وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0865 - قصة امرأة عمران .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارا بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

اصطفاء الله آل إبراهيم وآل عمران على العالمين :

 أيها الأخوة المؤمنين: يحتفل العالم اليوم أو قبل يومين بمولد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فمن أين بدأت قصة هذا النبي الكريم؟ لقد وردت قصته في سورة آل عمران، فالله سبحانه وتعالى يقول:

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 33]

 اصطفى آدم بشخصه، واصطفى نوحاً بشخصه، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، وحينما يصطفي الله شخصاً أو آلاً معنى ذلك أنهم من خيرة الخلق، فالأنبياء في الأصل هم قمم البشر، وللأنبياء مهمتان كبيرتان، مهمة التبليغ ومهمة القدوة، ولعل مهمة القدوة أعظم وأكبر من مهمة التبليغ، لأن الذين يتحدثون في الفضيلة كثيرون لكن الذين يعيشون مضمون دعوتهم قليلون، لذلك فعل الأنبياء ما يفعله مليون مصلح اجتماعي.
 أيها الأخوة الكرام:

﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة آل عمران : 34]

 بدأت قصة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حينما قالت امرأة عمران:

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 يستوقفنا في هذه الآية السؤال التالي: هل قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم مقصودة لذاتها أم مقصودة لغيرها؟ أي هل أراد الله سبحانه وتعالى أن نعلم عما جرى من قبل أن تكون قصة ليست غير أم أرادها الله أن تكون درساً لنا إلى يوم القيامة؟ ما موقف المؤمن من قول هذه السيدة الكريمة؟

﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 هل قدمت لله شيئاً؟ هل قلت: إن اختصاصي يا رب في خدمة الدعوة؟ هل أردت أن تربي ابنك ليكون عالماً ليدعو الله؟ هل أردت أن تستخدم مالك في سبيل الله؟ هل خصصت شيئاً تلقى الله به؟ كيف نلقى الله يوم القيامة وقد غمرنا في الحياة الدنيا في مصالحنا وشهواتنا؟

 

على كل إنسان أن يبحث عن شيء يقدمه لله خالصاً لوجهه :


 أيها الأخوة الكرام: الله عز وجل من خلال هذه الآية يعلمنا، ما الذي تقدمه بين يدي الله يوم القيامة؟

﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 هذه المرأة لا تملك إلا هذا الجنين في أحشائها، أرادت أن تهبه للمعبد، أرادت أن يكون ذكراً، وأن يكون في خدمة عباد الله، وفي خدمة المعبد:

﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 أيها الأخوة الكرام: هل منا واحد لا يملك شيئاً؟ لا يملك نطقاً؟ لا يملك كلاماً؟ لا يملك خبرةً؟ لا يملك مالاً؟ لا يملك ولداً؟ فهذه السيدة الكريمة نذرت لله ما في بطنها محرراً، لا تبتغي به عرض الحياة الدنيا، لا تبتغي به لا سمعة ولا افتخاراً ولا ما شاكل ذلك، أرادته أن يكون خالصاً لله عز وجل، كم من الآباء المسلمين يسعون ليكون أولادهم في خدمة هذا الدين؟ يريدونهم أعلاماً في الدنيا، ولا يعبؤون بدينهم ولا بصلاتهم ولا بعقيدتهم، يريدونهم متفوقين في دراستهم، ومتفوقين في جمع مالهم، يفتخرون بهم لا على أنهم دعاة إلى الله، ولا على أنهم يؤمنون بالله الإيمان الحق، ولكن يفتخرون بهم، بمكانتهم الدنيوية، هذه السيدة الكريمة قالت:

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 أيها الأخوة الكرام: بإمكانك في هذه اللحظة أن تعقد العزم على أن تهيئ ابنك ليكون داعية لله عز وجل؟ بإمكانك أن تعقد العزم على أن تجعل من حرفتك في خدمة المسلمين؟ بإمكانك أن تعقد العزم على أن تجعل جزءاً من مالك في تقوية المسلمين؟ ماذا نذرت لله عز وجل؟ ماذا قدمت بين يدي الله عز وجل؟ ماذا أراد الله من هذه القصة؟ أراد أن نعلم أن هناك امرأة اسمها امرأة عمران نذرت ما في بطنها محرراً، ولكن الله أرادنا أن نتعظ من هذه القصة وأن نقتدي بهذه السيدة العظيمة، وأن نبحث عن شيء نقدمه لله خالصاً لوجهه.
قد يتفوق إنسان في اختصاص، فهل جعلت هذا الاختصاص في خدمة المسلمين؟ في تقوية المسلمين في رد كيد أعداء المسلمين ماذا قدمت لله؟

((يا بشر لا صدقة ولا صلاة فبم تلقى الله إذاً ؟))

[ورد في الأثر]

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :

 اسألوا هذا السؤال الصعب: لو أن ملك الموت اقترب من أحدنا وسأله ماذا قدمت للآخرة؟ ألم يقل الله عز وجل:

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى : 4]

 ألم يقل الله عز وجل :

﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[ سورة الزمر: 15 ]

 ألم يقل الله عز وجل:

﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى :1-4]

 هذا كلام خالق الكون، أهم شيء في هذا الموضوع أن تسأل نفسك هذا السؤال، ماذا قدمت لله يوم العرض عليه؟ ماذا قدمت؟ هل ربيت ولداً صالحاً ينفع الناس من بعدك؟ هل تركت علماً نافعاً يهتدي به الناس من بعدك؟ هل أنشأت ميتماً؟ هل أنشأت مدرسة شرعية؟ هل أنفقت مالاً؟ هل أصلحت بين رجلين أو بين مؤمنين؟ اسأل نفسك هذا السؤال لأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، والدليل قوله تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

[ سورة الأنعام : 132 ]

 تكفي هذه الآية:

﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 طمحت أن يكون ما في بطنها ذكراً ليكون في خدمة المعبد.

 

الأعمال الصالحة لا تقبل عند الله إلا إذا كانت صواباً وخالصة لله :

 ثم قال تعالى:

﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 العمل يقبل أو لا يقبل، بل إنه لا يقبل إلا بشرطين إذا كان خالصاً لله عز وجل، وكان صواباً، ومعنى صواب أي ما وافق السنة، فما كل عمل صالح يقبله الله عز وجل، فقد قال الله عز وجل في بعض أدعية الأنبياء:

﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾

[ سورة النمل : 19]

 فقد تعمل صالحاً لا يرضاه الله عز وجل، إما لضعف في النية أو لانحراف عن منهج النبي عليه الصلاة والسلام، هذه قاعدة ذهبية: الأعمال الصالحة لا تقبل عند الله إلا إذا كانت صواباً، أي وفق منهج رسول الله، وكانت خالصة لله عز وجل، لذلك قالت:

﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 يا رب! والمؤمن الصالح يقلقه دائماً أن يقبل الله عمله أو ألا يقبله، العمل لا يقبل إلا بالنية الخالصة، ولا يقبل إلا إذا كان موافقاً لمنهج الله عز وجل:

﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾

[ سورة آل عمران : 35]

 أي سميع لقولي، عليم بحالي، سواء أنطقت أم سكت، إن سكت فأنت عليم بحالي، وإن نطقت فأنت سميع لمقالي.

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾

[ سورة آل عمران :36]

 تتوقع أن يكون ذكراً، ليكون في خدمة المعبد، ليكون في خدمة العبادة:

﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران :36]

 على خلاف ما ظنت، وعلى خلاف ما تأملت:

﴿قالت رب إني وضعتها أنثى﴾

[ سورة آل عمران :36]

المساواة بين الرجل و المرأة في التكليف و التشريف و المسؤولية :

 لكن الله عز وجل يقول:

﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾

[ سورة آل عمران :36]

 فقد يأتي من الأنثى خير لا يعلمه إلا الله، المرأة والرجل متساويان في التكليف وفي التشريف وفي المسؤولية، الأنثى مكلفة كما أن الرجل مكلف، الأنثى مكلفة كم أن الذكر مكلف، والأنثى مسؤولة كم أن الذكر مسؤول، والأنثى مشرفة كم أن الذكر مشرف، وأي تصور آخر فهو جاهلي.

﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

[ سورة آل عمران :36]

 استنبط العلماء أيها الأخوة أن المرأة مساوية للرجل في التكليف والتشريف والمسؤولية، ولكن للمرأة طبيعة جسمية ونفسية واجتماعية وفكرية هي كمال لمهمتها في الحياة، وأن للرجل طبيعة جسمية وفكرية ونفسية واجتماعية هي كمال لمهمته في الحياة، فإذا تزوج الذكر بالأنثى تكاملاً، وهذا معنى السكن ومن آياته:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾

[ سورة الروم : 21 ]

 كيف يسكن الزوج إلى زوجته؟ إنه يكمل نقصه العاطفي بها، وكيف تسكن المرأة إلى زوجها؟ إنها تكمل نقصها القيادي به، وليس الذكر كالأنثى، وأي مجتمع يلغي الفوارق بين الذكر والأنثى، ويصر على أن خصائص المرأة كخصائص الرجل بالتفاصيل، هذا المجتمع يسير في طريق الهاوية، قد نجد حالات استثنائية أن امرأة أقوى من الرجل، وهذا لا يمنع أن تجد امرأة حديدية، وأن تجد رجلاً مخنثاً، هذه حالات نادرة أما جنس النساء فله خصائص خصها الله بهذا الجنس، فحينما نلغي هذه الخصائص نقع في إشكال كبير، ونمشي في طريق الهاوية، حينما تختلط الأوراق ونتوهم أن خصائص الأنثى كخصائص الرجل تماماً نقع في إشكال كبير.

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

[ سورة آل عمران :36]

أعظم عمل عند الله تربية الأولاد :

 لذلك شرع لنا النبي عليه الصلاة والسلام أن المرء حينما يقرب أهله أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أن يستعيذ بالله من الشيطان أن يقرب ذريته

﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

 الحقيقة أن إخلاص هذه السيدة العظيمة كان من نتائجه أن الله تقبلها بقبول حسن.

﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا﴾

[ سورة آل عمران :37]

   أيها الأخوة: ما من عمل أعظم عند الله من تربية الأولاد يقول عليه الصلاة والسلام:

(( أفضل كسب الرجل ولده ))

[الطبراني في الكبير عن أبي برزة بن نيار ]

﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا﴾

[ سورة آل عمران :37]

 فلذلك الذي عنده بنت له طريق من خلالها إلى الجنة، عنده ابنتان، عنده ثلاث بنات، إذا أدبهن، وحملهن على طاعة الله، وعلمهن أحكام الدين، وكن نساء مسلمات تائبات خاشعات عابدات سائحات كان له مكان في الجنة، وقد أنبأ النبي عليه الصلاة والسلام من خلال أحاديث كثيرة عن أن الأب الذي يربي ابنتين، يربيهما على الإيمان والصلاح والتقوى والعفاف حتى يزوجهما أو يموت عنهما أنه كفيله في الجنة.

﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾

[ سورة آل عمران :37]

 إذاً: أنت حينما تؤدب ابنك على طاعة الله تجد عوناً من الله كبيراً، تجد عطاء كبيراً.

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾

[ سورة آل عمران :38]

الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله :

 أيها الأخوة الكرام ثم يقول الله عز وجل:

﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ﴾

[ سورة آل عمران :42]

 لماذا جاءت اصطفاك مرتين؟

﴿إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك﴾

[ سورة آل عمران :42]

 قال علماء التفسير: أحد الاصطفائين، أن هذه المرأة الصديقة أنجبت غلاماً من دون زواج ومن دون أب، نحن ألفنا أنه لا مولد إلا بأب وأم، لكن مسبب الأسباب قد يلغي السبب، أو قد يعطله، فقد تجد شابين نشيطين صحيحين عقيمين، لا ينجبان، بل إن الله عز وجل يقول:

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾

[ سورة آل عمران :59]

 أيها الأخوة: هذه المرأة العظيمة أنجبت من دون زوج، كيف أن سيدنا آدم من دون أب وجد، فهذه المرأة من دون زوج أنجبت.

﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾

[ سورة آل عمران :42-44]

 أيها الأخوة: قضية الأسباب هناك من يأخذ بالأسباب ويعتمد عليها ويؤلهها فيقع في الشرك، أما الذي لا يأخذ بها فيقع في المعصية، أكمل موقف للإنسان أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف الصحيح.

﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران :44]

 معنى ذلك أن أصل ديننا هو الوحي، ويجب أن تؤمن أن هذا الوحي يقيناً من عند الله، فما كان لهذا النبي الكريم أن يعلم تفاصيل قصة كفالة سيدنا زكريا لمريم العذراء، ما كان لأحد أن يعلم لولا أن الله أخبره بما حصل، هذا يسمى الإعجاز الإخباري، والإعجاز الإخباري على أنواع ثلاثة، إخبار الماضي، وإخبار الحاضر، وإخبار المستقبل، إخبار الماضي والمستقبل له بعدان زمنيان، بينما إخبار الحاضر له بعد مكاني، فهذا من أنباء الغيب:

﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ﴾

[ سورة آل عمران :44]

 على شكل قرعة:

﴿ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾

[ سورة آل عمران :44]

الحكمة من قصة امرأة عمران :

 أيها الأخوة الكرام: أردت من هذه القصة نقاط ثلاث سأركز عليها.
 النقطة الأولى: هل فعلت أيها المؤمن الذي تتلو القرآن الكريم ما فعلته هذه السيدة الكريمة حينما نذرت ما في بطنها محررا؟ هل فعلت هذا؟ هل خصصت جزءاً مما عندك من خبرتك، من مالك، من اختصاصك، من علمك، من وقتك، للتقرب إلى الله عز وجل؟ هذا الذي يقرأ القرآن ينبغي أن يتدبره، وقد فرق بعض العلماء بين الفهم والتدبر، الفهم أن تفهم المعنى، والتدبر أن تسأل نفسك هذا السؤال، أين أنا من هذه القصة؟ ما موقفي منها؟ إذا كانت هذه السيدة العظيمة نذرت ما في بطنها محرراً، أنا عندي أولاد، هل نذرت أحدهم أو نذرتهم جميعاً لخدمة هذا الدين؟ هل ربيتهم تربية إسلامية صحيحة؟ هل حملتهم على طاعة الله وطاعة رسوله؟ هذه النقطة الأولى، إذا خرجنا من الخطبة ينبغي أن نسأل أنفسنا ماذا نذرنا لربنا يوم العرض عليه؟
 النقطة الثانية أنه حينما تختلط الأوراق فالمجتمع يمشي في طريق الهاوية

﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾

 يجب أن نعلم علم اليقين أن المرأة مكرمة ومكلفة ومسؤولة ومشرفة، لكن خصائصها الجسمية والنفسية والاجتماعية والفكرية تختلف عن خصائص الرجل، فينبغي أن تعد ابنتك لكي تكون أماً، لتكون أما رؤوماً، لتكون زوجة صالحة.
 شيء آخر أيها الأخوة: الأسباب والمسببات، شاءت حكمة الله عز وجل أن يجعل في الحياة الدنيا لكل شيء سبباً، من أجل أن نصل إليه بلطف، هذه الثمرة بسبب هذه النبتة، وهذه النبتة بسبب هذه البذرة، وهذه البذرة من هذه الثمرة، لا بد من أن تصل إلى أنه لا بد من شيء خلقه الله مباشرة، إن نظام السببية ينقلك إلى الله جل جلاله، هذه حقيقة أولى.
 الحقيقة الثانية: أنه ينبغي أن تأخذ بالأسباب دون أن تعتمد عليها ودون أن تؤلهها، وينبغي أن تدع ترك الأخذ بالأسباب أيضاً، ينبغي أن تأخذها من دون أن تعتمد عليها، أن تعتمد على الله، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وأن تعتمد على الله وكأنها ليست بشيء، ذلك أن الله عز وجل قادر دائماً أن يلغي الأسباب أو أن يعطلها، أي هو قادر أن يخلق مولوداً من دون أب، والدليل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وقادر أن يجعل من يشاء عقيماً، فقد توجد الأسباب ولا توجد النتيجة، وقد توجد النتيجة من دون أسباب.

﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة الطلاق : 12 ]

 والناس يفهمون أن الذي ألفوه لا يمكن أن يخرق، هذا فهم قاصر، الذي ألفه الناس هو عادات، يمكن أن يخرق من قبل الله عز وجل، فهذا الفهم يبين أن الأسباب ليست هي التي تخلق النتائج، ولكن الذي يخلق النتائج هو الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام: النقطة الثالثة: المهمة هي أن تربية الأولاد أعظم شيء في حياة الإنسان.

((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، وعلم يُنتَفَع به، وولد صالح يدعو له))

[مسلم عن أبي هريرة ]

 أيها الأخوة: ما من عمل أعظم عند الله من تربية الأولاد يقول عليه الصلاة والسلام:

(( أفضل كسب الرجل ولده ))

[الطبراني في الكبير عن أبي برزة بن نيار ]

 تربية الأولاد والأخذ بالأسباب وأن تضع شيئاً من اختصاصك، أو من علمك، أو من مالك، أو من خبرتك في خدمة المسلمين.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

***

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، وأذلّ الشرك والمشركين، اللهم انصرنا على أعدائك أعداء الدين، اللهم دمرهم، اللهم اجعل كيدهم في تدبيرهم، اللهم اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم انصر أخوتنا في الأراضي المحتلة، وفي كل مكان على أعدائك أعداء الحق والخير يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، اجمعهم على الحق والخير والهدى، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

تحميل النص

إخفاء الصور