وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0651 - نقاط الضعف في العالم الإسلامي - النقد الذاتي - بوابات الألم في الدماغ .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ضعف النقد الذاتي أهم نقاط الضعف في العالم الإسلامي :

 أيها الأخوة الكرام، في الخطبة الماضية انطلقت من أن الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، وتحدثت عن بعض نقاط الضعف في العالم الإسلامي، وبينت لكم أن المسلمين جميعاً في نظر أعدائهم في خندق واحد، وهأنذا أتابع الحديث عن نقاط الضعف في العالم الإسلامي، لأن أول مرحلة لحل المشكلة أن تدرك أن هناك مشكلة.
 أيها الأخوة الكرام، من أكبر نقاط الضعف في حياتنا ما يُسمى بضعف النقد الذاتي، الإنسان يألف طريقاً، يألف فكرة، يألف سلوكاً، لا يقف متأملاً، لا يقيم موقفه في ضوء الشرع الحنيف، يسير هكذا في حكم حركته اليومية، فيا أيها الأخوة الكرام ضعف النقد الذاتي، أو النقد الذاتي إن لم يكن غائباً فهو ضعيف في أكثر الأحيان.
 النقد الذاتي بالتعبير الدقيق هو محاسبة النفس، وهذا الذي أثنى الله عليه، أثنى على النفس اللوامة حيث قال:

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾

[سورة القيامة: 1-4]

 هذه النفس التي تتوقف من حين إلى حين، تراجع مواقفها، تراجع معتقداتها، تراجع سلوكها، تقيسه بمقياس الشرع، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، هذه النفس اللوامة، هذه النفس التي تحاسب ذاتها حساباً عسيراً عند الورعين، وحساباً يسيراً عند الأقل في الورع من هؤلاء، هذه النفس نوه الله بها في القرآن الكريم وأثنى عليها فقال:

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾

[سورة القيامة: 1-4]

 جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[ أحمد عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ]

 من معاني كلمة دان بمعنى حاسبها، لذلك سيدنا عمر روي عنه أنه قال: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا" .

 

من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :

 أيها الأخوة الكرام، يقول بعض العلماء: " المؤمن أشدّ محاسبةً لنفسه من سلطان غاشم أو من شريك شحيح "، كلما كان حسابك لنفسك عسيراً في الدنيا كان حسابك يوم القيامة يسيراً، لا تتحرك حركة عشوائية، لا تتحرك بفعل العادات والتقاليد، لا تتحرك بتوجيه زيد أو عبيد، ضع الشرع ميزاناً، وزن كل أقوالك، وكل أفعالك، وكل مواقفك، حتى كل ما تتوهمه، أو تعتقده، زنه بميزان الشرع، فإن كان صحيحاً تابعت فيه، وإن كان فيه انحراف أقلعت عنه لتوك.
 أيها الأخوة الكرام، أوضح مثل لهذه المحاسبة سيدنا نعيم بن مسعود، كان في معسكر الكفار مع المشركين، هو أحد زعماء غطفان، كان مستلقياً في فراشه في الخيمة قبيل معركة الخندق، يسرح بصره وراء النجوم، على صفحات السماء الصافية، ويطيل التفكير، وفجأة تسأله نفسه قائلة: ويحك يا نعيم ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد؟ لحرب هذا الرجل ومن معه؟ محاسبة للنفس، هل هي حرب مقدسة أم هي حرب قذرة؟ إنك لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب- يخاطب نفسه- ولا حمية لعرض مغصوب، إنما جئت لتحاربه لغير سبب معروف.

 

على الإنسان أن يتحرك بوحي من إيمانه و اعتقاده :

 أيها الأخوة الكرام، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلا تَظْلِمُوا))

[ الترمذي عن حذيفة]

 قال تعالى:

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 116 ]

﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة يونس: 36]

 لا تقل: أنا مع المجموع، لا تقل: أنا مع أهلي، هكذا نشأنا، لعل أهلك على خطأ، لا تقل: أنا مع أصدقائي، لا تقل: أنا مع أبناء حيي، لا تقل: هكذا نتحرك، أنا مع الكل، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلا تَظْلِمُوا))

[ الترمذي عن حذيفة]

 أيها الأخوة الكرام: تعليق لطيف؛ لا تكن أداة رخيصة بيد الآخرين، لا تكن منديلاً تُمسح به أقذر عملية، ثم تلقى في سلة المهملات، لا تكن صنيعة لأحد، لا تكن وسيلة للباطل، كن حراً، تحرك من قناعتك، تحرك بوحي من إيمانك، تحرك بوحي من عقيدتك، تحرك بوحي من الحق والإنصاف، لا تكن رقماً، لا تكن تكملة لعدد، لا تكثر سواد الباطل، سيدنا نعيم بن مسعود مستلقٍ على فراشه في خيمة قبيل معركة الخندق، زعيم من زعماء غطفان، قال: ما الذي جاء بي من نجد لأحارب هذا الرجل ومن معه؟ قطعاً إني لا أحاربه انتصاراً لحق مسلوب، ولا حمية لعرض مغصوب، إنما جئت لأحاربه لغير سبب معروف، قالت له نفسه: ويحك يا نعيم.
 أيها الأخوة الكرام، الإنسان أحياناً دون أن يشعر يُجر إلى معاداة أهل الحق، بلا سبب مبرر، بلا سبب جوهري، هكذا هو مع الناس، مع الحركة العامة للناس يفعل ما يفعلون، يعتقد ما يعتقدون، لا تبصر، لا تحقيق، لا تدقيق.
 ثم يقول لنفسه: يا نفس أيليق برجل له عقل مثل عقلك أن يقاتل فيقتل؟ أو يُقتل لغير سبب؟ يا نعيم - حوار ذاتي - ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح؟ لم يكن يعتقده نبياً، لكنه رجل صالح، عُرف بأمانته وصدقه وعفافه ونسبه، وله أصحاب حوله يتخلقون بأخلاقه، يا نعيم ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟
 يا نعيم ما الذي يحملك على أن تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق؟ هذه مناقشة جرت في ذهن نعيم بن مسعود وهو أحد زعماء غطفان قبيل معركة الخندق.
 أيها الأخوة، الإنسان عنده إمكانيات عالية، ينبغي أن يتخذ قراراً حازماً، وقراراً حاسماً في شأن عقيدته، وفي شان سلوكه، وشأن زواجه، وشأن أولاده، وشأن حرفته. لو أن إنساناً له مهنة لا ترضي الله، لمَ لا يتركها فوراً ؟ لو أن له عملاً لا يرضي الله لمَ لا يقلع عنه فوراً ؟ لو أن له انحرافاً لا يرضي الله لمَ لا يتوب منه فوراً ؟ ماذا فعل هذا الصحابي الجليل؟ اتخذ قراراً حازماً وحاسماً، ونهض من توه لتنفيذه، " هلك المسوفون "، المقصرون، يقول: أفعل هذا غداً وبعد غد.
 تسلل من معسكر المشركين تحت جنح الظلام، ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مشرك، زعيم من زعماء إحدى القبائل، كان مع الأعداء، جاء ليحارب النبي عليه الصلاة والسلام، لما رآه النبي ماثلاً بين يديه، قال: نعيم بن مسعود؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال: يا رسول الله جئت لأشهد أنه لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله وأن ما جئت به هو الحق، ثم أردف يقول: لقد أسلمت يا رسول الله و إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني ماذا شئت.

لحظة تفكير و تأمل تنقل الإنسان من وضع إلى وضع :

 أيها الأخوة، حقيقة أقولها كثيراً: الإيمان ما إن يستقر في قلب المؤمن حتى يعبر عن نفسه بحركة، لابد من حركة نحو الخلق، لابد من حركة نحو العمل الصالح، الإيمان ما إن يستقر في قلب الإنسان حتى يعبر عن ذاته بحركة نحو الخلق، مؤمن سلبي لا يوجد.. إنسان منسحب منهزم متقوقع بعيد عن المجتمع، لا يحمل همّ المسلمين، لا يقدم شيئاً هذا ليس مؤمناً.
 ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن حتى تعبر عن ذاتها بحركة نحو الخلق.
 أيها الأخوة الكرام، عشرة آلاف مقاتل، عدد لم يجتمع في الجزيرة، جاؤوا ليستأصلوا الإسلام، اليهود نقضوا عهدهم كعادتهم، أصبح الإسلام قضية ساعات هكذا بدا، ربنا عز وجل يقول:

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[ سورة الأحزاب: 11]

 حتى إن بعض الناس قال: أيعدنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ عشرة آلاف رجل بأسلحتهم الفتاكة، واليهود نقضوا العهد، والإسلام أصبح موضوع ساعات، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنت فينا رجل واحد"، ماذا يفعل إنسان والقضية انتهت؟ ولكن الله عز وجل في تقديره وحكمته وعلمه، هذا دينه ولن يخذله، وبالمناسبة لا تقلق أبداً على دين الله إن الله ناصر دينه، ولكن اقلق ما إذا سمح الله لك أن تنصره أو لم يسمح، اقلق ما إذا كان الله قد قبلك جندياً لخدمة هذا الدين أم لم يقبلك، قال تعالى:

﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾

[ سورة محمد : 38]

 قال عليه الصلاة والسلام: " إنما أنت فينا رجل واحد، فاذهب إلى قومك وخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة" .
 الآن هذا الرجل العاقل الذكي الحكيم زعيم قبيلته، سيوظف ذكاءه، وعقله الكبير، وسرعة بديهته، وفطانته، وكل أساليبه الذكية، سيوظفها لصالح الدين الجديد، وسترى ما يسرك إن شاء الله عز وجل، والقصة تعرفونها، كيف أنه ذهب إلى الكفار، وذهب إلى اليهود وأوقع بينهم، حتى انتهت هذه المعركة على أهون سبب، وقدر الله النصر لهذه المعركة الحاسمة، على يد رجل واحد صادق، لحظة تفكير، لحظة محاسبة للنفس، لحظة نقد ذاتي، لحظة تأمل، لحظة فحص، لحظة تحليل، إلى أين أنت تسير؟ ثم ماذا بعد هذه المرحلة؟ تعمل أنت لصالح من؟ الإنسان قد يتحرك وهو لا يدري لصالح إبليس، لصالح الشيطان، قد يتحرك وهو لا يدري أو غافل لصالح أعداء الأمة وهو لا يعلم، لحظة تفكير، لحظة تأمل، لحظة مراجعة، لحظة نقد للذات، لحظة محاسبة، لحظة لوم، نقلت هذا الإنسان من كافر مشرك جاء ليقاتل النبي إلى صحابي جليل قدر الله على يده الخير الكثير. وأنت بإمكانك إذا راجعت نفسك، وفحصت مواقفك، ودرست وضعك، وحللت أعمالك، فرأيت بعضها ليس على الحق، أن ترجع إلى الحق وتنقلب من إنسان يكبر سواد أهل الباطل إلى رجل يدعو إلى الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام، نقد الذات مهم جداً في حياة المسلمين.

 

الآفات الكبرى التي يعاني منها المسلمون :

1 ـ الانقسام والتمزق :

 شيء آخر: النبي عليه الصلاة والسلام عصمه الله بمفرده من أن يُخطئ بأفعاله وأحواله وإقراره، وعصم أمته بمجموعها من أن تجتمع على ضلالة، ولكنه لم يعصم فرداً بعده، فكل إنسان يؤخذ منه ويُرد عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء، ومن يدعي العصمة فقد ضلّ ضلالاً كبيراً.
 أيها الأخوة الكرام، لابد من أن نقف بين الحين والحين مع أنفسنا للتقويم والمراجعة، لابد من أن نشجع بعضنا بعضاً على النصح، وإن كان النصح مراً، لابد من أن نشجع أنفسنا على النقد البناء وإن كان النقد موجعاً، رحم الله عمر بن الخطاب عملاق الإسلام كان يقول: أحب الناس إليّ من رفع إلي عيوبي .
 لو تناصحنا، لو تعاونا، لو تكاتفنا، لو تضامنا، لو وضعنا ذواتنا تحت أقدامنا، لو رجحنا مصلحة المسلمين على مصالحنا الخاصة، لو أحببنا بعضنا لكنا في حال غير هذا الحال.
 أيها الأخوة الكرام، من الآفات الكبرى التي يعاني منها المسلمون في شتى أقطارهم الانقسام والتمزق، هناك انقسام وتمزق بين فصائل المسلمين، كل جماعة ترى نفسها وحدها جماعة المسلمين، ولا جماعة غيرها من المسلمين، ليست جماعة من المسلمين، بل هي جماعة المسلمين، وأن معها الحق كله وليس بعدها إلا الضلال، وأن دخول الجنة والنجاة من النار حكر على من اتبعها، وأنها وحدها الفرقة الناجية، ومن عداها من الهالكين، ومن لم يقل ذلك منهم بلسان المقال قاله بلسان الحال.
 أيها الأخوة الكرام، لا يُنكر أن تتعدد الجماعة الإسلامية، ولكن تعدد تنوع وتخصص لا تنوع تضاد وتناقض، تنوع تعاون لا تنوع تنافس، تنوع تضامن لا تنوع نقد وتهديم، هذا خطر آخر ينتظر المسلمين في شتى أقطارهم.

2 ـ غلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العلمي :

 شيء آخر: غلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العلمي، الإسلام أيها الأخوة مع احترامه الشديد للعقل، ودعوته إلى النظر والفكر ليس مجرد فلسفة عقلية منطقية جامدة، إنه يشتمل على جانب عاطفي في تعاليمه لا ينكره أحد؛ الحب في الله والبغض في الله، والفرح بتوفيق الله والحزن من معصية الله، والخوف والرجاء هذا جانب لا خلاف فيه، لأن الإسلام جاء ليخاطب العقل والقلب معاً، ولهذا ذم الله الذين لا يعقلون والذين لا يفقهون، وذم الذين لا تخشع قلوبهم لذكر الله، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 الإيمان له حلاوة، حلاوة الإيمان هي التي تعينك على التشبث به، وعلى الاستمرار فيه، وعلى الرقي فيه، عند التعارض، إذا تعارضت مصالحك المادية مع أمر الله وأمر رسوله فلزمت جانب الحق وركلت مصلحتك بقدمك، عندئذ يذيقك الله حلاوة الإيمان، حلاوة الإيمان لا تذوقها إلا إذا آثرت رضا الله على مصالحك.. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

 أيها الأخوة الكرام، هذا الجانب العاطفي يسمونه الأحوال، يسمونه المشاعر، هذا الجانب العاطفي لابد منه لتوفير قدر من الحماسة والسعادة يدفع إلى العمل والبذل والعطاء، ولابد من هذا المجال لربط القلوب برباط المحبة والأخوة.
 ولكن يجب أن نعلم علم اليقين أن هذا الحب بين المؤمنين من خلق الله عز وجل، قال تعالى:

﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[سورة الأنفال: 63]

 هذا من خلق الله، وأنت تحب الآخرين بقدر إيمانك، صاحب الإيمان الأرقى يحب الآخرين حباً أرقى.
 أيها الأخوة الكرام، إلا أننا نتحدث عن نقطة ضعف في حياة المسلمين أن تغدو العاطفة فوق العقل، وأن يكون الهوى قبل العلم، أي أن تكون العاطفة متحكمة في مواقفنا وفي حركاتنا، وفي أخذنا وعطائنا، وفي قراراتنا.

3 ـ المبالغة و التهويل :

 أيها الأخوة الكرام، آفةٌ أخرى من هذه الآفات؛ المبالغة والتهويل.. الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة أمة وسطاً، تقف بين طرفي الإفراط والتفريط، وقلّما نقف موقفاً وسطاً.
 الله عز وجل مدح هذه الأمة لأنه جعلها أمة وسطاً، فالمبالغة في المديح والمبالغة في نقد الخصوم، هذه سمة من سمات الضعف في شخصيتنا الإسلامية، قال تعالى:

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 25]

 الإنسان بين أن يكون في يوم بدر، وبين أن يكون في يوم حنين، في يوم بدر افتقار إلى الله:

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 123]

 وفي يوم حنين اعتداد بالنفس، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى حينما يعتد الإنسان بذاته، أو بقوته، أو بماله يؤدبه، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " إنما الهلاك في اثنتين؛ العجب والقنوط- العجب مهلك، والقنوط مهلك - وإنما جُمع بينهما لأن السعادة إنما تُنال بالسعي والطلب، والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب لأن ما يطلبه غير ممكن في تصوره" فالقنوط يلتقي مع الكفر، وأما المعجب بنفسه فيعتقد أنه قد سعى، وأنه قد ظفر بمراده فلا يسعى، فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، فالمعجب بنفسه لا يرقى والقانط لا ينجو.
 فيا أيها الأخوة الكرام، القنوط مرض خطير، الذي يقول لك: انتهينا، لن تقوم لنا قائمة، الأعداء أقوياء جداً، هذا يلتقي مع الكافرين، القنوط كفر، وهذا الذي يُعجب بنفسه لا يسعى إلى الرقي لأنه اكتفى بما هو فيه، فهذا مرض وذاك مرض.

 

العاقل من يحاسب نفسه بميزان الشرع :

 فيا أيها الأخوة الكرام، لابد من أن نضع أيدينا إن شاء الله تعالى على مواطن الضعف في شخصيتنا، لكن الذي ألح عليه هو النقد الذاتي، إيّاك أن تتوهم أنك لا تُخطئ، قد تخطئ فيما تعتقد، وقد تُخطئ في تصرفاتك، حاسب نفسك، قسها بميزان الشرع.
 كنت أقول دائماً:الإنسان متى يعالج نفسه من ارتفاع الضغط؟ إذا علم أن معه ضغطاً مرتفعاً، فأن تعرف أن معك ضغطاً مرتفعاً هذه أول مرحلة في معالجته، أما هذا الذي لا يفحص ضغطه أبداً فقد يعلو، وقد يكون له مضاعفات خطيرة دون أن يدري.
 يا أيها الأخوة، لا تتساهل مع نفسك، اتهمها، لا تتملقها، لا تحابها، حاسبها حساباً عسيراً ليكون حسابك يوم القيامة يسيراً.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بوابات الألم في الدماغ :

 من الآيات الدالة على عظمة الله جل جلاله ما اكتشفه العلماء مؤخراً من أن في الدماغ- دماغ الإنسان- مادةً مخدرةً، يفرزها الدماغ في حالات خاصة، إذا بلغ الألم حداً لا يطاق يفرز الدماغ نفسه مادة تخدره، وتخدر إحساسه بالألم، وهذا من إتقان صنعة الله عز وجل، هذه المادة يفرزها الدماغ في مستوى من الألم لا يحتمله، فيخدر نفسه ويتعطل الإحساس بالألم، وهذا من رحمة الله جل جلاله.
 ثم إن هناك اكتشافاً آخر، هو أن هناك بوابات على مجرى الجهاز العصبي تمنع ورود الألم إلى الدماغ، هذه البوابات - هكذا جاء في البحث العلمي - تتحكم فيها العوامل النفسية، فلو أن إنساناً يسعى مغتبطاً بشيء يؤمن به، ويقدسه، وفي أثناء هذا السعي أصابته بعض الآلام، هذه البوابات تمنع وصول هذا الألم إلى الدماغ، هذا يفسر أن صحابياً كريماً في بعض المعارك الحاسمة قُطعت يده اليمنى، فأمسك الراية بيده اليسرى فقُطعت اليسرى، فأمسكها بعضديه وهو يحمل راية الله عز وجل.. ألم يتألم؟.. أين إحساسه بالألم؟.. لو أن جرحاً يسيراً أصاب أحدنا لجلس في الفراش وجاء بالضماد وأخذ المسكنات.. يده تُقطع بأكملها يمسك الراية بيده الثانية، قُطعت الثانية أمسكها بعضديه، هذا الذي يفسر أن بعض المؤمنين الصادقين تصيبهم آلام لا تُحتمل، لكنهم يحتملونها، لأن هناك بوابات على مجاري السيالة العصبية.
 أيها الأخوة: هذا الطريق- النهايات العصبية، إلى النخاع الشوكي، إلى الجسم تحت السرير البصري، إلى قشرة الدماغ- سماه العلماء طريق الآلام.. نهاية عصبية، النخاع الشوكي، الجسم تحت السرير البصري، قشرة الدماغ، طريق الآلام عليه بوابات، تمنع وصول هذه الآلام إلى الدماغ، هذه البوابات تتحكم فيها العوامل النفسية، العامل النفسي يمنع وصول الألم.
 أيها الأخوة الكرام، لذلك إذا كان إيمان الإنسان كبيراً، وهدفه نبيلاً، وسعيه حثيثاً، لا يعبأ بالآلام التي يسقط منها الرجال، الإيمان قوة كبيرة.
 خالد بن الوليد أرسله الصديق لمعركة في شرق آسيا، فطلب منه المدد، الأعداء مئة وثلاثون ألفاً، والمؤمنون ثلاثون ألفاً، طلب منه المدد، هو ينتظر خمسين ألفاً، ثلاثين ألفاً، فإذا برجل واحد اسمه القعقاع بن عمرو يأتيه ومعه رسالة، قال له: أين المدد ؟ قال: أنا المدد. قال: أنت ؟ واحد !.. معه كتاب فتح الكتاب:" من سيدنا الصديق إلى سيدنا خالد، يقول له: أحمد الله إليك، لا تعجب يا خالد أني أرسلت لك واحداً، فوالله الذي لا إله إلا هو إن جيشاً فيه القعقاع بن عمرو لن يُهزم".
 وكان النصر في هذه المعركة الحاسمة على يدي القعقاع بن عمرو، واحد، بالإيمان الواحد كألف، ومن دون إيمان الألف كأف، فهذه رحمة الله عز وجل، بأن الدماغ يفرز مادة يخدر نفسه بها، إذا بلغ الألم حداً لا يطاق، وأن هناك بوابات على طريق الآلام إلى الدماغ، هذه البوابات تتحكم فيها العوامل النفسية، فالإيمان بالله، وعظمة الهدف، ونبل الوسيلة، هو من أعظم ما يخفف عن النفس أعباءها.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة لنا زاداً من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين. صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر أعيننا من رضوانك، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب، فاجعله فراغاً لنا فيما تحب.
اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

تحميل النص

إخفاء الصور