وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0681 - المؤمن مرآة للمؤمن - مقالة رمزية عن أمريكا .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

المؤمن مرآة المؤمن :

 أيها الأخوة الكرام، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((إن أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى به أذىً فليمطه عنه))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

((المؤمن مرآة المؤمن))

[عن أنس، وصححه السيوطي بأنه حسن]

 وفي حديث ثالث يقول عليه الصلاة والسلام:

((المؤمن مرآة المؤمن والمؤمن أخ المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوفه من ورائه))

[ البخاري في الأدب ورواه أبو داود عن أبي هريرة ]

 وفي حديث رابع:

((المسلم مرآة المسلم فإذا رأى به شيئاً فليأخذه))

[ كنز العمال عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام، المؤمن مرآة المؤمن، أي آلة تريه محاسن أخيه ومعايبه، لكن بينه وبينه، فإن النصيحة في الملأ فضيحة، وإنما يعلم الشخص عيب نفسه بإعلان أخيه، وأخوه يكشف له الخلل فيمنع تلفه وخسرانه. يكفُّ عليه ضيعته: أي يكفُّ عليه ما يهلكه في معاشه. ويحوط من ورائه: أي يحفظه ويصونه ويذب بقدر الطاقة. هذا شرح بعض شرَّاح الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير. هذا الحديث مهم جداً في العلاقات بين المؤمنين، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:

((المؤمن مرآة المؤمن))

 هذا الحديث على قلة كلماته عظيم المعاني، كثير الدلالات، ينطوي على معان تربوية نحن في أشدّ الحاجة إليها، وبخاصة في هذه الأيام التي يمر بها المسلمون لتصحيح مسارهم في انطلاقهم إلى الله تعالى، وتحقيق عبوديتهم له.

 

المؤمن كالمرآة لا يبدي العيوب فقط بل يعكس المحاسن أيضاً :

 المرآة - أيها الأخوة - تظهر العيوب، من دون صخب ولا جدال، فيا أيها المؤمن كن كذلك.. انصح أخاك بينك وبينه، من دون فضيحة، من دون صخب، من دون تهويل، من دون جلبة، من دون تشهير، بصمت، المرآة تعكس العيوب بصمت، فكن كهذه المرآة، لأنك كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام مرآة أخيك، وهو مرآتك.
 فالملاحظة الأولى أيها الأخوة: المرآة تكشف العيوب من دون صخب ولا ضجيج، فكن كذلك أيها المؤمن في تصحيح المسار، وفي رأب الصدع، وفي لمِّ الشمل، وفي إصلاح الخلل بينك وبين أخيك، بصمت، من دون ضجة، من دون فضيحة، من دون تشهير، هذا إن أردت أن تكون مرآةً صادقة له.
 المرآة لا تبدي العيوب فقط، بل تعكس المحاسن أيضاً، إنها تعكس كل شيء، لعلها تعكس المحاسن قبل المساوئ، فلا تكن إلا كهذه المرآة، إن كان فيه فضيلة، إن كان فيه خير، إن كان فيه محاسن أبرز هذه المحاسن، وإن كان فيه معايب، بينك وبينه أبرز هذه المعايب له، لا مانع من أن تبرز المحاسن أمام الناس، فهذا دعم للحق، وهذا دعم لأخيك، وهذا إعلان عن أخوتك الصادقة له، أما إذا عكست هذه المرآة بعض المساوئ فينبغي أن يكون هذا فيما بينك وبينه، بصمت، وبهدوء، وبتلطف، وبأجمل كلمة، وأرقى عبارة، وألطف أسلوب..

((من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف))

[البيهقي عن ابن عمرو ]

على الإنسان أن يكون موضوعياً إن ذكر المساوئ يذكر المحاسن أيضاً :

 أيها الأخوة المؤمنون، لا تنسوا أنه ما من امرئ إلا وفيه بعض المحاسن، وكان عليه الصلاة والسلام يبرز هذه المحاسن، من أجل أن يشجع عليها، كان عليه الصلاة والسلام يحسِّن الحسن ويقويه، ويقبِّح القبيح ويوهِّنه، فإذا رأيت في أخيك بعض المحاسن فأبرزها.
 النبي عليه الصلاة والسلام سمع صحابياً أراد أن يلحق معه الصلاة في الركعة الأولى، أحدث جلبة وضجيجاً في المسجد، فلما انتهت الصلاة قال له عليه الصلاة والسلام:

(( زادك الله حرصاً ولا تعُدْ ))

[البخاري عن أبي بكرة ]

 أبرز المحاسن، رأى في هذه الجلبة حرصاً على الصلاة خلف النبي، حرصاً على إدراك الركعة وراءه، لكنه أحدث جلبة، قال له: زادك الله حرصاً ولا تعد..
 الموضوعية قيمة في العلم أولى، والموضوعية قيمة في الأخلاق أولى، وفي هذه النقطة يلتقي العلم مع الأخلاق، كن موضوعياً إن ذكرت المساوئ فلا تنس المحاسن، إن رأيت السلبيات فلا تنس الإيجابيات، إن رأيت القبائح فلا تنس المحاسن، قال عليه الصلاة والسلام:

((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 كن موضوعياً، كن كالمرآة، بصمت، بهدوء، من دون ضجيج، من دون صخب، من دون فضيحة، اعكس المحاسن، واعكس المساوئ من أجل إصلاح الخلل، من أجل رأب الصدع، من أجل رفع الإنسان إلى مستوى إنسانيته.

 

إظهار العيوب بحجمها الطبيعي دون زيادة أو نقصان :

 أيها الأخوة الكرام، المرآة لا تضعِّف العيوب، بل تظهرها بحجمها الحقيقي إلا إذا كانت مقعرة، المرآة التي نقصدها هنا المرآة المسطحة، وليست المقعرة التي تكبر العيوب، وليست المرآة المحدبة التي تصغر العيوب، كن كالمرآة المسطحة لا محدبة، ولا مقعَّرة، كن مرآة صادقة تكشف الخطأ، وتصلحه بقصد صلاح حال المسلمين، وهذا الذي لا يعنيه أمر المسلمين، ولا يحمل همّ المسلمين ليس من المسلمين، هذا الذي لا يتمعَّر وجهه إذا رأى منكراً ليس مؤمناً، هذا الذي يقول لك: أنا على حق، ولا شأن لي بالآخرين، هذا ليس مؤمناً..
 المرآة لا تضعِّف العيوب، بل تظهرها كما هي، من دون تضخيم أو زيادة، فعلينا أن نكون منصفين، عادلين، فلا نسلط الأضواء الكشافة، ولا العدسات المكبرة على أخطاء المسلمين، لا نكون قناصين، نكون هادين مهديين، نكون معاونين، نكون بأيدي إخواننا آخذين.
 سيدنا حاطب بن أبي بلتعة، عمل عملاً لا يمكن أن يُقاس في أي زمان أو مكان، أرسل رسالة إلى قريش قبل فتح مكة، قال: إن محمداً يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم، أعلم الله النبي بكتابه هذا، واستقدمه عن طريق أحد الصحابة من امرأة في نصف الطريق، وطلب حاطب، قال له: يا حاطب ما حملك على ما فعلت؟. قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر، إنه شهد بدراً. يا حاطب ما حملك على ما فعلت ؟.. قال: والله يا رسول الله ما كفرت وما ارتددت، ولكني لصيق في قريش، ولست من أصل قريش، أردت أن يكون هذا الكتاب صنيعة لي عندهم، أحمي بها أهلي ومالي، وأنا موقن أنك منتصر عليهم. فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن قال: إني صدَّقته فصدَّقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً.
 وقال بعض شرَّاح الحديث: إن عمراً رأى عظم الذنب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رآه زلَّة، نقطة ضعف أصابت هذا المؤمن أراد أن يكون عوناً له على الشيطان، أراد أن يأخذ بيده، فإن رأيت نقيصة أو عيباً حاول أن تفسرها تفسيراً مقبولاً. التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرة، لا تكن عوناً للشيطان عليه كن عوناً له على الشيطان.
 أيها الأخوة الكرام، المرآة لا يمكن أن تعكس العيوب إلا إذا كانت نظيفة طاهرة صقيلة فهل أنت كذلك ؟.. فقبل أن تعكس عيوب الآخرين، هل نظفت مرآة نفسك؟ هل أزلت عنها العيوب؟

(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))

[ الديلمي عن أنس مرفوعاً ]

((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))

[الترمذي عن الحسين بن علي]

 لن تستطيع المرآة أن تعكس العيوب إلا إذا كانت صقيلة، نظيفة، لامعة، وإلا أعطت صورة مشوهة عن الذي أمامها. وليس كل إنسان يعنى قدر طاقته بتنظيف نفسه، وتطهيرها وصقلها فإذا وصل إلى هذه المرتبة- وقل من يصل إليها- عندئذ يحمل همّ المسلمين، ويبدأ بإصلاح المسلمين، فلعل الله سبحانه وتعالى يقبل منه ذلك.

 

النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب خيرية هذه الأمة :

 أيها الأخوة الكرام، المرآة حينما تعكس العيوب لا تبالي بمن هذا الذي أمامها كبيراً كان أم صغيراً، هذا الذي يتصيد عيوب الضعفاء، ويغض الطرف عن عيوب الكبراء، هذا ليس مرآةً صادقة، فالمرآة تعكس كل العيوب، وتعكس كل العيوب في كل الأشخاص.

((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))

[متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

 إن هذه المرآة تعكس كل شيء، وتعكس كل الأشخاص الذين أمامها من دون تمييز، ومن دون مداهنة، من دون تقبيح. هناك أناس يستضعفون بعض الناس، فيكيلون لهم الذمَّ جزافاً، أما إذا رأوا أناساً أقوى منهم كالوا لهم المديح جزافاً، هؤلاء ليسوا مرآةً صادقة، الحق يُعلى ولا يُعلى عليه. المرآة تؤدي واجبها، ولا تنتظر مغنماً، ولا شكراً، ولا تقديراً وهكذا المؤمن، لا ينبغي أن ينتظر على نصيحته جزاءً، ولا تقديراً، ولا مديحاً، ولا ثناءً، ولا شكراً.. المرآة تستحق التقدير والإكرام، ولا يكسرها أو يهملها إلا جاهل، إنها تُريه العيوب، إنها تحسِّن مظهره أمام الناس، إنها تكشف له الأخطاء، إنها ترفعه، فإذا رفضتها، ورفضت نصيحة أخيك ولم تعبأ بها، بل عنفته عليها. إذا اعتززت بنفسك، ولم تلق له أذناً صاغية، فكأنك كسرت هذه المرآة، ولا يكسرها إلا جاهل، وهذا الذي لا يصغي للنقد يوجه إليه ليس أهلاً أن يرتقي إلى قمة النجاح.
 أيها الأخوة الكرام، ورد عن بعضهم هذه الحكمة: تعلموا قبل أن ترأسوا، فإذا ترأستم فلن تعلموا؛ لأن الإنسان قد يصل إلى النجاح، فيمنعه تفوقه من إصغاء الأذن إلى النصيحة، وعندئذ يصبح النجاح وبالاً عليه، من الصعوبة بمكان أن تصل إلى القمة، ولكن الأصعب من ذلك أن تبقى فيها، إن الطرق إلى الحضيض كثيرة جداً بدءاً من القمة، ونحو الحضيض.
 المرآة لا تنسى وظيفتها ولو كسرتها، والمؤمن ينصح من مركز قوة، ومن مركز ضعف، النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي العلة التي جعلها الله سبباً في خيرية هذه الأمة، قال تعالى:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 110]

 فعلّة الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينما تُعطل هذه الفريضة السادسة، لا معنى لهذه الخيرية، عندئذ نحن بشر ممن خلق، وليس لنا أية ميزة على أحد.
 سيدنا عمر وقد طُعن، فقال في أول صحوة له بعد الطعن: هل صلى المسلمون الفجر ؟ أراد أن يطمئن على صلاتهم، وقد طعنه هذا الذي طعنه، والدماء تسيل منه ويقول: هل صلى المسلمون الفجر؟. لو كسرت المرآة، لا تتعطل وظيفتها، بل تبقى تؤدي مهمتها بإخلاص ونجاح.

 

المؤمن سليم الصدر صافي الطوية لا يحقد ولا يبغض :

 أيها الأخوة الكرام، كما أن المرآة لا تخفي العيوب في باطنها، ولا في جوفها، بل تظهرها على صفحتها الخراجية، وتنسى كل صورة حال زوالها وهكذا المؤمن، لا يحقد، ولا يخبِّئ، ولا يجمع، إنما هو مرآة صافية، تعكس الذي أمامها وانتهى الأمر، فإذا أزيح الذي أمامها لم يعلق في باطنها شيء، وكذلك المؤمن سليم الصدر، صافي الطوية لا يحقد، ولا يبغض، ولا يكره. يقول سيدنا عمر رضي الله عنه حينما دخل عمير على رسول الله وقد جاء ليقتله: دخل عمير على النبي صلى الله عليه وسلم والخنزير أحبّ إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي.
 قال له النبي الكريم: يا عمير ألم تقل لصفوان: لولا أطفال أخشى عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون ما أطيق سدادها، لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، وقف وقال: يا رسول الله إن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله وأنت رسوله إذاً، وإني قد أسلمت.. فقال عمر: وخرج من عنده وهو أحب إلي من بعض أولادي.
 فالمرآة لا تحقد، ولا تخذل، ولا تجمِّع، ولا يعلق فيها شيء بعد زوال الصورة، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن.
 المرآة تذكر الذي يرى فيها عيوبه الظاهرة، لا الباطنة، فالمؤمن لا يدقق في البواطن، لا يتتبع العيوب، لا يسأل ماذا تنوي من هذا العمل؟.. هذا من شأنه مع الله، أنت لك الظاهر والله يتولى البواطن، أنت تحكم بالظاهر، والله يتولى البواطن، لا تدخل إلى جوف الإنسان، لا تسأله عن قصده، لا تتبع عيوبه، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

((صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ))

[ الترمذي عن ابن عمر]

 الشيء الذي ظهر لك هذا موضوع النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

 

المؤمن يألف ويؤلف و لا يدعي العصمة :

 المرآة تظهر العيوب في حضرة الناظر إليها لا في غيبته، فهذا الذي يجامل الناس في حضورهم، ويغتابهم في غيبتهم، ليس مرآةً كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، المرآة تظهر الذي أمامها فإذا غاب ليس فيها شيء، أما هذا الذي يجامل الناس، يبتسم لهم، يبش لهم، يثني عليهم، فإذا أداروا ظهورهم طعن فيهم، وانتقدهم، وجرَّحهم، وسفههم، فهذا ليس من أخلاق المؤمن. وشيء دقيق جداً- أيها الأخوة - هو أن المرآة لا تؤدي دورها إلا إذا وقف الإنسان أمامها، لا تؤدي دورها إلا إذا طلبها، لا تؤدي دورها إلا إذا عرف قيمتها، لا تؤدي دورها إلا إذا عرف فائدتها، فلذلك هذا الذي لا يسألك، ولا يستنصحك، ولا يعبأ برأيك، هذا يحتقر المرآة، وهو من أبعد الناس عن النصح، وعن قبول النصيحة، هذا الذي تأخذه العزة بالإثم، هذا الذي لا يقبل النصيحة بعيد عن أن يكون من المؤمنين؛ لأن المؤمن يألف ويؤلف، المؤمن لا يدعي العصمة، يتهم نفسه كثيراً، المؤمن يتمنى أن يكون في أحسن حال عن طريق نظره في عيوبه، وعن طريق إصغائه إلى انتقادات الآخرين.
 هذه بعض ما في المرآة التي وصف النبي عليه الصلاة والسلام المؤمن بأنه مرآة أخيه.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون :

 أيها الأخوة الكرام، في خلال سفرتي الأخيرة، تواردت عليّ خواطر كثيرة، أردت أن أسجلها في شكل مقالة قصصية، ولأنه لم يسبق لي أن كتبت في هذا الإطار، أضع هذه المحاولة المتواضعة بين أيديكم.
 هناك رجل عنده عشرة أولاد، مختلفون من حيث الذكاء والمحدودية، والطيب والخبث، والالتزام وعدمه، ولكل ولد من أولاده ذرية من الذكور والإناث، أراد الأب أن يعطي أولاده من أمواله؛ ليمتحنهم، وليرى مدى التزامهم بتوجيهاته، فأعطاهم من أمواله بشكل متساو كماً مختلف نوعاً، فمن بيت إلى محل إلى أرض إلى مال سائل، لكن واحداً من أولاده يتمتع بذكاء متقد، وبقدر ذكائه المتقد يتصف بالخبث الشديد، وبقدر خبثه الشديد ينطوي على أنانية مفرطة، وحب للذات، لكن الشيء الذي يلفت النظر أنه يتمتع بقدرة عجيبة على أن يظهر بأعلى مظهر أخلاقي علمي حضاري، ومن أجل أن يوفر هذا الابن الخبيث لأسرته حياةً رغيدة ناعمة مستقرة لا توفرها أمواله الخاصة، ولا الأموال التي أخذها من أبيه، ولا الأموال التي يمكن أن يحصلها بكده وعرق جبينه، بدأ بالعدوان على أموال إخوته، بشكل مقنع تارة، ومكشوف تارة أخرى، بحسب الظروف المحيطة به، فتارة يغريهم بأن يستثمر أموالهم في محله التجاري فيحجزها عنده، ويعطيهم من أرباحها النذر اليسير، وتارةً يبيعهم حاجات يزينها لهم، ويوهمهم أنهم في أشدّ الحاجة إليها بأغلى الأثمان، ثم إنه يشتري ما عندهم من مواد هو في أمسِّ الحاجة إليها بأبخس الأسعار، وتارة يدّعي أنه يدافع عن أخوته ضد أخطار موهومة ويتقاضى عن دفاعه هذا أكرم أموالهم، وكلما تردد إخوته بإعطائه المال الذي يطلبه منهم أغرى بعض أعوانه وما أكثرهم بتهديدهم وتخويفهم، وفي نهاية المطاف، وبعد أن تمكن من إزاحة منافس طامع من ساحة الصراع كشر عن أنيابه، وأزاح القناع عن وجهه، واغتصب معظم أموال إخوته، ولم يبق لهم إلا النذر اليسير، وجعلهم يعيشون في فقر مدقع، وفي اضطراب وهلع، والذي أعانه على ذلك أن إخوته مختلفون فيما بينهم، بل إن بعضهم حريص على حسن العلاقة معه، لذلك يتفضل عليهم ببعض الفتات الذي هو جزء من مالهم المغتصب، ومع كل هذا الحرص الذي يبدو من بعضهم على حسن العلاقة معه لم يحصِّلوا منه شيئاً، بل فقدوا كل شيء، وهكذا بنى مجده على أنقاضهم، وغناه على إفقارهم، وأمنه على تخويفهم.
 ثم إن هذا الأخ الخبيث اغتصب أرضاً واسعة الأرجاء، كثيرةً الخيرات، وطرد أهلها وشردهم، وبنى عليها بيتاً عظيم البنيان، واسع الأبهاء، فاخر الأثاث، زوده بكل الوسائل المريحة، والأجهزة العصرية، وألحق به حديقة غناء فيها ما لذّ وطاب، وجعل لكل ولد من أولاده جناحاً في هذا البيت، ومنحه مركبة، وكل وسائل الحضارة ومنجزات العصر، وكان مولعاً باقتناء الكلاب، وبدافع من إنسانيته ورحمته بالحيوان، أجرى لأحد كلابه علميةً جراحيةً في قلبه كلفته مبالغ طائلة، وبدل لكلب آخر مفصلاً في ركبته، وأصلح لكلب آخر أسنانه، وبحث عن طبيب نفسي يعالج كآبة ألمت ببعض كلابه، وكان يطعم أولاده من اللحم في اليوم ما لا يستطيع أولاد إخوته أن يأكلوه في شهر مجتمعين، فأولاد إخوته يعانون فقر الدم، وهشاشة في العظام، لأن غذاءهم من النوع الرخيص، وكم من أخ له في أمسِّ الحاجة إلى عمل جراحي، امتنع عن مساعدته وتفريج كربته، ثم إنه اشترى أرضاً، وجعلها مقبرةً لبعض كلابه الذين ماتوا من فرط العناية بهم، فصار بهذا الغنى ناعم الملمس، حسن المظهر، لطيف العبارة، مخملي المعشر، يتأنق في مظهره، ويتقيد في مواعيده، يحرص على صحته، وصحة أولاده، هيأ لهم الملاعب، واشترى لهم الأجهزة، ورفعاً لمعنوياتهم وتثبيتاً لمكانتهم سمح لهم أن ينتقدوه، وكان يستثيرهم في كل صغيرة وكبيرة، وأوهمهم أنهم أفضل الناس على الإطلاق.
 وكان إذا التقى بإخوته وجه لهم نقداً لاذعاً، لأنهم عنيفون في طباعهم، خشنون في مظهرهم، متخاصمون فيما بينهم، لا يعتنون ببيوتهم، ولا يحسنون اختيار ثيابهم، ولا يتقيدون بمواعيدهم، ولا يتقنون أعمالهم، متمسكين بقيم ومبادئ هي سبب تخلفهم وفقرهم.
 فالرجل الذي يتمتع بنظرة ثاقبة وعاطفة عميقة، أساسها مبدأ صحيح وقيم عالية، يقيمه تقييماً، والرجل الذي يتصف بنظر قاصر وعاطفة سطحية، وتحكمه المصالح والقيم يقيمه تقييماً آخر، فقل لي ماذا تقيم هذا الأخ أقل لك من أنت.. قل لي ماذا تقيم هذا الإنسان الذي بنى مجده على أنقاض الشعوب أقل لك من أنت. لكن الأب يسجل على أبنائه كل حركاتهم وسكناتهم، وفي أية لحظة يراها مناسبةً يأخذ من أولاده كل شيء، ويحاسبهم عن كل شيء، ويجزي كلاً منهم بحسب عمله.

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾

[سورة إبراهيم: 42]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور