- أسماء الله الحسنى
- /
- ٠1أسماء الله الحسنى 1996م
الحمد لله رب العالمين، الله خالق كل شيء فاعبدوه فمع الاسم السابع عشر مِن أسماء الله الحسنى وهو اسم الخالق، بادئ ذي بدء يقول الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
يُفهم من هذه الآية أن الخالق وحده ولا أحد سواه ينبغي أن تعبده فإذا توجه الإنسان إلى غير الخالق فقد ضلَّ سواء السبيل، والخالق وحده هو الذي إذا عبدته سعدت بعبادته، وإذا عبدته نجوت من عذابه، وإذا عبدته أفلحت في حياتك وفُزت بعد مماتك، ودخلت الجنة وسعدت فيها إلى الأبد، قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
في المعنى المألوف اليوم أن الصانع وحده هو الجهة الوحيدة التي يمكن أن تعطي تعليمات التشغيل، فمثلاً لديك آلة، فما الجهة المخوّلة والوحيده التي لها الحق أن تُصدر تعليمات التشغيل ؟ إنه الصانع، فلو أن آلة ثمينة تملكها واتّبعت في تشغيلها جهةً غير جهة الصانع فقد أفسدتها وأعطبتها وأضعفت مردودها وخسرتها، فببساطة بالغة يقول العقل: لا يعبد إلا الصانع، أي لا يُتبع إلا الصانع، ولا يُطاع إلا الصانع.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
السؤال المفرود لماذا ؟ ألا يعلم من خلق، فهو عليم خبير حكيم يعرف طبيعة هذه النفس، وما يصلحها و يفسدها، وما يسعدها و يشقيها، وما يرفعها و يخفضها، و يطمئنها ويخيفها إنه هو الخبير، قال الله تعالى:
﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
أي إنسان واعٍ مَلك جهازاً له قيمته يحرص على سلامته ويسأل الخبراء المتخصصين دون غيرهم، فقد تشتري سيارة وتراها ذات مظهر أخّاذ ولكن تخاف أن يغدر بك البائع، وتسأل قبل شرائها عن خبير، فتقول له: انظر لي هذه السيارة ما قوتها ؟ وما طبيعة محركها ؟ وما وضعها العام ؟ وما سلامة هيكلها ؟ إذاً أنت في أمورك التي تتعامل معها يومياً تبحث عن الخبير، وتبحث عن العليم، وربنا عز وجل قال:
﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
فمثلاً في الحياة الزوجية، قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1)﴾
أولاً نهى الرجال عن أن يُخرِجوا زوجاتهم من بيوتهن إذا طُلّقن، ونهى النساء عن أن يخرُجْنَ مِن دون إذن أزواجِهن إذا طلقن طلاقاً رجعياً، لأنه عليم بطبيعة النفس البشرية، فالرجل والمرأة كلاهما ذو ميل فطري نحو صاحبه، والنفس الفائرة قد تهدأ فورتها بعد حين، فإذا ابتعدا عن بعضهما، تفاقمت الأمور ودخلت جِهات كثيرة على خط العلاقة الزوجية، وربما أفسدته، فإذا بقيت الزوجة في بيت زوجها فأكبر مشكلة في يومين أو ثلاثة تتضاءل بإذن الله، أما إذا خرجت الزوجة إلى بيت أهلها غاضبة فأصغر مشكلة تغدو كبيرة إذا تناولتها ألسنة كثيرة، فتفسد ما بقي صالحاً، فلذلك هذا قانون وضعه الخبير، و الصانع والعليم، والخالق، قال:
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً(34)﴾
فإذا كنت أفضل علماً وخلقاً وورعاً و تقى وقد أنفقت من مالك على زوجتك فلك القوامة، وإذا أردت أن تُفلح في إصلاح ما انخرق بينكما فعُد إلى كتاب الله ففيه الخير والفلاح، لقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)﴾
ففي أي موضوع... حتى في شأن صحتك، وعلاقتك الخاصة جداً، و كسب رزقك، وفي شأن شيخوختك، عليك بهذا القرآن ففيه الهدى:
روى ابن عدي في الكامل عن أنس:
(( من تعلم القرآن، متعه الله بعقله حتى يموت))
وقد استرعى نظري أحد الأطباء وهو يُعالج مريضاً مصاباً بتضيّق شرايين الدماغ، فصار إلى الحركة البطيئة، فقال هذا الطبيب عليكم أن تحدثوه، قلت وما السر في ذلك، قال إذا حدثتموه اضُطرَ أن يُجيب، فإذا أراد أن يجيب تنشطت خلايا الدماغ وتوسعت الشرايين في الدماغ قلت يا سبحان الله لقد صدق النبي عليه الصلاة والسلام، حين قال:
(( من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
فدماغ المصلي و قارئ القرآن، و العابد لله عز وجل، في نشاط دائم، هل أذّن الظهر؟ وهل دخل الوقت؟ و كم ركعة ؟ أول ركعة، الثانية، الثالثة، الأولى مع قراءة، الثالثة بِلا قراءة، فهو في نشاط دائم فإذا قرأ القرآن هنا إدغام وهنا إظهار وهنا إخفاء وهنا قلقلة وهنا مد طبيعي، فالذهن متقد دائماً يحاول أن يفَهِمَ معاني الكلمات ومعاني الآيات، فالإنسان إذا قرأ القرآن فهو في نشاط دماغي دائم، إذاً:
(( من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
قال تعالى:
﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
لا يضل عقله ولا تشقى نفسه.
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
ونحن في الصفحات التالية ندور حول آية واحدة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
فأنت ليسَ لك حق أن تتبع إنساناً بعيداً عن الله عز وجل، إيّاك أن تستشير في أمورك شخصاً بعيداً عن كتاب الله، مقطوعاً عن الله عز وجل، لقوله تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ﴾
إذاً: الجهة الوحيدة في الكون التي تستحق أن تطيعها وأن تعبدها هو الخالق جل وعلا، قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
وقد ذكرت من قبل أن الإنسان إذا تولى جهات أخرى يُصاب بهزات تبعثره وخيبة أمل، وإحباط، لأن أية جهة أخرى قد لا تعطيك الحقيقة، أو قد تعطيك الحقيقة مزوّرة، أو تنقل إليك فكرة مغلوطة لا يؤكدها الواقع، وولا يخفى على أحد أن طمأنينة المرء وسعادته تكمن في أن يعتقد ما صح نقله، وما قَبِلَهُ العقل، وما أكدّتُه الفطرة، وما أيّده الواقع، واقعٌ ونقل وعقل وفِطرة، هذا هو الحق فإذا انطلقت أيها القاريء الكريم في حياتك وفي حركتك اليومية وفي نشاطك من نقل صحيح و عقل راجح ومن واقع دقيق و فِطرة سليمة، وإذا اجتمعت لديك هذه الخطوط الأربعة في دائرة واحدة فأنت مع الحق، والذي يكون مع الحق لا يخيب ظنه ولا يحبط عمله ولا ينقطع رجاؤه ولن يُفاجأ بحدث لم يكن متوقعاً.
ومن الآيات التي تتحدث عن اسم الخالق، قول الله عز وجل:
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾
فكلمة: " الله " عَلَم على الذات، أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذات الموجودة الواحدة الكاملة، وأسماء الله الحسنى على كثرتها تعود إلى أصول ثلاثة، الله موجود، والله واحد، والله كامل.. فالله موجود واجب الوجود، والله واحد، واحد في ذاته وواحد في صفاته وواحد في أفعاله، أما وإن الله كامل فأسماؤه كلها حُسنى وصفاته كلها فُضلى، لذلك لا غرابة إذ صاح أحد العارفين " يا رب لا كرب وأنت الرب " فالله موجود واجب الوجود، واحد، ليس من جهة ثانية.
أصعب ما في الحياة أن يتبعثر الإنسان بين جهتين، فيكون له رئيسان، هذا يأمره بكذا وهذا يأمره بكذا ولقد حدثني أحد الأصدقاء فقال: معمل يملكه ثلاثة شركاء، والثلاثة إخوة، فالعمال تمزقوا، فهذا الأخ يعطي أمراً ويجب أن يُنفّذ، وذاك الأخ يعطي أمراً آخر ويجب أن يُنفّذ، والأخ الثالث يعطي أمراً ثالثاً قد يتناقض أو قد لا يتسع وقت هذا العامل لتنفيذ الأوامر الثلاثة، فضطرب الأمور، وقد ذكر الله عز وجل هذا في كتابه الكريم، فقال
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)﴾
و لماذا يشقى بعض الناس في الحياة ؟ لأنهم موزّعون بين جهات عديدة، إذ عليه أن يُرضي زوجته، وأن يُرضي أمه، و أن يُرضي من فوقه في العمل، وأن يُرضي فلاناً الذي تهدده، فهو يتبعثر لكنَّ المؤمن يُرضي جهة واحدة وهذه الجهة الواحدة هي القوية وبيدها كل الجهات، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها ))
اسألوا الأطباء فمعظم الأمراض لها أسباب نفسية، ومعروف عِندَ عامة الناس أن القرحة أساسها أزمات نفسية، وأمراض القلب في معظمها مردها إلى أزمات نفسيه، كذلك وهناك أمراض تُصيب الجهاز العصبي أسبابها أزمات نفسية أيضاً، والأمراض النفسيه في أصلها مشكلات يعانيها الإنسان، كما أن لدي معلومات حديثة مفادها ؛ أن هناك دراسات تؤكد أن معظم الأمراض العضوية لها أسباب نفسيه، وحينما يحاول الطب أن يفصل بين الأمراض العضوية والنفسية يقع في ضلال كبير، حتى إن بعض أصدقائي حدثني أنه ذهب إلى بلد غربي لإجراء عملية جراحية في قلبه، فقال: دخلت علي ممرضة ذات مستوى رفيع، نسقت الأزهار في غرفتي وبينما هي تُنسّقها سألتني، ما مرضك ؟ قلت لها: عملية دسام في القلب، قالت: من الذي سيجري لك هذه العملية ؟ قالت: فلان، فدهشت، وقالت: فلان ؟! قلت: نعم، قالت: فلان قبل أن يجري لك هذه العملية، أجرى عشرة آلاف عملية مماثلة وكلها ناجحة ولم يخفق في واحدة، قال والله اطمأننت وارتحت، ما دام هذا الطبيب الذي اخترته ليجري هذه العملية من أمهر الأطباء في هذه البلدة ومن أشهرهم ومن أنجحهم وقد أجرى عشرة آلاف عملية دون أن يخفق في عملية واحدة ارتاحت نفسي، لكنه فوجئ وهو يسدد قائمة الحساب، أن القائمة تتضمن مبلغاً كبيراً مقابل رفع معنويات المريض عن طريق هذه الممرضة، وهي ليست ممرضة بل هي عالمة نفس، وظيفتها أن ترفع معنويات المريض، ومن أجل أن تستفيد العضوية من ثقة الإنسان في الشفاء كانت هذه العملية.
فقلت سبحان الله، النفس مهمة جداً، وأنا أؤكد أن أكثر الأمراض بالقلب أو بالشرايين، أو بضغط دم وعائي، أو ضغط دم عصبي، أطباء كثيرون ينصحون مرضاهم بنزهة وبأن يبتعد عن بلده وعن مشكلاته، فمثلاً يكون ذا تجارة وهناك صعوبات، وبضاعة مصادرة، وأسعار تنخفض، عندها يوعز الطبيب بكلمة واحدة أن أخِّروا الإجازة، ليتحسن الهدوء النفسي للمريض. فالضغط له علاقة بالنفس، والقلب والأعصاب، والمعدة كلها لها علاقة بالنفس، وهذا الارتباط الدقيق بين النفس والجسد هو أحدث ما يبحث عنه الطب اليوم، فلماذا كان المؤمن سعيداً ؟ لأن علاقته مع جهة واحدة، ولا يحتاج معها إلى حلف يمين، لا يحتاج معها إلى إيصال، ولا إلى شاهد، فالله مُطلّع، على ظاهرك وباطنك و حقيقتك ونياتك و مطامحك، وألخص الأمر كله بالعبارة الدقيقة التالية: الإيمان صحة وعافية، والمؤمن تبدو صحته طيبة، والسبب لأنه موحد قال الله تعالى:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
جهة واحدة تستحق العبادة، كما أنها تستحق الطاعة، و الحب، والإخلاص وأن تعمل لها، وأن تفني شبابك من أجلِها، وأن تبذل كل عمرك في سبيلها، هي الذات الإلهية، لذلك لما قال ربنا عز وجل:
﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)﴾
أي هو أهل أن تفني شبابك من أجله، وأن تمضي كل حياتك في خدمته، وأن تنفق مالك في سبيله، وأن تبذل كل ما تملكه في رضاه، وألخصها بكلمة واحدة: تضحية صادقة لكنها مجزية.
ولذلك فالإنسان عندما يستهلك نفسه استهلاكاً دنيوياً وينحدر إلى خريف العمر وهو قادم على حياة مجهولة، لا يملك من نقدِها شيئاً وقد أمضى حياته كلها في أشياء لا تنفعه في آخرته، فهو في ضياع ؛ فندائي صدى لنداء الله سبحانه:
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
الجهة الوحيدة التي تستحق الطاعة والعبادة والإخلاص والحب هي الله، فأنا لا أعتقد أن في الأرض رجلين تحابا كسيدنا الصديق وسيدنا رسول الله، ومع ذلك ماذا قال عليه الصلاة والسلام قال:
((لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي ولكن أخ وصاحب في الله، أما العلائق فكلها مع الله وحده.))
فأقول لكم سِرُّ السعادة أنك تعمل لوجه واحد، فتُرضي جهةً واحدة وتبحث عن خالق عظيم فتصفيه كل نفسك، قال الله تعالى:
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾
فالخالق هو الله، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى علم على الذات. وفي آية أخرى قال الله تعالى:
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)﴾
فالله سبحانه ؛ يحتاجه كل شيء في كل شيء فاعبدوه فلنلاحظ أن أمر العبادة يأتي في الأعم الأغلب في القرآن الكريم بعد اسم الخالق.
﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾
ومن ثم تطالعنا حقيقة أخرى: هو وحده " الخالق "، قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)﴾
عندما تَحاوَرَ سيدنا إبراهيم مع النُمرود قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، فرد عليه متنطعاً: أنا أحُيي وأميت:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾
فكان النمرود الغباء كله، والضلال والضياع والكفر.
وحينما تشح الأمطار وتنحبس السماء، أقول لمن حولي: هل في الأرض كلها جهة بإمكانها أن تجتمع وأن تتخذ القرار بإنزال المطر ؟ لا. فليس لأحد حيلة إلا أن يجأر بالدعاء إلى الله عز وجل، والضراعة لاستنزال رحمة الله سبحانه وتعالى، إذاً هو الله الخالق.
﴿ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) ﴾
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) ﴾
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)﴾
أما صيغة " الخلاّق "، فهي صيغة مبالغة لاسم الفاعل يعني كثير الخلق وعظيم الخلق، إذ ترى مجرة بُعدُها عنّا ستة عشر ألف مليون كيلو متر، وقلب العقرب، يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، وأربعة أخماس الكرة الأرضية بحراً، وبعض أعماقه عشرة آلاف متر، إنه شيء مخيف، واصعد إلى بعض الجبال جبال الهمالايا مثلاً، يهولك ارتفاعها. وانظر إلى بعض الحيوانات، فالحوت الأزرق، مائة وخمسون طناً، ودمه تسعون برميلاً من زيت السمك، يستخرج من حوت واحد، من اللحم خمسون طناً، ومن الدهن خمسون طناً تقريباً وأحشاؤُه خمسون طناً، فهل من خالق غير الله ؟
﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (81) ﴾
الأمازون ثلاثمائة ألف متر مكعب في الثانية، يمتد مجرى هذا النهر في البحر بما يزيد عن خمسة وثمانين كم دون أن تختلط مياهه بمياه المحيط هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه، ترى محرك ماءٍ بسيطاً يملأ الفضاء صخباً وضجيجاً، وقد يفسد عليك نزهتك و إذا كنت في مزرعة وتحتاج إلى ماء و أدرت المحرك فإنه يفسد عليك سكون المزرعة وجمال الطبيعة، قال الله تعالى:
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾
كتل السحاب تتحرك محملة بألوف الأطنان ومع ذلك تمر بلا صوت، بل فيها الهدوء والبشرى قال الله تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾
وقال الله تعالى:
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)﴾
وهذه الآية ذات معانٍ كثيرة فمن بعض معانيها أن الإنسان أحياناً يصنع شيئاً يكون في البداية بسيطاً لكنه كلما ارتقى علمه وارتقت خبرته يكمُل عمله، وأكبر دليل انظر إلى مركبة صنعت في عام ألف وتسعمائة وإلى مركبة صنعت في عام ألف وتسعمائة وتسعين، فإنه لا يوجد نسبة للمقابلة الأولى، فانوسان في الأمام ومستودع زيت وسِراج، تفتح باب البلور وتُشعِل الفانوس بالثقاب، من أجل أن ترى طريقك في الليل، والعجلات من دون هواء ( صب كامل )، والتشغيل من الخارج بالمحرك، وحركة واحدة والمزمار، هذه صناعة عام ألف وتسعمائة، وبعض نماذجها للآن في المتاحف، وانظر إلى مركبة عام ألف وتسعمائة وتسعين فتفهم شيئاً كثيراً من أن الإنسان ارتقت صناعته وتكاملت أعماله، لضعف خبرته، إذاً فخبرته مكتسبة، لكن انظر إلى خلق الإنسان، فهل هناك إنسان معدّل ؟ إنسان نمط تسعين أو ثمانين، هذا " s " وهذا بدون " s "، ليس إلا نوع واحد وبدون أي تعديل، لأن علم الله قديم وأن خبرته قديمة، فما من مرة حمل أب ولده من يده فانخلعت يده، فالصنعة متقنة، والأربطة محكمة تماماً تحمل الجسم بالكامل، قال سبحانه:
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾
وقال تعالى:
﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (81) ﴾
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
فإذا كنت تريد أن تعمل موازنة بينَ ما يصنعه الإنسان وبين صنعة الواحد الديّان فإنك ترى فرقاً كبيراً، فأنجح طبيب أسنان إذا أراد أن يقلع لطفل سناً فلابد من إبرة تخدير باللثة ويبكي وييشتم الطفل ويتمرد، وأبوه يهدئه أما عندما يقلع الله ضرساً لطفل صغير كيف يقلعه ؟ يسقط مع الأكل، فقد ذاب جذر السن شيئاً فشيئاً وانقطع العصب.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
اعمل موازنة، ولترَ الأشياء بحجمها الحقيقي، فآلة التصوير تحتاج إلى تحميض فيلم، يُقال لك غداً، ونظرك الأشياء لا يحتاج إلى تحميص، تنظر فتشاهد حالاً بالألوان وبالحجم الطبيعي مع الحركات، صوراً متحركة ملونة ! فأنت إذا نظرت بالعين المجرّدة، رأيت مائة إنسان أمامك دفعة واحدة وكل إنسان له لون عندك، بينما إن صورت في فيلم مائة رجل تقريباً يظهرون بلون واحد، فالعين المجردة تفرق بين درجتين إلى ثمانمائة ألف درجة باللون الواحد، فلو درَّجنا اللون الأخضر ثمانمائة ألف درجة نجد العين السليمة تفرق بين كل درجتين.
إذاً:
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
ميّز بين آلة التصوير وبين العين، تر فرقاً كبيراً جداً فمتى أُخذت المسافة والسرعة والفتحة؟ هناك فتحة وسُرعة ومسافة، فعينك بشكل عفوي وبشكل آلي تقيس المسافة، والعضلات الهدبية تضغط على الجسم البلوري ضغطاً بحيث يتقوَّس تقوَّساً يجعل الخيال على الشبكية هذه المطابقة، وهي من أعقد العمليات في العين، فكل إنسان ينظر إلى شيء دون الستين متراً يحتاج إلى مطابقة، فالمطابقة ؛ أن هذا الشيء لو اتجه نوره إلى العدسة لوقع الخيال إما بعد الشبكية أو قبلها، فحتى يقع خيال ظلِ الشيء على الشبكية لا بد من أن نعدل احديداب الجسم البلوري إما ضغطاً أو بسطاً، فهذه العضلات الهدبية فيها علم كبير جداً تُرى كم ميكروناً تضغط حتى يقع الخيال على الشبكية ؟ أعتقد أن عملية مطابقة العين من أعقد العمليات في جسم الإنسان.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
طائرة تُباع من مصنع لدولة ما، فالمصنع لا علاقة له بحركة الطائرة، ها هي ذي تقصف مدينة، وتنقض على قرية، والمعمل باعها وانتهى أمره ولا علاقة له بها، لكن ربنا عز وجل ما من شيء خلقه إلا وأمرُه بيده، قال سبحانه:
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
والحقيقة أن القرآن الكريم كتاب العمر، وهو الكتاب المقرر، وأنا أتمنى على القرّاء الكرام إذا قرؤوا القرآن ومرت بهم كلمة الخلق فليبحثوا عن العلاقة بينها وبين ما قبلها وما بعدها، على جناح السرعة، " هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ " خالق الكون هو الله رب العالمين علم على الذات صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، خالق كل شيء، أي لا خالق آخر خلق أي شيء، هو خالق كل شيء فاعبدوه، هذا المعنى الإيجابي، أما المعنى السلبي، " هل من خالق غير الله؟"
﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (81) ﴾
يعني خلق الجبال وخلق المجرات.
أي إمّا كثرة الخلق عدداً، وإمّا عظمة الخلق نوعاً، وهذا معنى الخلاّق.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
يعني عليك إجراء موازنة بينَ ما يصنعه الإنسان وما يصنعه الواحد الديّان.
﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾
مما يُطمئن الإنسان أن الذي يخلقه الله عز وجل يبقى رهن أمره، فأنت اطمئن أن كل من حولك وما حولك بيد الله عز وجل.
ومن ثم ندخل في بعض التفاصيل، ولنبدأ في تفسير كلمة الخلق، الخلق في اللغة جاء بمعنى الإيجاد والإبداع والإخراج من العدم إلى الوجود، سوف نتناول الآيات بشكل تفصيلي، الآية الأولى:
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ﴾
هذه الآية تقتضي كثرة الخالقين، وثَبُتَ بالدلائل العقلية والسمعية أنه لا مُوجِدَ إلا الله تعالى، فوَجَبَ حملُ الخلق في هذه الآية على " التقدير "، أما أنت فتصنع من خشب ومن جلد مقعداً، فتكون قد قدرت كمية الخشب ونوعه وجودته ونوع الجلد ومتانته ولونه ونسَّقت بينهما على شكل كُرسي، فأنت حينما صنعت هذا الكرسي لم توجده من عدم ولكن صنعته من مواد موجودة.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
هذا مما تقتضيه هذه الآية.
والآية الثانية:
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) ﴾
فالتراب موجود قبل الخلق، والخلق هو " التقدير "، أي قدّر كمية تراب معينة بنوعيتها وخصائصها وطريقتها وأسلوبها معين، فهُنا من خلال آيات كثيرة جداً يأتي الخلق بمعنى التقدير.
فالآية الأولى:
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
والآية الثانية:
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) ﴾
ومعلوم أن المُراد من قوله:
﴿كُنْ فَيَكُونُ (59) ﴾
هو الإيجاد من العدم، إذاً: خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، إذاً الإيجاد من العدم شيء والخلق شيء آخر.
بل إنَّ بعض العُلماء يُفسّر قوله تعالى:
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾
أي خلق: قدر، ثم أمر: كن فيكون يعني أوجد من عدم.
والآية الثالثة على أن الخلق هو " التقدير "، فهناك سبب، لأن الله عز وجل يقول:
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾
الخالق، ولله المثل الأعلى ولكن للتقريب، مهندس على الطاولة وعلى الورق صمم بناء، وعلمه كله وضعه في هذه الخارطة، الخارطة تضم: خارطة الأساسات، فالطابق الأول والطابق الثاني والدعائم الإسمنتية، والشُرُفات وكله على الورق، فالخلق تقديرٌ "الْخَالِقُ الْبَارِئُ "، أما البارئ فهو الإيجاد من عدم، كن فيكون، والآن جاء دور المتعهد فحفر الأساسات وصبها خرسانة، وأشاد الطابق الأول فوضع الإسمنت السائل فوق الحديد المسلّح إلى أن قام البناء، فالخلق هو التقدير، والبارئ هو الذي أوجد من عدم.
لكن البناء على الهيكل منظره قبيح جداً، فلابد من عمل آخر وهو إعطاء هذا البناء الشكل المقبول، فجاء دور الطيان ثم البلاط بالسيراميك، وأتى دور عامل الكهرباء وزيّنا الشرفات، والجدران من الداخل والخارج، فصار البناء جميلاً جداً، فبين أن تضع العلم كله في أصل البناء ثم أن تبنيه وتعطيه صورةً محببة وهذا ما جاء في كتاب الإحياء حول تفسير قوله تعالى:
﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾
المصوِّر إعطاء الصورة الخارجية، فالذي عنده أطلس تشريح، يرى فيه إنساناً كله عضلات، وهو منظر مخيف فعضلات الوجه بالعشرات، ويرى إنساناً كله أعصاب، وآخر كله أوعية وهناك صورة هيكل عظمي، وانظر إلى الإنسان في آخر وضع بعد كسوته بالجلد تجده جميلاً وانزع الجلد عنه فهناك المنظر المخيف، فربنا أعطاه صورة جميلة.
﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾
وإن شاء الله تعالى لنا عودة أخرى لهذا الموضوع لأنه متعلق بالخالق البارئ المصور، و بشكل موجز فالخالق هو المُقدر، والبارئ هو الذي يوجد من عدم، والمصور هو الذي يعطي الصورة المناسبة لكل مخلوق، فهذا الإنسان خلق بعلم، فالقلب والعظام كلها خلقت علم، وبعد العلم هناك إيجاد، وبعد الإيجاد هناك صورة أعطاها الله هذا المخلوق كالبناء تماماً، وكجواب على سؤال يفرد نفسه وهو: ما الفرق بين خلق وفطر ؟
فأقول موضحاً أن الفرق بين الخلق والفطر:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
فاحال واضح كثيراً، لاحظ الطفلة الصغيرة ما الذي تفعله ؟ دع بُنْية جسمها وأعضائها وأنسجتها وأشكالها وخطوطها، فلها بُنْية خاصة، وميول خاصّة، دعني أطلق عليها البُنية النفسية، فهي تميل إلى تربية الأولاد، فقد تضع وسادة على يدها وتربت عليها، أما الطفل فقد يركب قضيباً يتخذه كحصان يعدو به، فلماذا اختار الطفل لعبة الحصان ؟ واختارت الفتاة مخدة ( وسادة ) جعلت منها رمزاً لوليد على يدها، يعني البُنى النفسية هي الفِطْرَةُ.
ترى الإنسان أنه يخاف:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)﴾
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً(11)﴾
﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)﴾
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)﴾
البُنى النفسية، يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
هذه بنية نفسيه، وبُنى جمع بنية، وللبنية النفسية خصائص، فالغنمة لها خصائص بجسمها وعضلاتها وجلدها وصوفها، وهذه البنية الجسمية. ولها خصائص بنفسيتها، يقال " مثل الغنمة " أي مطواعة، ذلولة، قال الله تعالى:
﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾
فأنت ترى أنها تنساق مع صاحبها إلى حيث يريد وكيفما يريد، وطبيعة الغنم أنها تجتمع مع بعضها بعضاً فلا يستطيع راعٍ أن يجمع خمسين كلباً مع بعضها فكل واحد في جهة أما قطيع الغنم فمع بعضه، هذه بُنى نفسيه، انظر إلى البقرة، وانظر إلى الجمل، يقال لك الجمل حقود، والحصان وفي، فخصائص نفس المخلوق من الفطرة، أما خصائص جسمه فمن الخَلْق، أعود فأكرر: إن الشيء المتعلّق بجسمه وبأعضائه وبتشريحه وبوظائفه هذا متعلق بالخلق، وأما الذي يتعلق بخصائص نفسيته فهذا من الفطرة لذلك قال تعالى:
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
فالثعلب ماكر، والجمل حقود، وهكذا كل حيوان له خصائصه، وهناك حيوانات أهلية وحيوانات متوحشة، وحيوانات مفترسة،و حيوانات وديعة، وربنا قال:
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾
والخلاصة إذاً:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
فهذا يبرز أن الله سبحانه أعطى كل مخلوق خصائص نفسية في التعامل مع الآخرين، وأما الخلق فيبرز الخصائص المادية التي جعلها لكل مخلوق، والخلق تقدير، والبَرءُ هو الإيجاد من عدم، والتصوير هو إعطاء الشيء الصورةً التي أرادها الله سبحانه له.