وضع داكن
28-03-2024
Logo
أصول الفقه : علم القياس 2 - القواعد النظرية في علم القياس.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، الله علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا في رحمتك في عبادك الصالحين .

القياس :

 أيها الأخوة الكرام ، ذكرت في درس سابق أن علم أصول الفقه ، أو علم أصول التشريع الإسلامي علم جليل بل إن بعضهم قال : إن علماء المسلمين أمام علماء الأصول عوام ذلك أن هذا العلم فيه قواعد دقيقة جداً لاستنباط الأحكام الفرعية من الأدلة الكلية .
 في الدرس الماضي جئتكم بآيات كريمة عديدة ، وبأحاديث كثيرة يظهر فيها القياس واضحاً ، وقدمت الأمثلة القرآنية والنبوية على القواعد النظرية كي تكون تمهيداً لها ، واليوم إلى بعض القواعد النظرية .
 أيها الأخوة الكرام ، أطمئنكم أنني لن أُعقد عليكم هذا الدرس ، أنا أجهد أن يكون الدرس مبسطاً كي يتشكل عند أحدكم ما يسمى بالفكر الفقهي ، هذه الأحكام التشريعية التي نقرؤها ، أو التي تتلى علينا ما أصلها ؟ من أين جاءت ؟ من وضع هذه القواعد ؟ من عقدها ؟ من قننها ؟
 ذكرت في درس سابق أن أحد أصول الفقه فضلاً عن الكتاب والسنة اللذين هما مصدران أساسيان للتشريع الإسلامي هناك القياس والإجماع بشكل مبسط ، اليانصيب حرام ، ذلك أن العلاقات التبادلية في الإسلام يجب أن تكون علاقات معاوضة ، تعطي وتأخذ ، فعلاقة البيع علاقة معاوضة ، علاقة الإيجار علاقة معاوضة ، أما أن تعطي ولا تأخذ ، أو تأخذ ولا تعطي ، فهذه علاقة غير شرعية ، يجسدها اليانصيب ، سمعت عن يانصيب في أمريكا الجائزة الأولى تقدر بثلاثمئة و خمسين مليون دولار ، وإدارة اليانصيب ينبغي أن تربح مثلها ، أي سبعمئة مليون دولار يأخذ إنسان هذا المبلغ أو نصفه ، وإدارة اليانصيب تأخذ نصفه الآخر ، من دفع هذين المبلغين ؟ عدد لا يعد ولا يحصى من هؤلاء جميعاً دفعوا ولن يأخذوا ، فاليانصيب علاقته ليست علاقة معاوضة ، إذاً هو حرام .
 الآن هناك شكل آخر من اليانصيب مألوف جداً ، سلعة من السلع ثمنها خمسون ليرة ، اجعل ثمنها ستين ليرة ، واجمع هذه العشرات واشتر بها سيارة ، واجعل لكل علبة من هذه العلب رقماً ، وهناك سحب يتم كل شهر ، أو كل ستة أشهر ، والذي ينال هذه السيارة أحد الذين اشتروا هذه العلب ، ما الذي حصل ؟ هناك مئة ألف إنسان دفعوا ولم يأخذوا ، وهناك واحد أخذ ولم يدفع شيئاً ، حينما يضاف السعر على سعر السلعة ، ويشترى بهذا المبلغ هذه المركبة وتعطى ، هذا يشبه اليانصيب إلى حدّ كبير جداً فيقاس على اليانصيب وهذا شيء بسيط جداً .

أمثلة عن القياس :

 أضرب لكم بعض الأمثلة : الخمر حرام بنص القرآن الكريم لعلة الإسكار ، وأي شراب مسكر حرام أيضاً اتحدا في العلة ، واختلفا في التسمية ، لذلك قالوا في تعريف القياس : مشاركة مسكوت عنه المنصوص على حكمه في علة تجمع بينهما ، فالنبيذ مثلاً لم يرد ذكره في القرآن الكريم ، الإنسان إذا شربه يسكر ، والخمر إذا شربت يسكر شاربها ، علة التحريم السكر فيحكم على النبيذ بالحرمة لاتحاد النبيذ مع الخمر في العلة ، هذا القياس شيء محرم لعلة شيء آخر لم يرد به نص ، لكن فيه علة كعلة المحرم ، إذاً ينسحب عليه حكم المحرم ، هذا مثل .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾

[ سورة المائدة : 90]

 النبيذ لأنه يتفق مع الخمر بعلة واحدة ألا وهي الإسكار إذاً هو محرم .
 يقول عليه الصلاة والسلام :

((لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شيئاً))

[ الدرامي عن عبد الله بن عباس]

 القاتل لا يرث من مورثه ، حديث نبوي تشريعي ، الآن الإنسان لو قتل الموصي له هل تجب له الوصية ؟ لا ، ما دام القاتل استعجل وقتل مورثه طلباً للمنفعة العاجلة ، الموصي إذا قُتل من قبل الموصى له طلباً للمنفعة العاجلة ينسحب عليه الحكم ، إذاً الموصي لا يستطيع أن ينال وصيته من الذي قتله ، هذا القياس . يقول عليه الصلاة والسلام :

((المؤمنُ أخو المؤمن ، فلا يَحِلُّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولا يَخْطُبَ على خِطْبَةِ أخيه ، حتى يَذَرَ ))

[ مسلم عن عقبة بن عامر]

 أخوك خاطب من بيت لا يجوز لك أن تطرق هذا البيت خاطباً حتى يحسم أمر أخيك ، تابع أو انسحب ، ما دام هو يخطب هذه الفتاة ، والأمر لا زال معلقاً لا يجوز أن تخطب على خطبته ، كلام واضح ، هذا هو الحكم .
 ولا يجوز أن تبتاع على بيعه ، هناك مساومة بين أخ لك وبائع ، الأمر لم يحسم ينبغي أنت أن تبقى متريثاً حتى يحسم الأمر ، إن اشترى انتهى الأمر ، إن لم يشترِ تدخل أنت، هل يجوز لك أن تستأجر على استئجار أخيك ؟ هذا مسكوت عنه ، ينسحب عليه المنصوص عليه لاتحاد العلة ، العلة أن خطبة الرجل على خطبة أخيه تسبب العداوة والبغضاء والقطيعة ، وبيع الرجل على بيع أخيه . أذكر أنا أحد رواد المسجد ، أو أحد رواد أحد المساجد ، وكان ملتزماً سأل أخاً له عن فتاة مناسبة له ، فهذا الأخ دله على فتاة ، والفتاة مناسبة ، أهل الذي دله أقنعوه أن هذه الفتاة مناسبة لك فبعد أن طرق الأخ هذا البيت ، وطلب ابنتهم ، وجاء الذي كان وسيطاً وتدخل هو وخطب البنت ، صدقوني أيها الأخوة أن الخاطب الأول ترك المساجد كلها ، وترك الصلاة ، لأنه خطب على خطبة أخيه ، فسبب القطيعة والعداوة ، فالنبي عليه الصلاة والسلام :

((المؤمنُ أخو المؤمن ، فلا يَحِلُّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولا يَخْطُبَ على خِطْبَةِ أخيه ، حتى يَذَرَ ))

[ مسلم عن عقبة بن عامر]

 فالعلماء قاسوا : وينبغي ألا تستأجر على استئجار أخيك ، أخ وجد بيتاً مناسباً ، سعره مناسب ، موقعه مناسب ليستأجره كي يتزوج فيه ، فجاء أخ آخر وضعه المادي أقوى ، فدخل مستأجراً ودفع أعلى ، فأخذ البيت منه ، هذا شيء يسبب عداوة لا تنتهي . فلذلك يسحب على حكم تحريم بيع الأخ على بيع أخيه ، وخطبة الرجل على خطبة أخيه ، أن الذي يستأجر على استئجار أخيه أيضاً هذا محرم ، هذا قياس ، تقيس شيئاً مسكوتاً عليه بمنصوص عليه ، لعلة تجمع بينهما ، هذه الحالة الثانية . المجتهدون أجمعوا على ثبوت ولاية التزويج على البكر الصغيرة ، والثيب الصغيرة تثبت ولاية الولي عليها في التزويج لاتحاد العلة ، والعلة أنها صغيرة، هذا هو القياس ، فالقياس أحد مصادر التشريع ، السبب أن هناك أحكاماً محدودة ، أما الحالات المتجددة مع مضي الزمن فغير محدودة ، قد تجد مئة ألف مليون حالة لم يوصَ عليها في التشريع ، أما كل هذه الحالات فلها ما يشبهها في أصل التشريع ، فنقيس المسكوت عليه بالمنصوص عليه لعلة تجمع بينهما ، هذا القياس .

 

إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لا يعد دائماً قياساً :

 لكن هناك ملاحظة دقيقة جداً لا يعد كل إلحاق لمسكوت عنه بمنطوق به قياساً ، ما كل مسكوت عنه يلحق بمنصوص عليه ، هناك حالات ، أول حالة أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ، هذه دقيقة الفكرة ، قال تعالى :

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾

[ سورة الإسراء : 23 ]

 هذا المنطوق ، هناك نهي عن أن تقول كلمة أف ، شيء جميل ! المسكوت عنه الضرب فالضرب منهي عنه من باب أولى ، المسكوت عنه أقوى في التحريم من المنطوق به ، هذه حالات وأوضح مثل :

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾

[ سورة الإسراء : 23 ]

 النطق به النهي عن أن تقول لهما أف ، أو أن تنهرهما ، المسكوت عنه الضرب تحريم الضرب ، هذه قاعدة يستخدمها الفقهاء من باب أولى ، قال : إن كل عارف باللغة يفهم منه النهي عن شتم الوالدين وضربهما بل يرى أن ذلك أولى بالنهي ، يقول مثلاً :

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾

[ سورة الأحزاب : 33]

 يقول لك : هذه لنساء النبي ، نقول له : إذا كانت نساء النبي وبنات النبي عليه الصلاة والسلام قد أمرن أن يقررن في بيوتهن وهن المحصنات العفيفات ، فأن يكون الأمر منسحباً على بنات المؤمنين من باب أولى ، المحصنة ، العفيفة ، الطاهرة ، التي هي أم المؤمنين قال : أمرهن أن يقررن في بيوتهم ، فلأن ينسحب هذا الحكم على نساء المؤمنين وبنات المؤمنين من باب أولى . يقول عليه الصلاة والسلام :

((أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ ))

[ ابن ماجه عن عبادة بن الصامت]

 إذا في الغنيمة خيط وإبرة قال : هذا ينبغي أن يؤدى ، إذا هناك درع من باب أولى، إذا قلنا لمن يوزع الإرث وزع حتى الإبرة ، السجادة ؟ السجادة لم ينص عليها ، من باب أولى ، إذا الإبراء ينبغي أن تدخلها بالقسمة ، فالسجادة التي ثمنها مئة ألف من باب أولى ، فهذا أقوى أنواع القياس ، أو يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق منه ، والمثل المخيط والخيط ومثل :

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾

[ سورة الإسراء : 23 ]

 المسكوت عنه الشتم والضرب ، والمنطوق به الأف والنهر ، العلة إساءة إلى الأب، إذاً هذا هو القياس . النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التضحية بالعوراء والعرجاء والعمياء ؟ من باب أولى ، بمقطوعة الرجلين ؟ من باب أولى ، بالمريضة ؟ من باب أولى ، تجد هذا الباب واسعاً جداً الشرع الحكيم في إيجاز ، النبي عليه الصلاة والسلام أخذاً من قوله تعالى :

﴿ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ﴾

[ سورة النساء : 23]

 فقاس عليها الأمهات من الرضاعة ، والأقارب من الرضاعة ، هذا هو القياس ، علة تجمع بين شيئين ، علة تجمع بين المسكوت عنه والمنصوص عليه ، علة تجمع بينهما ، فحكم المنصوص عليه ينسحب على المسكوت عنه ، هذا القياس ، أنا أحاول قدر إمكاني أن أبسط ، هذا علم أصول الفقه . طبعاً تجب الكفارة على من جامع أهله في رمضان فعلى من زنى في رمضان من باب أولى ، تلاحظون النوع الأول قوي جداً ، المسكوت عنه أقوى في أهليته للحكم من المنصوص عليه ، هذا أسلوب بليغ أعطاك تحريماً بهذا الشيء الصغير ، إذا كنت توزع الغنائم فأدخل الإبرة في الغنائم ، يقول لك إنسان : الدرع ما ذُكر بالنص .
 هناك نوع ثان ، طبعاً أريد أن أنوه أن هذا القياس الأول ، والقياس الأخطر ، والقياس الأكبر له أسماء كثيرة ، من هذه الأسماء دلالة النص ، أو فحوى الخطاب ، أو مفهوم الموافقة ، أو القياس الجلي ، له أربع تسميات في كتب الفقه ، أول تسمية دلالة النص ، أو فحوى الخطاب ، أو مفهوم الموافقة ، أو القياس الجلي .

النوع الثاني من القياس أن يكون المسكوت عنه مساو للمنطوق به :

 الآن هناك نوع ثانٍ من القياس أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به ، فلا هو أولى منه ، ولا هو دونه ، هناك مساواة ، أول نوع المسكوت عنه أقوى بكثير ، فالإنسان بداهة يشعر أن هذا أيضاً محرم ، سماه دلالة النص ، أو فحوى الخطاب ، أو مفهوم الموافقة ، أما الثاني مثلاً في قوله تعالى :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾

[ سورة النساء : 10]

 طبعاً هذا النص يدل على حرمة إتلاف أموال اليتامى بأي وجه من وجوه الإتلاف وإن كان النص متعلقاً بالأكل ، مثلاً معك مبلغ ليتيم ، أكلته أي ضممته إلى مالك ، الآن معك ليتيم سيارة ، استهلكتها استهلاكاً أتلفها ، إنك لم تغتصبها ، ولم تأخذها ، لكنك حطمتها استخدمتها استخداماً . والله أيها الأخوة هناك في القرآن الكريم إشارات مذهلة ، قال تعالى :

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾

[ سورة النساء : 2]

 أو :

﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾

[ سورة النساء : 29]

 الله سمى المال الذي يأكله الإنسان حراماً سماه ماله ، كيف ؟ إذا دخل سارق إلى بيت ، هل يسرق ماله ؟ لا ، يسرق مال صاحب البيت ، القرآن سماه ماله :

﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ﴾

[ سورة النساء : 29]

 إذا دخل لص لبيت وسرق مئة ألف بحسب الآية هذا المال ماله ، لقول الله عز وجل :

﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ﴾

[ سورة النساء : 29]

 هنا روعة القرآن أن الله سمى مال أخيك سماه مالك من زاوية واحدة هي زاوية وجوب الحفاظ عليه ، فلأن تدع أكله حراماً من باب أولى ، هذا المال مال أخيك هو مالك من زاوية أن تحافظ عليه وكأنه مالك ، والعوام بكلمة معبرة تماماً ، يعير سيارته لصديق ، يقول له: الله يرضى عليك كأنها سيارتك ، أي عاملها وكأنها سيارتك ، بوجوب المحافظة عليها .
 الآن هناك معنى آخر : هل يمكن أن يكون مالك مال أخيك ؟ الأولى واضحة مال أخيك هو مالك من زاوية وجوب الحفاظ عليه ، هل يمكن أن يكون مالك مال أخيك ؟ من زاوية ثانية مالك هو مال المسلمين من زاوية وجوب إنفاقه في مصالحهم ، معك مال تعمل مزرعة تفاح ، تطرح تفاحاً في السوق السعر ينخفض ، تعمل معمل أدوية ولكن لا تعمل ملهى ، لا تعمل نادياً ليلياً ، لا تعمل محل تأجير أفلام منحطة ، هو مالك ، هو مالك وهو لك ويجب أن تنفقه في صالح المسلمين .
 الآن إنسان أحياناً يضع ماله في بلاد الكفر ، مرة سمعت إحصاء بعض الدول النفطية : ثلاثة و ثمانون مليار موضوعة في بنوك أجنبية ، هذا المال قوة ، أنت بهذا المال قويت هذه البنوك بمال المسلمين .
 فيا أيها الأخوة ، يقول الله عز وجل :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾

[ سورة النساء :10]

 هذا هو المنطوق به والمسكوت عنه ، المحرم أكل المال ، المسكوت عنه إتلاف المال . لكن هناك تساو ليس كالأول .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾

[ سورة الجمعة : 9]

 هناك إنسان لم يبع ، لكن عمل نزهة أثناء صلاة الجمعة ، محرم ؟ محرم ، فإذا كان البيع وفيه النفع الجزيل محرماً في صلاة الجمعة ، أو في أثناء صلاة الجمعة ، النزهة أيضاً محرمة . أكثر الناس يظن إنه إذا كان قذف محصنة طبعاً الحكم الشرعي يجلد ثمانين جلدة كأن الناس يتوهمون أن المرأة وحدها تكلم في عرضها ، المتكلم القاذف يجلد ثمانين جلدة ، قد يغيب عنكم أن الذي يتكلم في عرض الرجل دون أن يكون متأكداً يجلد ثمانين جلدة ، العرض واحد ، العرض في اللغة موضع المدح والذم ، أثمن شيء في حياة المؤمن إيمانه فإن نزعت عنه إيمانه كأنك انتهكت عرضه ، نحن عندنا وهم فقط للنساء ، فقط إذا الإنسان قذف امرأة محصنة يجلد ثمانين جلدة ، أما الحكم الشرعي ولو اتهمت رجلاً بالزنا ، أو اتهمت رجلاً بأنه لا إيمان له ، أو اتهمته بالكفر ، فالحكم الشرعي يجب أن تجلد ثمانين جلدة ، هذا بالقياس.

﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾

[ سورة النور : 4]

 يدل على من يرمون المحصنين من الرجال كذلك ، الواحد مع تفلت الناس للدين هذا إنسان الله أعلم أين يسهر كل يوم ؟ عنده سهرات حمراء ، وموائد خضراء ، من دون تأكد ، هذا يجلد ، الإنسان كرامته في عرضه ، وعرضه موضع المدح والذم فيه .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾

[ سورة الأحزاب : 49]

 يسحب هذا الحكم على الكتابيات .
 أيها الأخوة ، الفرق بين النوعين أن النوع الأول يفهمه كل إنسان بالبديهة ، ما دام:

﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾

[ سورة الإسراء : 23 ]

 هناك نهي عن أن تقول كلمة أف أي شتيمة ، أو أي ضرب محرم من باب أولى ، هذا شيء طبيعي ، هذا بالقياس . النوع الثاني هناك وجه للشبه بين المنطوق به والمسكوت عنه، يكثر هذا الوجه إلى حد ويضعف إلى حد .

 

النوع الثالث من القياس :

 النوع الثالث : قال : ما لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق فيه ، ولا مساوياً له ، فيكون الإلحاق مظنوناً ظناً راجحاً ، صار عندنا إلحاق يقيني ، أول نوع ، إلحاق معتدل في الثاني ، إلحاق ظني في الثالث .

القياس أحد أبواب الاجتهاد :

 أيها الأخوة ، القياس في أصول الفقه أحد أبواب الاجتهاد ، فضلاً عن الكتاب والسنة والإجماع . ذكرت لكم في درس سابق قوله تعالى :

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[ سورة غافر : 82]

 معنى الأقوى الله عز وجل أهلكهم ، فإذا قوم جاؤوا متأخرين وفسقوا فالهلاك ينتظرهم ، قياساً وهكذا .
 أيها الأخوة ، من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام :

(( جاءته امرأة من جهينة قالت : يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج وماتت ولم تحج ، أحج عنها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم حجي عنها ، أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فإن الله أحق بالوفاء ))

[البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ]

 أي اقضوا حق الله ، هذا قياس قاسه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا النص الصريح . إذاً آيات كثيرة ذكرتها في الدرس الماضي ، وأحاديث عديدة ذكرتها في الدرس الماضي تؤكد أن القياس له أصل في الكتاب والسنة .

العقل مناط التكليف و أصل في الدين :

 نحن كما يعودنا علماء الأصول هناك دليل نقلي ، وهناك دليل عقلي ، الدليل النقلي من الكتاب والسنة ، والدليل العقلي من محاكمة العقل ، الإسلام صالح لكل زمان ومكان، لذلك هناك حالات متجددة تفوق حدّ الخيال ، لكن الحالات المجددة كلها يمكن أن تنسحب على حالات منصوص عليها ، القياس أن تقيس المسكوت عنه بالمنصوص عليه لعلة تجمع بينهما .
 قال : العقول البشرية فُطرت على التسوية بين المتماثلين وعدم التفرقة بينهما ، وعلى التفريق بين المختلفين وعدم التسوية بينهما ، وخاطب الله العقول البشرية على أساس هذه الفطرة في كثير من آيات القرآن الكريم .
 أخواننا الكرام ، هل تصدقون أن الآيات المتعلقة بالعلم والعقل تزيد عن ألف آية ، لأن العقل مناط التكليف ، قال تعالى :

﴿ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾

[ سورة يس : 68]

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ ﴾

[ سورة الغاشية : 17]

 أفلا يتفكرون ، العقل مناط التكليف ، والعقل أصل في الدين .
 شيء آخر أيها الأخوة : العقل والنقل ، النقل وحي السماء ، وبيان النبي ، الوحي المتلو وبيان النبي وحي غير متلو ، هذا هو النقل ، والعقل هذا الجهاز الذي لا تفهم الذي حولك إلا وفق مبادئ ثلاث ، مبدأ السببية ، والغائية ، وعدم التناقض ، لاحظ نفسك إنك لن تستطيع أن تفهم شيئاً إلا بسبب ، إنسان دخل إلى بيته وجد المصباح متألقاً وقد أطفأه بيده ، ومعه مفتاح واحد ، يحكم قطعاً أن هناك سارقاً دخل إلى البيت ، لأن العقل لا يقبل أن يتـألق المصباح من ذاته ، إلا أن يداً ألقته ، فحياتنا مبنية على السبب ، فالعقل لا يفهم إلا السبب ، كما أنه لا يفهم إلا بالغاية ، وقد يشتري أحدنا آلة وقد يجد فيها مفتاحاً ، وهذا المفتاح لا يفهمه إلا إذا فهم غايته ، أحياناً الإنسان عنده حاجة فكرية .
 مرة وجدت قرصاً من البلور - البيركس - هذا القرص يوضع في وعاء الحليب فالحليب لا يفور ، إذاً المشكلة حُلت ، ضع هذا القرص في قعر الوعاء وأوقد الغاز ، واذهب ونم يصبح الحليب مرقداً ، ولا يفور الحليب ، المشكلة حُلت ، لكن هناك حاجة عقلية بالإنسان ، لماذا ؟ ما السبب ؟ على ماذا بني هذا القرص ؟ والله مرة اشتريت هذا القرص - القصة قديمة - واستعملته وحلت المشكلة ، لكن عندي حاجة عقلية ، كيف ؟ على أي قانون بني ؟ سحر ؟ لا يوجد سحر ، حتى تقصيت الأمر ، هذا القرص له حرف سفلي ، وله فتحة صغيرة ، فالحرف السفلي جعله كالقبة جمع الفقاعات وأخرجها من مكان واحد ، أخرجها كثيفة فثقبت القشطة ، فتوقف فوران الحليب ، عندما لا يكون هناك قرص الفقاعات تتحول نحو الأعلى مجتمعة ، تدفع هذه الطبقة الكثيفة القشطة إلى خارج الإناء تجد الحليب طف ، أما هذا القرص فمهمته جمع الفقاعات وجعلها كثيفة كي تثقب هذا السطح العالي ، هذه حاجة عقلية .
 أحياناً تجد سيارة نفط لها غلاف إضافي ، ما السبب ؟ أنت ليس لك علاقة بالنفط، ولا بنقله ، لكن هناك حاجة عقلية لماذا ؟ هذه الغائية بالعقل ، سألت مرة قال : هذه السيارات فيها نفط للطائرات ، ونفط الطائرات سريع الاشتعال ، هناك حالات اشتعلت بعض المركبات بسبب أشعة الشمس فقط ، وضعوا هذه الطبقة الإضافية ، العقل البشري لا يفهم شيئاً إلا بسبب، كما أنه لا يفهم شيئاً إلا بغاية ، كما أنه لا يقبل التناقض .
 الآن قاضي التحقيق إذا كان هناك متهم بقتل ، وأثبت هذا المتهم أنه كان في حلب بوثيقة رسمية ، كان موقوف بحلب ساعة الجريمة ، أحضر وثيقة من السجن ، يحكم بالبراءة ، غير معقول أنه يكون بحلب وبالشام في آن واحد ، هذا العقل .

الله تعالى فرض على العقول البشرية التسوية بين المتماثلين :

 عندنا دليل نقلي الكتاب والسنة ، ودليل عقلي ، قال : فطر الله العقول البشرية على التسوية بين المتماثلين ، وعدم التفرقة بينهما ، وعلى التفريق بين المختلفين وعدم التسوية بينهما، وخاطب العقول البشرية على أساس هذه الفطرة ، قال تعالى حينما تحدث عن آل فرعون قال :

﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾

[ سورة القمر : 43]

﴿ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾

[ سورة القمر : 46]

 هذا قياس ، كما أن هذا القانون انطبق على آل فرعون ينطبق على كل أمة تأتي بعد فرعون .

﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾

[ سورة القلم : 35-36]

 هذا قياس ، انظروا إلى التاريخ ، هل مر في فترة ما أن المسلم يعامل كالمجرم ؟ لا وكذلك أنتم ، اطمئنوا .

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة الجاثية : 21]

 أي اطمئنوا يقاس عليها ، أيها الأخوة ، هذا موضوع القياس بشكل مبسط عندنا شيء منصوص عليه وله علة ، وشيء مسكوت عنه وله علة تتفق مع علة الأول ، فحكم الأول ينسحب على حكم الثاني وانتهى الأمر .

 

تحميل النص

إخفاء الصور