وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0581 - كسب الرزق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله رب العالمين ، يا مجيب دعاء المضطرين ، يا ولي عبادك المؤمنين ، يا غاية آمال العارفين ، يا منتهى أمل الراجين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، يا خير من سئل ، ويا أرحم من استرحم ، يا من لا يخفى عليه إغماض الجفون ولا لحظ العيون ، ولا ما استقر في المكنون كيف نستدل عليك ، ونحن في وجودنا مفتقرون إليك .

المقدمة :

 قيل للإمام علي كرم الله وجهه ، حدثنا عن ربك ، قال :
 سبحان ربي ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، فوق كل شيء ، وليس تحته شيء ، وهو في كل شيء ، لا كشيء في شيء ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير .
 ليس بجسم ، ولا صورة ، ولا محدود ، ولا متبعضٍّ ، ولا متجزئ ، ولا متناهٍ ، ولا متلوّن .
 ولا يُسأل عنه بمتى كان ، لأنه خالق الزمان .
 ولا يُسأل عنه بأين هو ، لأنه خالق المكان .
 فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، علم ما كان وعلم ما يكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلقت فسويت ، وقدرت وقضيت ، وأمت وأحييت ، وأمرضت وشفيت ، وعافيت وابتليت ، وأغنيت وأقنيت ، وأضحكت وأبكيت ، والمرجع والمآل إليك ، نحن بك وإليك .
 ينادي الحق جل وعلا على عباده المؤمنين :
 أن يا عبادي إنكم لا تملكون ضري فترضوني ، ولا تملكون نفعي فتنفعوني .
 يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعاً ، فاستغفروني أغفر لكم ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنَّكم ، وقفوا على صعيد رجل واحد ، وسألني كل واحد منكم مسألته ، وأعطيت كل سائل مسألته ، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً ، إن هي إلا أعمالكم أحصيها عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنَّ إلا نفسه .
 وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ، سيدي يا رسول الله ، أشهد أن الذين بهرتهم عظمتك لمعذورون ، وأن الذين افتدوك بأرواحهم لهم الرابحون ، أي إيمان ، وأي عزم ، وأي مضاء ، أي صدق ، وأي طهر ، وأي نقاء ، أي تواضع ، وأي حب ، وأي وفاء .
فيوم كنت طفلاً ، يا سيدي يا رسول الله ، عزفت عن لهو الأطفال وعن ملاعبهم ، وعن أسمارهم ، وكنت تقول لأترابكم ، إذا دعوك إلى اللهو أنا لم أخلق لهذا .
 ويوم جاءتك رسالة الهدى ، وحملت أمانة التبليغ ، قلت لزوجتك وقد دعتك إلى أخذ قسط من الراحة , أنقضى عهد النوم يا خديجة .
 ويوم فتحت مكة ، التي آذتك وآخرجتك ، وكادت لك ، وأتمرت على قتلك ، وقد ملأت راياتك الأفق ظافرةً عزيزة ، قلت لخصومك بالأمس : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
 ويوم دانت لك الجزيرة العربية ، وجاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، صعدت المنبر ، واستقبلت الناس باكياً وقلت لهم ، من كنت جلت له ظهراً ، فهذا ظهري فليقتد منه ، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه .
 ونحن نقول مع من قال ، يا سيدنا يا رسول الله ، ما أعقلك ، وما أرحمك ، وما أوصلك ، وما أحكمك ، جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، لقد كنت رحمةً مهداة ، ونعمة مجزاة .
 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، الهداة المهديين الذين اختارهم الله له تكريماً وتأييداً .
 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير .

أصناف الناس من خلال كسبهم للمال

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ في كل مكان الناس في كسب المال ثلاثة أطباق :
 1- رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين .
 2- ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين .
 3- ورجل شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين .
 فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : تكون أمتي في الدنيا على ثلاثة أطباق :
 1- أما الطبق الأول : فلا يرغبون في جمع المال ولا ادخاره ، ولا يسعون في اقتنائه واحتكاره ، إنما رضاهم من الدنيا ما سد جوعةً وستر عورة ، وغناهم فيها ، ما بلغ بهم الآخرة ، فأولئك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
 2- أما الطبق الثاني : فيحبون جمع المال من أطيب سُبله ، وصرفه في أحسن وجوهه ، يصلون قرابتهم وأرحامهم ، ويؤثرون به إخوانهم ، ويواسون فيه فقراءهم ، ولأن يعضَّ أحدهم على الحجارة أسهل عليه من أن يكتسب درهماً من غير حله ، وأن يضعه في غير وجهه ، وأن يمنعه من يستحقه ، وأن يكون له خازناً إلى حين موته ، فأولئك إن نوقشوا عذبوا ، وإن عُفي عنهم سلموا .
 3- وأما الطبق الثالث : فيحبون جمع المال مما حلَّ وحرم ، ومنعه مَن فُرض له ، وإن أنفقوه أنفقوه إسرافاً ، وإن أمسكوه أمسكوه بخلاً واحتكاراً ، أولئك ملكت الدنيا قلوبهم ، حتى أوردتهم النار بذنوبهم .
 وقد روي عن الإمام علي كرّم الله وجهه أنه قال :
 الدنيا حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، وشبهتها عقاب .

طلب الرزق :

 لقد حضنا الله على طلب الرزق ، ويسر لنا سُبله فقال تعال :

﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً﴾

[سورة النبأ الآية:11]

 وقال :

﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية:10]

 وقال :

﴿قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[سورة الجمعة الآية:10]

 وفي الحديث الشريف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

(( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ))

[أخرجه الطبراني]

وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
 لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني ، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة .
 وقال أيضاً :
 استغن عن الناس يكن أصون لدينك ، وأكرم لك عليهم .
 ولكن دفعاً للقلق من أجل الرزق ، ومنعاً من ارتكاب المعاصي من أجل الرزق ، واحتراز من أن يقف الإنسان موقف مذلة من أجل الرزق ، طمأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المؤمن بأن رزقه مقسوم ، ومضمون ، وموزون ، وأن رزق الله تعالى لا يجره حرص حريص ، ولا ترده كراهة كاره ، وأن الله تعالى جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .
 وقال صلى الله عليه وسلم :

(( إن روح القدس نفثت في روعين أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله عباد الله تعالى ، وأجملوا في الطب ، واستجملوا مهنكم ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية فإن الله تعالى لا ينال ما عنده بمعصيته ))

[حديث صحيح بشواهده ، ابن ماجه 2/2144 / وأبو نعيم في الحلية والحاكم وابن حبان..]

 وقد ورد في بعض الآثار القدسية :
 عبدي خلقت السماوات والأرض ، ولم أعيَ بخلقهن ، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين ؟ لي عليك فريضة ولك علي رزق ، فإن خالفتني في فريضتي ، لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك ، فلأسلطن عليك الدنيا ، تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ، ولا أبالي وكنت عندي مذموماَ .
لذلك نهانا ربنا جل وعلا ، أن نتشاغل بما ضمنه لنا عما افترضه علينا ، ولكن ليس كل رزق حلالاً ، ولا كل كسب مشروعاً ، فالمؤمن يتحرى الحلال في كسبه ، لأنه يعلم أن المال الحرام يذهب من حيث أتى ، وأنه يَتلف ويُتلف صاحبه ، وهو يعلم علم اليقين أنه من كان كسبه حراماً سقط من عين الله ، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عين الله ، لذلك أمرنا الله عز وجل بصريح الآية المحكمة أن نأكل الحلال الطيب ، فقال :

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾

[سورة البقرة الآية:168]

 والحلال ما كان حلالاً في ذاته وفي طريق كسبه ، فهو يحل لكم ويُبقي على الصلة بينكم وبين ربكم ، والطيب ما طابت به أجسامكم ونفوسكم وحياتكم .
 وقد يكون الحلال الطيب أقل من الحرام الخبيث ، من حيث الكم ، وفي هذا ابتلاء من الله لعباده المؤمنين ، فمن نجح في هذا الامتحان وآثر القليل من الحلال الطيب على الكثير من الحرام الخبيث ، بارك الله له في ماله ، فانتفع منه وفي أهله وأولاده فسعد بهم ، وحفظ الله له صحته ومكانته وضمن له سعادته في الدنيا والآخرة قال الله تعالى :

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾

[سورة الكهف الآية:7]

 ولحكمة بالغة جعل كسب الحلال الطيب أصعب وأشق من كسب الحرام الخبيث ، ليبتلى المؤمن ثانية في مدى حرصه على الحلال الطيب ، بل في مدى حرصه على رضوان الله
 قال النبي صلى الله عليه وسلم :

(( من بات كالاً ( متعبا ) في طلب الحلال ، بات مغفوراً له .. ))

[رواه ابن عساكر عن أنس ، والطبري عن ابن عباس ]

منهج الشرع الحنيف في كسب المال

 والشرع الحنيف ، حينما يأمر المؤمن يتحرى الحلال في كسبه ، ينهاه أشد النهي عن أن يتحرى الحلال والحرام في كسب الآخرين ، فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من طلب الرزق من طرقه المشروعة ، وتقصى الحلال من الكسب ، وابتغى كف نفسه عن المسألة ، وإغناء أبويه وأهله وأولاده ، لقي الله تعالى وهو عنه راض .
 فقال صلى الله عليه وسلم :

(( من طلب الدنيا حلالاً وتعففاً عن المسألة ، وسعياً على عياله وتعطفاً على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر ))

[رواه البيهقي ]

 وقد كان صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ، ذي جلد وقوة ، وقد بكر يسعى فقالوا : ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ، فقال صلى الله عليه وسلم :

(( لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس ، فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى تفاخراً وتكاثراً فهو في سبيل الشيطان ))

 لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم من خلال هذين الحديثين الشريفين :
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ))

[أخرجه البخاري ومسلم]

 أن النية وحدها تحدد قيمة العمل ، فقد يلتقط الرجل لقطة فإن نوى أخذها فهو معتد ، وإن نوى البحث عن صاحبها فهو محسن ، وشتان بين العدوان والإحسان .
 فالعمل على إطلاقه أساس الرقي عند الله ، فمن العمل الصالح العمل الذي تكسب به رزقك أيها المؤمن ، إذا بني هذا العمل على الإتقان والنصح وعدم الغش ، واهتم صاحبه في تطويره وتحسينه ، توصلاً لخدمة الخلق ، الذين هم عيال الله ، وترفق بالناس بالأجر أو السعر وعاملهم باللين والحكمة ، كان هذا العمل نفسه وسيلة لكسب رضوان الله والفوز بنعيم الجنة الأبدي .

 

كسب الرزق الحلال بالجهد والتعب

 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

(( إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف ))

[أخرجه الطبراني]

 بل ربما كان الذي يكسب رزقه حلالاً باذلاً من أجله جهداً ووقتاً وعرقاً ، أفضل عند الله تعالى ممن انقطع للعبادة وهو عالة على غيره ، يروى أن رجلاً كان يعبد الله فقيل له : ما تصنع ؟ قال : أتعبد الله ، فسئل : فمن يطعمك ؟ فقال : أخي ، فقيل له : أخوك أعبد منك .
 والنبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المسألة مبيناً أنها تفتح على العبد أبواب الفقر فقال :

(( لأن يأخذ أحدكم حبله ، فيحتطب على ظهره ، خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله ، أعطاه أو منعه ))

[رواه البخاري عن أبي هريرة /1401]

 وقال :

(( من فتح على نفسه باباً من السؤال فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر ))

[رواه ابن جرير ]

 فلا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه ، بل ينبغي أن يطلب الحوائج بعزة الأنفس ؛ فإن الأمور تجري بالمقادير ، فاليد المعطاءة العليا خير من اليد الممدودة السفلى .

 

أكل أموال الناس بالباطل

 ولقد نهانا الشرع الحنيف ، عن أكل أموال الناس بالباطل ، وجعله من كبائر المحرمات ، حيث قال :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾

[سورة النساء الآية:29]

 لقد أشارت كلمة لا تأكلوا أموالكم ، إلى ما هو عليه المؤمنون ، أو إلى ما ينبغي أن يكون عليه من أخوة صادقة ، ومشاركة وجدانية حانية يجسدها الشعور ، بأن مال أخيك هو مالك ، من زاوية أنه يجب عليك أن تحافظ عليه ، وأن تصونه من التلف والضياع ، فلأن تمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى ، فإذا أكلت مال أخيك أضعفته ، وفي ضعفه ضعف لك ، فأنت بهذا قد أكلت مالك وأشارت كلمة (بينكم ) إلى أن المال يجب أن يكون متداولاً بين جميع أفراد الأمة ، وأكله بالباطل يجعله متداولاً بين الأغنياء فقط ، وفي هذا تضييق على الفقراء ، بل سحق لهم .
 والمال قوام الحياة ، وأكل أموال الناس بالباطل عدوان على قوام حياتهم ، وهذا يستوجب غضب الله ، وعقابه الأليم ، فالإضرار بالناس يقترب من الشرك بالله ، أما أكل المال بالحق : فهو أن يكون نظير عوض حقيقي ، أو خدمة صحيحة ، وأن يكون المأكول ماله راضياً أشد الرضا حتى لو كشف الغطاء ، وهذا مستنبط من قوله تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾

[سورة النساء الآية:29]

حرمة المال الحرام

 وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة المال الحرام وجعلها كحرمة الدم والعرض فقال :

(( كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه وماله وعرضه ))

[أخرجه البخاري ومسلم عن أبو هريرة رضي الله عنه ]

 وفيما رواه البيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( ألا لا تظلموا ، ألا لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه وقال : " من انتهب نهبة فليس منا ))

 ومن أكل أموال الناس بالباطل ، الغصب والنهب والسلب والرشوة والغلول والسرقة والميسر والربا ، وهذه الأنواع من أكل أموال الناس بالباطل ، بينةٌ حرمتها ، واضحةٌ حدودها ، وظاهرة نتائجها ، لذلك تجد الكثرة الكاثرة من المسلمين يبتعدون عنها خشية أن يحلَّ عليهم غضب الله ، ومن يحلل عليه غضب الله فقد هوى .
 ولكن هناك أنواعاً من أكل أموال الناس بالباطل ، يخفى على كثير من المسلمين ، بسبب توانيهم عن حضور مجالس العلم ، أو عزوفهم عن سؤال أهل الذكر وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالسوق ، ويعنف بعض التجار ويقول : لا يبع في سوقنا إلا من تفقه ، وإلا أكل الربا شاء أم أبى .

 

الاحتكار

 ومن أكل أموال الناس بالباطل " الاحتكار " وهو بالتعريف الدقيق ؛ حبس مالٍ أو منفعة أو عمل والامتناع عن بيعه وبذله حتى يرتفع سعره ارتفاعاً فاحشاً غير معتاد ، بسبب قلته أو انعدام وجوده في مظانِّه ، مع شدة الحاجة إليه ، والمحتكر خلال أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون وخاطئ ، وقد برئت منه ذمة الله ، وقد توعده الله بالنار .
 فقد قال صلى الله عليه وسلم :

((من احْتكَرَ طَعاماً فَهُوَ خاطئ))

[أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود]

 وقال :
 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنَّ عمر رضي الله عنه قال :

(( الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ))

[أخرجه زيادات رزين]

 وقيل :
 من احتكر الطعام أربعين ليلة يريد به الغلاء ، قد برئ من الله وبرئ الله منه .
 وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من ترك الاحتكار خوفاً من الله ، وإشفاقاً على المسلمين ، وتيسيراً عليهم فقال :

(( من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به ))

[أخرجه ابن مردويه من حديث ابن مسعود]

 فالاحتكار : أكل الأموال بالباطل ، وابتزازها بافتعال قلة العرض مع كثرة الطبل ، وليس هذا الربح الزائد الذي يجنيه المحتكر حلالاً ؛ لأنه ليس نظير خدمات حقيقية يقدمها التاجر ، ولم يُؤخذ بالرضى الحقيقي للمشتري ، إنما هو إلجاء أصحاب الحاجات إلى شراء حاجاتهم ، بأكثر من أثمانها الحقيقية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :

(( بئس العبد المحتكر ، إن أرخص الله الأسعار حزن وإن أغلاها فرح ))

[ذكره الطبراني في الكبير والبيهقي عن معاذ ]

 بل إن علماء الأصول بنوا حكم الاحتكار لا على النصوص الجزئية التفصيلية الخاصة به فحسب بل على أصول عامة ، تثبت بالاستقراء قطعيتها .
 قال الإمام أبو يوسف رحمه الله : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار .
 وقال بعض الفقهاء المحدثين : كل إيهام أو تضليل ، من شأنه أن يزيد في الطلب على السلعة ، مع قلة العرض ، تمهيداً لرفع السعر فهو احتكار .

الغش

 ومن أكل أموال الناس بالباطل : الغش ، والغش أنواع كثيرة وصور شتى ، يرجع معظمها إلى المخادعة ، بإظهار شيء وإخفاء خلافه ، في باطنه ، ومن ذلك الكذب في التعريف فيعرف الرديء بأنه جيد ، وذو السعر الرخيص بأنه ذو السعر الغالي .
ومن الغش دس الرديء في ثنايا الجيد ، وبيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع والحقيقة ، ومن الغش أن يقول البائع اشتريته بكذا كذباً ليخدع المشتري في هامش ربحه ، ومن الغش إخفاء العيب والتلاعب بالوزن ، والكيل والعدد ، والطول والحجم والمساحة ، ومن الغش عرضها بطريقة تزيد من مزاياها ، وتخفي من عيوبها ، ومن الغش توجيه المشتري إلى بضاعة رديئة كاسدة استغلالاً لجهله ، ومن الغش استغلال جهل المشتري ، ورفع السعر أضعافاً مضاعفة ، وهذا المشتري الجهول بنوعية البضاعة وقيمتها سماه الني صلى الله عليه وسلم " المسترسل " فقال :

(( غَبنُ المسترسل ربا ، وقال : غبن المسترسل حرام ))

[رواه البيهقي عن انس و الطبراني عن أبي أمامة ]

 وهكذا فكل مالٍ يكسبه الإنسان عن طريق الغش فهو حرام ، وهو سحت وظلم وهو من أكل أموال الناس بالباطل .
 والغش كما يكون بالبيع يكون في الشراء ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان لشراء بضاعتهم قبل أن يعرفوا قيمتها الحقيقية ، ونهى عن كل جهالة تمكن البائع أو الشاري من الغش وتفضي إلى منازعة .
 وسواء في الإثم أن تغش المسلمين ، أو غيرهم ؛ لأن الحق لا يفرق ولا يجزأ ، فالخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ، قال صلى الله عليه وسلم :

(( من غش فليس منا ))

[رواه الترمذي عن أبي هريرة ]

 وكلمة غش جاءت مطلقة .
 بل إن غش غير المسلمين أشد إثماً لأنه يؤدي إلى جرح مكانة الدين فأنت أيها المسلم على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يُؤتَيَنَّ من قبلك .
 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( مرَّ على صُبرة طعام ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال : " ما هذا يا صاحب الطعام ؟ .. " فقال أصابته السماء يا رسول الله ، قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غش فليس منا ))

أخلاق المؤمنين في تعاملهم مع الناس

 وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا .
 وقال صلى الله عليه وسلم :

(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته ))

 فإذا ظلمهم ، أو كذبهم ، أو أخلفهم ، فقد سقطت عدالته ، لكن الفقهاء عدوا بنوداً كثيرة تجرح العدالة ، منها : أكل لقمة من حرام ، منها تطفيف بتمرة ..
 المبادئ والقيم والمثل لا تعيش إلا في المثل الحي ، والمثل الحي يجسد المبادئ ، ويحقق القيم ، ويجعل المثالية واقعاً ، والمثل الحي حقيقة مع البرهان عليها ، والمثل الحي نموذج إنساني خالد ، ونبراس للأجيال من بعده ، فأبو حنيفة النعمان رحمه الله ، أكرم علمه ونفسه وحزم أمره على أن يأكل من كسب يمينه ، وأن تكون يده هي العليا دائماً ، وقد أيقن أنه ما أكل أمرؤ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة ينالها من كسب يده ، لذلك خصص شطراً من وقته لكسب رزقه ، فاتجر بالخز (القماش) وأثوابه .
 فكان له متجر معروف يقصده الناس ، فيجدون فيه الصدق في المعاملة ، والأمانة في الأخذ والعطاء ، وكانوا يجدون فيه أيضاً الذوق الرفيع ، وكان يأخذ المال من حله ويضعه في محله ، وكان كلما حال عليه الحول أحصى أرباحه من تجارته ، واستبقى منها ما يكفيه لنفقته ثم يشتري بالباقي حوائج القراء والمحدثين والفقهاء وطلاب العلم وأقواتهم وكسوتهم .
 ومثل حي آخر ، الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان مثلاً أعلى في العدالة والرحمة والزهد ، وقد أتعب الذين أتوا من بعده ، ففي عهده وفد إلى المدينة المنورة رسول من أذربيجان ، وقد وصلها في ساعة متأخرة من الليل ، وكره أن يطرق باب أمير المؤمنين في هذا الوقت ، فتوجه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمع صوتاً فيه الأنين والحنين إلى الله ، سمع صاحب هذا الصوت يقول : يا رب أنا واقف ببابك ، مستمسك بحبالك ، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ، أو رددتها فأعزيها ، فقال الرسول من أنت يرحمك الله ، قال : أنا عمر بن الخطاب ، فقال يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ، قال عمر : إنني إن نمت الليل كله أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت النهار أضعت رعيتي ، ويمكثان في المسجد حتى صلاة الفجر ، وبعد الصلاة يدعو عمر رسول عالمه على أذربيجان إلى بيته ، ويسأل عمر أم كلثوم زوجته ماذا عندك من طعام يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ليس عندنا والله إلا الخبز وبعض حصاة الملح ، ويتناولان هذا الطعام الخشن ، ويسأل عمر ضيفه فيم جئتنا ، فيقول : إن عاملك هناك أرسلني بهذه الهدية إليك علبة فيها بعض الحلوى ، لا تصنع إلا هناك ، قال عمر : أو يأكل عامة المسلمين هناك هذا الطعام ، قال : لا هذا طعام الخاصة ، قال : أو أعطيت كل فقراء المدينة مثلما أعطيتني ، قال : لا هذا لك وحدك ، قال عمر : بلغ الأمير هناك أن يأكل مما يأكل منه عامة المسلمين ، وأن لا يعود إلى مثلها ، وأمر الرسول أن يذهب بهذه الحلوى إلى فقراء المسلمين في المسجد ، وأن يقسمها فيما بينهم ، وقال قولته الشهيرة : حرام على بطن عمر أن يذوق حلوى لا يطعمها فقراء المسلمين .
 كيف لا وهو الذي خاطب بطنه من قبل بعد أن حرمه اللحم أشهراً عدة في عام المجاعة ، خاطبه فقال : قرقر أيها البطن ، أو لا تقرقر ، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين .
 لله در صحابة رسول الله ، ماذا نقول بحقهم ؟ أنقول إنهم بشر ، نعم ولكن ليسوا ككل البشر ، أنقول إنهم ملائكة ؟ نعم ، ولكن من في الطهر والصفاء والنقاء .

* * *

 أيها الناس ؛ توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا وأكثروا الصدقة ترزقوا ، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا ، إن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وأحزمكم أكثركم استعداداً لها ، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتزود لسكنى القبور والتأهب ليوم النشور .

والحمد لله رب العالمين .

الخطبة الثانية :

معجزة الخالق في البحار

 أيها الإخوة الكرام ؛ انطلاقاً من قوله تعالى :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[سورة فصلت لآية:53]

انطلاقاً من هذه الآية ، لقد اكتشف العلماء الغربيون مؤخراً أن بين كل بحرين مالحين حاجزاً ، تم تصويره من سفن الفضاء ، هذا الحاجز يمنع مياه كل بحر من أن تختلط بمياه البحر الآخر ، فلا يبغي بحر على بحر ، بل يحافظ كل بحر على كثافة مياهه ، ودرجة ملوحته ، ونوع مكوناته ، وهذا الحاجز ليس ثابتاً ، بل هو متحرك بغفل الرياح وحركة المد والجزر ، وحينما اطلع العالم المكتشف وهو في نشوة اكتشافه هذا أن في القرآن الكريم إشارة إلى هذا الكشف العلمي وهو قوله تعالى :

﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾

[سورة الرحمن الآيات:18-21]

 أخذته الدهشة وأعلن إيمانه بالقرآن .
 وقد اكتشفوا أيضاً أن بين البحرين ، الملح الأجاج ، والعذب الفرات شيئين : حاجزاً يمنع مياه كل بحر من أن تطغى على الآخر ، كما هو بين البحرين المالحين ، وحاجزاً يمنع أسماك المياه المالحة من أن تنتقل إلى المياه العذبة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الكشف أيضاً ، وسمى الحاجز الأول برزخاً والثاني حجراً ، فقال تعالى :

﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾

[سورة الفرقان الآية:53]

 أما طبيعة هذين الحاجزين فما زالت موضع الدراسة .

الدعاء :

 اللهم أغننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجملنا بالعافية وطهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة ، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، وجعل الموت راحةً لنا من كل شر .
 اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ومن السلب بعد العطاء .
 اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين .

تحميل النص

إخفاء الصور