وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0698 - المشورة - وشاورهم بالأمر - هارون الرشيد مع الفضيل بن عياض.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الالتفاف و الانفضاض :

 أيها الأخوة الكرام، يقول الله جلّ جلاله في كتابه العزيز يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 أي التف أصحاب الرسول حوله وأحبوه لما عنده من اللين، وهذا اللين انعكاس لما في قلبه من الرحمة، وهذه الرحمة ثمرة يانعة من ثمار الاتصال بالرحيم، تتصل بالرحيم فيمتلئ قلبك رحمةً تنعكس هذه الرحمة ليناً، فمن ثمار هذا اللين أن يلتف الناس حولك فيحبوك، وما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة.

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 لو لم تكن هذه الرحمة في قلبك لكان الإنسان فظاً غليظ القلب عندئذٍ ينفض الناس من حولك، يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه الكريم:

﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 159 ]

 و قوله تعالى:

﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾

 هو محور هذه الخطبة.

 

وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ آية فيها من الخير الكثير ما لا تحصى فضائله :

 أيها الأخوة الكرام، لا يخلو أحدنا أن يكون أباً، أو أن يكون صاحب عمل، أو أخاً أكبر، أو زوجاً، أو في منصب ما، ودونه أشخاص كثيرون، وشاورهم في الأمر هذا الأمر الموجه إلى النبي والذي وجه إلينا بالتبعية، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا، ما من أب، ولا أخ أكبر، ولا زوج، ولا صاحب عمل، ولا مدير مؤسسة، إلا وهو في أمس الحاجة إلى هذا الموضوع.
 أيها الأخوة الكرام، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وحبيب الحق، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام المعصوم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي يوحى إليه، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو المؤيد بالمعجزات، قد أمر أن يشاور أصحابه فهذا المؤمن العادي، هذا المؤمن الذي هو في عداد المؤمنين كيف لا يستجيب لهذا الأمر ؟ لم لا يشاور ؟ قد يشقى الإنسان باعتداده برأيه، وقد يسعد بأن يأخذ وجهات نظر الآخرين.
 أيها الأخوة الكرام، لكن لكي لا يبقى الأمر فوضى، قال: إذا استشرت وإذا استخرت فإذا عزمت فتوكل على الله، تستأنس بآراء من حولك، تقلب رأيهم تبين الإيجابيات والسلبيات وبعد أن تجمع هذه الآراء ينبغي أن تكون ذا عزيمة، ينبغي أن تتخذ قراراً، ينبغي أن تمضي إلى هدفك لا تلوي على شيء، فإذا عزمت فتوكل على الله.
 أيها الأخوة الكرام، لعل الله عز وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشاور أصحابه الكرام لحكم لا تعد ولا تحصى، ولعل هذا الأمر الذي أمر به النبي والذي نحن أمرنا به بالتبعية فيه من الخير الكثير بحيث ما لا تحصى فضائله.

 

ما خاب من استشار ولا ندم من استخار :

 أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء الإنسان قد ينظر إلى الشيء من زاوية واحدة، وقد تكون رؤيته صحيحة ولكن هذا الشيء الذي نظرت إليه من هذه الزاوية هناك زاوية أخرى يرى منها ، وزاوية ثالثة، وزاوية رابعة، فإذا جمعت كل هذه الزوايا بدا لك الشيء بشكل مجسم، بدا لك الشيء بكل أبعاده، أنت حينما تنظر إلى شيء تأخذ زاوية واحدة، إن نظرت إلى هذا الشيء من عدة زوايا تأخذ عنه فكرةً تامة.
 أيها الأخوة الكرام، ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار، الزوج الحكيم يستشير زوجته وأولاده، قال تعالى:

﴿ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾

[ سورة الطلاق : 6]

 فعل ائتمروا فيه معنى المشاركة، والأب الحكيم يستشير أولاده أحياناً، ومدير المؤسسة الحكيم يستشير كبار موظفيه، والطبيب الناجح يستشير زملاءه، يجب أن تبنى حياتنا على المشورة، لأن الأمة لا تشقى بالمشورة، الله عز وجل يصف مجتمع المؤمنين فيقول:

﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾

[ سورة الشورى: 38 ]

 طبق هذا في بيتك، طبق هذا في عملك، طبق هذا في الدائرة التي مكنك الله منها، استشر، من استشار الرجال استعار عقولهم، قد تسأل إنساناً سؤالاً فتستعير خبرة خمسين عاماً بلا مقابل، عود نفسك أن تستشير، عود نفسك أن تكون فرداً في فريق عمل، عود نفسك أن تكون منسجماً مع المجموع، عود نفسك أن تأخذ وأن تعطي، الحياة أخذ وعطاء، النبي عليه الصلاة والسلام وحده معصوم، بينما أمته معصومة بمجموعها، فكل واحد من أمته تفوق في شيء، وقد تفوق غيره في شيء آخر، فأمة النبي عليه الصلاة والسلام متكاملة، فلو عودت نفسك أن تسأل، أن تأخذ رأي الآخرين، أن تستشيرهم، أن تطلع على وجهات نظرهم، فهذا أقوى لك.
 أيها الأخوة الكرام، أنت حينما تستشير من دونك وتتخذ قراراً، هؤلاء الذين حولك ينفذون هذا القرار وهم طيبو النفس لأنك أخذت رأيهم، فكأنهم تبنوا هذا القرار، كأنهم شاركوا في صنعه، كأنهم شاركوا في تنفيذه، فأنت من أجل أن تضمن صحة تنفيذ هذا القرار لو أنك استشرت من حولك لكانوا معك، ولقدموا لك النصيحة والمشورة، وهذا يحتاجه كل أب في بيته، وكل إنسان في عمله، ودائماً وأبداً أكرر: أنت مكلف فيما مكنك الله به، مكنك في بيتك ومكنك في عملك، هاتان الدائرتان اللتان تحاسب عنهما عند الله عز وجل، إذا أقمت أمر الله فيما تملك كفاك الله ما لا تملك.

 

الحكمة من الاستشارة :

1 ـ من استشار طيّب قلب من حوله :

 أيها الأخوة الكرام، كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مشرع، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ، ولعل مهمة القدوة أكبر بكثير من مهمة التشريع، كلاهما مهمتان خطيرتان، النبي عليه الصلاة والسلام في موقعة بدر قال: أشيروا عليّ أيها الناس؟ فقام سيدنا سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله لكأنك تعنينا؟ قال: أجل، قال: يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق فامض لما أراك الله، نحن معك لن يتخلف منا رجل واحد، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء فحارب من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فوالذي بعثك بالحق إن الذي تأخذه من أموالنا أحب إلينا من الذي تبقيه لنا فامض على بركة الله، لو خضت هذا البحر لخضناه معك.
 سألهم سؤالاً واحداً: أشيروا عليّ أيها الناس، هم حينما خرجوا معه خرجوا معه بكل كياناتهم، بكل مشاعرهم، بكل قدراتهم.
 أيها الأخوة الكرام، أنت إذا استشرت من دونك طيبت قلبهم، وولدت فيهم طاقةً كبيرة كانوا عونك، وكانوا جنداً لك، فلا يبخل الأب أن يستشير من حوله، لا يبخل صاحب العمل أن يستشير كبار موظفيه، لأن الشورى رحمة، وقد وصف الله عز وجل مجتمع المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم.

2 ـ ازدياد رأيك قوة و صلابة و مضاء :

 أيها الأخوة الكرام، هذه واحدة أن الذي يستشير يطيب قلب من حوله، يجعلهم زملاء، يجعلهم شركاء، يجعلهم متفاعلين، يجعل قدراتهم كلها في خدمة هذا العمل، أما الثانية فالإنسان يرى من زاوية وقد يرى أخوه من زاوية أخرى، فلذلك المستشير يستظهر برأي من حوله، قد يلفت بعضهم نظره إلى قضية لم تخطر في باله، كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ما من إنسان يملك الحقيقة كلها، ما من إنسان يستطيع أن يرى رؤيةً شاملةً، كاملةً، مطلقةً وحده، لابد من التعاون حتى في التنظير، حتى في النظر إلى أمور الحياة، لذلك المستشير يتقوى برأي من حوله، قد يخطر في بالك شيء تسأل عنه زميلاً، أخاً، صديقاً، جاراً، مؤمناً فيأتي رأيه موافقاً لرأيك ماذا فعل هذا الإنسان معك ؟ قوّاك، جعلك تستأنس بالذي اتخذته، قد يأتي رأي المستشار كرأي المستشير، أنت بهذا قويت نفسك واطمأننت إلى صحة قرارك، فذلك فضلاً عن أنك تطيب نفوس من حولك وتجعلهم يتفاعلون، تجعلهم كالزملاء والشركاء، تجعلهم يندفعون، تجعلهم يعطونك كل شيء، أنت قد تتقوى برأيهم، وقد تستعين بوجهات نظرهم.
 أيها الأخوة الكرام، هذه حكمة ثانية قد يزداد رأيك قوةً، وقد يزداد رأيك صلابةً، وقد يزداد رأيك مضاءً.

الاستشارة و الاستخارة في المباحات فقط :

 ولكن أريد أن أنبه لا استشارة ولا استخارة فيما حكم الله به، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً ﴾

[ سورة الأحزاب : 36]

 إذا حرم الله الربا لا استشارة ولا استخارة في موضوع الربا، إذا حرم الله الاختلاط لا استشارة ولا استخارة في موضوع الاختلاط، الاستشارة والاستخارة في المباحات، في تجارة، في إنشاء مصنع، في سفر، في وظيفة، في عمل جماعي، في الشيء المباح والشيء الخطير، إن الله عز وجل يجب معالي الأمور، ويكره سفسافها ودنيها. إذاً أنت تتقوى برأي أخيك، وقد يزداد رأيك صلابةً، وقد يزداد رأيك مضاءً حينما تستأنس أن الذي فكرت فيه هو عين الصوابن فالمستشير يستظهر ويتقوى بنصيحة المستشار.

 

استشارة النبي الكريم أصحابه ليكون قدوة لأمته من بعده :

 أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا، قال تعالى:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 فحينما استشار النبي أصحابه الكرام كان قدوةً لنا في هذا، كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ارتأى مكاناً ليكون موقعاً لجيشه في بدر، ولحكمة بالغة، بالغة، بالغة، حجب الله عنه صواب الرأي إلهاماً، واجتهاداً، ووحياً، فجاء صحابي جليل من كبار أصحابه وهو يذوب أدباً، وحباً، وغيرةً، قال له: يا رسول الله أهذا الموقع وحي أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة ؟ كلام في منتهى البلاغة، كلام في منتهى الأدب، كلام في منتهى الغيرة، أي إذا كان هذا الموقع وحياً أوحاه الله إليك لا ينبس ببنت شفة، أما إذا لم يكن كذلك فلي رأي في الموضوع، فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والمشورة، فقال: يا رسول الله- صحابي جليل يخاطب سيد الخلق وحبيب الحق، يخاطب المعصوم، يخاطب الذي يوحى إليه، يخاطب الذي أيده الله بالمعجزات - ليس بموقع. ببساطة ما بعدها بساطة، بعفوية ما بعدها عفوية، بطيب قلب ما بعده طيب. قال: أين الموقع المناسب ؟ فدله الحباب على موقع آخر فقال: هذا هو الصواب وأمر أصحابه أن ينتقلوا إليه.
 الحكمة من ذلك أيها الأخوة الكرام أن النبي معصوم فكيف يكون قدوةً فيمن يقدم له النصيحة؟ لابد من حادث مفتعل، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الظهر ركعتين فقال أحد أصحابه ذو اليدين: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال: كل ذلك لم يكن، فقال بعضهم: قد كان - أصر على رأيه - فسأل النبي أصحابه فإذا هو قد صلى ركعتين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما نسيت كي أسن، أي كيف أسن لكم سجود السهو إن لم أنسَ أنا مرةً واحدة؟ قال تعالى:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾

[ سورة الأعلى : 6-7]

 لعلة تشريعية لابد من أن تنسى مرةً كي تشرع لهم سجود السهو، ولابد من أن يغيب عنك الموقع المناسب مرةً واحدة كي تكون قدوةً للأمراء من بعدك، وللعلماء من بعدك في قبول النصيحة، والذي يقبل النصيحة ليس أقل أجراً من الذي يسديها، قبول النصيحة دليل أنك مخلص لله، دليل النصيحة أنك ترجو ما عند الله، قبول النصيحة دليل أنك ترجو الله والدار الآخرة، أما إذا كان هناك مصالح ومكاسب مادية فلا تقبل النصيحة، تحطم من حولك، وترفض أن تستجيب لهم، إن هذا يدل على بعد الإخلاص.
 أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام استشار أصحابه ليكون قدوةً لأمته من بعده فيا أيها العلماء، ويا أيها الأمراء، ويا أيها المؤمنون إذا قدمت لكم مشورة مخلصة فاصغوا لها، أنت في دنياك هل يعقل أن تأتيك رسالة فتمزقها قبل أن تقرأها ؟ مستحيل وإلا يتهم الإنسان في عقله، أتمزق الرسالة قبل أن تقرأها؟ قدمت لك نصيحة أصغ إليها من أنت؟ جل من لا يخطئ، وطن نفسك على أن تصغي لنصيحة الآخرين.

 

3 ـ في المشاورة تقدير للمستشار و اعتبار لمنزلته :

 أيها الأخوة الكرام، من حكم الاستشارة أن في المشاورة تقديراً للمستشار، واعتباراً لمنزلته، وإعطاءً له حرية الرأي والنظر، يشعر المستشار أن له اعتباراً وشأناً عند المستشير، وأن عليه مسؤوليةً ينبغي أن يؤديها حقها ناصحاً صادقاً بخلاف الاستبداد بالرأي.
 أيها الأخوة الكرام، الذي لا يستشير من حوله يعد الموجودين حوله كالمفقودين، ويعد المختارين كالمكرهين، من دون استشارةً العقلاء ممن حولك تعد وجودهم لاغياً، إن أحسوا هذا الإحساس انقلبوا إلى أعداء، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من مشاورة أصحابه فقد روى الشافعي رضي الله عنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

(( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))

[ الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

4 ـ في المشاورة استعراض للآراء :

 حكمة أخرى من حكم الاستشارة، إن في المشاورة استعراضاً للآراء، قد تسمع رأياً ورأيين، وثلاثة آراء، وقد تسمع العديد من وجهات النظر، هذا كله يغني قرارك، قد تنتبه إلى نقطة وتغيب عنك نقاط، قد تنتبه إلى قضية وتغيب عنك قضايا، قد تنظر من زاوية وتغفل عن زوايا، فذلك الذي قلّما يغلب في الأعمّ الأغلب هو الذي يكثر الاستشارة.
 أيها الأخوة الكرام: يروى أن الإمام أبا حنيفة رأى غلاماً صغيراً أمامه حفرة قال له: إياك يا غلام أن تسقط، فقال هذا الغلام: بل إياك يا إمام أن تسقط إني إن سقطتُ سقطت وحدي، وإنك إن سقطتَ سقط معك العالم. المؤمن الصادق المخلص لا يتورع أن يستجيب لنصيحة غلام طفل صغير قد يلفت نظرك إلى شيء خطير، إنسان في الدرجة الدنيا الاجتماعية قد يلفت نظرك إلى شيء خطير، لا تزهد بآراء من حولك، علامة التوفيق أن تصغي لمن حولك، وأن تستشيرهم، وأن تستعير عقولهم، فما ندم من استشار، ولا خاب من استخار.

الاستشارة تكون لأولي الخبرة من المؤمنين :

 أيها الأخوة الكرام: والاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ))

[ الدارمي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ ]

 عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((إن المشير معان، والمستشار مؤتمن، فإن استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه))

[ العسكري عَنْ عائشة ]

 أيها الأخوة، أوضح الأمثلة قد تجد بيتاً رخيصاً، تتوهم أنه رخيص، وأنه فرصة العمر، فإذا اشتريته، ولم تسأل أحداً لعل عليه رهناً كبيراً، لعل في أساسه ضعفًا، أو فيه أمر بإخلاء أصحابه من البيت، فهذا الذي يمضي أعماله دون أن يستشير قد يقع في مطب خطير.
 أحياناً يستجيب إنسان لرأي واحد في بتر عضو، وقد يكون هذا الرأي غير صحيح، طبيب قدم لي هذه النصيحة قال لي: في شأن الاستئصال لابد من مجموعة من الأطباء، أما أن تبقى على رأي واحد، وسبحان الله بعد حين جاءني أخ كريم له ابنة صغيرة عرضها على طبيب فأشار عليه باستئصال إحدى كليتيها، فألزمته أن يستشير طبيباً آخر، فاستشار طبيباً آخر فقال له: لا حاجة لاستئصالها الآن، ويوجد وقت ستة أشهر لعلها تعمل بعد حين، هذا علم الثاني.
 والله أيها الأخوة بعد أسبوعين أو ثلاثة طرق بابي ليلاً وقال: لقد عملت كليتها الثانية، ولو أخذ برأي الواحد لاستأصل كلية ابنته، فلابد من أن تأخذ مجموعة من الآراء، طبعاً هذا مثل صارخ حاد، عود نفسك أن تأخذ آراء من حولك هذا دليل النجاح، والفلاح، والتوفيق.

 

المستشار يجب أن يكون أميناً على الاستشارة غير معجب بنفسه :

 أيها الأخوة الكرام، قال بعض العلماء: نقحوا عقولكم بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة. العلماء أيها الأخوة بينوا أن المستشار يجب أن يكون أميناً على الاستشارة، ناصحاً ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلون برأيه، ولا كاذب في مقاله، متغالياً في محبة الأمر المستشار فيه، ولا متجرداً عن الدنيا فإنه لا يستشار في أمر الدنيا من كان بعيداً عنها.
 أي أردت أن تعمل في التجارة فاستشر المؤمنين، أخ كريم سألني عن مصلحة في صناعة بعض الحلويات، قلت: والله لا أدري عنها شيئاً اسأل بعض تجار السوق، أقسم لي بالله بدأ بتجار السوق تَاجراً تاجراً سأله النصيحة، قال لي: ما من واحد إلا يأسني وأحبط عملي، وخوفني من هذه المصلحة، أنا ظننت أو توهمت أن هؤلاء بعيدون عن الإخلاص لله عز وجل، خافوا أن يدخل أحد على مصلحتهم فيضعف ربحهم، قلت له: اذهب واسأل فلاناً في السوق أنا أعرف أنه مؤمن ونصوح، فإذا مشورته جاءت على عكس الأوائل، قال له: والله مصلحة رائعة جداً، موادها الأولية متوفرة، طلبها في السوق ثابت، صناعتها يسيرة وأنا أعينك عليها. لا تستشر أهل الدنيا، قال تعالى:

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[ سورة الكهف : 28]

 استشر أولي الخبرة من المؤمنين، شرطان كل منها لازم غير كاف يجب أن يكون المستشار من أولي الخبرة حتى يملك الخبرة فيقدمها لك، ويجب أن يكون المستشار من المؤمنين، حتى يكون أميناً على استشارته، قال تعالى:

﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾

[ سورة القصص : 26]

 خبير ومخلص فيما يقول.

الاعتذار عن الاستشارة في حالات خاصة :

 أيها الأخوة الكرام، أحياناً تستشار في موضوع إن تكلمت فيه وقعت طامة كبرى الشرع ما كلفك ما لا تطيق، أي لو أن طالباً - وهذا مثل حاد جداً - سألك هذا الموضوع يأتي في الامتحان، وأنت واضع الأسئلة ؟ إن قلت له: لا يأتي فقد غششته، وإن قلت له: يأتي فقد أهلكك، في مثل هذه الحالة الحادة بإمكانك أن تعتذر عن أن تجيب، ينبغي إذا تكلمت أن تنطق بالحق، لك أن تسكت في ظروف خاصة، ونادرةٍ، وعويصة، وقليلة، بإمكانك أن تسكت، بإمكانك أن تعتذر، لو سألك إنسان عن إنسان في شأن الزواج، فلو بلغته لنقل هذا إليه ونشأت فتنة لا تنتهي لك أن تعتذر، بين أن تجيب صادقاً وبين أن تسكت، أما أن تضلل فليس هذا من شأن المؤمنين، أما أن تذكر غير الحقيقة فليس هذا من شأن المؤمنين، قد تعمل في التجارة، وقد يسألك منافس لك سؤالاً بإمكانك أن تعتذر عن الجواب، أو أن تعطيه جواباً عاماً، أما أن تضلله، أن يأتي تاجر فتي يسألك ماذا يعمل بهذا الرأس مال؟ تنصحه ببضاعة لا تباع وبكميات كبيرة فيفلس من أجل أن تبعده عن حقل عملك، هذه خيانة ما بعدها خيانة، كفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت له به كاذب، كبرت خيانةً أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق وأنت له به كاذب.

 

الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين و الاستخارة لله عز وجل :

 أيها الأخوة الكرام، بقي أن الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين بينما الاستخارة لله عز وجل، تصلي ركعتين وتدعو دعاء الاستخارة، تستخير الله إن كان هذا العمل فيه صلاح لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فقدره لي ويسره لي، وإن لم يكن فيه صلاح لي في ديني ولا دنياي ولا عاقبة أمري يا رب اصرفه عني، واصرفني عنه وقدر لي الخير حيث تشاء.
 هذا دعاء الاستخارة، لم يرد عن رسول الله أن إنساناً استخار لإنسان، الآن عوام الناس يطلبون من بعضهم أن يستخيروا لهم، ليس بينك وبين الله واسطة، استخر أنت الله عز وجل، ولا تنتظر بعد الاستخارة أن ترى مناماً، أو أن تفتح المصحف على آية معينة، إن الأمور سارت في شكل ميسر فالله أراد لك ذلك، وإن وضعت العقبات أمامك فالله عز وجل لم يرد لك ذلك، فالجواب الإلهي التيسير أو التعسير.
 أخواننا الكرام، مرةً ثانية لا استشارة ولا استخارة في المحرمات، قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾

[ سورة الأحزاب: 36]

 وضعاف المؤمنين يستشيرون في التوافه، يوجد أشياء بديهية لا تحتاج إلى سؤال.

 

استشارة أولي الخبرة من المؤمنين في المباحات التي لها تبعات :

 بقي موضوع محدد أن تستشير أولي الخبرة من المؤمنين في المباحات التي لها تبعات، اشتريت هذا المعمل قد يكون غير مجد اقتصادياً، أنت أمام آلات لا تباع ولا تشترى، فهذا العمل له تبعة في المستقبل، في الزواج تزوجت امرأة غير صالحة هذا له تبعات فأي شيء خطير له تبعات مستقبلية ينبغي أن تستشير وأن تستخير.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت، قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قصة هارون الرشيد مع الفضيل بن عياض :

 أيها الأخوة الكرام، كان الفضل بن الربيع وزير هارون الرشيد، وهذا الخليفة العباسي يتقول عنه الكذابون الأقاويل، هو ليس كذلك، هذه قصة عن هارون الرشيد تتعلق بموضوع الاستشارة.
 قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فأتاني - أي أتاه في مكان إقامته - فخرجت مسرعاً وقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ لأتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء - هو متضايق، منقبض النفس - فانظر لي رجلاً من أهل العلم يحدثنا فلعلي أرتاح لحديثه، قال: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فقرعت الباب، فقال: من ذا ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ لأتيتك، فقال هارون الرشيد: خذ لما جئناك له رحمك الله - أي دخلا إلى بيته فحادثهم ساعة- ثم قال له: أعليك دين ؟ قال: نعم، قال: يا فضل اقضِ دينه، فلما خرجنا من عنده قال لي: ما أغنى صاحبك عني شيئاً لازلت ضيق النفس، انظر لي رجلاً آخر. فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعنا الباب، فقال: من ؟ قلت: أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، قال: نعم خذ لما جئناك له، فحادثه ساعةً ثم قال: أعليك دين ؟ قال: نعم قال: يا فضل اقض دينه، فخرجنا من عنده، فقال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أي لازلت ضيق النفس، انظر لي رجلاً آخر، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها كثيراً ويبكي، قال: اقرع الباب قرعنا الباب فقال: من الطارق ؟ قال: أجب أمير المؤمنين، قال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ قلت: يا سبحان الله، أما له عليك من حق؟ فنزل وفتح الباب، ثم ارتقى إلى غرفته، وأطفأ السراج، ثم التجأنا إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نتلمس بأيدينا فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه فقال: يا لها من كف ما ألينها إذا نجت غداً من عذاب الله، فقلت في نفسي ليكلمنه اليوم كلاماً من القلب النقي.
 قال: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ، وعدّ الخلافة بلاءً، وعددتها أنت وصاحبك نعمةً، هذا هو الفرق بينكم، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها عند الموت، وقال محمد بن كعب: لو أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وارحم ولدك، وقال له رجاء: إذا أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت. وإني أقول لك يا أمير المؤمنين: إني أخاف عليك أشدّ الخوف يوم تزل الأقدام فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء؟ أي هل في بطانتك مثل هؤلاء ؟ عندئذ بكى هارون الرشيد بكاءً شديداً حتى أغمي عليه - هكذا القصة - فقال الفضل بن الربيع للفضيل بن عياض: أرفق بأمير المؤمنين رحمك الله، قال يا أمير المؤمنين: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب عمر إليه: اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف عنك أهل العلم، فلما قرأ هذا العامل كتاب أمير المؤمنين طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك ما الذي أقدمني؟ لا أعود إلى الولاية حتى ألقى الله عز وجل، بكى ثانيةً هارون بكاءً شديداً وقال: زدني رحمك الله.
 قال يا أمير المؤمنين: إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل، فبكى هارون بكاءً شديداً وقال: زدني رحمك الله، قال: يا أمير المؤمنين يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن أردت أن تتقي هذا الوجه من النار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة ))

[المنتظم في تاريخ الأمم لابن الجوزي]

 فبكى هارون الرشيد بكاءً رابعاً، وقال: أعليك دين ؟ الآن دققوا الفرق، قال: دين لربي لم يحاسبني عليه فالويل إن سألني، والويل إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني دين للعباد، قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أشتري شيئاً لا أملك ثمنه"، ثم قال: إن ربي عز وجل لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده، وأن أطيع أمره، فقال له: خذ ألف دينار وأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا سلمك الله ووفقك، ثم سكت ولم يكلمنا ولم يأخذ شيئاً، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: يا فضل إن دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين ارتاحت نفسي له.
 دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال وتفرجنا به؟ فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه وأكلوه ولم يبقَ لهم شيء ـ أي إن أخذت هذا المبلغ من هارون الرشيد انتهيت عنده، يبدو أن هارون سمع حواره مع زوجته ولم يرحل. فقال له: تعال ندخل ثانيةً لعلنا نقنعه بأخذ المال، فلما دخلوا عليه كمحاولة أخيرة جلس ولم يكلم أحداً، فقالت جارية: يا هذا قد آذيتم الشيخ فانصرفا يرحمكم الله. هذا الذي لم يرضَ أن يأخذ شيئاً ارتاحت نفس هارون الرشيد له.
 أيها الأخوة، لابد من أن تستشير، ولابد من أن تستخير، والقضية مصيرية، والقضية قضية الأبد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور