المال وأنفقته في وجوهه الصحيحة فقد ابتلاك الله به، واستعملته فيما يرضيه، فانقلب الآن المال إلى نعمة كان ابتلاءً فصار نعمة، أعطاك الله زوجة فعرّفتها بربها وحجبتها عن الأجانب، وعرفتها أمر دينها، فسعدت بها وسعدت بك الآن أصبحت الزوجة نعمة: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ إنسان هذا قوله، وهذه مقولته، وليس هذا صحيحاً ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ إذا أُصيب رجل في صحته، أو أصيب في دخله، أُتلِفت بعض بضاعته، احترق محله التجاري، فَقَدَ أحد أولاده، هذا ليس إهانة إنما هو معالجة ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ*كلا﴾ (كلا) أداة ردع وزجر ونفي، كلا ليس عطائي إكراماً، عطائي ابتلاء، وليس حرماني إهانة، حرماني دواء، هذا هو المعنى.
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ من لوازم النعمة، ولئلا تُحجَب بالنعمة عن المُنعِم صَلِّ، وكلمة (صل وانحر) هي الدين كله، وهناك آية مشابهة لها.
﴿ وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا(31)﴾
جوهر الدين الصلة بالله عز وجل والإحسان إلى الخلق:
إنّ جوهر الدين صلة بالله عز وجل، وإحسان إلى الخلق، هذا هو الدين كله، فإن عرفته اتصلت به، فإذا سعدت بقربه تشكره، وشكره الإحسان إلى خلقه، لأنّ:
(( الخلْقُ كلُّهم عِيَالُ اللهِ، فأحبُّهُمْ إلِى اللهِ أنفَعُهم لِعيالِهِ. ))
فجوهر الدين اتصال بالله، وإحسان إلى الخلق، إلى الخلق ليس للمسلمين فحسب بل للخلق قاطبة، انظر إلى هذه الآية ما أجملها: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ لربك اجعل هذه الصلاة خالصة له، لا رياء فيها ولا سمعة:
(( خشيةُ اللهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ، والوَرَعُ سَيِّدُ العملِ، ومَن لم يكن له وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عن معصيةِ اللهِ عز وجل إذا خَلَا بها، لم يَعْبَأ اللهُ بسائِرِ عملِهِ شيئاً. ))
يصلي في السر كما يصلي في العلانية، يقبل على الله في السر كما يقبل عليه في العلانية.
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ وانحر: أوجَهُ التفسيراتِ لهذه الكلمة؛ وانحر الأضاحي، فَذَكَرَ الجزءَ وأراد الكل، ذكر عملاً صالحاً من هذه الأعمال الكثيرة، وأراد بها مطلق العمل الصالح، كقوله تعالى:
﴿ أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ (1)فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ (2)وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (3)﴾
قد يسأل سائل: لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هاتين الإساءتين بالذات؟ لأن الإساءة الأولى تمثّل أشنع عمل، فلو منعت خيرك عن إنسان لكان هذا إساءة، ولو منعته عن يتيم فهذه إساءة أبلغ، لو آذيت اليتيم كان أبلغ وأبلغ ثلاث مراحل، لو منعتها عن أي إنسان لكان هذا إساءة، ولو منعتها عن يتيم، مهيض الجناح لكان أبلغ وأبلغ، يدعّ اليتيم، يزجره، يعنفه يدفعه بيده، الآن إلى الفقرة الثانية.
﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أي العمل الصالح مهما خف إلى أن أصبح كلمة ومع هذا يضنّ بها، لا يفعلها، مهما خفّ العمل الطيب لا يفعله، ومهما كان العمل السيّئ قبيحاً يفعله، فليس المقصود يحض على طعام المسكين، بل المقصود أنه يمتنع عن فعل الخيرات مهما قلَّت، ويفعل السيئات مهما كانت فظيعة.
لو طلبنا لقاء الله عز وجل فالثمن محدد والباب مفتوح:
كذلك: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ أي اتَّصل بالله، وافعل الخير تقرّباً إليه.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً(110)﴾
إذا رجوت لقاء إنسان، يقال لك هذه الأسبوع مشغول، والذي بعده عنده اجتماعات، والذي بعده عنده سفر، والذي بعده يقال لك: عندنا ثمانون إنساناً ينتظرون فانتظر معهم، هذا إنسان، أما لو طلبت لقاء الله عز وجل فالثمن محدد، والباب مفتوح ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾
تعريف الدين كما ورد في القرآن الكريم:
قال بعضهم: هذه الآية تلخيص القرآن كله، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ ماذا يوحى إلي؟ ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لا رازقَ ولا معطيَ ولا رافعَ ولا خافضَ ولا معزَّ ولا مذلَّ إلا الله.
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(10)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)﴾
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾
﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾
لا إله إلا الله عز وجل، هذا هو الدين، وهذا كل دين.
فحوى الديانات كلها قول (لا إله إلا الله):
هذا فحوى الديانات كلها،
(( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ))
عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا يَسْبِقُهَا عَمَلٌ وَلَا تَتْرُكُ ذَنْباً. ))
(( لا إله إلا الله حصني فمن دخله أَمِن من عذابي. ))
هذه كلمة التوحيد أخطر كلمة في الدين، هي الدين كله، فاعلم - ليس فقل - أنه لا إله إلا الله، بل اعلم.
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)
(( خشيةُ اللهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ، والوَرَعُ سَيِّدُ العملِ، ومَن لم يكن له وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عن معصيةِ اللهِ عز وجل إذا خَلَا بها، لم يَعْبَأ اللهُ بسائِرِ عملِهِ شيئاً ))
قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ هذا الدين كله، فإذا كانت صلاة الرجل شكلية وليس له عمل صالح، فكل أعماله غير مجدية، يقول: تعلَّمنا هذا العلم، يقال له: تعلمته لتباهي به الناس، خذوه إلى النار.
المحافظة على الصلاة أن تكون على جادة الاستقامة:
ألّفنا هذا المؤلف الفلاني، هذا المؤلف دقيق فيه فهرس أعلام، وفهرس للموضوعات، وفهرس أماكن، وفهرس أزمنة، وفهرس للآيات وللأحاديث، وله مقدمة وفصول وقرَّظه كثير من الأدباء والعلماء، وتجليده جيد، وتباهيت به.
الدين صلة بالله عز وجل، وإحسان إلى الخلق، فكل شيء ينتمي لهذين الشيئين فهو مجدٍ ومثمر، وكل عمل بعيد عن هذين الجوهرين فهو عمل لا جدوى منه، كأنه خسارة.
إذا وقفت بين يدي الله، هل تشعر أنك أقبلت عليه؟ أما هذه الصلاة الشكلية، قال له:
(( فارجِع فصلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ. ))
إقامة الصلاة لا أن تقول الله أكبر، أن تقيم هذه الصلة: حافظوا على الصلوات، إنْ أذّن ذهبنا إلى المسجد، ليس هذه المحافظة، المحافظة أن تكون مستقيماً بين الصلاتين، حتى إذا جاء وقت الصلاة وقفت وأنت مقبل على الله ولست خجولاً منه سبحانه وتعالى، هذه المحافظة على الصلاة أن تكون على جادة الاستقامة.
﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ هذا الدين، أيْ افعل الخيرات من أجل أن ترقى في الدنيا والآخرة، لأنه كل إنسان جاء إلى الدنيا ولم يعمل صالحاً فليس عند الله مقبولاً، يا رسول الله إن فلانة تذكرُ أنها تكثر من صلاتها، تكثر، ليس تصلي، ما معنى تكثر؟ أي لها قيام ليل، ضحى، أوابين، وصدقتها، ليس الزكاة، زكاة وصدقة، وصيام، غير أنها تؤذي جيرانها، قال: هي في النار.
(( قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانها؟ قال: هي في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. ))
بني الإسلام على خمس، هل تسمى هذه الدعائم هي الإسلام، لا، هذه دعائم الإسلام، وليست هي الإسلام.
(( بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ. ))
[ متفق عليه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ]
الإسلام بناء آخر؛ لما سأل النجاشي سيدنا جعفر عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام فماذا قال له؟
(( قال: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ويَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. ))
[ أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ]
هذا هو الإسلام، الإسلام صدق، والإسلام عفة، والإسلام أمانة، والإسلام ورع واستقامة، والإسلام عمل صالح، هذا الإسلام، أما الصلاة فليست هي الإسلام، بل هي إحدى دعامات الإسلام، يقوم عليها الدين، هل المدرسة بناء؟ ليست بناء، ولا مقاعد، ولا سبورة، ولا كتباً، إذاً ما هي؟ المدرسة علم، قد ترى مدرسة، ولكن ليس فيها علم، ليس فيها مدرسون، بناء مدرسة وغرف صفوف، ومقاعد وسبورة وغرفة إدارة وملعب، لكن ليس فيها مدرسون، لا نسمي هذا البناء علماً، العلم شيء آخر، العلم مدرس دخل الصف ألقى محاضرة علّم فيها الطلاب، فالإسلام غير الصلاة (فارجِع فصلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ)
(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً. ))
(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. ))
[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
حجوا قبل ألاَّ تحجوا، قد يأتي زمان يحج الإنسان ويرجع كما ذهب، يبقى مقيماً على معاصيه.
﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ*فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ﴾ لئلا تُحجَب بالنعمة عن المنعم صلِّ، لئلا تكون جاحداً لهذه النعمة صلِّ، ومن أجل التقرب إلى الله عز وجل انحر، هذا هو الدين.
الأشرار عصيٌّ بيد الله عز وجل:
قال سيدنا علي رضي الله عنه: "لا يَخافَنَّ العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجُوَنَّ إلّا رَبّه" إنّ الدين كله في هذا القول، لا تخف من إنسان، لا شيء يخيف إلا الله، هذا المخيف بيد الله عز وجل.
أَطِعْ أمرَنا نرفعْ لأجلِكَ حُجْبَنا فإنّا منحْنَا بالرِّضى مَن أحبَّنَا
ولُذ بِحِمَانا واحْتَمِ بِجنابِنـــــــا لنَحميك ممّا فيه أشرارَ خَلْقِنا
الخلق الشريرون بيد الله عز وجل، إما أن يرخي لهم الحبل فيصلوا إليّ، وإما أن يبعدهم عني، علاقتي مع الله عز وجل. إذا تلقى رجل ضربةً بعصا، فهل يتشاجر مع العصا، إذا فعل يكون أحمق، فهؤلاء الأشرار عصيٌّ بيد الله عز وجل، هذه أدوية في صيدليته، عند الله صيدلية فيها أدوية منوعة، الشريرون أدوية في هذه الصيدلية، أحياناً لا بد له من إنسان شرير ليخيفه، ويأكل له ماله، فقد يكون ماله حراماً، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(90)﴾
كل شيء يحدث بقضاء من الله وقدر:
قال تعالى:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(22)﴾
التفسير الوجيه لهذه الآية: إن كل إنسان له عند الله صفحة هي سِجِلُّ أحواله، دخله، إقباله، صلاته، طهارة نفسه، علاقاته الاجتماعية، هل فيها معاصٍ أم لا معاصي فيها، فربنا عز وجل بناءً على هذه الصفحة، وعلى هذا الكتاب يرسل له مصيبة.
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ قبل أن تنزل المصيبة، هناك دراسة مستفيضة حول حالة الإنسان، هذا الذي أصابه خير شيء له، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ ، فما قُضِيَ للإنسان أنْ يأتيه فلا بد أن يأتيه، لأن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم، اطلع على قلبه فرأى انحرافه، فقدّر له ما يُرجِعه، وهذا تفسير مُبسّط للقضاء والقدر، القضاء هو الحكم، والقدر من التقدير، فربنا عز وجل اطلع على هذا الإنسان فحكم بإعراضه، فقدر له ما يرجعه إليه، كل شيء بقضاء من الله وقدر:
الإيمان بالقدر يذهب الهَمَّ والحزن.
ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة
(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))
[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
القضاء هو الحكم والقدر هو التقدير والقضاء والقدر دائماً لمصلحة الإنسان:
ربنا عز و جل كل يوم هو في شأن، اليوم نظر لهذا الإنسان فرآه مقبلاً فقدّر له إكراماً، وإن رآه معرضاً قدَّر له معالجة، فالقضاء هو الحُكم، والقدر هو التقدير، والقضاء والقدر دائماً لمصلحة الإنسان، بيده سبحانه الخير كله:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)﴾
الإعزاز خير والإذلال خير، العطاء خير والمنع خير، هذا تفسير قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ(20)﴾
الظاهرة النعم والباطنة المصائب، نِعَم باطنة، إذاً: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ الذي تفضل به الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم لا نستطيع أن نحيط به إطلاقاً، نحن نفكر أن القرآن أحد العطاءات، النبوة أحد العطاءات، الحكمة أحد العطاءات، نهر في الجنة أحد العطاءات، الحوض المورود أحد العطاءات، وهناك عطاءات لا نعلمها، لا يعرف النبي إلا النبي، نحن دونه، لا نحيط بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَسِيلَةُ؟ قَالَ: أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ. ))
إنه باب الله الأوحد، وما من مخلوق في الكون يستطيع أن يدخل على الله عز وجل إلا من باب رسول الله، أيّ امرئ أتاني من غيرك فلا يدخله، والأنبياء جميعاً يدخلون على الله من باب النبي عليه الصلاة والسلام.
الآية التالية لرسول الله ونحن لنا منها نصيب:
النبي الكريم هو سيد الأنبياء والمرسلين، صلاته بالأنبياء في الإسراء دليل رِفعة مقامه:
(( أنا سيدُ ولدِ آدمَ يوم القيامةِ ولا فخرَ، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامةِ ولا فخرَ. ))
﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ هذه الآية لرسول الله ونحن لنا منها نصيب، فإذا استقمت استقامة تامة، وعملت أعمالاً طيبة، شعرتَ بشأن لك عند الله لا يعرفه إلا مَن ذاقه، وشعرت بطمأنينة عجيبة، لا قلق ولا خوف في حياتك، ولا حقد ولا شعور بالحرمان، هذه مشاعر الناس الساحقة لهم، أنت في منجاة منها، هذه بعض الكوثر، قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
إحساس المؤمن أن له عند الله شأناً:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)﴾
هذا المقعد، أنت مؤمن، مطيع لله عز وجل، تؤثر جانب الله، لا تعصي الله، محبٌّ لله، قائم على أمر الله، هذا الشعور وحده كوثر، أنت لك نصيب من هذه الآية، ولكن:
لا يَعرِفُ الشَّوقَ إلّا مَن يُكابِدُهُ ولَا الصّبابةَ إلّا مَنْ يُعانِيهَا
الكلام سهل، لكن يجب أن تشعر أنك في كوثر من النعم.
المؤمن موعود من الله عز وجل بعطاء لا حدود له:
إنّ كل آية موجهة للنبي عليه الصلاة والسلام للمؤمن منها نصيب بقدر إيمانه، واستقامته، وعمله الصالح، وبقدر إقباله وورعه، وبقدر زهده وحبه: ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ﴾ قال تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
هذا الكوثر، أنت مؤمن موعود من الله عز وجل بعطاء لا حدود له، يبدأ في الدنيا، فلا تقل: هو بعد الموت، وهذا يطول، بل يبدأ في الدنيا، لكنْ لمن؟
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾
(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ. ))
[ الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف ]
هكذا قال رسول الله، هو الآن في الجنة، والمؤمن في جنة دائماً، لو اطلعت على قلب المؤمن لرأيت فيه سعادة لو وُزِّعت على أشقياء الأرض لأسعدتهم، لأنه مع الله.
إذا زار المسلم الحجرة النبوية الشريفة، يقول لك: بكيت نصف ساعة، لماذا بكيت؟ هذا مما فاض من أنوار رسول الله عليك، صار لك صلة به.
الجنة اتصال حقيقي ومباشر بالله عز وجل:
إذا جلس مع رجل ذي مكانة عالية، إيمانه عالٍ، ليس علمه فحسب، يقول لك: شعرت بسرور، وشعرت بنفس متفائلة، ذهب عني الضيق، وانزاح عني القلق، وتلاشى لديّ التشاؤم، وفارقتني السوداوية، وذهب الإحساس بالضياع، فماذا صار لك؟ أولياء أمتي إذا رُؤوا ذُكر الله بهم:
﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾
(( إنَّ القلوبَ تصدَأُ كما يصدَأُ الحديدُ، فقيلَ: يا رسولَ اللَّهِ وما جلاؤُها؟ فقال: تلاوةِ القرآنِ، وذِكرِ الموتِ. ))
[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]
أنت عندما تصير لك وجهة إلى الله عز وجل تعرف معنى هذا الكلام، فالمؤمن في سعادة في الدنيا، ولو سكن بيتاً ضيقاً، ولو لم يكن له أولاد، ولو كان دخله قليلاً، لكنه في سعادة لأنه موصول بالله عز وجل، موصول بأصل السعادة، فلما يتصل الإنسان بمخلوق أعطاه مسحة من الجمال، أو كان له ابن جميل الصورة، تراه يقول لك: نحن مسرورون به كثيراً، سهرنا إلى الساعة الثانية عشرة بسرور معه، فهذا مخلوق له مسحة من الجمال، فكيف إذا اتصلت بصاحب الجمال؟ إذا جلست بمكان على سفح جبل أخضر، والبحر أمامك، والنسيم العليل، فلعلك تقول: واللهِ مثل الجنة، فكيف إذا اتصلت بصاحب الجمال، مبدع المكان والجمال؟
الإنسان في الدنيا يتصل بمخلوقات الله عز وجل، التي أسبغ الله عليها مَسحة من جماله، فيظن أنه قد سعد بها، لكن الجنة اتصال بالله عز وجل، ينظر المؤمن إلى الله عز وجل في الجنة نظرة يغيب بها خمسين ألف سنة من نشوتها، ففي قلب أهل الجنة سرور لا يعلمه إلا الله، إلى الأبد، لا خوف، ولا حزن، ولا قلق، ولا نقص بالمواد، ولا شيء يبعث فيهم الهم والحزن.
إرضاء الله والنبي واحد فهما شيئان يلتقيان في شيء:
قال تعالى:
﴿ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَٰلِدِينَ (73)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ(19) إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَٰقٍ حِسَابِيَهْ(20)فَهُوَ فِى عِيشَةٍۢ رَّاضِيَةٍۢ(21) فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍۢ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةً(23) كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيٓـًٔۢا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلْأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ(24)﴾
﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ *فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَر*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ المقطوع من هو؟ من أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، لماذا أبغضه؟ لأنه أبغض الله سبحانه وتعالى:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)﴾
هذه آية ورد سياقها على خلاف اللغة، السياق النحوي يقتضي أن تكون: والله ورسوله أحق أن يرضوهما، لأنها مثنى، الله قال: ﴿يُرْضُوهُ﴾ ، وهذا من إعجاز هذه الآية، لأن إرضاء النبي عليه الصلاة والسلام هو إرضاء لله، وإرضاء الله عز وجل هو عين إرضاء النبي، وإرضاء الله والنبي واحد، فهما شيئان يلتقيان في شيء ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ .
ليس بين الخلق وبين الله قرابة إلا طاعتهم لله عز وجل فالقرابة هي الطاعة:
قال تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ هذا الذي أبغض النبي عليه الصلاة والسلام لماذا أبغضه؟ لأنه أبغض الله سبحانه وتعالى.
(( أحبُّوا اللَّهَ لما يَغذوكم من نعمِهِ، وأحبُّوني بحبِّ اللَّهِ وأحبُّوا أهْلَ بيتي بحبِّي. ))
أنا منسوب، ما نسبتك؟ ثمانية عشر جداً، أنا أقصر منك، أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً، انتهت، فلا تفرقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أَنفعُهم للنَّاسِ. ))
والناس سواسية كأسنان المشط، قال: "يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية"، ليس بينهم وبينه قرابة إلا طاعتهم لله عز وجل، القرابة هي الطاعة: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ أين أبو لهب؟ أين ذكره؟ قُطِع ذكره، وأصبح في الأذلِّين:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ(20)﴾
أين أبو جهل؟ هؤلاء الذين كذبوا النبي، هؤلاء الذين عادَوه، هؤلاء الذين تآمروا عليه، أين هم الآن؟ في أسفل سافلين، لمن العاقبة؟ واللهِ الذي لا إله إلا هو، آية كلما أقرؤها يقشعرّ بدني منها:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
العاقبة للمؤمن، الكافر يصول ويجول وينقصم، أما المؤمن فله العاقبة في الدنيا والآخرة، في الدنيا ترى حياته مباركة؛ زواجه مبارك، وفي بيته، وفي مستقبله، وفي خريف عمره، يقضي خريف عمره كأجمل أيام حياته، يزداد عقلاً، ويزداد حلماً، يزداد إقبالاً ومعرفة بالله عز وجل، ويزداد شأناً، المؤمن خطه البياني صاعد، ولا يقف ولا ينحني ولا ينزل أبداً، والموت نقطة على هذا الخط الصاعد، ويبقى الخط صاعداً.
قال تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ الذين عادوا الدين أين هم؟ الذين حاربوا الله ورسوله أين هم؟ الذين أرادوا أن يطفئوا كلمة الله أين هم؟ في القبور يُعذَّبون، والمؤمنون في روضات الجنات.
الناس أحد رجلين برّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هيِّن على الله:
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ هذه يجب أن تبقى في ذهنك أبداً، العاقبة لك أيها المؤمن في الدنيا والآخرة، حياتك غالية على الله عز وجل،
(( فالناسُ رجلانِ :رجلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على اللهِ. ))
فحياتك غالية على الله، وزواجك غالٍ على الله، فينتقي لك الزوجة المناسبة التي تسعدك في الدنيا، وتعينك على أمر دينك، وينتقي لك أولاداً إما أن ترقى بتربيتهم، وإما أن تسعد بهم، في الحالتين، إذا لم يكونوا كما تريد ترقى بتربيتهم، وإذا كانوا على ما يرام تسعد بهم، وقد ترقى بهم ثم تسعد بهم، والله أعلم.
ينتقي لك عملاً شريفاً، بدخل حلال نظيف، وله مكان عليّ عند الناس، فإذا عرفته عرفك فأكرمك، اعرفني في الرخاء أعرفك في الشدة، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.
﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ هو المقطوع، والأغرب من ذلك سيدنا عكرمة من نسل أبي جهل، أليس كذلك؟ أحبَّ النبي، وأخلص له وباع نفسه في الحق، رغم أنه من نسل هذا العدو الماكر، فابنه تبِع النبي، وكره أباه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كريماً، قال:
إكراماً لابنه نهى أصحابه عن سب أبيه، أبي جهل، سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت، أمية بن خلف، أبو جهل، هؤلاء الصناديد الذين كفروا وعارضوا وحاربوا وائتمروا، وعاكسوا وعطلوا عقولهم، أين هم؟ الإسلام في الأوج، القافلة تسير والكلاب تعوي، وما ضر السحاب نباح الكلاب، السحاب في السماء فلو أن الكلاب نبحت ساعات طويلة، فالسحاب هو السحاب لا يتوقف سيره، والإسلام هكذا، إذا أردت أن تعارضه كأنك تصب الزيت على النار يزداد تأججاً واتّقاداً وقوةً وصلابة، فلذلك قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ﴾ مقطوع، مقطوع الخير، مقطوع الذكر، التاريخ يطويهم، يهملهم، يحتقرهم، والتاريخ حَكمٌ عدل.
الملف مدقق