وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0689 - حقيقة الموت من خلال السنة الشريفة - لحظات موت سيدنا عمرو بن العاص.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيَّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أعقل إنسان من يعدّ لساعة الموت عدتها :

 أيها الأخوة الكرام... كنت في الجمعة السابقة قد وعدتكم بأن يعالج موضوع الموت من خلال السنة الشريفة، وموضوع الموت من أخطر الموضوعات لأنه مصير كل حي ، ولأن أخطر حدثٍ في مستقبل كل واحدٍ منا هو مغادرة الدنيا ، إلى أين ؟ وماذا بعد الموت ؟

(( فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ))

[الجامع الصغير عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ]

 أعقل إنسان وأذكى إنسان ، الفالح ، الناجح ، المتفوِّق ، هو الذي يعد لهذه الساعة التي لا بدَّ منها.
 أيها الأخوة الكرام... الله عزَّ وجل كتب الموت على بني آدم ، إن الله تعالى كما قال عليه الصلاة والسلام:

((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً ))

[ أحمد عن عبد الله ]

 هناك أمراضٌ لا تعد ولا تحصى ، وبعدد هذه الأمراض هناك أدوية ناجعة لها ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ، كلامٌ طيب يملأ نفس المريض أملاً بالمستقبل ، أملاً بالشفاء ، ويحث كل طبيبٍ على أن يبحث عن الدواء ، فإنه :

((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ))

[ أحمد عن عبد الله ]

 فإذا جاء مرض الموت..

إن الطبيب له علمٌ يـــــــــدلُّ به  إن كان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انتهت أيام رحلته  حار الطبيب وخانتـــــــــــــه العقاقير
* * *

 هناك ملايين الأمراض ، ولهذه الملايين المُملينة من الأمراض أدويةٌ ناجعةٌ لها ، علمه من علمه وجهله من جهله ، إلا مرض الموت فإنه لا دواء له ، لا بدَّ من مغادرة الدنيا ، لا يستطيع أحدٌ أن يُنكر حدث الموت ، ولكن الناس يتفاوتون في الاستعداد له ، وكلما نما العقل ونما الإيمان كان الاستعداد للموت أكبر ، يا بشر لا صدقة ولا جهاد فبم تلقى الله إذاً ؟

 

نمو الإيمان في قلب المؤمن يغير مفهوم كل شيء عنده :

 ليسأل كل واحد منا هذا السؤال: ماذا أعددت ليوم لقاء الله عزَّ وجل ؟ لو حصرنا الأعمال التي نمارسها كل يوم ، وبحثنا عن عملٍ نلقى الله به لوجدناها قليلة ، أعمالنا عادات ، أعمالنا حاجات ، ولكن بالإيمان القوي ، وبالإخلاص الشديد تنقلب عاداتنا عبادات ، وتنقلب أعمالنا اليومية طاعات ، فالإيمان كلما نما غَيَّرَ مفهوم كل شيء.
 أيها الأخوة... كلامٌ دقيق ، الأعمال التي نعملها جميعاً يعملها كل إنسان على وجه الأرض ، كسب الرزق ، ممارسة مهنته التي يعيش منها ، ممارسة حياته اليومية في بيته ، هذه الأعمال التي تبدو طبيعية ، عادية ، هذه الأعمال التي يفعلها الناس على وجه الأرض ، عند المؤمن تنقلب إلى عبادات وطاعات لله عزَّ وجل ، إذا عرف أن نهاية الحياة وقفةٌ بين يدي الله عزَّ وجل.

أخطر حدثٍ في المستقبل مغادرة الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام... كنت أقول دائماً: الحقيقة المرة أهون ألف مرة من الوهم المريح، هناك شدةٌ ما بعدها شدة تنتظر الإنسان الشارد عن الله عزَّ وجل ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:

((لم يلق ابن آدم شيئاً قطُّ منذ خلقه الله أشدّ عليه من الموت ، ثم إن الموت لأهون مما بعده ))

[ أحمد عن أنس ]

 كلامٌ خطير ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما ورد عنه:

((لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوةٍ أبداً ، ولا شربتم شراباً على شهوةٍ أبداً ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به ، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم، وتبكون على أنفسكم ))

[ أبو داود عن أبي الدرداء]

 البطولة أن نعيش المستقبل ، وإن أخطر حدثٍ في المستقبل مغادرة الدنيا ، لكن هذا الكلام لا ينبغي أن يوقع اليأس عند الإنسان ، إن للمؤمن حالةً عند الموت بمثابة عرسه.

((تحفة المؤمن الموت))

[ أخرجه الطبراني، وأبو نعيم، والحاكم، والبيهقي، عن ابن عمر ]

 الموت عرس المؤمن :

((وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 المؤمن مستثنى من هذه الشدة التي لا توصف ، ورد عن رسول الله أيضاً أنه:

((وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوِ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لا مَرْحَبًا وَلا أَهْلا ، أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ ، قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْتَقِيَ عَلَيْهِ ، وَتَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ ، قَالَ: وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا ، لَوْ أَنْ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا ، فَيَنْهَشْنَهُ ، وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ))

[ الترمذي عن أبي سعيد ]

 ورد في الأثر: " إن الميت إذا مات ووضع في قبره يناديه منادٍ: عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت "، وقد ورد أيضاً: " أدنى جبذات الموت بمنزلة مئة ضربةٍ بالسيف ".

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ ، فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ ))

[ الترمذي عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة... اعدلوا بين أولادكم .

 

الشريعة هي منهج الله و الإسلام هو دين الله :

 أيها الأخوة الكرام... الشرع أحق أن يتبع ، الشريعة رحمةٌ كلها ، الشريعة عدلٌ كلها، الشريعة حكمةٌ كلها ، الشريعة مصلحةٌ كلها ، فأية قضيةٍ خرجت من العدل إلى الجور ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، ومن الحكمة إلى خلافها ، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل " ، " والحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع ".
 أيها الأخوة... مثل: أعطينا طالباً مسألةً رياضية أعطيناه الجواب فإذا حلها وانتهى به الحل إلى هذا الجواب فحله صحيح ، فإذا انتهى به الحل إلى غير هذا الجواب فحله غير صحيح ، إذا فكرت في أمر، قلت: أنا أفكر تفكيراً واقعياً ، إذا فكرت في أمرٍ ما ، وهداك التفكير إلى حكمٍ شرعي فأنت على صواب ، أما إذا وصل بك التفكير إلى شيءٍ يخالف الشريعة فأنت على خطأ ولو جئت بألف دليل ودليل ، لأن الشريعة هي منهج الله ، ولأن الإسلام هو دين الله، ولأن الله سبحانه وتعالى قال على القرآن الكريم:

﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾

[ سورة فصلت: 42 ]

حال المؤمن عند الموت :

 أيها الأخوة الكرام... أما المؤمن فله حالٌ آخر عند الموت ، هكذا ورد في الحديث:

((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ ، وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ ، وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ ، فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ ، وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ ، قَالَ: فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ))

[الترمذي عن أبي سعيد ]

((... إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ ))

[الترمذي عن أبي سعيد ]

 ذكاؤنا ، وعقلنا ، وفلاحنا ، ونجاحنا ، وتفوقنا في الإعداد لهذه اللحظة التي لا بدَّ منها ، قد تأتي قريباً وقد تتأخر، وفي النهاية كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت..

و الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر  والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
* * *
كل ابن أثنى و إن طالت سلامتــه  يوماً على آلةٍ حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبـــــــــــــــور جنـازةً  فاعلم بأنك بعدها محـــــــــمول
* * *

المؤمن الحق نذر نفسه لله ولنشر الحق ولحمل هموم المسلمين :

 أيها الأخوة الكرام... لكرامة المؤمن عند الله يوفِّقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت ، ثم يقبضه إليه ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ))

[الترمذي عن أنس]

 أيها الأخوة لكرام... في القرآن آيةٌ تهز أعمق مشاعر المؤمن هي قوله تعالى:

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾

[ سورة طه : 41]

 هؤلاء السابقونَ السابقون ، هؤلاء الذين باعوا أنفسهم لله عزَّ وجل، أوقاتهم ، وأموالهم ، وقدراتهم ، وعضلاتهم ، وطلاقة لسانهم ، وعلمهم ، وذكاؤهم كله موظفٌ في سبيل الله ، هؤلاء نذروا أنفسهم لله، ولنشر الحق ، ولحمل هموم المسلمين ، فمن كانت هذه هِمَّتُهُ فهنيئاً له ، والباب مفتوحٌ لكل المؤمنين.

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾

[ سورة الحجرات: 13 ]

 دخل على النبي رجلٌ فقير فرحب به ترحيباً شديداً وهش له وبش قال:

((أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال: أو مثلي يا رسول الله ؟ قال: نعم يا أخي خاملٌ في الأرض علمٌ في السماء))

[ورد في الأثر]

ابتغاء المخلص الأجر عند الله فقط :

 أيها الأخوة الكرام... ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( ابتغوا الرفعة عند الله ))

[ ابن عدي في الكامل عن ابن عمر]

 فلو ابتغيتها عند الناس ماذا يفعل الناس ؟ لو استطعت أن تنتزع إعجابهم ماذا يفعل معك الناس ؟ لو استطعت أن تنتزع مديحهم :

(( ابتغوا الرفعة عند الله ))

[ ابن عدي في الكامل عن ابن عمر]

 أيها الأخوة الكرام... هذا شأن المخلص ، لا يبتغي أجراً ، ولا ثناءً ، ولا مديحاً ، ولا تشريفاً ، إنما يبتغي الأجر عند الله عزَّ وجل..

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾

[ سورة الإنسان : 9]

 الأعمال الصالحة كما قال الفُضَيل بن عياض لا تقبل إلا بحالتين ، إلا إذا كانت خالصةً وصواباً ، خالصةً ما ابتغي بها وجه الله ، وصواباً ما وافقت السنة.

 

نفي الوحشة عن المؤمن في القبر أو يوم النشور :

 أيها الأخوة الكرام... ولكرامة المؤمن عند الله ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في الموت ، ولا في القبور ، ولا في النشور ، ليس على أهل لا إله إلا الله ، هؤلاء الذين عرفوا الله ووحدوه ، آمنوا به موجوداً وواحداً وكاملاً ، هؤلاء الذين تعاملوا معه وحده ، هؤلاء الذين أخلصوا له ، هؤلاء الذين رأوا أنه لا رافع إلا الله ، ولا خافض إلا الله ، ولا معطي إلا الله ، ولا مانع إلا الله ، ولا مُعز إلا الله ، ولا مُذل إلا الله ، هؤلاء الذين كانوا لله ولم يكونوا لغيره ، كانوا لله ولم يكونوا لغيره ، هؤلاء الذين وحَّدوا ورأوا أن الفاعل هو الله ، وان المعطي هو الله ، وأن المانع هو الله ، وأن المُعز هو الله ، وأن المذل هو الله ، هؤلاء الذي رأوا أن الله في السماء إلهٌ ، وفي الأرض إله ، هؤلاء الذين رأوا أن الأمر يُرجع إلى الله وحده.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 هؤلاء الذين رأوا أنه:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

[ سورة فاطر : 2]

هؤلاء الذين رأوا أن الله عزَّ وجل حينما يقول:

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 26]

 هؤلاء الذين رأوا أن الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل ، هؤلاء الذين رأوا أن الله له الخلق والأمر ، هؤلاء الذين رأوا أن يد الله فوق أيديهم ، هؤلاء الذين اخترقوا الصور إلى الحقائق ، هؤلاء الذين اخترقوا النِعَم إلى المُنعم ، هؤلاء الذين رأوا أن يد الله وحدها تعمل ، هؤلاء الذين وحَّدوا ، هؤلاء الذين أخلصوا ، هؤلاء ليس عليهم وحشةٌ في قبورهم ، ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في الموت ، ولا في القبور ، ولا في النشور ، الموت ونحن على فُرُش الموت ، ولا في القبور ، ولا في النشور ، كأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.

 

من زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز فوزاً عظيماً :

 أيها الأخوة الكرام... الشعور بالفوز ، الشعور بالنجاح ، الشعور بالتفوّق لا يعدله شعور ، والتفوق الحقيقي ، والفوز الحقيقي ، والفلاح الحقيقي ، والنجاح الحقيقي حينما يزحزح الإنسان عن النار ويدخل الجنة..

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 158]

 الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له، السباق في الدنيا سباقٌ أحمق لأن الموت ينهي كل شيء.
 أيها الأخوة الكرام... هذا لسان حال المؤمنين عند الموت ، وعند القبر ، وعند النشور ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، الدنيا كلها أحزان ، إن هذه الدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام:

((دار التواء لا دار استواء- لا تستوي لأحد ، لا تأتي كما يتمناها الإنسان- ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي ))

[ من كنز العمال عن ابن عمر ]

 ولكرامة المؤمن عند الله ، يقول عليه الصلاة والسلام:

((أَرْبَعَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ، مُرَابِطٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلا أُجْرِيَ لَهُ مِثْلُ مَا عَمِلَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَجْرُهَا لَهُ مَا جَرَتْ ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا فَهُوَ يَدْعُو لَهُ))

[أحمد عن أبي أمامة الباهلي]

 هذه الأعمال لا تنتهي عند الموت تستمر إلى الأبد.

 

رحمة الله بالمؤمنين :

 يا أيها الأخوة الكرام... معنى دقيقٌ جداً ورد في حديثٌ قدسي أخرجه الإمام البخاري عن أبي هريرة ، هذا المعنى الدقيق يبين رحمة الله بالمؤمن ، يقول الله عزَّ وجل:

((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ¬- هذا يحتاج لوقت آخر لشرحه ، أما الذي يعنينا من هذا الحديث فدققوا الآن - وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 أي أن الله عزَّ وجل أراد أن يعرفنا برحمته بالمؤمن ، يقول: يكره الموت وأنا أكره مساءته ، لذلك الموت للمؤمن رحمة ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولله المثل الأعلى ، أبٌ طبيب يعاني ابنه من مرضٍ مؤلمٍ جداً ، لا بدَّ من عمليةٍ جراحية ، فالأب يكره لابنه هذه العملية ولا بد منها كي يرتاح ، كي يرتاح من هذه الآلام المضنية.

((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

العاقل من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً ليكون حسابه يوم القيامة يسيرا ً:

 أيها الأخوة الكرام... عودٌ على بدء ، العاقل ، والذكي ، والفالح ، والناجح ، والمتفوِّق ، والشاطر بالتعريف الشائع ، يقول عليه الصلاة والسلام:

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

 أي ضبطها ، حملها على طاعة الله ، حاسبها حساباً عسيراً ، حاسبها في الدنيا حساباً عسيراً ليكون حسابه يوم القيامة يسيراً:

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

 الأماني بضائع الحَمْقَى ، كل الناس تقريباً يقولون : اللهم اجعلنا من أهل الجنة ، دعاء طيب ، ودعاء وارد عن رسول الله ، ولكن إن لم يقدِّم العمل الذي يتناسب مع الجنة فهو يستهزئ ، طلب الجنة من دون عملٍ ذنبٌ من الذنوب :

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[الترمذي عن شداد بن أوس ]

اتصال نعم الدنيا بنعم الآخرة عند كل مؤمن :

 أيضاً أيها الأخوة الكرام... لكرامة المؤمن عند الله ، قال عليه الصلاة والسلام:

((ما أنعم الله عزَّ وجل على عبدٍ نعمةً في أهلٍ ومالٍ وولد فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيها آفةٌ دون الموت))

[ العدة للكرب والشدة لضياء الدين المقدسي عن أنس بن مالك ]

 أي يحفظها الله له إلى أن يلقى الله عزَّ وجل ، أية نعمةٍ أنعم الله بها عليك كلما تذكرتها قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، هذه النعمة لن تتحول عنك إلى أن تلقى الله عزَّ وجل.
و هناك شيءٌ دقيقٌ جداً هو أن المؤمن لكرامته عند الله تتصل عنده نعم الدنيا بنعم الآخرة .

 

سكرات الموت كفارةٌ لكل مسلم :

 ورد في الأثر أنه: " إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد "
 الإنسان لا يُعطي إلا عند التحقيق ، أما ربنا عزَّ وجل فيعطي وأنت في أول الطريق ، من جاءه الموت وهو يطلب العلم مات وهو شهيد ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن:

((الموت كفارة لكل مسلم))

[ شعب الإيمان للبيهقي ومسند الشهاب للقضاعي ]

 أي أن سكرات الموت كفارةٌ لكل مسلم .
ويا أيها الأخوة الكرام... إذا وصلنا إلى شفير القبر ، وقد غفر الله لنا فنحن من السعداء ، لذلك المؤمن حينما يرى مقامه في الجنة ، عندما تأتيه سكرات الموت يقول: لم أر شراً قط ، لو أن حياته مفعمةٌ بالمصائب، وجاءه ملك الموت ورأى مقامه في الجنة يقول: لم أر شراً قط ، ولو أن الكافر بعد أن رأى مكانه في النار صاح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصعقوا بها.
 أيها الأخوة الكرام... هذا حال المؤمن عند الموت ، وقبل هذه الفقرة حال الإنسان الشارد عند الموت .

 

توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام عن الموت :

أما توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام فقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:

((لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ))

[البخاري عن أنس بن مالك ]

 ينهى النبي عن أن تتمنى الموت :

((لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي))

[البخاري عن أنس بن مالك ]

 هذا هو الدعاء النبوي الذي أمرنا به ، والدعاء الذي ندعوه دائماً:

((اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر))

 وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(( فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ))

[ الترمذي عن أبي سعيد ]

 أكثروا الأمر ينصب لا على الذكر بل على الإكثار ، أكثر ذكر الموت كي تستعد له ، أكثر ذكر الموت كي تتوب إلى الله من توِّك ، أكثر ذكر الموت كي تعمل صالحاً ، أكثر ذكر الموت كي لا تخرج عن منهج الله عزَّ وجل ، أكثر ذكر الموت كي لا تأكل مالاً حراماً ، أكثر ذكر الموت كي لا تعتدي على حقوق الإنسان.

 

ذكر الموت يدفع الإنسان إلى الله بسرعة كبيرة :

 يا أيها الأخوة الكرام... لا تتوهموا أن ذكر الموت يدعو إلى التشاؤم ، ذكر الموت له معنى إيجابي ، أنت تركب مركبة على طريق ، هناك خطران ، الخطر الأول لا سمح الله ولا قدَّر أن تنحرف عن الطريق فتدهور السيارة ، والخطر الثاني أن يحترق المحرك فتقف ، الموت يقي الوقوف والانحراف ، المعنى الإيجابي للموت أن الإنسان إذا أكثر من ذكر الموت ، هذا الإكثار من ذكر الموت يمنعه من أن ينحرف ، يمنعه من أن يعصي الله ، يمنعه عن أن يأكل مالاً حراماً ، يمنعه عن أن يعتدي على حقوق مخلوق.
 والموت أيضاً إذا أكثرت من ذكره يدفعك إلى الله بسرعةٍ كبيرة ، يمنعك عن أن تتباطأ ، فهذا هو المعنى الإيجابي ، المؤمن يجتهد ، وينال أعلى الشهادات ، ويؤسس مشروعاً، دون أن يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل ، هذا المعنى لا يثبِّط عزيمة الإنسان ، ولا يحول بين الإنسان والتفوق والعمل ، ولكنك إذا آمنت أنه لا بدَّ من وقفةٍ تقفها بين يدي الله عزَّ وجل ، تستقيم على أمره ، وتأخذ الذي أباحه لك ، وتفعل الخير ، وهذا هو النجاح الحقيقي في الحياة.

 

كراهية ابن آدم لشيئين الموت و الفقر :

 والنبي عليه الصلاة والسلام يبين أن ابن آدم يكره شيئين ، الموت.. دققوا.. والموت خيرٌ له من الفتنة ، فالفتنة أن يفتن في الدنيا ، أن يعصي الله ، أن يرتكب الفواحش ، أن يأكل المال الحرام ، الموت خيرٌ ألف مرة من الفتنة في الدنيا ، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾

[ سورة البقرة: 191 ]

 كلام على سبيل المثال : هذا الإنسان الجاهل الذي قُدَّ قلبه من صخر ، حينما يأتي بفتاةٍ كالوردة يحفر لها حفرة ويدفنها وهي حية ، ماذا قال الله عن ذلك:

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾

[ سورة التكوير : 8-9]

 ما مصير هذه الفتاة الصغيرة ؟ إلى الجنة ، ليس لها ذنب ، إلا أن أباها كان قاسي القلب خاف الفضيحة والعار فدفنها ، وهذا من أشد أنواع الظلم ، استعدوا للموازنة ، لو أن أباً أطلق لابنته العنان ، وجعلها ترتدي ما تشاء من الثياب ، وجعلها تظهر مفاتنها للناس كما تتمنى ، ولا يحاسبها أينما ذهبت ، ولا من أين أقبلت ، ففسدت ، وانحرفت ، وطغت ، وبغت ، وأثارت فتنةً ، ثم ماتت البنت ومات الأب ، وكان يوم القيامة تقول: يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي ، أيهما أشد على هذه البنت أن تقتل أم أن تفتن ؟ قال تعالى:

﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾

[ سورة البقرة: 191 ]

 يا أيها الأخوة الكرام... يكره الإنسان الموت والموت خيرٌ له من الفتنة.

((إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا ، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا))

[الترمذي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ]

 أيها الأخوة الكرام... ويكره قلة المال ، وقلة المال أقل للحساب ، الإنسان يكره الموت ويكره الفقر ، الموت إذا منعك عن فتنةٍ فهو خيرٌ لك، والفقر إذا كان أودى بك إلى حسابٍ مع الله يسير كان خيراً لك ، وقد ورد في صحيح البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال:

((أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ وَيَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى...))

[متفق عليه أسامة بن زيد]

موقف المؤمن من موت أقربائه موقف متوازن :

 الآن المؤمن موقفه من موت أقربائه موقفٌ متوازن ، هذا قضاء الله وقدره ، وهذا أمر الله ، وهذا الأجل الذي وعِدَ به هذا الإنسان ، لذلك لا يندب ، ولا يمزِّق الثياب ، ولا يصرخ بالويل ، ولا يظهر انهياراً ، يظهر تماسكاً ، قل لها:

((إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ ، وَلْتَحْتَسِبْ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ ، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ ، قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))

[متفق عليه أسامة بن زيد]

الموت أكبر رادع للإنسان :

 والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((شوبوا مجلسكم بمكدر اللذات الموت))

[ابن أبي الدنيا في الموت مرسلا]

 أي أن الإنسان يذكر الموت ، أخ له سهرة أسبوعية ، وهذه السهرة بقيت سنوات طويلة كل سبت ، في إحدى هذه السهرات قال لأصدقائه : أنا لن أموت قريباً ، معي أمدٌ طويل حتى أموت ، سئل لماذا ؟ قال : لأن صحتي معتدلة ، وجسمي رشيق ، ولا أدخن ، وأمشي كثيراً ، والأمور لا أحمِّلها فوق ما أطيق ، هذا كلام طيِّب وكلام صحيح ، في السبت التالي كان تحت الأرض ، كان مدفوناً تحت الأرض ، فالإنسان في أي جلسة إذا ذكر شيئاً عن الموت ، الموت أكبر رادع ، بل إن الإنسان إذا شكا من نفسه رعونتها وتفلتها عليه أن يذكرها بالموت ، وفي حديثٍ آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا ، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ))

[ابن ماجة عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ]

 زُر إحدى المقابر ، هؤلاء الذين تحت الأرض كانت لهم أعمال ، وكانت لهم آمال، وعندهم جداول أعمال ، وعندهم تشطيبات ، وهذه فعلوها ، وهذه لم يفعلوها ، ثم جاء الموت فألغى كل شيء ، أحياناً نجد جمجمة في مخبر ، في جامعة ، هذه الجمجمة كانت إنساناً ، ماذا كان يعمل ؟ ألم يكن له أهداف وكانت له آمال وطموحات ؟ أين هو الآن ؟ هو جمجمة.

 

من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت :

 أيها الأخوة الكرام ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ، كم من إنسان له أمل لعشرين عاماً وتوفي من يومه ؟ فإذا قال أحدنا : غداً سأفعل كذا ، لا يعرف الموت ، وأنت في أتمّ الصحة ، وأنت في أتمّ النشاط ، والقلب ينبض ثمانين نبضة ، والضغط اثنا عشر على ثمانية ، وكل التحليلات صحيحة ، وأنت في أوج صحَّتك ، قد يأتي الموت ، ويأخذك إلى الدار الآخرة في ثانيةٍ واحدة ، هذه حقيقة ، لذلك من عدّ غدا من أجله فقد أساء صحبة الموت ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((استعد للموت قبل نزول الموت))

[الطبراني عن طارق بن عبد الله المحاربي]

 كما لو أن أستاذاً قال لطلاَّبه: استعدوا للامتحان قبل الامتحان ، فلو جاء الامتحان ولم يكن الطالب مستعداً له ، ماذا يفيده إيمانه بالامتحان ؟ انتهى كل شيء ، وقد ورد عن رسول الله صلى عليه وسلم:

((اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاء))

[الترمذي عَن عبد الله بن مسعود ]

وظائف الموت :

 أخواننا الكرام... الموت له وظيفة عجيبة ، له وظيفة مزدوجة ، قال:

((أكثروا ذكر هاذم اللذات ، الموت ، فإنه لم يذكره أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسعه الله عليه ، ولا ذكره في سعةٍ إلا ضيقها عليه))

[ البزار عن أنس ]

 فالإنسان مهما اعتنى بدنياه مصيره إلى الموت ، وهو المثوى الأخير ، فإذا كان في بحبوحةٍ وحملته هذه البحبوحة على الغرور ، وعلى أن يستعلي على الناس فالموت يحجِّمه ، وإذا كان في ضيقٍ وحمله الضيق على اليأس والتطامن ، فالموت يقوِّي من معنوياته ، الموت وعد الله عزَّ وجل.

 

أدعية للنبي عليه الصلاة والسلام حول الموت :

 أيها الأخوة الكرام النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، هو نفسه كان يدعو ويقول:

((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ، أَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ))

[الترمذي عن عائشة ]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

((الموت فزع فإذا بلغ أحدكم وفاة أخيه فليقل: إنا لله ، وإنا إليه راجعون ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم اكتبه عندك في المحسنين ، واجعل كتابه في عليين ، واخلفه في أهله في الغابرين ، ولا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده))

[عمل اليوم والليلة لابن السني عن ابن عباس ]

 أيها الأخوة الكرام من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام:

((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي ، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين))

[النسائي عن عطاء بن السائب عن أبيه ]

 أيها الأخوة الكرام... حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لحظات موت سيدنا سعد بن أبي وقاص :

 أيها الأخوة الكرام... صورة من سِيَر الصحابة الكرام ، سيدنا عمرو بن العاص صحابيٌ جليل وله عند الله مقامٌ كبير ، وقد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الآن على فراش الموت ، ولنستمع إلى قصته ، يقول هذا الصحابي الجليل وهو على فراش الموت: (كنت أول أمري كافراً ، وكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو مِتُّ يومئذٍ لوجبت لي النار ، ثم بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان في الناس أحدٌ أحبُّ إليَّ منه ، ولا أجلّ في عيني منه ، ولو سئلت أن أدعه ما استطعت ، ولو سُئلت أن أصفه ما استطعت ، ولو سُئلت أن أنعته ما استطعت ، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، فلو مت على هذه الحال فأرجو الله أن أكون من أهل الجنة ، ثم بُليتُ بعد ذلك بالسُلطان ، وبأشياء لا أدري أهي لي أم علي ، ثم رفع بصره إلى السماء في ضراعة مُناجياً ربَّهُ الرحيم العظيم قائلاً: اللهم لا بريء فأعتذر ولا عزيز فأنتصر ، وإلا تدركني رحمتك أكن من الهالكين) ، وظل في ضراعته وابتهالاته حتى صعدت روحه إلى الله ، وكانت آخر كلماته لا إله إلا الله.
 إذا كان هذا الصحابي الجليل الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وأحبه أشد الحب ، وأعانه كل المعاونة ، وباع نفسه في سبيل الحق ، ثم شعر أنه ليس كما ينبغي أن يكون ، كان هذا حاله ، فكيف حال الواحد منا إذا كان مُقَصِّراً ؟ مقصراً في أداء واجباته ، مقصراً في طلبه للعلم ، مقصراً في فهم القرآن ، يأكل المال الحرام ، يعتدي على أعراض الناس، كيف حال هذا الإنسان عند شفير القبر أو عند مغادرة الدنيا ؟

الموت موضوع مصيري يمس كل الناس :

 أيها الأخوة الكرام... هذا موضوعٌ خطيرٌ جداً ، وموضوعٌ مصيري ، هناك موضوعات تمس بعض الناس ، ولكن هناك موضوعات تَمَسُّ كلَّ الناس حصراً ، وموضوع الموت لا يمكن أن يقول أحدٌ من الحاضرين ولا من غير الحاضرين: أنا لا شأن لي بهذا الموضوع ، لو تحدثنا عن الحج ، وكان الإنسان فقيراً ، فيقول لك: أنا لست مستطيعاً ، ليس عليّ الحج ، لو تحدثنا عن دعوةٍ كبيرة عن الله يقول لك : أنا ما تعلمت ، أنا حسبي أن أكون عابداً لله ، أما إذا تحدثنا عن الموت ، لا يستطيع إنسانٌ كائناً من كان أن يقول : ليس لي علاقةٌ بهذا الموضوع ، هذا موضوع مصيري ، كل مخلوقٍ سيموت ؛ مهما علا شأنك ، ومهما جَلَّ قدرك ، ومهما كبر اسمك ، ومها قل شأنك ، أبداً.. كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت..
 أيها الأخوة الكرام... أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الموضوع المؤصَّل طريقاً لنا إلى الله ، وحاجزاً لنا عن معاصي الله ، ودافعاً لنا إلى طلب رحمة الله.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور