- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ، ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علَّمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الذّكر الكثير :
أيها الأخوة الكرام ؛ كان موضوع الخطبة السابقة ذكر الله جلّ جلاله ، وبينت في تلك الخطبة ما ورد في القرآن الكريم من آيات تأمر بالذكر الكثير ، ثم أكدت أن الأمر بالذكر يعني الذكر الكثير ، ذلك لأن المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً ، والمؤمن مأمور أن يذكر الله ذكراً كثيراً :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
وذكرت أيضاً أن الله سبحانه وتعالى حينما قال يصف الذي يعذب في النار :
﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾
بينما أي إنسان من عامة الناس ولو لم يكن ملتزماً يؤمن بالله :
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
فحينما نقرأ القرآن الكريم ينبغي أن نعلم علم اليقين أن الأمر بالذكر يجب أن يكون على نحو الذكر الكثير .
في الخطبة السابقة تحدثت عن ذكر الله عز وجل من خلال آيات القرآن الكريم ، وفي هذه الخطبة سأتحدث عن الذكر أيضاً من خلال سنة النبي عليه أتمّ الصلاة والتسليم .
الدين منهج تفصيلي يغطي كل شؤون حياة الإنسان :
أيها الأخوة : مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الذكر يقول :
(( آمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ))
وقبل أن أتابع الحديث نحن حينما ضعف الإيمان في قلوبنا فهمنا الدين عبادات شعائرية ليس غير ، بينما الدين يقتضي أن تتبع منهجاً تفصيلياً ، فكل أمر في القرآن الكريم، وكل نهي في القرآن الكريم ، وكل أمر في السنة الشريفة ، وكل نهي في السنة الشريفة ، يقتضي أن يتوافق مع هذا الأمر بالاتباع ، ومع هذا النهي بالترك ، هذا هو الدين منهج تفصيلي يغطي كل شؤون حياتك ، فيقول عليه الصلاة والسلام :
(( َآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ ))
أنت أمام خيارين إما أن تكون مع الله عن طريق الذكر ، وإما أن تكون مع الشيطان عن طريق الشهوة ، شيئان يحركان الإنسان ؛ تقرب إلى الله ، واستمتاع في الدنيا ، لكنك إذا تقربت إلى الله لا يعني ذلك أنك محروم مما أودع الله فيك من شهوات ، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري من خلالها ، شتان بين من يتبع هواه وفق منهج الله ولا شيء عليه ، وبين من يتبع هواه بغير هدى من الله ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
معنى ذلك الإسلام دين الفطرة ، الإسلام دين الحياة ، يمكن أن تحقق كل الرغبات التي أودعها الله فيك وفق منهج قويم ، وسلوك مستقيم ، وأنت بهذا تجمع بين نعم الله في الدنيا وبين نعمه في الآخرة .
ذكر الله يدور مع المؤمن في كل أوقاته :
أيها الأخوة ؛ الشيطان كما يقول ابن عباس رحمه الله تعالى ورضي عنه : " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنث " .
معك سلاح خطير لمجرد أن تذكر الله عز وجل الشيطان يبتعد عنك و يخنث ، وكل إنسان قيض الله له ملك يلهمه ، وشيطان يوسوس له ، ينبغي أن يأخذ موقفاً .
أيها الأخوة الكرام ؛ ومن أقوال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الذكر :
(( ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل))
بينت لكم في الخطبة السابقة أن ذكر الله يدور مع المؤمن في كل أوقاته ، وفي كل أحواله ، وفي كل شؤون حياته ، وبينت أيضاً أن أي شيء يقربك إلى الله من ذكر ، من دعاء، من استغفار ، من إعلان توبة ، من مناجاة ، من تلاوة ، من صلاة ، من أمر بالمعروف ، من نهي عن المنكر ، هذا هو الذكر ، ما من عمل يتسع حتى يشمل كل شيء كذكر الله عز وجل، والله عز وجل وصف المؤمنين بأنهم :
﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ﴾
ومن أدق ما في السنة الشريفة من أحاديث تتحدث عن الذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله عز وجل ))
النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ألا تكفي هذه الآية الكريمة :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
اللذة و السعادة :
أيها الأخوة : ما من مخلوق على وجه الأرض إلا ويبحث عن سلامته وسعادته، حينما نوقن جميعاً أن سعادتنا بذكر الله ، والآية توضح ذلك :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
لم تأت الصياغة : تطمئن القلوب بذكر الله ، لو كانت كذلك لأشارت إلى أن القلوب تطمئن بذكر الله ، وتطمئن بغير ذكر الله ، لكن حينما قال الله عز وجل :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
يجب أن نعلم علم اليقين أنه لا سعادة لنا إلا بالقرب من الله ، لكن الذي يتوهمه الناس سعادة هي لذائد حسية ، تأتيك من الخارج ، وقد توفرها الظروف وقد لا توفرها ، وهذه اللذائذ الاستمتاع بها متناقص ، هكذا شاءت حكمة الله عز وجل ، وإن لم تكن وفق منهج الله أعقبها كآبة مدمرة ، لذائذ حسية تأتيك من الخارج ؛ من مال ، أو من بيت ، أو من مركبة ، أو من امرأة تأتيك من الخارج ، أثرها تناقص لحكمة أرادها الله عز وجل ، تعقبها كآبة إن لم تكن وفق منهج الله ، وإن كانت وفق منهج الله من المباحات إنما هي لذائذ عارضة ليس لها أثر مستقبلي ، بينما السعادة التي أرادها الله لنا تنبع من الداخل .
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
لا تحتاج إلى ظروف خارجية إطلاقاً ، وقد تكون في أخشن حياة وأنت من أسعد الناس ، وقد تكون في أنعم حياة وأنت أشقى الناس ، هذه هي السعادة إنها متنامية ، تلك متناقصة وهذه متنامية ، تلك لها ثمن باهظ يجب أن يكون معك مئات الألوف بل بضع الملايين حتى تحقق هذه اللذائذ التي تطمح إليها ، بينما السعادة تكفي أن تكون منيباً لله عز وجل ، مقبلاً عليه ، متبعاً لمنهجه ، طائعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
((ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله عز وجل ))
المقارنة بين مجالس الذكر و المجالس الأخرى :
أيها الأخوة : هل تصدقون أن إنساناً في هذه الحياة ليس له لقاءات مع أصدقائه ؟ مع أقربائه ؟ مع جيرانه ؟ مع إخوانه ؟ مع زملائه ؟ مع من يلوذ به ؟ يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
((مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً))
يجتمع الناس يدعون إلى ولائم ، يسمرون في ليالي الصيف ، يتحدثون مادام الحديث بعيداً عن ذكر الله ، يقومون عن هذا المجلس وكأنهم قاموا عن أنتن من جيفة حمار ، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام ، تقوم من المجلس وأنت محطم ، ليس هناك خبر سار ، ليس هناك أمل كبير ، ليس هناك تفاؤل مديد ، إنك تحاط بأخبار لا ترتاح لها ، هناك تنافس ، هناك افتخار ، هناك زهو ، هناك استعلاء ، هناك غطرسة ، أما إذا كنت مع المؤمنين وذكرت الله عز وجل إن في تدارس كتابه ، أو في الحديث عن سنته ، أو في ذكر سير صحابته ، تشعر أنك في أعلى عليين .
أيها الأخوة بالمقابل :
(( لا يقعد قوم يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده))
الملائكة تحفك تلهمك الصواب ، الرحمة تغشاك ، والرحمة أثمن عطاء من الله عز وجل ، واسعة جداً تبدأ من سلامتك ، وتنتهي بسعادتك ، تمر بالتوفيق ، بالتأييد ، بالنصر ، بالحفظ ، بالراحة النفسية ، بالتوازن ، بالأمل ، بالتفاؤل ، فهؤلاء القوم إذا جلسوا مجلساً وذكروا الله فيه حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة . يصعب تفسيرها سعادة لا توصف ، يقول أحدهم : كنا في مجلس كأننا في الجنة ، ألم يقل بعض أصحاب رسول الله :
(( نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين فإذا عافسنا الأهل ننسى))
أيها الأخوة ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لو بقيتم على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة ولزارتكم في بيوتكم ))
إنك إن دخلت إلى بيت من بيوت الله ، وجلست تستمع ما في كتاب الله من آيات، وما في السنة من أحاديث ، ثم نظرت إلى أعلام الصحابة كيف كانوا مسلمين متحركين ، كانوا رضوان الله عليهم رهباناً في الليل فرساناً في النهار ، هذه النماذج تبث فيك الأمل ، وتدفعك إلى العمل ، أما إذا اطلعت على ما تعرضه الشاشات لا تقوى على صلاة العشاء بعدها ، لماذا ؟ لأن الشيطان صرفك إلى مجال آخر بعيد عن مجال الدين .
أيها الأخوة :
((لا يقعد قوم يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده ))
حياة القلوب تكون بذكر الله :
أيها الأخوة الكرام :
((أحد أصحاب رسول الله قال : يا رسول الله إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بها كلها فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر عليّ فأنسى ؟ ))
وفي رواية أخرى : " يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ وأنا كبرت فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر عليّ فأنسى " فقال عليه الصلاة والسلام :
(( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ))
أي أكثر من ذكر الله ، بذكر الله عز وجل تحيا القلوب .
((والنبي عليه الصلاة والسلام سئل قال السائل : يا رسول الله أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : الذاكرون الله كثيراً ، قيل: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟))
أرفع درجةً الذاكر الله كثيراً ، وهو أرفع درجةً من الغازي في سبيل الله .
فقال عليه الصلاة والسلام :
((... لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى يتكسر ويتخضب دماً لكان الذاكر الله كثيراً أفضل منه درجةً))
الذاكر لله موصول بالإله العظيم، موصول بالعلم الغزير ، بالعطاء الكبير ، موصول بالقوة المبدعة في الكون .
القلب الميت قلب أعرض عن ذكر الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه و الصلاة و السلام في بعض أحاديثه يقول وقد ورد هذا في صحيح البخاري :
(( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ))
كم هي المسافة كبيرة بين الأحياء والأموات ، بين جثة هامدة تخاف منها لا تستطيع أن تنظر إليها ، وبين إنسان ممتلئ حيوية ونشاطاً ، يتحدث فيملأ قلوب الحاضرين بالأنس والسرور.
(( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ))
وقد قال الله عز وجل :
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾
هذا الذي أعرض عن ذكر الله ميت القلب . ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء .
الله مع المؤمن بالحفظ و التأييد و التوفيق :
وفي الصحيحين :
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))
لمجرد أن تتقرب من الله خطوة تشعر بانشراح في الصدر ، ويسر في الأمر ، وقرب من الله عز وجل ، تقول : أنا في جنة ، تقول : ليس في الدنيا من هو أسعد مني، أنت ماذا فعلت ؟ خطبت ود الله عز وجل اقتربت منه خطوة ، هذا الحديث أيها الأخوة يملأ القلب أملاً وسعياً إلى مرضاة الله عز وجل .
((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي))
ومعنى معه أي معه بالحفظ ، معه بالتوفيق ، معه بالتأييد ، معه بإنزال السكينة على قلبه ، معه بأن يدافع الله عنك ، معه بأن يلقي في قلبك السكينة ، معه بأن ييسر أموره بالدنيا ، هذه معية خاصة .
(( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ ، إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ))
المؤمن الصادق أيها الأخوة يضع نفسه في التعتيم ، همّه الأول أن يذكر الله للناس، همه الأول أن يقرب الناس من الله ، همه الأول أن يدفع الناس إلى طاعة الله ، ينسى نفسه ، وهذا من إخلاصه ، أما الذي يلقي الأضواء على ذاته ليلاً نهاراً فهذا يعبد ذاته ولا يعبد ربه .
((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))
تجلي رحمة الله على قلب المؤمن و هو في المسجد :
أيها الأخوة الكرام ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا : وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ))
دخلت إلى بيت من بيوت الله لا تبتغي طعاماً ولا شراباً ولا أنساً بأصدقائك ، تبتغي وجه الله ، فأنت ضيف الله ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل إلى المسجد يقول :
((اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك))
فإذا خرج من المسجد يقول :
((اللهم افتح لي أبواب فضلك ))
فأنت بين رحمة الله تتجلى على قلبك في المسجد ، وبين أن يكون الله معك في حياتك اليومية ، فيحفظك ، ويرعاك ، ويؤيدك ، وينصرك ، ويوفقك ، ويجري على يديك الخير . الخير بيدي والشر بيدي ، فطوبى لمن قدرت على يده الخير ، والويل لمن قدرت على يده الشر. إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك .
أيها الأخوة : نذكركم بالآيات الكريمة :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
تنجحون في الدنيا والآخرة .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾
قال تعالى :
﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ﴾
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾
هذا توجيه القرآن الكريم وهذه توجيهات السنة الشريفة .
أنس المؤمن بذكر الله عز وجل :
أيها الأخوة : ذكر البيهقي عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
(( ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة))
أذكركم مرةً ثانية : باب الذكر واسع جداً لك أن تقول : الله الله ، ولك أن تذكر بأذكار النبي : حسبي الله ونعم الوكيل ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، لك أن تذكر بأذكار النبي عليه الصلاة والسلام ، ولك أن تستغفر الله ، ولك أن تتوب إليه ، ولك أن تدعو إليه ، ولك أن تقرأ كتابه ، ولك أن تقرأ أحاديث رسوله ، ولك أن تراجع موضوعاً بالفقه ، ماذا أفعل ؟ وما حكم الشرع في هذا الذي أفعله ؟ ولك أن تستمع إلى درس علم ، ولك أن تأمر بالمعروف ، ولك أن تنهى عن المنكر ، ولك أن تصلي، ولك أن تفعل أي شيء يقربك من الله عز وجل ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((كلام ابن آدم كله عليه لا له ، إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر ، أو ذكراً لله عز وجل))
((عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : أن تموت ولسانك رطباً بذكر الله عز وجل ))
لو أننا تحدثنا قليلاً عما يدور في مجالس المسلمين ؛ حديث عن الأفلام التي شاهدوها ، وعن الممثلين والممثلات ، الأحياء منهم والأموات ، وعن الساقطين والساقطات ، وعن الذين يفعلون كل الموبقات ، والحديث عنهم ذو شجون كما يقولون ، بينما المؤمن يأنس بذكر الله عز وجل .
ويقول عليه الصلاة والسلام :
((لكل شيء صقالة ، وإن صقالة القلوب ذكر الله عز وجل ، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع))
التلازم بين الغفلة عن ذكر الله و بين اتباع الهوى :
آخر شيء أيها الأخوة :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
إياك أن تمشي مع غافل متبع للهوى ، ينبغي أن تكون مع ذاكر لله عز وجل ، متبع للوحيين ، إياك أن تصاحب غافلاً أو متبعاً لهواه .
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
معنى أغفلنا أيها الأخوة وجدناه غافلاً ، صحبت القوم فما أجبنتهم أي ما وجدتهم جبناء ، صحبت القوم فما أبخلتهم أي ما وجدتهم بخلاء معنى أغفلنا بالمعنى الدقيق اللغوي وجدناه غافلاً ، لا كما يتوهم بعض الناس جعله غافلاً ، وجده غافلاً .
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
وكأن هناك تلازماً بين الغفلة عن ذكر الله وبين اتباع الهوى ، وكأن هناك تلازماً آخر بين ذكر الله عز وجل وبين اتباع الحق .
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ، فاستغفروه يغفر لكم ، فيا فوز المستغفرين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الناس في الصلاة على مراتب خمس :
أيها الأخوة الكرام :
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
الصلاة ذكر لله عز وجل ، بل إن الذكر أكبر ما فيها ، أي أن ذكر الله لك أكبر من ذكرك له ، إنك تذكره تعبداً ، ولكن الله إذا ذكرك يذكرك حفظاً ، ويذكرك تأييداً ، وتوفيقاً ، وإسعاداً ، قال بعض العلماء : الناس في الصلاة على مراتب خمس ... وأنا أوجه هذا الخطاب لنفسي أولاً ولكم ثانياً .
بعض العلماء قال : الناس في الصلاة على مراتب خمس ، أحدها مرتبة الظالم لنفسه ، المفرط الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها ، هذا ظالم لنفسه في الصلاة .
والثاني من يحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها ولكنه قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس هذه مرتبة ثانية ، حافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ولكنه ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوساوس .
والثالث من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق من صلاته فهو في صلاة وجهاد .
والرابع من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاةً لحدودها وحقوقها لئلا يضيع عليه منها شيء بل همّه مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها .
والخامس من إذا قام إلى الصلاة قام إليها لكن مع هذا قد أخذ قلبه ، ووضعه بين يدي ربه عز وجل ، ناظراً بقلبه إليه ، مراقباً له ، ممتلئاً من محبته وعظمته ، كأنه يراه ويشاهده وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات ، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه ، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض ، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل قرير العين .
خمس مراتب : المرتبة الأولى صاحبها معاقب ، الظالم لنفسه المفرط انتقص من وضوئها ومن مواقيتها وحدودها وأركانها .
والثاني الذي حافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها الظاهرة ووضوئها ولكنه قد ضيع مجاهدة نفسه قال : الثاني محاسب و الأول معاقب .
والثالث من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار هذا مكفر عنه .
والرابع مثاب له عند الله ثواب المصلي كما أراد الله عز وجل .
والخامس مقرب من الله عز وجل ، فبين معاقب وبين محاسب وبين مكفر عنه وبين مثاب وبين مقرب إلى الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ الإنسان إذا دخل في الصلاة فشغل بغير الله عز وجل أرخيت دونه الحجب ، إذا التفت إلى الله عز وجل رفعت بينه وبين الله عز وجل الحجب ، إما أن ترخى في وجهك تضيق ذرعاً بالصلاة قال تعالى :
﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾
وإما أن تتصل بالله عز وجل فترفع الحجب بينك وبين الله ، اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين يصلون كما أراد الله لنا .
إني داع فأمنوا .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعزُّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجعل الحياة لنا زاداً من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تُنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد سخياً رخيّاً وسائر بلاد المسلمين .
اللهم نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهمَّ بفضلك ورحمتك أَعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .