وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0518 - قال تعالى، القارعة ما القارعة . . - حليب الأم .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر . وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

أسلوب القرآن الكريم أسلوب تربوي رائع :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه السور القصيرة في الجزء الأخير من كتاب الله عز وجل تحفظونها جميعاً ، وتقرؤونها في الصلاة كثيراً ، وحينما يتعرف الإنسان إلى مضمونها ، وإلى مدلولاتها ، وإلى أبعادها ، وإلى مراميها ، يأخذه العجب العجاب .
 في الخطبة السابقة كان موضوع الخطبة قوله تعالى :

﴿أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ﴾

[سورة التكاثر: 1-2]

 ومحور هذه الخطبة هو سورة القارعة ، قال تعالى :

﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾

[سورة القارعة: 1-11]

 هذا الأسلوب أيها الأخوة ؛

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾

[سورة القارعة: 1-3]

﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾

[ سورة الحاقة : 1-3]

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾

[ سورة المرسلات : 14]

 هذا الأسلوب أسلوب تربوي رائع ، فالله سبحانه وتعالى يقول : الْقَارِعَةُ ؛ كلمة مبهمة ، هذا الكلام المبهم يدعوك إلى أن تسأل : مَا الْقَارِعَةُ ؟ . . الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ ؟ يأتي الجواب : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ؟ أي لا أحد أعلمك قبل هذا ما القارعة . . وفي القرآن الكريم وردت كلمة وما أدراك ثلاث عشرة مرة ، ووردت كلمة وما يدريك ثلاث مرات .
 القارعة : إبهام . . مَا الْقَارِعَةُ ؟ : تهويل . . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ : إعلام بعد جهل . وما يدريك ؟ . . اقتضت حكمة الله عز وجل ألا تعلم هذا ما دمت حياً ، ربما تعلمه يوم القيامة . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ اللغة كما تعلمون مقاطع صوتية ، اصطلح البشر على معانٍ لها فحينما يقول الله عز وجل : الْقَارِعَةُ : إبهام . مَا الْقَارِعَةُ : تهويل . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ . إعلام بعد جهل . . فهل المقصود من القارعة المعنى اللغوي ؟ . . قطعاً لا ؛ لأن معنى القارعة اللغوي : شيء صلب يقرع شيئاً صلباً فيحدث صوتاً . . هذا المعنى اللغوي ليس وارداً في هذه السورة ، المقصود المعنى الذي أراده الله عز وجل ، إنه يوم القيامة . . يوم القيامة : الحاقة ، والصاخة ، والغاشية ، والقارعة ، ويوم الفصل . هذه من أسماء يوم القيامة ، كأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلمنا عن شيء غيبي .
 الْقَارِعَةُ : إبهام يدفعك إلى التساؤل . مَا الْقَارِعَةُ : تهويل . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ؟ لا أحد قبل هذا قد أعلمك ما القارعة . لكن الله عز وجل سيعلمك ، إذا قال الله عز وجل : وما أدراك : أي سيدريك . أما إذا قال الله عز وجل : وما يدريك ؟ أي أنه لا يدريك ، لا يعلمك .

 

الكلمة في اللغة لها معنيان لغوي وضعي و اصطلاحي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ هذه السورة القصيرة الكريمة تتعرض لموضوع من موضوعات يوم القيامة ، موضوع الميزان ، هناك سور تعرضت لصحائف الأعمال ، هناك سور تعرضت لاعتراف المذنبين ، هناك سور تعرضت لموضوعات كثيرة في يوم القيامة ، إلا أن هذه السورة اتجهت إلى موضوع واحد من موضوعات يوم القيامة ألا هو الميزان .

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾

[سورة القارعة: 1-3]

 أيها الأخوة الكرام ؛ توضيح بسيط ، الكلمة في اللغة لها معنى لغوي وضعي ، ولها معنى اصطلاحي ، فكلمة النحو معناها اللغوي : القصد ، اتجهت نحو البيت ، لكن كلمة نحو لها معنى اصطلاحي ، وهو علم قواعد اللغة . كلمة الحج معناها اللغوي أن تقصد شيئاً عظيماً ، معناها الاصطلاحي أن تتوجه إلى بيت الله الحرام في أوقات معلومة ، تنفيذاً لدعوة الله عز وجل وتقرباً إليه .
 الفقه معناه اللغوي مطلق الفهم ، لكن معنى هذه الكلمة الاصطلاحي معرفة الأحكام التفصيلية من أدلتها الكلية ، وكذلك كلمة القارعة ، ليس المقصود المعنى اللغوي ، المعنى اللغوي معروف ، ولو أن الله سبحانه وتعالى أراد المعنى اللغوي لما قال :

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾

[سورة القارعة: 1-3]

 القارعة شيء صلب يُضرب به شيء صلب آخر فيحدث صوت عظيم هذا هو القرع .

العبد يُقرع بالعصا  والحر تكفيه الإشارة
***

 قرع الباب ضربه حتى يُحدث صوتاً ، لكن القارعة في هذه السورة تعني يوم القيامة ، ويوم القيامة شيء غيبي .

 

الغفلة أشدّ مصيبة يصاب بها الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان محجوز عن المستقبل بحاجز الزمن ، ومحجوز عن الماضي بحاجز الزمن ، ومحجوز عن الحاضر بحاجز المكان ، المكان يحجبك عن مدن أخرى لا تعلم ماذا يقع فيها ، والزمان يحجبك عن الماضي وعن المستقبل . لذلك كيف تعلم ما القارعة؟ لابد أن يعلمك الله عن القارعة ، لأنها في المستقبل ، والزمن يحجزك عن المستقبل ، ويحجزك عن الماضي ، والمكان يحجزك عن الحاضر ، فأنت مخلوق محدود يحدك المكان ، ويحدك الزمان ، إذاً أنت لا تعلم من ذاتك ، لكن الله سبحانه وتعالى سيعلمك .
 أيها الأخوة الكرام ؛ الحاقة ، والقارعة ، والصاخة ، والغاشية ، والقيامة ، ويوم الفصل ؛ هذه من أسماء يوم القيامة . هل من شيء أشدّ يقيناً وواقعياً من الموت ؟ ومع ذلك الناس في غفلة عنه .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ما من مصيبة يُصاب بها الإنسان أشدّ من الغفلة ، أن يغفل عن مصيره ، أن يغفل عن ساعة الموت ، أن يغفل عن يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين . لذلك سمى الله عز وجل يوم القيامة بالقارعة ، لأن الإنسان يكون في الدنيا غافلاً ، ساهياً ، لاهياً ، مشغولاً ، نائماً ، فيأتي هذا اليوم ليقرعه قرعاً فيصحو .

 

يوم القيامة خاضع لإخبار الله عز وجل وليس لتحكيم العقل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ربنا سبحانه وتعالى يؤكد أن هذا اليوم مغيب عنا ، والأشياء المغيبة عنا لابد من أن نُخبر بها ، فلذلك هناك اليقين الحسي ، وهناك اليقين الاستدلالي ، وهناك اليقين الإخباري . يوم القيامة ، ماذا يوجد يوم القيامة من مواقف ، ومن مشاهد ، ومن أحداث ، هذا خاضع لإخبار الله عز وجل وليس خاضعاً لتحكيم العقل ، الله سبحانه وتعالى سيعلمنا .

﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾

[سورة القارعة: 1-3]

 النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما يرويه عن ربه :

((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت - هذه الدائرة الأولى- ولا أذن سمعت-هذه الدائرة الثانية وهي أوسع من الأولى- ولا خطر على قلب بشر - والدائرة الثالثة أوسع من الثانية والأولى-))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

 دائرة المرئيات محدودة ، ودائرة المسموعات كبيرة جداً ، ودائرة الخواطر لا يحدها شيء . ومع كل ذلك أعدّ الله لعباده في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . هذه الجنة التي وعد الله بها المتقين أيزهد بها ؟ أيُغفل عنها ؟ أيعمل الإنسان من أجل الدنيا وهي سريعة الزوال وشيكة الانتقال ؟ . . ورد في الأثر " أن اعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للدنيا بقدر بقائك فيها ، واعمل للآخرة بقدر مقامك فيها ، واتق النار بقدر صبرك عليها ".
 أيها الأخوة الكرام ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 17]

 إذاً أمر يوم القيامة وما فيه من الجنة ونعيم أهل الجنة ، وما فيه من النار وعذاب أهل النار هذا مغيب عنا ، لكن الله سبحانه وتعالى رحمةً بنا ، وحرصاً علينا ، وتنبيهاً لنا ، أعلمنا في كتابه عما سيكون يوم القيامة .

 

الناس يوم القيامة الذين غفلوا عن ربهم وعن منهجه كالفراش المبثوث :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾

[سورة القارعة: 4]

 هذا الإنسان المكرم ، المكلف ، المخلوق الأول ، الذي سُخرت له السموات والأرض ، تسخير تعريف وتكريم ، هذا الإنسان يوم القيامة لشدة الهول يصبح كالفراش المبثوث. فراش ، مخلوق صغير ، لا شأن له عند الإنسان ، إذا أوقد الإنسان ناراً في ليلة ظلماء يتهافت الفراش على النار في اضطراب لا يُوصف ، يتحرك حركة عشوائية ، يلقي بنفسه على النار ، هذه الصورة التي نعرفها في الدنيا ؛ مخلوق ضعيف لا قيمة له ، يتحرك حركة عشوائية ، مضطربة ، ربما يتحرك نحو النار . حال الناس يوم القيامة الذين غفلوا عن ربهم ، ولم يتعرفوا إليه في الدنيا ، وغفلوا عن منهج ربهم ، وعملوا للدنيا ، واستغنوا عن الآخرة ، هؤلاء البشر المكرمون في الدنيا ، الذين هم من أوائل المخلوقات ، تغدو حالهم يوم القيامة كالفراش المبثوث.
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا الإنسان أصبح أدنى من الحيوان ، أو أصبح كالحيوان يتحرك حركة عشوائية مضطربة ، لا يلوي على شيء ، ربما ألقى بنفسه في النار .

﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ﴾

[سورة القارعة4-5]

 الجبال الشوامخ ، الجبل الذي هو كالطود يبدو كالعهن المنفوش ، يغدو كالعهن المنفوش ، كصوف متناثر .

﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ والسماوات وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾

[ سورة إبراهيم : 48]

من ازداد معرفة بضعفه ازداد قرباً من ربه :

 أيها الأخوة الكرام ؛ من علائم العقل أن تصل إلى الشيء بعقلك قبل أن تصل إليه بجسمك ، من علائم العقل أن يكون عقلك مستكشفاً . ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾

[ سورة الكهف : 23-24]

 لماذا ؟ . . ماذا تملك أنت من الدنيا ؟ قال العلماء : الحدث أو الفعل يحتاج إلى فاعل ، وإلى مفعول ، وإلى زمان ، وإلى مكان ، وإلى سبب ، وإلى قوة . لو أنك قلت لإنسان: سأذهب غداً لأكلم فلاناً في شأن نقلك إلى دمشق ، يجب أن تقول إن شاء الله ، هل تملك أن تبقى أيها الإنسان إلى غد ؟ وهل تملك أن يبقى الذي سوف تكلمه إلى غد ؟ وهل يبقى الزمان إلى غد ؟ وهل يبقى المكان إلى غد ؟ وهل يبقى السبب إلى غد ؟ . وإذا توافر الفاعل والمفعول والمكان والزمان والسبب ، فهل تملك القوة في التحرك إليه ؟ . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ كلما ازددت معرفة بضعفك ازددت قرباً من ربك ، كلما ازددت معرفة بعبوديتك لله عز وجل كلما صار الطريق إلى الله سالكاً ، لا شيء يحجز الإنسان عن ربه إلا الجهل أو الكبر ، لا شيء يحجز الإنسان عن الإقبال على الله إلا أن يغفل عن عبوديته، وعن افتقاره .

 

أهوال يوم القيامة :

 أيها الأخوة الكرام :

﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾

[سورة القارعة: 1- 5]

 وفي سور كثيرة أخرى وصف الله عز وجل أهوال يوم القيامة ، هذا كلام خالق البشر ، هذا كلام خالق الكون ، هذا كلام رب العالمين ، هذا الوصف الذي ورد في القرآن الكريم لابد أن يقع ، فالعاقل من أخذ الأهبة إليه قبل أن يقع .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ورد في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

(( إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا ))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

﴿ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴾

[سورة القارعة: 4]

من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :

 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

 أنت في الدنيا لك عمل شئت أم أبيت ، أنت في الدنيا تتحرك ، حركتك في الدنيا هي عملك ، هذا العمل إما أن يكون صالحاً، وإما أن يكون طالحاً ، إما أن يكون وفق منهج الله ، وإما أن يكون خلاف منهج الله ، إما أن يكون خيراً ، وإما أن يكون شريراً ، إما أن يكون إحساناً ، وإما أن يكون إساءة ، إما أن يكون عدلاً ، وإما أن يكون ظلماً .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ينبغي على كل إنسان أن يتفحص عمله ، أن ينقد نفسه نقداً ذاتياً ، ألا ينام الليل قبل أن يحاسب نفسه عما اقترفت يداه في النهار ، هذه النفس اللوامة أثنى الله عليها في القرآن الكريم ، قال :

﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾

[سورة القيامة : 2]

 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا . .
 أيها الأخوة الكرام ؛ محور السورة هذا الميزان ؛ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . أعماله الصالحة ، هذه الأعمال التي قد تبدو لنا في الحياة الدنيا معنوية ، توزن بأدق الموازين ، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن ميزان يوم القيامة فقال : " ميزان يليق بالمقام "، كل ميزان له كفتان وميزان ، ولكن ميزان يوم القيامة يليق بالمقام .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ أحد القضاة دخل على أمير المؤمنين وقال له : أرجو أن تعزلني من القضاء ، فقال له : ولمَ ؟ وهل في البلدة من هو أعدل منك ؟ قال : عُرف عني في المدينة أني أحب الرطب في بواكيره ، قبل أن يُطرح في الأسواق ، البارحة طُرق بابي ، وجاءني طبق من الرطب في بواكيره وفي أعلى مستوياته ، سألت الغلام من أتى بهذا الطبق ؟ قال : رجل . قلت : صفه لي ؟ قال : صفته كيت وكيت ، فعلمت أنه أحد المتخاصمين عندي ، فرددت هذا الطبق . قال : يا أمير المؤمنين في اليوم التالي حينما وقف المتخاصمين أمامي ، تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم لي طبق الرطب ، مع أني رددته فكيف لو قبلته ؟
 المؤمن أيها الأخوة يزن أعماله بميزان دقيق ، من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً ، كان حسابه يوم القيامة يسيراً ، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً بمقاييس غير صحيحة ، كان حسابه يوم القيامة عسيراً .

 

تقييم الأشياء يوم القيامة بميزان بالغ في الدقة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ دققوا في هذا الحديث الشريف ، الميزان يوم القيامة هذا الميزان ليس فيه عواطف ، ولا انفعالات ، ولا محاباة ، الميزان من الجماد ، أنت حينما تضع حاجة في ميزان ، لو رجوت الميزان أن يجعلها راجحة هل ترجح ؟ جامد . . كذلك الميزان يوم القيامة لا نعلم طبيعته ، لكنه يقيّم الأشياء بمقاييس بالغة في الدقة ، النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه سيد البشر ، ومع أنه سيد الأنبياء والمرسلين ، وهو الذي يوحى إليه قال : " لعل أحدكم ألحن بحجته من الآخر - لعل أحدكم كان طليق اللسان ، وقوي البيان ، يملك حجة قوية ، واختلف مع رجل ، ورفعت إليّ القضية ، وكان أحد الخصمين ألحن بحجته من الآخر - فإذا قضيت له بشيء فإنما أقضي له بقطعة من النار "
 إذاً الحساب يوم القيامة في ميزان دقيق ، هذا من باب الافتراض ، النبي عليه الصلاة والسلام بشر ، يرضى كما يرضى البشر ، ويغضب كما يغضب البشر ، وربما كان أحد الناس ألحن بحجته من الآخر ، لكن الله سبحانه وتعالى يزن أعمال الإنسان يوم القيامة بميزان بالغ الدقة .

 

من ثقلت موازينه فهو في عيشة متنامية لا تزول عنه :

 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

 قال المفسرون : عيشة راضية ، أي مرضي عنها ، استخدم اسم الفاعل مكان اسم المفعول ، أما السؤال لمَ ؟ لمَ جاءت الصيغة هنا بصيغة اسم الفاعل وليس بصيغة اسم المفعول ؟ . . المنطق يقول : فهو في عيشة مرضي عنها . قال تعالى :

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

  وجه بعضهم هذه الآية توجيهاً لطيفاً ، قال : أنت إذا كنت في عيشة مرضي عنها ، هذه العيشة المرضي عنها قد تزول عنك ، قد تنصرف عنك ، قد لا تبقى لك ، عبر الله عن معنى أن هذه العيشة المرضية عنها لا تزول عنك ، لا تنصرف عنك ، لا تفقدها ، هي راضية عنك ، هي ملازمة لك :

﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾

[سورة الحجر : 48]

 هذه العيشة متنامية ، متصاعدة ، هذا معنى قول الله عز وجل :

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

 قال عليه الصلاة والسلام:

(( يا قيس! إن لك قريناً تدفن معه وهو حي ، ويدفن معك وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ألا وهو عملك ))

[ صحيح عن قيس بن عاصم]

 تفحصوا أعمالكم ، وظيفتك ، حرفتك ، كونك طبيباً ، محامياً ، مدرساً ، تاجراً ، موظفاً ، صانعاً ، صاحب حرفة ، افحص عملك ، هل فيه خيانة ؟ هل فيه ابتزاز ؟ هل فيه غش ؟ هل فيه مبالغة ؟ هل فيه تضخيم ؟ هل فيه تهويل ؟ هل فيه ظلم ؟ ابحث عن عمل ، قيم عملك كل يوم ، إن كان عملك كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك .

 

إتقان العمل من الدّين :

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

 إتقان العمل من الدين ، الصدق صلب الدين ، المؤمن لا يكذب ، ولا يغش ، و لا يماطل ، ورد في الأثر أن : " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا باعوا لم يطروا - لم يمدحوا - وإذا اشتروا لم يذموا "
 افحص عملك في البيت ، افحص عملك في الحرفة ، افحص عملك في كسب الرزق ، افحص عملك في علاقاتك الاجتماعية .

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

 ما الذي يهمك ؟ هل الذي يهمك الاستمتاع بالدنيا أم العمل الصالح ؟ أم نشر الحق ؟ هل تحمل همّ هذا الدين ؟ هل تحمل هذا الدين أم أنك تتمنى أن يحملك هذا الدين ويرقى بك من دون جهد ولا مشقة ؟

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

 الله جلّ جلاله أقسم بعمر النبي عليه الصلاة والسلام قال :

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[ سورة الحجر : 72]

 ما هذا العمر الثمين ؟ إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ودنيها . .
 ما الذي يقلقك ؟ ما الذي يشغلك ؟ ما الذي تسعى إليه ؟ ما الذي يفرحك ؟ ما الذي يحزنك ؟ ما الذي يرضيك ؟ ما الذي يغضبك ؟ اطرح على نفسك هذه الأسئلة تتعرف إلى حقيقة عملك .

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

  هي عيشة مرضي عنها من قبلك ، ولكنها راضية عنك ، بمعنى أنها لا تفارقك ، ولا تزول عنك ، ولا تنصرف عنك . . نحن في الدنيا إذا راقت لأحدنا عيشته هل يضمن بقاءها ؟ هل يضمن أن يبقى في هذا البيت إلى الأبد ؟ لابد من نزول القبر ، هل يضمن أن يستمتع بهذه الصحة إلى ما شاء الله . كل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر .

﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾

.

 

ابتغاء الرفعة عند الله و تطبيق منهجه :

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾

[ سورة الفرقان: 23 ]

﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴾

[ سورة الكهف: 103]

 وزناً ، قد يأتي إنسان من عامة الناس في الدنيا ، لكنه عند الله كبير ، يأتي بعمل كالجبال ، وقد يأتي إنسان بعمل ملء الدنيا ضجيجاً لا يقيم الله له وزناً يوم القيامة . ابتغوا الرفعة عند الله .
 وهذا معنى قوله تعالى :

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴾

[ سورة الواقعة :1-3]

 رافعة .

(( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره ))

[الحاكم عن أبي هريرة ]

 أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه ، قال : أو مثلي ؟ قال : نعم يا أخي خامل في الأرض علم في السماء . ابتغ الرفعة عند الله ، طبق منهج الله عز وجل :

﴿ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾

[ سورة الأحزاب: 71 ]

من خفت موازينه فمأواه إلى النار :

 أيها الأخوة الكرام ؛

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة القصص:83]

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾

[سورة القارعة : 8-9]

 الأم كلمة محببة ، لا أحد يعلم مقدار ما في قلب الأم من الرحمة ، الأم ملاذ الإنسان ، الأم ملجأه ، رمز العطف والحنان .

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴾

[سورة القارعة : 8-9]

 هناك الصاعقة . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، ما معنى الهاوية : فسرها الله عز وجل :

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾

[سورة القارعة : 10-11]

 ملجأه إلى النار ، ملاذه إلى النار ، مأواه في النار .

 

ضرورة معرفة سورة القارعة معرفة دقيقة :

 هذه سورة القارعة سورة ينبغي أن نعرفها حق معرفتها ، ينبغي أن نعرف أبعادها، ينبغي أن نعرف مدلولاتها ، هذا القاضي الذي وزن عمله بميزان دقيق قال : يا أمير المؤمنين اعزلني من القضاء ، قال : ولمَ ؟ وهل في الأمة من هو أعدل منك ؟ قال : في اليوم التالي لم يستو عندي الذي قدم الطبق والذي لم يقدمه مع أنني رددته ، فكيف لو قبلته ؟
 حاسب نفسك حساباً دقيقاً ، تفحص نيتك ، قبل أن تقول كلمة ، قبل أن تتبسم ، قبل أن تعبس ، قبل أن تعطي ، قبل أن ترضى ، قبل أن تغضب ، قبل أن تصل ، قبل أن تقطع ، قبل أن تطلق ، قبل أن تتزوج ، قبل أن تبيع الشيء ، قبل أن تشتريه ، قبل أن تفعل شيئاً ، هل هذا العمل يوافق لشرع الله عز وجل ؟ كيف سأحاسب عنه يوم القيامة ؟ .

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾

.
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

حليب الأم آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في بحر هذا الأسبوع قرأت بحثاً عن حليب الأم ، وجدت فيه العجب العجاب ، فوالله الذي لا إله إلا هو حينما تقف أمام آية من آيات الله يقشعر جلدك ، تقف أمام عظمة الله وجهاً لوجه .
 هل تصدقون أيها الأخوة أن حليب الأم يتغير تركيبه خلال الرضعة الواحدة ؟ يبدأ حليب الأم بماء كثير ، ثم يقل الماء ويزداد الدسم ، إلى أن تصبح المواد الدسمة في نهاية الرضعة أربعة أمثال . المواد الدسمة في أول الرضعة مثل ، وفي آخرها أربعة أمثال . البروتين في نهاية الرضعة يصبح مثلاً ونصف ، السكر لا يتغير من أول الرضعة إلى آخرها . الماء يكون أكثره في أول الرضعة . . هل بالإمكان أن تغذي طفلاً بقارورة وتتغير نسب الدسم والمواد السكرية والمواد البروتينية في أثناء الرضعة الواحدة ؟
 شيء آخر : تتغير تراكيب مقومات لبن الأم كالأحماض الأمينية ، والأملاح المعدنية ، والمعادن النادرة بالكميات المعادلة لنمو الصغير كلما نما الصغير . كلما نما الرضيع الأحماض الأمينية تزداد ، والأملاح المعدنية ، والمعادن النادرة ، والفيتامين د الذي يمنع الكساح.
 اكتشف العلماء أن في حليب الأم أجساماً مضادة لكثير من الأمراض ، وأن في حليب الأم حصانة ومناعة ضد البكتريا وأمراض الحساسية ، أما الشيء الذي لا يُصدق أن هذا الطفل الذي خلقه الله عز وجل أودع فيه خمائر بمقادير تتناسب مع حليب الأم . فلو أرضعته حليب البقر لو كان طازجاً ، أو كان مجففاً ، لو أرضعته حليب البقر ما الذي يحصل ؟ إن خمائر البطن التي أودعها الله في جسم الرضيع لا تتناسب مع المواد الدسمة التي في حليب البقر . لذلك يعجز الطفل عن هضمه ، وتبقى كميات كبيرة من المواد الدسمة ، والبروتينات ، والأحماض الأمينية دون هضم ، ما الذي يجهد الكلية ؟ طرح هذه المواد ، لذلك الطفل الذي يرضع حليب البقر تجهد كليتاه في طرح المواد الدسمة ، والأحماض الأمينية ، والبروتينات التي لم يستطع هضمها ؛ لأنه مجهز لهضم حليب الأم ، لأن خمائر البطن عنده متوافقة مع حليب الأم، وليست مع حليب البقر ، فإذا أرضعته حليب البقر عجز عن هضمه ، وبقيت هذه المواد في دمه عندئذ تجهد الكلية في طرحها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ في حليب البقر أربعة أمثال ما في حليب الأم من الأحماض الأمينية ، والنسب فيما بين الأحماض الأمينية في حليب البقر ليست كنسبة الأحماض الأمينية التي في حليب الأم ، هذه متوافقة توافقاً تماماً مع تركيبه . الخمائر التي ينبغي أن تهضم حليب البقر لا توجد عند الطفل الصغير لذلك يعجز عن هضمها . العلماء قالوا : ارتفاع نسبة الأحماض الأمينية في الدم تسبب للطفل القصور العقلي .
 شيء آخر : حليب اقتصادي ، وأقل كلفة ، وليس ملوثاً ، معقم تعقيماً جاهزاً ، ساخن في الشتاء ، بارد في الصيف ، حينما يبكي الطفل الصغير يجد الحليب جاهزاً ، أما إلى أن تغلي الحليب حتى تعقمه ، وإلى أن تبرده ، يموت الطفل من البكاء . اقتصادي ، أقل كلفة ، ليس ملوثاً . . الطفل الذي يرضع من ثدي أمه لا يعاني من التهابات الأمعاء ، ولا من إنتاناتها، بل إن العطف والحنان الذي يتلقاه الطفل من أمه في أثناء الرضاعة هذا يكسبه رحمة في قلبه إلى يوم يلقى الله عز وجل . لذلك قال الله عز وجل :

﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾

[ سورة البقرة: 233]

 قال العلماء : الحد الأدنى ستة أشهر ، والحد الأتمّ حولان كاملان .
 نقطة دقيقة : إذا حدث ما يمنع الرضاعة من الأم العلماء يقولون : ينبغي أن تبحث له عن مرضعة ، لا أن ترضعه من حليب البقر . .

﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾

[ سورة البقرة: 233]

 البديل ليس حليب القوارير ، أن تبحث له عن مرضعة ، والمرضعة هذه ينبغي أن تكون صحيحة - جيدة الصحة - ذات عقل كبير ، وخلق قويم لقول النبي عليه الصلاة والسلام : "لا تسترضعوا الحمقى فإن اللبن يعدي ".
 هذا منهج الله عز وجل ، الذي يقوله النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، إنه تعليمات الصانع . . لذلك الآن القصور العقلي ، والآفات القلبية ، والآفات الوعائية ، وأمراض جهاز الهضم والكبد ، والأمراض المزمنة التي تلازم الإنسان طوال حياته ، ربما تُفسر بأنه لم يرضع من ثدي أمه . . ولو سألت أطباء الأورام الخبيثة لأجابوك : إن المرأة التي ترضع ابنها من ثديها أقل عرضة للإصابة بورم الثدي من المرأة التي لا ترضع ابنها من ثديها ، أي نسب أورام الثدي الخبيثة في النساء اللاتي يرضعن أولادهن قليلة جداً ، أما نسب الأورام الخبيثة في النساء اللاتي لا يرضعن أولادهن فعالية جداً . ألم يقل الله عز و جل :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾

[ سورة البلد: 8- 10 ]

 قال ابن عباس : النجدان هما الثديان . .

﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾

[ سورة البلد: 10 -13]

 أن تعتق رقبتك من نير الشهوات ، أن تتحرر من نير الشهوات . . تعس عبد الدرهم والدينار ، تعس عبد الفرج ، تعس عبد البطن ، تعس عبد الخميصة .

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ* فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾

[ سورة البلد: 8- 13 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور