وضع داكن
19-04-2024
Logo
مختلفة لسورية الفضائية - الندوة : 11 - التعاون في المجتمع الإسلامي - صلة الرحم - الزكاة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انقضى جزء من هذا الشهر الكريم،
 صمنا، وصلينا، وقمنا الليل ذكراً ودعاءً رغبة ورجاء، سمونا بأخلاقنا وأعمالنا، وابتعدنا عن كل ما يغضب ربنا، ولكن ماذا تفيدنا هذه الطاعات إن لم تحملنا على فعل الخير؟ وإذا لم تجعلنا نشعر بالآخرين ونقدم لهم العون والمحبة؟ إن حبّ الله يجب أن ينعكس في نفوسنا حباً لخلقه، وتعاوناً معهم، فالخلق كلهم عيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وقد قال تعالى:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة : 2 ]

 التعاون بما فيه مصلحة الإنسان فرداً وجماعة، وما فيه خير البشرية جمعاء، شجرة التعاون تبدأ صغيرة في محيط الأسرة والقرابة، وتنتهي بالناس أجمعين.
 أيها المشاهدون الكرام؛ يسعدني أن أرحب بضيفي في هذه الندوة فضيلة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، وفضيلة الشيخ عبد الغني الكاري المدرس الديني وخطيب مسجد عمر بن الخطاب في اللاذقية، أهلاً وسهلاً بالأساتذة الكرام.
 في هذه الندوة أتوجه بالشكر لحضوركما، وآمل من فضيلة الدكتور راتب أن يبين لنا الجانب الاجتماعي تحديداً في الإنسان ما هو أصله الخلقي؟

 

الأصل الخلقي للإنسان :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 الحقيقة أن الإنسان كائن متميز، هو في القرآن الكريم الأول رتبة، لأن الله
 عز وجل يقول:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾

[ سورة الأحزاب:72 ]

 هو له جانب عقلي، وجانب نفسي، وجانب جسمي، والعقل غذاؤه العلم، والقلب غذاؤه الحب، والجسم غذاؤه الطعام والشراب، وأودع الله فيه دوافع، من أبرز هذه الدوافع الدافع للطعام والشراب لبقاء الفرد، ثم الدافع إلى الجنس لبقاء النوع، ثم الدافع إلى الذكر لبقاء الذكر، يسميه علماء النفس: تأكيد الذات، هذه الدوافع الثلاثة يتحرك من خلالها، لكن هذه الدوافع حيادية يمكن أن توظف في الخير، كما يمكن أن توظف في الشر، ولكن شاءت حكمة الله أن يجتمع الإنسان مع أخيه شاء أم أبى، ذلك لأن الإنسان يحتاج لمليون شيء، ولا يمكن أن تستمر حياته إلا ضمن الجماعة، ففي أصل تكوينه وبرمجته يجب أن يعيش مع أخيه الإنسان.
أنت مثلاً تتقن اختصاصاً معيناً لكنك بحاجة لطبيب، ولمهندس يبني لك البيت، ولنجار، ولمعلم، ولمن يبيعك الخبز والطعام والشراب، ولمن يصنع لك السيارة، أنت فوق كل شيء تعمل في التلفزيون، لكنك بحاجة لمليون حاجة، فلأنك تتقن شيئاً واحداً، وبحاجة لمليون شيء فلا بد من أن تعيش مع أخيك الإنسان، هذا في الأصل، بل إن الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة يشير إلى ملمح واحد:

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين: 26 ]

 أنت مع أخيك الإنسان تسابقه لجنة عرضها السموات والأرض.
 الشيء الثاني؛ أن الله كان من الممكن أن يخلق المواد للاستهلاك مباشرة، لكن خلقها بطريقة تحتاج لجهد بشري، فلا بد من أن تزرع البذرة لتنمو طعاماً لك، لا بد أن تحفر البئر، أو تبني البيت، لا بد من صنع الملابس، فلأن الله أراد أن نكون مع بعضنا بعضاً الله عز وجل فوق ذلك أرادنا أن نعمل، فالعمل قدرنا شئنا أم أبينا، وهذه الحياة أساسها العمل.

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾

[ سورة الإنشقاق:6 ]

 الآن من خلال اجتماعنا مع بني جنسنا، ومن خلال العمل الذي نحن مضطرون إليه يمتحن الإنسان، فأنا مع أخي الإنسان إما أن أصدق، وإما أن أكذب، إما أن أخلص، وإما أن أخون، إما أن أنفق، وإما أن أشحذ، إما أن أكون رفيقاً به، أو قاسياً عليه.

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾

[ سورة الملك: 2 ]

 فلقاء البشر مع بعضهم بعضاً الحتمي الذي أراده الله عز وجل، ثم إن العمل الذي لابد منه كي تستمر حياتنا مناسبتان كبيرتان لكشف حقيقة الإنسان، الدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء، الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب، فنحن ممتحنون في الدنيا، ومادة امتحاننا ما منحنا إياه، أو ما زوي عنا، في الدعاء الشريف: " اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب."
مواد الامتحان ما منحني الله إياه، وما حرمني منه، لكن هناك من يقول قولاً رائعاً: إن المجموع ثابت، لو أعطيت لكل حظ من حظوظ الدنيا علامة، وجمعت علامات أي إنسان
 مثلاً صاحب الدخل المحدود لا يعاني من هموم تسحق أصحاب الدخل الغير محدود في بعض الأزمات العامة، وصاحب الدخل الغير محدود يقاضي أصحاب الدخل المحدود بهموم تسحق الجبال أحياناً، فكأن المجموع ثابت، الزوجة لها علامة، الابن له علامة، صحته، ففي النهاية المجموع ثابت، والإنسان في دار ابتلاء، ينبغي أن يقوم بواجب إيمانه في طاعة الله، والمؤمن الصادق يطيع الله في السراء والضراء، والغنى والفقر، والفرحة والمرض، وفي إقبال الدنيا وإدبارها.
المذيع:
 بهذا المفهوم موضع التواصل الاجتماعي هو أمر خلقي من إرادة الله سبحانه
 وتعالى لهذه البشرية لكي تكون متواصلة مع بعضها البعض، ومن هنا لا بد أن في الإسلام توجيهات لربط هذه العلاقات الاجتماعية، فأتوجه للشيخ عبد الغني ليبين لنا أبرز هذه التوجيهات الإسلامية بالتواصل الاجتماعي.

 

الإنسان اجتماعي بطبعه :

الأستاذ عبد الغني:
 بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
 وبعد... انطلاقاً من قوله تعالى:

﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[سورة الحج: 77]

 ومن قوله تعالى:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

 ومن قول بعض الفلاسفة أو علماء التربية: الإنسان اجتماعي بطبعه، وكما قال بعض الشعراء:

الناس للناس من بدو ومن حضر  بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
***

 الإنسان لا يعيش في فراغ، ولا في غابة بعيداً عن الناس، إنما يعيش مع مجموعة كبيرة من الناس، هذا التعاون سيحدث بينهم اشتباكات على حسب اختلاف طبائع الإنسان، واختلاف حاجاتهم، هذا الاختلاف سيؤدي إلى التشابك بين هؤلاء الناس، فهذا يريد هذا، وهذا يريد ذاك، ولا يستطيع الإنسان - كما تكلم فضيلة الدكتور بارك الله فيه- أن يحصل على كل شيء، لا يستطيع لا بد له من الآخرين، كما ذكرنا بعضاً لبعض خدم وإن لم يشعروا، فهو بحاجة لمجتمع يعيش فيه، هذا المجتمع بحاجة للترابط، اختلاف وجهات النظر والطبائع قد تحدث مشاكل أو اشتباكات فيما بينهم، لا بد من وجود ضابط، أو حكم يحكم بينهم، وهذا الحكم هو الضابط الخلقي بين هؤلاء الناس، والإسلام أشار إلى هذه النقطة في كثير من الآيات والأحاديث، فمثلاً التواصل الاجتماعي الذي يقوده الإسلام حدده في بعض الأمور مثلاً تواصل بين الأرحام، وقد بيّن الله ذلك في كتابه، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته وأحاديثه الشريفة، هذا التواصل ذكر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 فصلة الرحم من العادات الاجتماعية التي أمر بها الإسلام والقرآن:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾

[سورة النساء: 1]

 فشجع على صلة الرحم.....
المذيع:
 النبي عليه الصلاة والسلام جعل من أسباب صلة الرحم زيادة العمر والرزق.
الأستاذ عبد الغني:
 كما ورد في الحديث الشريف:

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم]

 هذا الحديث متفق عليه، وهذه الصلة تؤدي إلى تفاهم البعض مع البعض، الناس مع الآخرين، يعرفون مشاكلهم وما يدور حولهم، يساعدونهم، ويمدون لهم يد العون والمساعدة في كل شيء، هذا ليس فقط من صلة الرحم، وإنما هذا المقصود به أيضاً في كتاب الله التعاون مع الجيران.

((عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ))

[البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا]

(( عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ))

[ مسلم عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ]

((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ ))

[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 كل هذا أحاديث ونصوص تكلم بها النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يعيش هذا المجتمع كما أراد الله له مجتمعاً متفاهماً ومتعاوناً، عرف كلاً منهم حده فوقف عنده، وهذا التواصل الاجتماعي يحدث كثيراً في رمضان، ولو عدنا للوراء قليلاً لرأينا أن رمضان من خمسين عاماً مضت إلى الآن نرى أن الحركة الاجتماعية في المجتمع المسلم الأغنياء يقبلون على الفقراء، ويدعونهم للولائم، الفقير لا يشعر بالجوع في رمضان بسبب هذا الإكرام من الغني، هناك تواصل بين الغني والفقير، وتعاون بين القوي والضعيف، والفقير يحب الغني لأنه يحسن إليه، والغني يحب الفقير لأنه يؤدي به إلى ثواب الله عز وجل في رمضان حينما يدعوه لهذه الولائم.
المذيع:
 نحن نستطيع أن نقول: إن رمضان يجدد هذه العلاقة الاجتماعية التي جاءت بهذه
 النصوص القرآنية، والتوجيهات النبوية، لكن فضيلة الدكتور راتب في حديثه ذكر أن هذه العلاقة بين الناس هي نوع من الابتلاء، أرجو أن توضحوا كيف سيكون هذا التواصل ابتلاء من الإنسان لأخيه الإنسان؟

 

تسخير البشر بعضهم لبعض :

الدكتور راتب :
 لا بد من توضيح حقيقة أن الله سبحانه وتعالى سخر بعضنا لبعض، وفضل
 بعضنا على بعض، يتوهم قارئ القرآن الغير متعمق أن الله عز وجل جعل إنساناً فاضلاً وإنساناً مفضولاً، لا، فضل بعضنا على بعض بمعنى أنك في موقف أنت فاضل، وفي موقف آخر في اليوم نفسه أنت مفضول، قد يأتي إنسان لطبيب يشكو ألماً في جسمه، فهذا الطبيب فاضل أمام هذا المريض، الطبيب نفسه في أثناء النهار يستمع لصوت المحرك في مركبته لا يرضيه، يتجه لمن يعمل في إصلاح المركبات، الطبيب المتفوق يقف مفضولاً أمام هذا الذي يتقن تصليح السيارة، فنحن في كل ساعة نكون في موقع، تارة في موقع العطاء وتارة في موقع الأخذ، ونحن مسخرون لبعضنا بعضاً، هذه حقيقة.

التناقض بين الطبع والتكليف ثمن الجنة :


الحقيقة الثانية أن الله سبحانه وتعالى أعطانا طبعاً معيناً ومعنا تكليف، فالطبع يميل إلى النوع، والطبع مرتبط بالجسم، والتكليف أن تستيقظ لصلاة الفجر، الطبع يقتضي أن تملأ عينيك من محاسن النساء، والتكليف أن تغض البصر، الطبع يقتضي أن تأخذ المال، والتكليف أن تنفقه، الطبع يقتضي أن تغوص في فضائح الناس، والتكليف يأمرك أن تصبر، الآن من هذا التناقض بين الطبع والتكليف يكون ثمن الجنة.

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[سورة النازعات: 40-41 ]

 الآن جعلت هذا تمهيداً لحقيقة طيبة في هذا اللقاء الطيب، الطبع أن تعيش وحدك، وتأكل، وتستعلي على الناس، الطبع فردي، والتكليف جماعي، فأنت تتعاون مع إخوانك المؤمنين مع بني البشر أجمعين، تقدم لهم، تبني حياتك على العطاء بقدر طاعتك لله، وتؤكد ذاتك، وتبني مجدك على أنقاض الناس، وتبني حياتك على موتهم، وغناك على فقرهم، وأمنك على خوفهم، وعزتك على ذلهم، إذا كنت متفلتاً من منهج الله، وفي هذا اللقاء الطيب الأصل في هذا الموضوع قوله تعالى:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

 قال علماء التفسير: البر صلاح الدنيا، والتقوى صلاح الآخرة، أن نتعاون لصلاح الدنيا ولصلاح الآخرة، فنحن حينما نأتمر بأمر لله عز وجل يكون هذا الاجتماع، أنا أجتمع مع أخي أصدقه أو أكذبه.

(( عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ ))

[أبو داود عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدٍ الْحَضْرَمِيِّ]

 فحينما أصدق نجحت في الامتحان، وحينما أكذب سقطت في الامتحان، حينما أخلص أو أخون، أنفق أو أشحد، الذي يدفع الإنسان خلقه العظيم الكريم، والذي خلقه في أسفل السافلين سيحول هذا بينه و بين الأعمال الحسنة، والإمام ابن القيم يقول: الإيمان هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان.

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَالْأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ هَؤُلَاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا فَجَلَسَ مَعَهُمْ))

[ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ))

[ أحمد عَنْ أبي هريرة]

 وهذا الإسلام العظيم الذي انتشر في الآفاق بسبب أخلاق الصحابة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما يفهمه عامة المسلمون اليوم ما خرج من مكة.

أخلاق المسلمين تشدّ الناس للإسلام :

 ما الذي يشد الناس للإسلام؟ أخلاق المسلمين، إنفاقهم، صدقهم، أمانتهم، عفتهم، ما الذي ينفر الناس من المسلمين؟ انحرافهم، حينما تشبث أصحاب النبي الكريم بالخلق القويم دخل الناس في دين الله أفواجاً، وحينما يرى الناس مسلماً يقصر، يكذب، يحتال، يقصر في واجباته، يخرج الناس من دين الله أفواجاً، الذي يشد الناس للإسلام أخلاق المسلمين، ونحن حينما نلتقي مع بعضنا بعضا تظهر الأخلاق الحميدة والخبيثة، فنحن مبتلون باجتماعنا، ومحاسبون على حركتنا، والله سبحانه وتعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولكن الشيء الذي يلفت النظر أن النبي عليه الصلاة والسلام لو جمعت أحاديثه الاجتماعية بأكملها ووضعتها في بابين لوجدت العجب العجاب، ما من شيء يقرب الإنسان من أخيه الإنسان إلا أمانته، وما من شيء يبعد الإنسان عن أخيه الإنسان إلا نهى عنه، نهى عن الغيبة، والنميمة، والتقليد، والمحاكاة، والاستهزاء، والسخرية، والتباغض، وأمر بإلقاء السلام، وبتلبية الدعوة، وبالصلة، حتى لو دعي إلى وليمة عليه أن يلبي.
 النبي الكريم مدعو لوليمة ومعه صحابي فلما جعل الطعام قال: إني صائم، قال: أخوك دعاك وتكلف لك وتقول: إني صائم؟! أفطر وصم يوماً مكانه.

(( عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِي الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَأَخَذَ كِسَائِي وَضَرَبَنِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِي فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا وَلَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءَهُ وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَسْقٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ ))

[النسائي عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ]

 من أين عالج المشكلة؟ لا من نهايتها، اليوم العالم يعالج الإرهاب من نهايته، يجب أن يعالج من بدايته، لماذا كان الإرهاب في العالم؟ قال: مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا وَلَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا. يجب أن نبحث عن السبب، لأن الله عز وجل يقول: 

﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ 

[ سورة الفتح :29 ]

 متى كانوا أشداء على الطرف الآخر؟ لأنهم معه، فنحن مأمورون أن نجتمع، والحقيقة الآن نحن نكون أو لا نكون، بقاؤنا ونمونا وتقدمنا وانتصارنا على أعدائنا بوحدتنا، واجتماعنا، وتضامننا، وتكاتفنا، ولعل الآية الكريمة:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

 هي الأصل في هذا اللقاء الطيب تعاونوا على صلاح الدنيا وصلاح الآخرة.
المذيع:
 هنا نستطيع أن نقول: هذا الدين الحنيف شرع كثير من العبادات الجماعية منها
 صلاة الجماعة، ومنها الحج، ولكن هناك عبادة مادية التي هي الزكاة والصدقة، فضيلة الشيخ عبد الغني هل يمكن أن تعطي إضاءة حول دور الصدقة ودور الإنفاق والزكاة في هذا التواصل الاجتماعي؟

 

دور الصدقة والإنفاق والزكاة في التواصل الاجتماعي :

الأستاذ عبد الغني:
 في البداية أريد أن أضيف إلى كلام أخي الدكتور حينما تحدث عن المسلم، وعن تشويه صورة الإسلام في عمل مسلم، أو خلق مسلم، أحد الشعراء ذكر ذلك فقال:
 يقولون في الإسلام قولاً أنه يعيق ذويه عن طريق التقدم، الإسلام هو المتهم وليس المسلم، لأنه إذا أخطأ المسلم عزونا هذه الأخطاء للإسلام وليس للمسلم، وهذا خطأ كبير.
 إذا كان هذا حقاً فكيف تقدمت أوائله في عهده المـتقدم؟ إذا كان ذنب المسلم اليوم جهله فماذا على الإسلام من جهل المسلمين؟ يجب أن نفرق بين عمل المسلم وبين الإسلام، إن تمسك هذا الإنسان بشريعة الإسلام كان مسلماً حقاً طالباً المنى ظاهراً وباطناً فيما يتعلق بهذا الأمر.
 هناك عبادات جماعية فرضها الإسلام منها صلاة الجماعة، حتى يلتقي الناس ويتكاثر وجودهم فيما بينهم، ويتساءلون فيما بينهم عن أحوالهم، ويتفقدون أمور بعضهم كصلاة الجماعة التي تشير إلى القوة والمنعة في هذا الدين، أو صلاة العيدين أو الحج حتى الزكاة، الزكاة اجتماعية لأنها آخذ ومعط، فقير وغني، وهناك علاقة موجودة بين الغني وبين الفقير، وبين المكلف ومن يحتاج إلى ذلك، فيد تعطي ويد تأخذ، المعطي يجب أن يكون رحيماً رفيقاً على هذا الإنسان، لا يعطيه بمنة ولا يمنن في ذلك، إنما يعطيه كواجب.

﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

[سورة المعارج: 24-25]

 والفقير يأخذ هذا عن رضا وطواعية، إذا اكتمل هذا المعنى فبين المعطي والآخذ، وبين الدافع والآخذ اكتمل هذا المعنى، نشأت بينهما علاقة المحبة والمودة، فالغني يصل إلى الفقير، والفقير يساعد هذا الغني، ويقضي له كثيراً من حاجاته، إن كان المجتمع بهذا الأمر لا يمكن أن تدخله شائبة، أو يدخل إليه أي شيء يمكن أن يؤثر من قوته، لأنه كما قلنا: كل إنسان عرف حده فوقف عنده.
 هذه الكلمة لسيدنا عمر رضي الله عنه حينما كان قاضياً في زمن الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان سيد دار القضاء دون أن يأتي إليه متخاصمان، الآن المحاكم تعج ومن يدخل في مشكلة يعيش عشرات السنين ولا يحصل على حقه، فقدم استقالته لسيدنا أبي بكر، سيدنا أبو بكر قال له: لم يا عمر ألم يرضى الناس بحكمك وبعدلك؟ قال: بلى يا خليفة رسول الله، لكن لا حاجة لي عند قوم عرف كل منهم حده فوقف عنده. لديهم النصيحة، خلقهم القرآن، عملهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن احتاج أحدهم ساعدوه، وإن مرض عادوه، وإن افتقر أعانوه، ففيم يختصمن يا أمير المؤمنين؟ هذا عنوان واضح للتواصل الاجتماعي.
المذيع:
 دور الصدقات وخاصة في شهر رمضان، الله سبحانه وتعالى جعل هذا الشهر
 لنزداد في هذا الموضوع، هل من إضاءة أخيرة من قبل الشيخ راتب؟

 

دور الصدقات في شهر رمضان :

الدكتور راتب :
 قال تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

 تبين صدقهم.

﴿ تُطَهِّرُهُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

 تطهر الغني من الشح، والفقير من الحقد، والمال من تعلق حق الغير به،

﴿ وَتُزَكِّيهِمْ﴾

 تنمي نفس الغني حينما يرى عمله وقد ترك بصمة كبيرة في المجتمع، وتنمي نفس الفقير حينما يرى نفسه ليس مهملاً، وتنمي المال بطريقة عجيبة، لأن الإنسان حينما يعطي يجعل في يد المعطى قوة شرائية تعود عليه بالخير مرة ثانية، والمال يحفظ بأداء الزكاة، وينمو بأداء الزكاة، فهذه الآية أصل:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

 وشهر رمضان شهر الزكاة.

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ))

[البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]

 والأمة المسلمة في رمضان عليها أن تؤدي زكاة الفطر.
 يوجد ملمح رائع في هذا التوجيه، حتى الفقير جداً الذي لا يملك قوت يومه وجبة طعام واحدة، عليه أن يدفع زكاة الفطر، ليذوق طعم الإنفاق مرة في العام، لذلك العرب يقولون: فلان أريحي ارتاح من العطاء.
 مرة إنسان أعطى امرأة عطاء كبيراً فلامه صديقه، قال: لقد كان يرضيها القليل لم أعطيتها الكثير أنت لا تعرفها؟ فقال الأريحي: إذا كان يرضيها القليل فأنا لا أرضى لها إلا بالكثير، وإذا كانت لا تعرفني فأنا أعرفها، ففي موكبة العطاء الإنسان كل سعته في العطاء.
 مرة قرأت مقالة في مجلة انتهت المقالة في رأس الصفحة وبقي فراغ كتبت حكمة، قال: إذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين فأنت أسعدهم.
 حينما الإنسان يخرج من ذاته ليكون في خدمة الخلق هو أسعد الخلق.

 

خاتمة و توديع :

المذيع:
في قضية زكاة الفطر كأنها تتوجب على الصغار، ولي الصغار عليه أن يخرج
 زكاة فطره حتى عن الصغار لو لم يصوموا، وعلى الجنين، كل ذلك لتشجيع الناس على الإنفاق ليكون هذا التواصل الاجتماعي ليس تواصلاً كمالياً فقط، وإنما تواصل عاطفي ومادي في آن واحد، ليحقق هذه الصلة الروحية والتعاونية بين أبناء المجتمع المسلم.
 الحقيقة الوقت كاد أن ينتهي أتوجه بالشكر الجزيل لما تفضلتم به، أتوجه بالشكر الجزيل لفضيلة الدكتور الشيخ محمد راتب النابلسي، أستاذ مادة الإعجاز العلمي في كليات الشريعة وأصول الدين، والمدرس في كلية التربية، ولفضيلة الشيخ عبد الغني مكاري المدرس الديني وخطيب مسجد عمر بن الخطاب في اللاذقية. 

تحميل النص

إخفاء الصور