وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 1094 - بعض حكم مناسك الحج - أخي في الله أخبرني متى تغضبْ ؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أمناء دعوته وقادة ألويته و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

التَّلْبِيَةُ اسْتجابة لِنِداءٍ ودعْوةٍ يقعان في قلب كل مؤمن :           

     أيها الأخوة الكرام، يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخَلِّف في بلْدته هُموم المعاش والرّزق، هموم العمل و الكسْب، هموم الزوجة والولد، هموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحْرِمَ من الميقات يبْتعد عن الدنيا كليًّاً، ويتجرَّد إلى الله عز وجل، ويقول: لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، هذه التَّلْبِيَةُ كأنّها اسْتجابة لِنِداءٍ ودعْوةٍ يقعان في قلبه، أنْ يا عبدي خلِِّّ نفسكَ وتعال، تعال يا عبدي لأُريحَكَ من هُموم كالجبال، تجْثم على صدرك، تعال يا عبدي لأُطهّرك من شهواتٍ تُنَغِّصُ حياتك:

إلى متى أنت باللّذات مَشغول      وأنت عن كلّ ما قدَّمْت مسؤول
***

     تعال يا عبدي وذُقْ طعْم محبّتي، تعال يا عبدي وذُقْ حلاوة مناجاتي، لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي لأريَك من آياتي الباهرات، تعال يا عبدي لأُرِيَكَ ملكوت الأرض والسماوات، تعال يا عبدي لأُضيء جوارحك بِنُوري الذي أشْرقَت به الظلمات، تعال لأَعْمُرَ قلبكَ بِسَكينةٍ عزَّتْ على أهل الأرض والسماوات، تعال يا عبدي لأملَكَ نفسك غِنىً ورضا شَقِيَتْ بفقْدِهما وشقيت بفقدهما نفوسٌ كثيرات، تعال يا عبدي لأخرجَك من وُحول الشَّهوات إلى جنّات القربات، تعال يا عبدي لأُنْقذك من وَحْشة البُعد إلى أُنس القرب، تعال لأُخلّصك من رُعْب الشّرك وذلّ النّفاق إلى طمأنينة التوحيد، وعِزّ الطاعة لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي لأنقلك من دُنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنّة قربي، تعال يا عبدي وحُطّ همومك ومتاعبك ومخاوفَكَ عندي فأنا أضْمنُ لك زوالها، تعال يا عبدي واذْكُر حاجاتك وأنت تدعوني وأنا أضْمنُ لك قضاءها، إنّ بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوّارها هم عمّارها، فطُوبى لِعَبْد تطهّر في بيته ثمّ زارني، وحُقّ على المزور أن يُكْرم الزائر.

 

دعوة الله تعالى كل حاج إلى زيارة بيته الحرام ليسعد بهذا اللقاء و تنزاح عنه الهموم : 

     كيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات ؟ وتجشَّمْت المشقات، وتحمَّلْت النفقات، وزرْتني في بيتي الحرام، ووقفْتَ بِعَرفة تدعوني، وتسْترضيني، لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي وزرْني في بيتي، لِتَنْزاحَ عنك الهموم، ولِتُعايِنَ الحقائق، ولِتَسْتعِدَّ للّقائي:

(( إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري]

     تعال يا عبدي وطُفْ حول الكعبة طواف المحبّ حول محبوبه، واسْعَ بين الصفا و المرْوَة سعْيَ المُشْتاق لِمطلوبه، تعال يا عبدي وقبِّلْ الحجر الأسْوَد، يميني في الأرض، وازْرِف الدَّمْع على ما فات من عمُرٍ ضيَّعْتهُ في غير ما خُلقْت له، وعاهدني على ترك المعاصي، والمخالفات، وعاهدني على الإقبال على الطاعات والقربات، وكن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تُعْلمْني بما يُصْلحُكَ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفَيْتُكَ ما تريد، وإن لم تُسَلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثمّ لا يكون إلا ما أريد.

 

نفحات الإيمان في الحج تشيع في النفس الأمن و الطمأنينة :

     أيها الأخوة الكرام، هذا لسان الحاج الصادق وهو يقول، لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة، ولك عليّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً، لبّيْك اللهمّ لبّيْك، لبّيْك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم عرفة يوم اللّقاء الأكبر، تعال لِتَتَعَرَّض لِنَفْحةٍ من نفحاتي تُطَهِّرُ قلبك من كلّ درَنٍ وشهوة، وتُصفّي نفسكَ من كلّ شائبةٍ وهمّ، هذه النفحات تملأُ قلبك سعادةً وطمأنينة، وتشيع في نفسك سعادةً لو وُزِّعَت على أهل بلدٍ لكفتْهم، عندئذٍ لا تندم وأنت في عرفات إلا على ساعة أمْضيْتها في القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، تعال إلى عرفات، يوم عرفة لِتعرف أنَّك المخلوق الأوّل من بين كلّ المخلوقات، ولك وحدك سُخِّر الأرض والسماوات، وأنّك حمِّلْت الأمانة التي أشْفقَتْ منها الجبال والأرض والسماوات، وأنِّي جئْتُ بك إلى الدنيا لِتَعرفني، ولِتَعْمل عملاً صالحاً يؤهِّلُكَ لِجَنَّة الخلد، تعال إلى عرفات لِتَعرف إنَّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأنَّك إن وجدْتني وجَدْت كلّ شيء، وإن فتُّكَ فاتَكَ كلّ شيء.

من ذاق روعة اللقاء و حلاوة المناجاة في عرفات تصبح الآخرة أكبر همّه :

     أيها الأخوة الكرام، وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات من خلال دعائه وإقباله واتِّصاله روْعَةَ اللّقاء وحلاوَة المناجاة ينغمسُ في لذّة القرب، عندئذٍ تصغر الدنيا في عَيْنَيْه، وتنتقل من قلبهِ إلى يديه، وتصبحُ أكبر همِّه الآخرة، فيسْعى إلى مقْعد صِدٍْق عند مليك مُقْتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات أنّ كلّ شيء ساقهُ الله له، مما يكرهه هو محض عَدلٍ، ومحْضُ فضلٍ، ومحض رحمةٍ، و يتحقّق من قوله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾

( سورة البقرة )

الرّمْي تعبير مادِّي وعهْد موثَّق في عداوَة الشيطان ورفض لِوَساوِسِهِ :

     بعد أن يفيض الحاجّ من عرفات، وقد حصَلَتْ له المعرفة واستنار قلبهُ، وصحَّت رؤيتُه، يرى أنَّ السعادة كلّها في طاعة الله، وأنّ الشّقاء كلّه في معصيته، عندئذٍ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يعد أولياءه بالفقر إذا أنفقوا ويُخَوِّفهم ممَّا سِوَى الله إذا أنابوا وتابوا، ويَعِدُهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ﴾

( سورة إبراهيم )

     عندئذٍ أيها الأخوة يُعَبِّرُ الحاجّ عن عداوة الشيطان تعبيراً رمزيًّاً بِرَمْي الجِمار ليَكون الرّمْي تعبيراً مادِّياً، وعهْداً موثَّقاً في عداوَة الشيطان، ورفضاً لِوَساوِسِهِ وخطراته، يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: اعلم أنّك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان وتقصم ظهره، ولا يحصل إرْغام أنفهِ إلا بامتِثالِكَ أمْر الله تعالى.

 

الهدْي هديّة إلى الله عز وجل تعبيراً عن شُكر الإنسان ربه على نعمة الهدى :

     حينما يتَّجِهُ الحاجّ لِسَوق الهَدي، ونحْر الأضاحي وكأنَّ الهدْي هديّة إلى الله عز وجل تعبيراً عن شُكرهِ لله تعالى على نعمة الهدى التي هي أثْمنُ نعمةٍ على الإطلاق، وكأنّ ذبْح الأضحيَة ذبحٌ لِكُلّ شهْوةٍ لا ترضي الله، وكل رغبةٍ تسخط الله عز وجل، وتضحية بكلّ غالٍ ورخيص، ونفْسٍ ونفيس في سبيل مرضاة الله ربّ العالمين، قال تعالى:

﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) ﴾

(سورة الحج)

اتجاه الحجاج إلى المدينة المنورة أحبّ بلاد الله إلى الله بعد الانتهاء من مناسك الحج :

     ثمّ يكون طواف الإفاضة تثْبيتًا لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثمّ يطوف طواف الوداع لِيَنطلقَ منه إلى بلده إنساناً آخر اسْتنارَ قلبه بِحَقائق الإيمان، وأشْرقَت نفسهُ بِأنوار القُرْب، وعقدَ العزْم على تحقيق ما عاهَدَ الله عليه، وإذا صحَّ أنَّ الحجّ رحلةٌ إلى الله، فإنَّه يصِحّ أيضاً أنَّه الرحلةٌ قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفْضِيَة إلى جنّة عرضها السماوات والأرض.
     وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحبّ بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي ))

[الطبراني عن ابن عمر]

طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله :

     أيها الأخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) ﴾

(سورة النساء)

     الإمام القرطبي يشرح هذه الآية ويقول ليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
     وقد أورد المفسر الكبير جمال الدين القاسمي في تفسير هذه الآية: أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي صلوات الله عليه، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه، من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله أولاً وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتم التوبة إلى بالله، ولا تُقبل إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، ورفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم عين معصية الله، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله.

 

إرضاء رسول الله عين إرضاء الله وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله :

     يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى:

﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾

(سورة التوبة)

     ضمير المفرد، إذاً إرضاء رسول الله عين إرضاء الله وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله.
     وقال تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) ﴾

(سورة النساء)

     وفي قوله تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

(سورة آل عمران)

حبّ النبي الكريم سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم :

     أيها الأخوة الكرام، لعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:

(( من جاءني زائراً، لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ))

[أخرجه الطبراني عن ابن عمر]

     أيها الأخوة الكرام، وإن شئت الدليل القرآني قال تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

( سورة التوبة الآية: 103 )

 

حبّ النبي الكريم حقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة :

     قال الإمام الرازي: إن روح محمد صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية، صافية، مشرقة، باهرة، لشدة قربه من الله، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جلّ وعلا، فإذا ذكره أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير فاضت آثار هذه المحبة والتقدير من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) ﴾

( سورة الأحزاب )

     رُوي أن بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى في منامه وهو بالشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده كثيراً، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما وجعل يضمهما، ويقبلهما فقالا : نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه، ولما بدأ بقوله: الله أكبر، وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
     لقد صدق أبو سفيان رضي الله عنهم حينما قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
     وهذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))

[ متفق عليه عَنْ أَنَسٍ]

من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له :

     أيها الأخوة الكرام، هذه بعض حكم مناسك الحج، والذي يؤسف أشد الأسف أنه يأتي الحاج ليحدثك عن كل شيء في الحج إلا الحج، أين نفسه ؟ أين مشاعره ؟ أين صلحه مع الله ؟ أين إقباله على الله ؟ أين سكينته التي منّ الله بها عليه ؟
     من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له.
     أيها الأخوة الكرام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حجاً مقبولاً، حجاً كما أراد الله جل جلاله، حجاً فيه توبة نصوح، فيه إقبال على الله عز وجل.
     أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخــطــبـة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى صحابته الغر الميامين، و على آل بيته الطيبين الطاهرين.

متى تغضب ؟

     أيها الأخوة الكرام، تنازعت عندي موضوعات شتى قبل أن آتي إليكم، الموضوع المهم جداً موضوع الحج ونحن على مشارف الحج، والموضوع الساخن الذي ترونه، لذلك أذكركم بأبيات من الشعر عنوانها: متى تغضب ؟ افتتاح فندق في بلد يكلف مئة مليون دولار، وطفل يموت لأن المنفسة توقفت بلا كهرباء، هذه المفارقة في العالم الإسلامي ألا تثير الغضب ؟ فهذا الذي نظم هذه الأبيات قال:

أخي في الله أخبرني متى تغضبْ ؟
إذا انتهكت محارمنا
إذا نُسفت معالمنا، ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتنا، إذا ديست كرامتنا
إذا قامت قيامتنا، ولم تغضبْ
فــأخبرني متى تغضــبْ ؟

     يموت أبناء غزة تحت سمعنا وبصرنا، يموت الأطفال:

إذا نُهبت مواردنا، إذا نكبت معاهدنا
إذا هُدمت منازلنا، إذا قطعت طرائقنا
وظلت قدسنا تُغصبْ
ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ ؟
عدوي أو عدوك يهتك الأعراض
يعبث في دمي لعباً
إذا لله.. للحـــرمات.. للإسلام لم تغضبْ
فأخبـــرني متى تغضبْ ؟!
رأيتَ هناك أهوالا
رأيتَ الدم شلالاً
رجالاً شيعوا للموت أطفالاً
رأيتَ القهر ألواناً وأشكالاً
ولم تغضبْ
فأخبـــرني متى تغــضبْ ؟
فصارحني بلا خجلٍ.. لأية أمة تُنسبْ ؟!

 

     في حصار عربي إسرائيلي :

فصارحني بلا خجلٍ.. لأية أمة تُنسبْ ؟!
فلست لنا، ولا منا، ولست لعالم الإنسان منسوبا
ألم يحزنك ما تلقاه أمتنا من الهول ؟
ألم يخجلك ما تجنيه من مستنقع الوحل؟
وما تلقاه في دوامة الإرهاب والقتل ِ
ألم يغضبك هذا الواقع المعجون بالذلِ
وتغضب عند نقص الملح في الأكلِ!!
ألم يهززك منظر طفلة ملأت
مواضعَ جسمها الحفرُ
ولا أبكاك ذاك الطفل في هلعٍ
بظهر أبيه يستترُ
فما رحموا استغاثته
ولا اكترثوا ولا شعروا
فخـــرّ لوجهه ميْتـــاً
متى التوحيد في جنبَيْك ينتصرُ؟
أتبقى دائماً من أجل لقمة عيشكَ
المغموسِ بالإذلال تعتذرُ؟
متى من هذه الأحداث تعتبرُ؟ متى تغضب ؟
***

     أيها الأخوة الكرام، ادعوا لأخوتنا في غزة، الدعاء مقبول وتمنوا أن تقدموا لهم كل ما تستطيعون، ونية المؤمن خير من عمله، لكن نحن في محنة شديدة أيها الأخوة، محنتنا أننا ابتعدنا عن الله وماتت في نفوس الأمة كل معاني الشهامة والبطولة:

ربّ وامعتصماه انطلقت      ملء أفواه الــبنات اليتم
لامست أسماعهم لـكنها      لم تلامس نخوة المعتصم
* * *

الدعاء :

     اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور