وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0824 - التوبة 2 - التوبة عمل بالقلب وعمل بالجوارح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

المسلم الصادق الموفق يبحث عن حلّ لكل مشكلة :

 أيها الأخوة المؤمنون: حال المسلمين لا تخفى على أحد، ضعف، وقهر، وتمزق، وتشتت، وضياع، وتشرذم، وما من مسلم على وجه الأرض إلا وهو مستعد أن يحدثك حديثاً طويلاً عما يعانيه المسلمون في شتى بقاع الأرض، ولكن ما الحل؟ ماذا ينبغي أن نعمل؟ كيف نتحرك؟.
 ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة ))

[ ورد في الأثر]

 فإن أردنا أن نتحدث عن الحل فلا بد من التوبة، وقد جعلت الخطبة الماضية بتوفيق الله تعالى عن شروط التوبة، وهأنذا أتابع هذا الموضوع.
 أيها الأخوة الكرام: عوِّدوا أنفسكم أنكم إذا عالجتم مشكلة بينتم أبعادها، وحدودها، وأسبابها، ونتائجها، أن تبحثوا عن الحل، البحث عن الحل هو الشيء المجدي، لكن من السهل جداً أن نجتر آلامنا، وأن نجعل ضعف المسلمين محور أحاديثنا، وأن نصف كيد أعدائنا، هذا كله سهل، ويستطيعه كل مسلم، ولكن المسلم الصادق الموفق هو الذي يبحث عن حل، فإذا كان ما من بلاء ينزل إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، فلا بد من البحث عن وسائل التوبة، وعن شروطها، وعن بعض دقائقها.
 أيها الأخوة الكرام: يؤكد المعنى الأول قوله تعالى:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30]

 يؤيد هذا المعنى قول آخر في القرآن الكريم:

﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 165 ]

 فالله سبحانه وتعالى غني عن تعذيبنا، عن أن يظلمنا، وأن يقوي أعداءَنا ويضعفنا، وعن أن يسلط علينا من لا يعرفه، هو غني عن هذا لأنه يقول:

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[ سورة النساء: 147]

 لكن يقول الله أيضاً:

﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 21]

بشارة النبي عليه الصلاة والسلام لكل تائب :

 أيها الأخوة الكرام: قد يتساءل الغارق في الذنب أيتوب الله عليَّ؟ أيقبل توبتي؟ أتغفر كل خطاياي؟ الجواب مما رواه الإمام مسلم في قصة إسلام عمرو بن العاص، فعَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ:

((حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ فَبَسَطَ يَمِينَهُ قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي قَالَ: مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ؟ قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ... ))

[ مسلم عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيّ]

 هذه بشارة النبي عليه الصلاة والسلام لكل تائب، وروى الإمام مسلم أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

((أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ } وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا{ ))

[مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾

[سورة الفرقان: 70]

 والآية الثانية:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر: 53 ]

مشكلات المتردد في التوبة :

 أيها الأخوة الكرام: الحقيقة أن الذي يتردد في التوبة، والذي لا يجرؤ على أن يتوب، ويحجم عن أن يتوب، عنده خمس مشكلات، إحدى هذه المشكلات أنه يظن أن ذنبه أكبر من رحمة الله، والإحساس الثاني نقص في إيمانه بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب، وعنده ضعف في عمل من أعمال القلوب، وهو الرجاء، وعنده عدم تقدير بمفعول التوبة في محو الذنوب، هذه الأشياء الأربعة أجاب عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنها القرآن.
 فالنقطة الأولى الإحساس بأن الذنوب أكبر من أن تُغفر، ويكفي في هذا قولُه تعالى:

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأعراف: 156 ]

 ألست شيئاً من هذه الأشياء؟ أليست ذنوبك شيئاً من هذه الأشياء؟.

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأعراف: 156 ]

 وأما توهُّم العبد أن الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب مهزوز عنده، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي الصحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:

((يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أَرْزُقْكُمْ وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي...))

[الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ]

 وأما النقطة الثالثة: أيْ أن ضعف رجائه بالله هو الذي حجبه عن التوبة، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي الصحيح، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ: اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

((يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 وأما شعور المذنب أن التوبة لا تلغي ذنوبه، فعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

[ ابن ماجة عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ]

 هذه ثلاثة أحاديث، وآية قرآنية، وهي قوله تعالى:

﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأعراف: 156 ]

 وأما الحديث الأول:

(( التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))

[ ابن ماجة عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ]

 والثاني:

(( فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي))

[الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ]

 والثالث:

((يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ...))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 أما الذي يقول: ذنوبي لا تعد ولا تحصى! بماذا نجيبه؟.
 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ...))

[ مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

 فهذا العالم أمره أن يدع بيئته التي يعصي فيها، البيئة أخطر شيء على المؤمن، إن عاش في بيئة أهل الشرك، وفي بيئة أهل الكفر، وفي بيئة العصاة، وفي بيئة الفجار، وفي بيئة المتفلتين، وفي بيئة المستخفين سيسحبونه، لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، هذا العالم أمره أن يتحول عن الأرض التي عصى الله فيها إلى أرضٍ يعبد الله فيها، وهذا مفهوم الهجرة في الإسلام، أن تتحول من بلد لا تستطيع أن تقيم شعائر الله فيه، إلى بلد بإمكانك أن تقيم شعائر الله فيه.

 

الحديث التالي يملأ نفس المذنب ثقة بأن الله يغفر له الذنوب جميعًا :

 أيها الأخوة:

((.......فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ))

 أيها الأخوة الكرام: هذا الحديث الصحيح يملأ نفس المذنب ثقة بأن الله يغفر له الذنوب جميعًا، والعبرة أن تكون واثقاً مِن الله، ينتظر توبتك، بل إن الله يريد أن يتوب عليك، بل إن الله يحبك إذا تبت، إنه يحب التائبين.

 

من تاب توبة نصوحة بدلت صفاته السيئة بصفات حسنة :

  أيها الأخوة الكرام: هؤلاء الذين فعلوا السيئات إذا تابوا إلى الله توبة نصوحًا، كما قال الله تعالى:

﴿ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾

[سورة الفرقان: 70]

 من معاني هذه الآية: تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة، كان بخيلاً فصار كريماً، كان متفلتاً فصار منضبطاً، كان وقحاً فصار حيياً، كان جباناً فصار شجاعاً، كان جاحداً فصار منصفاً، هذا من معاني هذه الآية:

﴿ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾

[سورة الفرقان: 70]

 وقد ورد عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي طويل:

((أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه، وهو يعتمد على عصًا، حتى قام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجَّةً- أي لا صغيرة ولا كبيرة- إلا أتاها، وأنه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم- أي أهلكتهم- فهل له من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فهل أسلمت؟ قال: فأما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن))

[ورد في الأثر]

التوبة عمل بالقلب وعمل بالجوارح :

 أيها الأخوة: التوبة في حقيقتها عمل بالقلب وعمل بالجوارح، فأما عمل القلب فهو الندم، والعزم على عدم العودة، وأما عمل الجوارح فتكون بفعل الحسنات وترك السيئات، وهناك ما يسمى بصلاة التوبة.
 حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ))

[الترمذي عن أبي بكر ]

 يؤكده قوله تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 135]

 أيها الأخوة: وردت روايات أخرى لهذا الحديث:

(( عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ

((

[البخاري عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ]

 ونسمي هاتين الركعتين صلاة الاستغفار، رحمة الله واسعة، فالله عز وجل ينتظرنا أن نتوب إليه، ويفرح بنا إذا تبنا إليه. ولَلَّه أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد.
 أيها الأخوة الكرام: سيدنا عمر حينما أحس بخطئه في مناقشته رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ماذا قال؟ قال: فعملت لذلك أعمالاً صالحة لتكفير الذنب، معنى ذلك إذا شعرت أنك أذنبت وأنك تبت من هذا الذنب، إن أردت أن ترقى إلى الله فلابد من عمل صالح يرمم هذه الفجوة التي أحدثتها ذنوبك، فلذلك عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))

[الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ]

وسوسة الشيطان لمن استقام و تاب توبة نصوحة :

 بعضهم يقول: كنت مع الناس على علاقة طيبة، فلما عزمت على التوبة جاءت المضايقات من كل حدب وصوب، وهذه حقيقة ! ذلك أن الشيطان حينما يرى الإنسان غارقاً في المعاصي والآثام يَدَعُه، أما إذا عزم على التوبة فيشمّر ويأتيه، والدليل:

﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

[ سورة الأعراف: 16]

 لمجرد أن يسيروا في طريق الاستقامة والتوبة، يشمِّر الشيطان ليقترف معركة يائسة، لإعادته إلى صف الفجار، والكفار، لذلك:

﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾

[ سورة الأعراف: 17]

 فالشيطان يعقد لهذا الإنسان طريق التوبة في أوله، يشككه بعقيدته، يسأله أسئلة إبليسية، يزين له ما قبل الإسلام،

﴿لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾

 يزين له ما في العصر من حضارة، وتقدم، وازدهار، وحرية، واختلاط، وأن المرأة نصف المجتمع ،

﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾

 وقت عبادة الأوثان، زمن الجاهلية،

﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾

 يأتيه بالوسواس، لم تتقن شدّات الفاتحة، فصلاتك غير مقبولة، باطلة، لم تفعل كذا، عملك غير مقبول، طبعاً لا بد أن نحسن قراءة القرآن، لا بد أن نتلوه تلاوة مقبولة، أما حينما يأتي الشيطان ليهدر عمل الإنسان لسبب بسيط فهذه وسوسة الشيطان، وهذه الحالة عن أيمانهم. وأمّا:

﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾

[ سورة الأعراف: 17]

 فيدعوه إلى المعاصي والآثام.

﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾

[ سورة الأعراف: 17]

 دائماً يشكو الإنسان دنياه، وقد يكون غارقاً في نِعَمٍ لا تعد، ولا تحصى.
 أيها الأخوة الكرام: لذلك سورة الناس تحذِّر من وسواس الخنّاس، ومن الجنة والناس، قال تعالى:

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾

[سورة الناس: 1-6]

 وقد يكون الشيطان من البشر، بل إن تقديم شياطين الإنس على شياطين الجن إشارة إلى أن شيطان الإنس أشدّ مكراً من شيطان الجن، شيطان الإنس يدعوك إلى معصية، وإلى ألا تنفق وتبخل، وأن تكره من أُحِلَّتْ لك، ويزين من حَرُمَتْ عليك، هذا من فعل الشيطان، فحينما تشعر أنك مدفوع إلى معصية فهذا وسواس الشيطان، إلى أكل حقوق الآخرين فهذا وسواس الشيطان، إلى الإيقاع بين المسلمين فهذا من وساوس الشيطان، أن تشتهي امرأة لا تحل لك فهو كذلك مِن وسواس الشيطان، أن تبخل، ولا تنفق فهو أيضًا مِن وسواس الشيطان.

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾

[ سورة إبراهيم : 27]

 القول الثابت هو القرآن.

 

وسوسة الشيطان تكون لمن يصغي له فقط :

 أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:

﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾

[ سورة النساء : 76]

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾

[ سورة إبراهيم: 22 ]

 كنت أضرب على هذا مثلاً موضحاً: إنسان يرتدي أجمل الثياب، فنزل في حفرة ملية بمياه سوداء مالحة، وذهب إلى مخفر الشرطة ليشتكي، فسأله المحقق على مَن تشتكي؟ قال: على زيد، قال: هو دفعك إلى هذه الحفرة؟ قال: لا واللهِ، لمْ يدفعني، أمسك بك ووضعك فيها؟ قال: لا واللهِ، أشهر عليك سلاحاً وأمرك أن تنزل فيها؟ قال: لا واللهِ، إذًا لمَ تشتكي عليه؟ قال: هو قال لي انزل فنزلت:

﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾

[ سورة إبراهيم: 22 ]

 الشيطان لا يوسوس إلا لِمن يصغي له، إلا لِمن كان ضعيفاً.

﴿ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ﴾

[ سورة آل عمران: 155 ]

 انسلخ من آياتنا عندئذ تبعه الشيطان.
 أيها الأخوة الكرام: الشيطان كالبعوض، لا يأتي إلا على الأماكن القذرة، أما الأماكن النظيفة والأشخاص النظيفون فليس للشيطان إليهم من سبيل.
 أيها الأخوة الكرام: مهما فعل أهل الكفر، والشرك، والضلال لحمل إنسان على أن يعود إلى ما كان عليه إذا استعاذ، واستعان بالله، ليس لهم عليه من سبيل، قال تعالى:

﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء : 87-89]

 شيء دقيق جداً ذلك أن مِن أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمْنُ من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله، كلها من أكبر الكبائر، المذنب مهما يكن ذنبه كبيراً، ومهما تكن ذنوبه كثيرة فعليه أن يكون واثقاً من مغفرة الله له إذا تاب، وأنْ يكون واثقاً من رحمة الله به، ويرجو رحمة الله ويخشى عذابه، أما اليأس والقنوط من رحمة الله فمن أكبر الكبائر.

 

في الإسلام اعتراف لله وحده :


 أيها الأخوة، يقول الذي يريد أن يتوب: أنا أتوب، فهل يجب علي أن أعترف بهذا الذنب؟ نجيبه: ليس بين العبد وبين ربه وسيط.

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾

[ سورة البقرة: 186]

 في القرآن الكريم آيات تزيد عن عشر آيات:

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾

[ سورة البقرة: 219 ]

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾

[ سورة البقرة: 219 ]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾

[ سورة البقرة: 219]

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾

[ سورة البقرة: 189 ]

 بين كل هذه الأسئلة وبين الأجوبة كلمة: قل يا محمد، أبلغهم بكذا، إلا آية واحدة:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾

[ سورة البقرة: 186]

 فلا تجد قل !.

﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾

[ سورة البقرة: 186]

 ليس في إسلامنا كله شيء اسمه اعتراف، لكن في الإسلام اعتراف لله وحده، وهذا الاعتراف ورد في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ ))

[البخاري عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]

 ابق عزيز الجانب، موفور الكرامة، سَتَرَ الله عليك فاستر نفسك، لكن في السجود، وفي قيام الليل اعترف لله:

((...أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ...))

[البخاري عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]

 أنا والله أتألم أشد الألم ممن تاب الله عليه، وبدأ يحدث الناس عن معاصيه قبل التوبة، لمَ وقد أسبَلَ الله عز وجل عليك ستره وتاب عليك؟ لِمَ تفضح نفسك بعد ذلك؟ ليس في ديننا ما يسمى بالاعتراف.
 شيء آخر في هذا الموضوع: أنك إذا تبت توبة نصوحًا فقد أنسى اللهُ حافظيك والملائكة وبقاعَ الأرض كلها خطاياك وذنوبك !.

 

الإسلام يَجُبُّ ما قبله :


 أيها الأخوة الكرام: ذاق طعم التوبة من ستر نفسه، لكَّن سؤالاً يتبادر إلى الذهن: هذه الغامدية التي اعترفت بذنبها لرسول الله، وأَلَحَّتْ عليه حتى أقام عليها الحد، هذا ليس حكماً شرعياً بل موقفاً شخصياً، لكنها تابت توبة تسع أهل بلدٍ بأكمله، الحكم الشرعي إذا تاب الله عليك ينبغي ألا تخبر مَن هو مكلف بإقامة الحد عليك ليقام الحد عليك، لست مكلفاً أن تخبر عن نفسك، وهذا خطأ يرتكبه بعض المسلمين.
 قرأت قصة أن مذنباً ذهب إلى إمام على علم قليل جداً، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب، وطلب منه الحل، فقال هذا الإمام: لا بد أن تذهب إلى المحكمة الشرعية، وأن تعترف أمام القاضي بهذه الذنوب التي توجب الحد، ثم تقام عليك الحدود، ثم ينظر في أمرك، فلما رأى هذا المسكين أنه لا يطيق تطبيق الحدود عليه عَدَلَ عن التوبة، ورجع إلى ما كان عليه، وهذا الذي يضع العقباتِ والقيودَ أمام التائبين يدفعهم ضمناً إلى ترك التوبة، هذا الذي يضع شروطاً تعجيزية أمام التائبين يدفعهم دفعاً إلى نقض التوبة، يجب أن تحبِّب التوبة للإنسان، إذا تاب العبد توبة نصوحًا نادى منادٍ في السماء والأرض أن هنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
 أيها الأخوة: الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والهجرة تهدم ما كان قبلها، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن حج فلم يفسق ولم يرفث رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، الحج فرصة، والصيام وقيام رمضان فرصة، والتوبة فرصة، والهجرة فرصة، كلها فرص تعود من ذنوبك كيوم ولدتك أمك !.
 فهؤلاء الذين يضعون شروطاً تعجيزية أمام التائبين هم لا يعرفون الله عز وجل، الله عز وجل يريد أن يتوب عليكم، ينتظركم، هذه إرادته سبحانه في المعرضين فكيف في المقبلين؟ ينتظر من هذا المذنب أن يتوب، ويشجعه على التوبة، يزين له التوبة، يملأ صدره له انشراحاً للتوبة.

 

تحبيب الناس بالدين و الابتعاد عن الشروط التعجيزية عند التوبة :

 أيها الأخوة: حَبِّبُوا الناس إلى الله، ولا تنفِّروهم من الدين، ولا تكن يا عبدَ اللهِ منفراً، كن داعياً إلى الله عز وجل، وبطولتك مع المذنبين، هؤلاء المؤمنون التائبون المقيمون لشرع الله عز وجل هؤلاء جميعاً طرف واحد.
 أمٌّ عندها عدة أولاد أحدهم شارد، قلبها مع مَن؟ مع الشارد، هؤلاء الذين أطاعوها، واستقاموا على أمر الله عز وجل مطمئنة لهم، لكن قلبها يتألم لهذا الشارد، فمن استطاع أن يرد هذا الشارد إليها يكون قد فعل معها عملاً لا يقدَّر بثمن.
 أحد الشيوخ توفاه الله، وأنا واللِه أجِلِّه وأقدِّره، قال: يا بُنَيَّ لا تجلب لي شخصًا مِن جامع لجامع، بل مِن ملهى لجامع، مِن جامع لجامع فتنة، لكن من مكان المعصية والفجور إلى الجامع رحمة.
 فيا أيها الأخوة: بطولتك مع الطرف الآخر، كن منطقياً لطيفاً، أره من الدين الشيء الذي يُقبَل به عليه، عرفه برحمة الله، البطولة أن تأخذ بيده إلى الله لا أن تحكم عليه بالهلاك، أنت لست قاضياً ولكنك داعٍ إلى الله عز وجل.
 أيها الأخوة: يؤلمني أشد الألم عندما يقول لي أحدهم: سألت إمام مسجد، سألت مؤذِّنًا، منَ قال لك: إنَّ الإمام والمؤذن مفتيانِ؟ إذا ممَّن لم يطلب العلم فهما عاجزان عن الإجابة، وقد يكون الإمام أعلم العلماء، أنا أقول: كلُّ إنسان لم يطلب العلم فهو يرتزق بهذه الوظيفة، إنه قد يسأل إنسانًا من أجل تصليح آلة، فيبحث عن الوكالة، ويقول: أريد خبيرًا، لماذا في أمر دينك تقبل أيَّة فتوى من أي إنسان له زي ديني وقد يكون جاهلاً؟ من أجل أن تبيع البيت تسأل عشرات الأشخاص كم ثمن هذا البيت؟ كم ينبغي أن أبيعه؟ من أجل دينك هون عليك دينك، تسأل أي إنسان تراه صدفة، له زي ديني تسأله، ويجيبك، وتأخذ بإجابته، و اللهُ عز وجل: يقول:

﴿فَاسْأًلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾

[سورة الأنبياء : 7 ]

 أيها الأخوة الكرام: ما كل مَن يعملُ في الحقل الديني يصلح أن يفتي، وما كل واعظ يصلح أن يفتي، ولا كل من يعمل في الشعائر الدينية يصلح أن يفتي، وما كل أديب أو قصاص يصلح أن يفتي، وما كل من يحمل شهادة عليا يصلح أن يفتي، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:

((خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ))

[ أبو داود عَنْ جَابِرٍ]

﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾

[سورة الفرقان : 59]

﴿فَاسْأًلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾

[سورة الأنبياء : 7 ]

 كم من إنسان يُيئّسك من التوبة؟ كم من إنسان أراد التوبة ثم عدل عنها لهذه الشروط التعجيزية التي يضعها مَن هم بعيدون عن حقيقة الشريعة؟
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

النصر هو الثبات على المبدأ :

 هذه قصة أنقلها إلى مسامعكم، ففيها عبرة ؛ إنسان يطوف حول الكعبة، يدعو ربه ويقول: ربي اغفر لي، ولا أظنك تفعل، ووراءه رجل من أهل العلم، قال: يا هذا ما أشدّ يأسك من رحمة الله، قال: ذنبي كبير، قال: وما ذنبك؟ قال: كنت جندياً في قمع فتنة، فلما قمعت أبيحت لنا المدينة، فدخلت أحد البيوت، فرأيت فيه رجلاً وامرأة وولدين، فقتلت الرجل، وقلت لامرأته: أعطني كل ما عندك، أعطته كل ما عندها، فقتل ولدها الأول، فلما رأته جاداً في قتل الثاني أعطته درعاً مذهبةً مِن الذهب، فأمسكها، وتأملها، وأعجبته كثيراً، فإذا عليها بيتان من الشعر، قرأهما فوقع مغشياً عليه، البيتان:

إذا جار الأمير و حـاجباه  وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فـــــــويل ثم ويــل ثم ويــــل لقاضي  الأرض من قاضي السمـاء
***

 وأنا أقول أيها الأخوة: هؤلاء الذين يقتلون الأطفال في أماكن متعددة من العالم، يهدمون البيوت، ويرملون النساء، ويستبيحون الأعراض، وهم متغطرسون متعجرفون، هؤلاء ويل لهم ثم ويل لهم ثم ويل لهم ثم ويل لمَن يناصرهم، ولمن يعزف على أنغامهم، وويل للجوقة التي تردد أقوالهم، وويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء.
 إن كان الخيار صعباً بين أن تكون ظالماً أو مظلوماً، فالأولى أن تكون مظلوماً، لأن المعالجة انتهت، فبقي الذي لك، أما الذي يظلم الناس، ويأكل أموالهم بالباطل، ويستبيح أعراضهم، ويقتل أطفالهم، ويرمل نساءَهم، ويهدم بيوتهم كل يوم، فويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء.
أيها الأخوة: ليس الانتصار في المنظور الإسلامي أن تكتسح أرضاً، ولا أن تستبيح عرضاً، ولا أن تسلب مالاً، ولا أن تقهر شعباً، ولكن النصر أن تكون ثابتاً على المبدأ، هذا الملك الذي أراد قتل الغلام، ولم يستطع قتله، حتى قال له الغلام : إن أردتَ قتلي فخذ سهماً من جعبتي، واجمع الناس في ساحة عامة وقل: باسم الله رب الغلام، عندئذ تقتلني، فقتله الملك، وآمن الناس جميعاً برب الغلام وكفروا بألوهية الملك، ماذا فعل الملك؟ حفر أخدوداً وأحرقهم جميعاً، بالعين المجردة من الذي انتصر؟ الملك، لكن الله أثنى على هؤلاء المؤمنين، وأدخلهم جنته، وما نَقم الملك منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾

[سورة البروج: 4-9]

 ما هو النصر الحقيقي؟ أن تكون ثابتاً على المبدأ، سواء أكسبت أرضاً أم لم تكسبها، أقهرت أو لم تقهر.
 أيها الأخوة: مقياس هذا المعنى نحتاجه الآن جميعاً، يكفي أن تكون ثابتاً على مبدئك فأنت المنتصر، ونرجو الله أن يضم إلى ثباتنا على مبدئنا نصراً مادياً، كما يفهمه أهل الدنيا جميعاً، ولكن أعود وأكرر: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع إلا بتوبة.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمِنَّا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم أرنا قوتك في تدميرهم يا رب العالمين، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في بقاع الأرض كلها في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يا أكرم الأكرمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، يا رب العالمين، اللهم أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور