وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0848 - محكمات الكتاب3 - الإغراق في الجزئيات 1 - الجزئيات تضعف الأمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغـاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسـلم رسول اللـه سـيد الخلق والبشر، مـا اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإغراق في الجزئيات :

 أيها الأخوة المؤمنون: قبل ثلاثة أسابيع كان موضوع الخطبة: عالمية الإسلام وعولمة الغرب، وعقب الخطبة سألني أحد الأخوان كيف تتحدث عن عالمية الإسلام والمسلمون متخاصمون فيما بينهم، بأسهم بينهم، يتراشقون التهم، كلٌ منهم يكفِّر الآخر؟ فأجبت عن هذا السؤال بخطبتين، ووجدت من المناسب أن أتابع الموضوع في مشكلة يعاني منها عامة المسلمين ويعاني منها الدعاة إلى الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام: الدعوة إلى الله، التعليم، نشر العلم، لا يزال جهوداً مبعثرة يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله، يتحرك كلٌ منهم بحسب اهتماماته، و بحسب طاقاته، وبحسب مستواه، وبحسب مداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو لا يوجد على أقل تقدير خطوط عريضة يتحرك الدعاة خلالها.
 أيها الأخوة الكرام: يمكن أن يكون هذا الموضوع من موضوعات الساعة، ذلك لأن الطرف الآخر يستهدف المسلمين جميعاً، فأي موضوع يجمع شتاتهم، أي موضوع يقربهم من بعضهم، أي موضوع يجعل بأسهم ليس بينهم، بل على أعدائهم، هو من موضوعات الساعة، ولا يستطيع الإنسان أن يحرك القلوب، ولا أن يثير العقول، إلا إن كان الموضوع من ضمن اهتمامات الإنسان المستمع.
 أيها الأخوة الكرام: هناك مشكلة من أدق المشكلات، هي أن طائفة من المسلمين بل من الدعاة الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين، همهم الكبير تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فسهروا ليلهم، وأضنوا نهارهم في هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، أو حتى لكأنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تسريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليله، في مقابل ذلك هناك طائفة أخرى أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: توافه الأمور، لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية، والنقض والتندر.
 أيها الأخوة الكرام: هذا تطرف، أن تغرق في الجزئيات، أن تنسى الكليات، أن تغرق في الفروع، وأن تنسى الأصول، أن تغرق في الدقائق، وأن تنسى كليات الدين، أن تغرق في التفاصيل، وأن تنسى مقاصد الشريعة، الشريعة عدل كلها، الشريعة رحمة كلها، الشريعة مصلحة كلها، الشريعة حكمة كلها، أية قضية خرجت من العدل إلى الجور، من المصلحة إلى المفسدة، من الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل، ألم يقل الله عز وجل:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾

[ سورة البقرة: 143]

 ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته متوازناً؟ لأنه ينقل عن وحي الله عز وجل، ووحي الله عز وجل من عند الخبير، وحقيقة الأمر أيها الأخوة أن هذا كله دين، الكبير دين، والصغير دين، الأصل دين، والفرع دين، والجزء دين، والكل دين.
 لكن الحديث الشريف عن أبي هريرة لما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسأله عن الإحسان، وعن الإيمان، وعن الإسلام، وكان من ضمن ما سأله في بعض الروايات عن قضايا تفصيلية عديدة، مثل غسل الجنابة وغيرها، ومع ذلك لما انتهى من أسئلته قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم))

[البخاري عن أبي هريرة]

 فكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو دين، ينبغي الاهتمام به، والعناية به، وألا يكون محط سخرية، واستهزاء، ونقد من أحد، لكن هو موضوع الخطبة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، وأن يوضع كل شيء في مكانه، إنه من العجيب أيها الأخوة أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير هم في حقيقة الأمر يسببون في كثير من الأحيان الإثارة في الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عن معالي الأمور، وعما عداه، هم الذين يتسببون في ذلك، لأنهم يطرحون وجهات نظر بطريقة غريبة، وبطريقة استفزازية، وبطريقة غير موضوعية، وغير صحيحة أيضاً.

 

العناية بالجزئيات وإهمال الأصول داء مستحكم في حياة المسلمين و عقولهم :

 أيها الأخوة الكرام: كأن تاريخ الإسلام تطرف، ورد على التطرف بتطرف مثله، البحث والدليل رائد الجميع، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إذا كنت ناقلاً فالصحة، مدعياً فالدليل، لا يجرؤ أحد على وجه الأرض أن يتكلم في هذا الدين برأيه، ينبغي أن يأتي بالدليل، عوِّد نفسك أيها الأخ الكريم ألا تقبل شيئاً إلا بالدليل، وألا ترد شيئاً إلا بالدليل، والدليل هو النص القرآني والحديث النبوي الصحيح، أما الاجتهادات فما اجتهاد بأولى من اجتهاد.
 أيها الأخوة الكرام: ينبغي أن نتكلم بموضوعية، وعقل، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة، ينبغي أن نتكلم في الموضوعات - والآن دخلنا في صلب الموضوع- بحسب أهميتها، وثقلها في ميزان الإسلام، عندنا طرفان متقابلان، طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها، لذلك كان لابد من طرح هذا الموضوع الدقيق الذي هو من موضوعات الساعة، كيف نقف بين من يعتني بالجزئيات إلى مستوى أنه نسي الكليات، ونسي مقاصد الشريعة، ونسي الأصول، ونسي الحكمة من هذا الدين، وبين من يتوهم أنه يعتني بالأصول وقد ترك التفاصيل، والتفاصيل من الدين؟
 أيها الأخوة الكرام: إن العناية بالجزئيات، وإهمال الأصول والكليات، هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم فهو مستحكم في عقولهم، وهذه هي المشكلة، الحقيقة لا نستطيع أن نقول إن في الدين لباباً وقشوراً، كله دين، ولكن في الدين أولويات، يمكن أن نقول: في الدين كليات وجزئيات، أصول وفروع، أولويات وثانويات، ضرورات وحاجيات وتحسينات، لابد من تقسيم أمور الدين وفق سلم، هل يعقل أن تكون معصية شرب الماء واقفاً كمعصية خيانة المسلمين؟ فلابد أيها الأخوة من وضع سلم للأولويات.

الأصول هي كليات العقائد وكليات العبادات :

 أيها الأخوة الكرام: قد نتوهم أن الأصول هي كليات العقائد، الحقيقة هي أن الأصول هي كليات العقائد وكليات العبادات، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذا من الأصول، وأن تؤمن بفرضية الصلاة والصيام والزكاة والحج من كليات الدين ومن أصول الدين، إذاً ينبغي أن تعرف متى تنتهي الأصول وتبدأ الفروع، من أجل أن نتفق على الأصول، أما إذا اختلفنا على الفروع فلا تسريب علينا، لا ينبغي أن نضحي بوحدتنا، لا ينبغي أن نضحي بتماسكنا، لا ينبغي أن نضَّحي بتكتلنا تجاه أعدائنا من أجل فروع لا يمكن أن تكون مثار خلاف بين المسلمين.
 أيها الأخوة الكرام: أحياناً نجد في المسائل العملية فروعاً وفي المسائل العلمية فروعاً، على كل لابد من أن نقف موقفاً معتدلاً بين هؤلاء الطرفين الذين تطرفا لا في سلوكهما، بل في توهمهما في أن هذا الفرع من الدين هو الدين كله.

أمثلة عن جزئيات تضعف الأمة أمام أعدائها :

 أيها الأخوة الكرام: أضرب بعض الأمثلة، أركان الإيمان الستة التي يقرأها الصغار في المدارس، أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لاشك فيها، إنكارها كفر، والحديث عنها من أولى الأولويات، ومن أهم الضرورات، ولكن تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة، فمثلاً هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ هذه من الفروع كيفما اعتقدت في هذه المسألة فأنت ناجٍ، لأنك لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عنها، قضية النزاع في معاني بعض الآيات القرآنية أو في بعض الأحاديث النبوية، لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عنها، بل قضية النزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها لن تُسأل عنها في قبرك، ولن تحاسب عليها، قضية علم الكلام وعلاقته بالدين، قضية الجوهر وبقائه، والعرض وفنائه، قضايا منطقية من علم الكلام لن تُسأل عنها، قضية فناء النار حتى تفنى أو لا تفنى هذه مسائل لن تُسأل عنها، هل آمنت بالله موجوداً؟ واحداً؟ خالقاً؟ رباً مسيِّراً؟ أسماءه حسنى؟ صفاته فضلى؟ هل آمنت باليوم الآخر؟ يوم يفصل بين الخلائق، هل آمنت بالجنة وبالنار؟ هل آمنت بالملائكة الذين على كتفيك يكتبان عليك كل شيء؟ هل آمنت بأن الكتاب وحي الله عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ والله أيها الأخوة معنا مساحة من الكليات، ومساحة من الأصول، ومساحة من محكمات الدين، لا يمكن أن يختلف فيها مسلمان على وجه الأرض، ومع ذلك يتقاتل المسلمون، فإذا نظرت إلى موضوع الخلاف، وموضوع التكفير، وموضوع التشريك، وموضوع التبديع لوجدته في المنطقة الثانية، التي لن يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة ولن يحاسب، هل يعقل أن تكون هذه الجزئيات محط خلاف ونزاع وشرذمة بين أفراد الأمة وإضعاف الأمة أمام أعدائها؟
 أيها الأخوة الكرام: هذه القضايا لا يمكن أن يكون المخالف فيها كافراً ولا فاسقاً ولا مبتدعاً، هي من القضايا التي يمكن أن تكون من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية، وليست هذه كتلك، إن العبد لن يُسأل في القبر عن فناء النار، ولا عن أن النبي رأى ربه ليلة الإسراء والمعراج، ولا عن أسئلة لا تنتهي من هذا القبيل، لأنها كلها من الجزئيات.
 أيها الأخوة الكرام: نحتاج إلى بعض الأمثلة، الإنسان دماغه، جهاز دورانه، جهاز هضمه، جهاز الإفراز، الكليتان، هذه أساسيات، لو تعطل أحد هذه الأجهزة لانتهت حياة الإنسان، ولكن قد يصاب أصبعه بموات فتقطع ويبقى يعيش كما ينبغي، أيعقل أن تعد طرف الإصبع مثل القلب؟ ينبغي أن نؤمن أن هناك أشياء كبيرة جداً في الإسلام لا ينبغي أن نختلف حولها، لا ينبغي أن نتساهل بها، للإسلام كليات كبيرة، مقاصد كبيرة، أصول كبيرة، هذه التي تمسك بها أصحاب رسول الله، وبلغوا بها أوج العلياء.

تحكيم العقل حين انطماس الفطرة :

 أيها الأخوة الكرام: لازلت أؤكد لكم أننا بين طرفين متطرفين، طرف يعتني بالجزئيات، وليس الاعتناء بها خطأً، ولكن إلى درجة أنه ينسى الكليات، هنا الخطأ، وينسى مقاصد الشريعة، وينسى أن الشريعة عدل، وأن الشريعة رحمة، وأن الشريعة حكمة، وأن الشريعة مصلحة، والطرف الآخر يهمل تفاصيل الدين، كأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نؤمن به من خلال هذا الكون، وأن نعبده من خلال هذا الشرع، أنت بالكون تعرفه، وبالشرع تعبده، أنت إن تفكرت في خلق السموات والأرض مهما يكن التفكر دقيقاً وعميقاً تصل إلى حقيقة واحدة هي أنه لابد لهذا الكون من إله عظيم، لكن هذا الإله العظيم ماذا يريد منك؟ هذا لا يمكن أن تجده إلا في الوحي، إذاً لو اكتفينا في التفكر لا نفلح، لو اكتفينا بالجزئيات لا نفلح، لابد من أن نضم الإيمان بالله إلى الإيمان بالمنهج، لابد من أن نتأمل ومن أن نتلقى، لابد من أن نحكم العقول في بعض القضايا التي تدلنا على الله عز وجل حينما تنطمس الفطرة، ولابد من أن نتبع المنهج الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 أيها الأخوة: مثلٌ آخر من واقع الحياة، مدينة كبيرة الحاجة الأولى إلى المياه، مياه عذبة نقية ليست مجرثمة، الحاجة الأولى إلى جو غير ملوث، الحاجة الأولى إلى طعام سليم من كل الآفات، هذه أولويات حاجات المدينة، أما الحدائق والزهور والأشجار فهذه حاجات ثانوية، لا يمكن أن نعتني بالحدائق والهواء ملوث، والماء غير جيد، والطعام غير متوافر، شيء بديهي واقعي عقلي فطري نفسي أن في كل موضوع شيئاً أصيلاً كلياً أولوياً، وشيئاً ثانوياً تفصيلياً جزئياً، كل محور الخطبة اليوم ألا نتطرف إلى طرف دون طرف، كيف أن النبي كان في دعوته متوازناً؟ كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع كل أجزاء الدين في دعوته، نحن ماذا نفعل؟ نأخذ أحد أجزاء الدين فنجعله ديناً، فنستفز الآخرين، يأتي الآخرون ويأخذون بعض أجزاء الدين ويجعلونه ديناً فتنشب المعركة بين الفريقين، على حساب وحدة المسلمين، وعلى حساب قوة المسلمين، وعلى حساب نجاح المسلمين.

الحقائق والبديهيات ينبغي أن تكون رائدنا في دعوتنا إلى الله :

 أيها الأخوة الكرام: هذه الحقائق والبديهيات ينبغي أن تكون رائدنا في دعوتنا إلى الله عز وجل، الحقيقة لعل هذا المرض يتجاوز موضوع الدين، قد تجد إنساناً غارقاً في تفاصيل القوانين ونسي أن القانون في الأصل لمصلحة المواطن، فيكون المواطن أحد ضحاياه، هذا في القوانين أحياناً، يفهم الموظف تفاصيل القانون، ولا يعنى بهدف القانون، هدف القانون حماية مصالح المواطنين، فيأتي القانون بفهم قاصر، وإدراك مبتور، فيكون المواطن ضحية هذا القانون، هذه مشكلة كبيرة جداً، ليست في أمور الدين فحسب بل في أمور الدنيا، بل في أمور السياسة والاجتماع، بل في أمور الوظائف، والقوانين، والتشريعات، أيعقل أن يأتيك مريض أيها الطبيب مصاب بأزمة قلبية حادة يقتضي أن تفتح قلبه فوراً، وأن تبدل أحد الشرايين، ثم تجد أظافره طويلة، فتنسى قلبه الخطر وتهتم بقص أظافره؟ لابد من قص الأظافر ولكنها من الجزئيات، والثانويات، هذه تؤجل إلى الغد، قد تجد إنساناً أيها الأخوة يتوجه إلى الجزئيات، لكنه في عقيدته منحرف، فقد يسلِّم أن إنساناً قوياً يمكن أن يشرِّع، وأن إنساناً قوياً يمكن أن يطاع في معصية الله، وأن مصلحة المسلمين تقتضي أن نتابع هذا وأن نتابع هذا، وهذا شرك أكبر، تجده في القضايا الكبرى واقعاً في الشرك الأكبر، أما إذا سألته في تفاصيل الشريعة فهو متقن لها، وقد يجادلك ساعات وساعات في أدق فروع الشريعة، وفي كلياتها، وفي التوحيد، أما في أن الله سبحانه وتعالى وحده الذي يشرِّع، ولا يطاع مخلوق في معصية الخالق فهذه قد لا نجدها عنده.
 أيها الأخوة الكرام: لهذه الخطبة تتمة حول تطبيقات عملية منتزعة من واقع المسلمين أرجئها إلى خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
 أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وبعد:

توجه الكون بأكمله إلى الله عز وجل :

 من موضوعات الإسلام الكلية هذا الكون كله متوجه إلى الله، يسبح الله، ويمجده، ويسجد له، والدليل:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾

[ سورة الإسراء: 44]

 إن جميع المخلوقات التي خلقها الله تقف منكسة رأسها متذللة إلى الله، معترفة بالفضل له، ولكن يبقى في هذا الكون مخلوق صغير حقير ذليل خلق من نطفة فإذا هو خصيم مبين، هو يسير في وادٍ، والكون كله في وادٍ آخر، يترك طاعة الله والخضوع له والتسبيح له، بالرغم من أن كل ما حوله يلهج بالذكر والتسبيح له، إن هذا المخلوق هو الإنسان العاصي للواحد الديان، فالله أكبر ما أشدّ غروره، الله أكبر ما أعظم حماقته، الله أكبر ما أذله وما أحقره، عندما يكون شاذاً في هذا الكون المنتظم، كم عرضت عليه التوبة فلم يتب، كم عرضت عليه الإنابة فلم ينب، كم عرض عليه الرجوع إلى الله وهو في شرود وهروب من الله، كم عرض عليه الصلح مع مولاه فلم يصطلح وولى رأسه مستكبراً:

إلى متى أنت باللذات مشغول  وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***

 أيها الأخوة الكرام: قبل أن يعصي الإنسان ربه عليه أن يتفكر في هذه الدنيا، في حقارتها وقلة وفائها، في جفائها، وخسة شركائها، وسرعة انقضائها، ينبغي أن تتفكر في أهلها، وفي عشَّاقها وهم صرعى حولها، وقد عذَّبتهم بأنواع العذاب، وأذاقتهم مرّ الشراب، وأضحكتهم قليلاً، وأبكتهم كثيراً وطويلاً، قبل أن يعصي الإنسان ربه عليه أن يتفكر في الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، هي دار القرار، ومحط الرحال، ومنتهى السير، قبل أن يعصي المرء ربه عليه أن يتفكر في النار، وتوقدها، واضطرامها، وبعد قعرها، وشدة حرها، وعظيم عذاب أهلها، عليه أن يتفكر في أهلها، وهم في الحميم على وجوههم، يسحبون وهم في النار، كالحطب يسجرون، قيل أن يعصي المرء ربه عليه أن يتفكر في الجنة، وما أعد الله لأهل طاعته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة، من المطاعم والملابس والمشارب والصور، والبهجة والسرور، والتي لا يفرط فيها إلا إنسان محروم، قبل أن يعصي الإنسان ربه عليه أن يتفكر كم سيعيش في هذه الدنيا؟ ستون سنة، ثمانون سنة، مئة سنة، ألف سنة ثم ماذا؟ ثم بعد هذا جنات النعيم أو جحيم النار والعذاب الأليم.

 

التفكر بالموت قبل معصية الواحد الدّيان :

 أيها الأخوة الكرام: الإنسان قبل أن يعصي ربه عليه أن يتيقن أن ملك الموت كما تعداك إلى غيرك فهو في الطريق إليك، وما هي إلا أعوام أو أيام أو لحظات فيصبح الإنسان وحيداً فريداً في قبره، لا أموال ولا أهل ولا أصحاب، ليتذكر من يعصي الله ظلمة القبر ووحدته، وضيقه ووحشته، وهول مطلعه وشدة ضغطه، قبل أن يعصي الإنسان ربه عليه أن يتذكر يوم العرض على الله، عندما تمتلئ القلوب رعباً، وعندما تتبرأ من بنيك وأمك وأبيك، وصاحبتك وأخيك، تذكَّر تلك المواقف والأهوال، تذكر يوم توضع الموازين وتتطاير الصحف كم في كتابك من زلل، وكم في عملك من خلل، تذكر إذا وقفت بين يدي الواحد الديان الذي كنت تهرب منه، ويدعوك فتصد عنه، وقفت وفي يديك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فبأي لسان تجيب الله حين يسألك عن عمرك وشبابك وعملك ومالك؟ بأي قدم تقف بين يديه؟ وبأي عين تنظر إليه؟ بأي قلب تجيب عليه عندما يقول لك: عبدي استخففت بنظري إليك وجعلتني أهون الناظرين إليك، ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟ فلماذا تعصني وأنا أنعم عليك؟ أفلا تصبر على طاعة الله هذه الأيام القليلة؟ وهذه اللحظات السريعة؟ لتفوز بعد ذلك بالفوز العظيم وتتمتع بالنعيم المقيم، إن هناك أناساً اعتقدوا أنهم خلقوا عبثاً، وتركوا سدىً، فكانت حياتهم لهواً ولعباً:

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون: 115]

 تعلو أبصارهم الغشاوة، في آذانهم وقرٌ عن سماع الهدى، بصائرهم مطموسة، قلوبهم منكوشة، أعينهم متحجرة، أفئدتهم معمية، تجد في مجالسهم كل شيء، إلا القرآن الكريم وذكر الله، هربوا من الله وهم عبيده، وبين يديه وفي قبضته، دعاهم فلم يستجيبوا له، واستجابوا لنداء الشيطان ولرغباتهم وأهوائهم، كيف يلبون دعوة الشيطان ويتركون دعوة الرحمن؟ أين ذهبت عقولهم؟

﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾

[ سورة الحج : 46]

 ما الذي فعله الله بهم حتى عصوه ولم يطيعوه؟ ألم يخلقهم؟ ألم يرزقهم؟ ألم يعافهم في أموالهم وأجسامهم؟ أغرى هؤلاء حلم الحليم، أغراهم كرم الكريم، ألم يخافوا أن يأتيهم الموت وهم على المعاصي عاكفون؟ أفأمنوا مكر الله؟

﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[سورة الأعراف: 99]

 أيها الأخ الكريم: ليحذر كل واحد منا أن تأخذه الدنيا، أن ينسى أن الله خلقه ليعرفه، وخلقه ليعبده، خلقه في دنيا وشيكة الزوال، سريعة الانتقال.
 أيها الأخوة الكرام: يا من يعصي ربه، عد إليه واتق النار، اتق السعير، إن أمام الإنسان أهوالاً وصعاباً، إن أمامه نعيماً أو عذاباً، إن أمامه ثعابين وحيات، وأموراً هائلات، يا من تعصي الإله عد إلى ربك، واتق النار، اتق السعير، إن أمامك أهوالاً وصعاباً، والله الذي لا إله إلا هو لن ينفعك الضحك، لن تنفعك الأغاني والمسلسلات، والأمور التافهات، لن تنفعك الصحف، ولن تنفعك المجلات، لن ينفعك الأصحاب، ولن ينفعك الأغراب.
 أيها الأخوة الكرام: يقول عليه الصلاة والسلام: " أكثروا من ذكر هادم اللذات، مفرق الأحباب مشتت الجماعات." عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم شتت شملهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحب وترضى، اجمعهم على الحق والخير والهدى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور