وضع داكن
18-04-2024
Logo
الخطبة : 0777 - صفات المسلم غير المؤثر .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا مما يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

المسلم في آخر الزمان :

 أيها الأخوة المؤمنون، في الجمعة السابقة تحدَّثت عن موضوع دقيق، كيف يكون المسلم في آخر الزمان؟ في دائرة التأثير، ليس كل مسلم يستطيع أن يؤثر في الآخرين إلا بصفات عالية جداً، وقد تحدثت عن هذه الصفات واحدة واحدة، واليوم أتحدث عن الناحية السلبية، مَن هذا المسلم الذي يعد رقماً في مجموع لا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا أن يقول كلمة ولا أن يحرِّك شيئاً؟
 أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء من الثابت عندكم جميعاً أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فإذا تنبَّأ بعض الأنبياء بما سيكون فهذا من إعلام الله لهم، النبي عليه الصلاة والسلام تنبَّأ بزمنٍ صعبٍ قال:

((... أناس يأتون في آخر الزمان الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، أجره كأجر سبعين، قالوا : منا أم منهم؟ قال : بل منكم، قالوا: و لمَ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون ))

[ الترمذي عن أنس]

 أحاديث كثيرة بينت صفات آخر الزمان.

عدم صمود الدين المُفْعَم بالبدع أمام إغراءات الحياة المعاصرة :

 أيها الأخوة الكرام، الفهم السطحيٌّ للدين، الدين المُفْعَم بالبدع، بالأوهام، هذا الدين لا يصمد أمام إغراءات الحياة المعاصرة، الحياة مستعرة بالشهوات، مفعمة بالشبهات، كل شيءٍ يدعو إلى المعصية، كل شيءٍ يدعو إلى الدنيا، فالإيمان السطحي، الأوهام، البدع، الخُزعبلات، الإيمان الغير متماسك، هذا لا يصمد أمام قوة الحياة، لعله قبل مئة عام حينما كانت الحياة بسيطة يكفي أن تعبد الله، العابد كان ناجٍ، أنا أرى وهذا رأي شخصي أن العابد اليوم لا ينجو، لأن قوة الحياة، واستعار الشهوات، واتساع الشبهات، وكثرة الضلالات، وكل شيءٍ يدعو إلى الدنيا، وكل شيء يدعو إلى المعصية.
 إيمان سطحي، وفهم بسيط، ودين كله أوهام، وكله بدع، هذا لا يصمد أمام قوة الحياة المعاصرة، فمن أراد أن ينجو بنفسه، ومن أراد أن يكون سبباً لهداية غيره، أي من أراد أن يكون في دائرة التأثير عليه أن يرجع إلى الخطبة السابقة، أما صفات المسلمين الذين هم بعيدون عن دائرة التأثير، صفات المسلمين الذين هم أرقامٌ في عدد كبير، قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينطق عن الهوى:

(( ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفا مِنْ قِلَّةٍ ))

[أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس]

 فكيف بمليار ومئتي مليون ليست كلمتهم هي العُليا؟ وليس أمرهم إليهم؟ وللكافرين عليهم ألف سبيل وسبيل؟ ذلك أن هؤلاء أرقاماً لا تعني شيئاً.

 

من توهم أنه مجبر على أفعاله ابتعد عن حقيقة الدين :

 أيها الأخوة الكرام، المسلم المكبَّل بالأوهام، هناك آلاف الأوهام تكبِّل المسلمين، أوهامه معتقدات زائغة، أن تؤمن بالشفاعة إيماناً ساذجاً، إيماناً سطحياً، افعل ما شئت، ارتكب من الموبقات ما شئت، تحرَّك ما شئت، والنبي الكريم لن يرفع رأسه من السجود إلا إذا شفع لأمته، أنا لا أنكر الشفاعة إطلاقاً معاذ الله، فيها آيات وأحاديث، ولكن المسلمين فهموها فهماً مشوهاً مزوراً بعيداً عن الواقع، كيف يقول النبي عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة:

(( يا عباس عم رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

(( من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

(( لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ))

[ أحمد عن أبي هريرة]

 وكيف يقول الله عز وجل:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾

[ سورة الزمر: 19 ]

 لا أريد في هذه العُجالة أن أخوض في تفصيلات موضوع الشفاعة، ولكن حينما فهم المسلمون الشفاعة فهماً ساذجاً سطحياً، وظنوا أنهم بكل موبقاتهم، وكل معاصيهم، سيشفع النبي لهم، مع أن النبي في حديث صحيحٍ يقول بما معناه: "لا ينال شفاعته إلا من مات موحداً، غير مشرك" وهذه درجة عالية جداً في الإيمان أن يموت الإنسان موحداً غير مشرك.
 أيها الأخوة الكرام... حينما يتوهم المسلم أنه مجبر على كل أفعاله، وأنه لا ذنب له بالقدر الذي نزل به، هذا فهم آخر يتنافى مع حقيقة الدين، حينما يتوهم الإنسان أنه مجبر على المعاصي، وأن الله خلقه كافراً، وأنه لابد من أن يخلد في النار من دون سبب منه إطلاقاً، هذه العقيدة وحدها تكبِّل الإنسان وتجعله يبرك.

الإنسان مخيَّر فيما كُلِّف :

 أيها الأخوة الكرام، عشرات العقائد الزائغة، عشرات العقائد المنحرفة، من شأنها أن تكبِّل الإنسان، حينما يؤمن الإنسان أنه مسير وليس مخيراً، وهناك آيات كثيرة تقول:

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 148]

 هذه الآية أصلٌ في أن الإنسان مخير، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، كيف يزعُم المسلم أنه مسيَّر في كل أعماله؟ هو مخيَّر فيما كُلِّف، وحينما يسير لصالحه؟

الأوهام التي تكبِّل المسلمين :

 أنا لا أعالج هذه الموضوعات معالجة مستفيضة، ولكن أعطيكم نماذج من الأوهام التي تكبِّل المسلمين، حينما تظن أن الله خلاَّقٌ وليس فعالاً، ويغيب عنك أن الله عز وجل في السماء إلهٌ وفي الأرض إله..

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾

[ سورة الكهف: 26 ]

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 حينما تتوهم جهةً قوية تفعل ما تريد، وبيدها مصائر العباد، هذا الشرك وحده يبعدك عن أية حركة، أوهام الشرك، مع أوهام الشفاعة، مع أوهام الجبر، مع أوهام أن الله خلق وترك الناس يغلب قويّهم ضعيفهم، هذه كلها أوهام تثبِّط العزيمة، وتجعل المسلم يقعد عن الحركة.
 حينما يضطرب مفهوم العدل عند المسلمين، حينما لا يعتقدون أن الله عدله مطلق، وأنه:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾

[ سورة الأنبياء: 94]

 وأنه..

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة: 7-8]

 حينما يضطرب هذا المفهوم في عقائد المسلمين أيضاً يقعدون عن الحركة، حينما يكبَّل المسلم أحياناً في التاريخ قد يقرأ عن الفِتَن التي حصلت في صدر الإسلام، وأكثرها مبالغ إلى درجة غير معقولة، بالغ بها أعداء الدين، حينما يقرأ التاريخ مع أن التاريخ لم يتح له علماء محققون كعلماء الحديث يفحصون رواياته، وينفون ما كان منها مزوراً، حينما يقرأ التاريخ ويرى أن الفتن قديمة، وأن الصراعات قديمة، وأن الإنسان لم يتبدل، ولم يتغير مع هذه البعثة المحمدية، هذا أيضاً وهم كبير.

الأشياء التي تقعد المسلم عن الحركة :

 ما الذي يقعد المسلم عن الحركة؟ أوهام الشفاعة، وأوهام القضاء والقدر، وأوهام الجبرية، وأوهام الشرك، وأوهام البدع، وأوهام مفهومات العدل، هذه كلها، وهناك وهم آخر: كل ما نعاني منه مؤامرة استعمارية، هذا وهم كبير، لماذا هناك بلاد في عمرنا الحضاري تحرروا من هذا الأوهام؟! هناك أخطاء نحن نتحملها وحدنا ولا أحد يتحملها، أما أن نعزو كل شيءٍ إلى جهة بعيدة، أو إلى جهةٍ قوية، هذا الوهم، هناك من يقول لك: كل شيء يعاني منه المسلمون هو مؤامرة حيكت بدقة بالغة، هناك من يتآمر على المسلمين، ولكن لا لهذه الدرجة الكبيرة، هذا وهم من أوهامنا قيدنا عن الحركة.
 أيها الأخوة الكرام، الإنسان حينما تُعَشْعِش في نفسه وفي عقله مثل هذه العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، والبدع المنكرة، ما الذي يحصل؟ يقعد عن الحركة، ويستسلم لمصيره المشؤوم، ويندب حظه، ويبكي ويقول: انتهينا. هذا هو المرض الذي يرضاه الشيطان لنا، أن نقعد، ألا نتحرَّك.

العلم سبيل التحرر من كل بدعة و ضلالة :

 الله عز وجل ما سلمنا إلى جهةٍ ما، كيف يسلمنا إلى جهة ما وقد أمرنا أن نعبده وطمأننا أن الأمر كله راجع إليه.

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

 حينما تعتقد أن جهة ما كائنة مَن كانت، بعيدة أو قريبة، قوية أو ضعيفة، تملك مصيرنا، وتملك تفاصيل حياتنا، كيف يتثنى لك أن تعبد الله بعد هذا الفكرة؟ ينبغي أن تؤمن أنه لا إله إلا الله، وأن الأمر كله بيد الله، وأنه بيده ملكوت السموات والأرض، وأنه:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة فاطر: 2]

 لابد من أن تطلب العلم الدقيق، لابد من أن تطلب العلم الذي تتحرر به من كل وهم، ومن كل بدعة، ومن كل ضلالة، ومن كل ظن.
 أيها الأخوة الكرام المسلم المكبَّل بأوهام لا تعد ولا تحصى عضوٌ أَشَل في المجتمع الإسلامي، لا يقوى على الحركة، مستسلم لمصيره المشؤوم، يندب حظه دائماً، يعتذر بالأقدار، وهذا كله من أوهام الشيطان.
 أيها الأخوة الكرام، وهناك إنسانٌ لا يستوعب حقيقة الحياة، يتوهم أنه يفعل كل شيء، فإذا صدم عاد إلى حجمٍ أقل من حجمه الحقيقي، هذه نكسة أيضاً تعود بالمسلم إلى الوراء خطوات كثيرة.

العقيدة أخطر شيء في حياة الإنسان :

 أيها الأخوة الكرام، من الأدعية التي يدعو بها بعض الصالحين: " اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات" ما من شيء خطر على العقيدة كأن تكون عقيدتك مفعمةً بالأوهام، بالضلالات، بالفهم السطحي، بل إن أحد كبار العلماء يقول: "من دعا إلى الله بقيم سطحية غير متوازية، بمفهومات ساذجة، بتناقضات لا تقبل، بأسلوب غير علمي، بطريقة غير تربوية، أو لم يجد المدعو في الداعي مصداقيةً فيما يقول، هذا الإنسان المدعو بهذه الطريقة لا يعد مبلغاً عند الله عز وجل".
 فأخطر شيء في حياتك عقيدتك، لأن أي انحراف في العقيدة لابد من أن ينعكس انحرافاً في السلوك، وأنا أقول دائماً: لو أنه لا علاقة بين عقيدتك وسلوكك اعتقد ما شئت، ولكن لأن أي عقيدة زائغة، منحرفة، واهمة، مبتدعة، تلقي ظلالاً واضحة على سلوكك، وإذا صحّ العمل صحّ القبول، وإذا صحّ القبول سعد الإنسان في الدنيا والآخرة، فلابد من حركة جذرية، لابد من أن تسأل، لابد من أن تتعلم، أما هذا الذي يكتفي بأن يأخذ دينه عن الفضائيات، وعن هذه الندوات، وهذه الندوات ترضي أصحاب هذه الفضائيات، وتدغدغ مشاعر هؤلاء الذين يموَّلونها، لذلك كاد الدين أن يفرغ من مضمونه، حينما تصغ إلى ما يقال في محطات لا تلتزم لا بعقيدة صحيحة، ولا بمنهج مقبول.

صفات المسلم غير المؤثر :

1 ـ مفعم بالأوهام والبدع والعقائد الزائفة :

 أيها الأخوة الكرام... الصفة الأولى لهذا المسلم الذي يعد رقماً، لا شأن له إطلاقاً، هو مفعم بالأوهام، مفعم بالبدع، مفعم بالعقائد الزائفة، مفعم بالتقليد الأعمى، مفعم بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان.

2 ـ لا يقوى على الحركة :

 الصفة الثانية لهذا المسلم الذي لا يقوى على الحركة، ويعد رقماً في مجموع لا معنى له، هو يتوهم أن هذا الزمان زمان خفَّة وحركة ونشاط، وزمان تخَفّف من القيود الأخلاقية والدينية، هذا النمط الثاني، ليس عنده شيء اسمه حرام، كل شيء يتساهل به، لابد من أن يسعى نحو الثروة، ونحو المتعة، ونحو تحقيق مآربه في الحياة الدنيا.
 أيها الأخوة الكرام... هذا الذي يتغاضى عن عقيدته، وعن قيمه، وعن مبادئه، ويطلق العنان لشهواته، هو يتوهَّم أنه يبحث عن طريق سعادته، ولكن ما موقفه حينما يفاجأ في ساعةٍ لا ينفع فيها الندم أنه كان يمشي في طريق مسدود وأن سعادته بالله وأنه إذا التزم مبدأه وعقيدته وضيّع شيئاً من دنياه التي لا تدوم ربح نفسه وربح آخرته؟ بعض كبار العلماء يقولون: إن مبدأ اللذة إذا استهدف انقلب إلى مبدأ ألم، الشهوات لها قنوات نظيفة في شرع الله، فإذا مارسها الإنسان وفق ما شرع الله تضفي على حياته نوعاً من البهجة، أما إذا استهدفها، وجعلها ديدنه، وجعلها قبلته، وجعلها هدفاً لحياته، هذه الشهوات التي توهم أنها تسعده تنقلب إلى مبدأ للألم، من هنا إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.

مجتمع الاستهلاك :

 أيها الأخوة الكرام، هذه الأوهام، ذلك أننا نعيش في مجتمع الاستهلاك، فكل شيء يعرض يحببك بالحياة؛ مركبة فارهة، فيها ميزات لا تعد ولا تحصى، أجهزة كهربائية في البيت تريح سيدة المنزل، قنوات فضائية تجمعك بمئتين وخمسين محطة، تطلع فيها على ما تشاء، هذه الدعايات لتلك المُنجزات، وهذه الأجهزة، وهذه الوسائل المريحة، هذه تجعلك تلهث وراء نموذجٍ من الإنسان يعيش لشهواته فقط، ويعيش لمتعته فقط، لا يصبو إلا إلى الدنيا، يمتِّع نفسه بها، بطريقٍ مشروع أو غير مشروع، حلال أو حرام، حينما تنقلب اللذائذ والشهوات إلى مبادئ يسعى الناس إليها، انقلبت إلى مبادئ من الألم والشقاء.

سعادة الإنسان بالتزام منهج الله :

 أيها الأخوة الكرام... قال تعالى:

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 14 ]

 الله وحده هو الخبير، هو الخبير بما يسعدك وبما يشقيك، كل السعادة في معرفته، وكل السعادة في طاعته، وكل السعادة في التزام منهجه، أعد لك في الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهيَّأ لك دنيا؛ إن أخذت بما سمح لك، أي ببقية الله كما قال بعض الأنبياء: بقية الله خير لك، إن أخذت بما سمح الله لك من هذه الشهوات التي جعل الله لها قنوات نظيفة فإنك تسعد في الدنيا والآخرة، وهذا شرح بعض العلماء لقوله تعالى:

﴿ ِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[سورة الرحمن: 46]

 أيها الأخوة الكرام، كملخص لهذه الفقرة الثانية: مستحيلٌ وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتشقى، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتسعد..

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب:71]

 أنت أعقد آلة في الكون، ولك صانع حكيم، ولهذا الصانع تعليمات التشغيل والصيانة، فإن اتَّبعت تعليمات التشغيل والصيانة انطلاقاً من محبتك لذاتك ولوجودك سعدت في الدنيا والآخرة.

الأحمق من انشغل بماضيه و حاضره عن مستقبله :

 أيها الأخوة الكرام، بقي كما قلت في مقدمة هذه الخطبة، إن الحياة الحديثة معقَّدة جداً، فيها ضغوط كبيرة، ضغوط تدعوك إلى أن تعيش كما يعيش المترفون، أن تقتني كل جهاز حديث، وكل أداة حديثة، وكل مركبة فارهة، وكل طعام نفيس، وأن ترتاد كل مطعم فخم، وكل مقصف جميل، هذا النمط من الحياة ينطوي على شقاء ما بعده شقاء، لأنه إذا استهدف انقلب إلى شقاء كما قلت قبل قليل.
 لذلك: هذا الذي يعيش حياة الماضي أو يعيش الحاضر، يوزَّع بين الماضي والحاضر، الماضي الذي يعيشه فيه مفهومات بعضها غير صحيح، الماضي ركام من العادات والتقاليد، فإذا ورثنا عاداتٍ وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، ولسنا متأكدين من صحتها، ولسنا متأكدين من صوابها، وتحكمت بنا، وجعلناها كأنها شرع يحكمنا، هذه مشكلة كبير جداً، أساساً الشيطان من أحد أساليبه أنه يضخم لك الماضي كي تتبعه، كي تتبعه وعلى أنه دين، والحاضر مشكلته أنك تفعل فعل ردود الفعل فقط، تفاجأ بشيء لم يكن متوقعاً، تبحث عن وسيلة للخلاص من مشكلةٍ تفجرت أمامك، مشغولٌ بمفهومات ماضية تتحكم بك، لست متأكداً من صوابها، ومشغول بأحداث متفجرة في حاضرك لا تقوى على دفعها، وأنت غافلٌ عن المستقبل.

العاقل من أعدّ للموت عدته :

 يا أيها الأخوة الكرام، هل من حدث في المستقبل أكثر واقعية من الموت؟ هل بإمكان واحد مهما كان مكابراً أن يقول: أنا لا أموت. فماذا أعددت لهذه الساعة التي لابد منها؟ مشغول بمفهومات اقتبستها من عاداتك وتقاليدك وآبائك وأجدادك، ومشغولٌ بدفع تفجُّرات يحياها حاضرك، ولكن هذا المستقبل الذي لابد من أن نرده، لابد من أن نغادر الدنيا:

كل مخلوق يموت ولا يبقى  إلا ذو العزة والـــجبروت
* * *
والليل مهما طــــال  فلا بد من طلوع الفـــجر
والعمر مهما طــــال  فلابد من نزول الــــقبر
* * *

 هذه الساعة التي لابد منها..

كل ابن أنثى و إن طالت سلامته  يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جــنازة  فاعلم بأنك بعدها محمــول
* * *

 هذه الساعة التي لابد منها ماذا أعددت لها؟ تعد للدنيا كل شيء، تنظِّم كل شيء، تسأل عن سلعةٍ متينة لا تفنى، تبحث عن بيت له مواصفات عالية جداً، تبحث عن دخل كبير، هذه الساعة التي تفقد بها كل شيء في ثانية واحدة، لمجرد أن يقف القلب، انتهت الحياة، لمجرد أن تضيق الشرايين أصبحت الحياة صعبة، لمجرد أن تنمو الخلايا نمواً عشوائياً، أصبح الموت وشيكاً، هذه الساعة التي لابد منها، هذه البوابة بوابة الخروج من الدنيا، لكل واحد منا بوابة شاء أم أبى، مهما اعتنى بصحته، لو أنه اعتنى عناية تفوق حدّ الخيال له بوابة يخرج منها، مَن هو البطل؟ من هو الذكي؟ من هو العاقل؟ الذي يجعل هذه البوابة بوابة إلى الجنة، البوابة التي يخافها الناس في الدنيا، يخافون من كلمة مرض عُضال، يخافون من كلمة مرض في القلب، من مرض في الخلايا، من مرض في سيولة الدم، يخافون ولكن لابد لكل واحد منا من بوابة يخرج منها إلى الدار الآخرة، فكل بطولة المؤمن، وكل نجاح المؤمن، أن يجعل هذه البوابة بوابة إلى الجنة، إلى جنة عرضها السموات والأرض.

النقد الذاتي قوة للإنسان في تطوير حياته :

 أيها الأخوة الكرام... من صفات هذا المسلم الذي هو رقم في مجموع، لا قيمة له إطلاقاً، ولا يؤثر في أحد، ولا يصغي إليه أحد، أنّ نقده منصبٌ على جهات خارجية، أما أن ينقد نفسه!! وكأنه مرض عند معظم المسلمين يتوهم أنه وحده على صواب، وأن كل من حوله مخطئ، فتراه يبالغ في نقد الآخرين، ويغفل عن أخطاء نفسه، هذه الشخصية غير متوازنة، لو أن نقده وجَّهه مرة إلى ذاته لكشف عيوبه، ولكان هذا النقد الذاتي أحد أسباب قوته.
أيها الأخوة الكرام...مريضٌ ذاك الذي يكشف كل أخطاء الآخرين ويغفل عن أخطاء نفسه، ورائعٌ جداً أن تفحص نفسك من حينٍ إلى آخر، وأن تنتقد نفسك، وتصرفاتك، وتصوّراتك، هذه كلها ينبغي أن تكون محل نقد، وتفحص، وتأمل كي تكون قوة لك، لذلك نمط المسلمين المتخلفين دائماً ينتقدون مَن حولهم، وكأنه ديدنٌ لهم، أما أن ينتقدوا أنفسهم، أن يصلحوا ذوات أنفسهم، أن يصلحوا العلاقة بينهم وبين ربهم، فهذه هم بعيدون عنها بعد الأرض عن السماء.
هناك مرض يصيب هذا المسلم: الرضا عن النفس، راض عن نفسه، عن تصوراته، عما يعيش في عقله من قيم بائدة، ومن أفكار زائفة، راض عن نفسه، ولكنه ليس راضياً عن رزقه، بينما المؤمن الحق يحاول أن ينتقد نفسه، وأن يتأمل، وأن يستبطن، كي يكون هذا النقد الذاتي قوة له في تطوير حياته.

النبي قدوة لكل المسلمين :

 أيها الأخوة الكرام، لا تنسوا أن النبي الكريم، وهو المعصوم، كان قدوة لنا في هذا، حينما اختار موقعاً لجيشه في بدر، وأراد الله عز وجل لحكمة بالغة بالغة أو أن الله حجب عنه لحكمة بالغة بالغة الموقع المناسب، حجبه عنه وحياً، وحجبه عنه اجتهاداً، وحجبه عنه إلهاماً، فأمر أصحابه أن يتمركزوا في موقع، فجاء صحابيٌ في أعلى درجة من الأدب الرفيع، قال: يا رسول الله إن هذا الموقع وحي أوحاه الله إليك أم هو الرأي والمشورة؟
فقال عليه الصلاة والسلام ببساطة: بل هو الرأي والمشورة، قال يا رسول الله ليس بموقع،فسأله عن الموقع المناسب، قال: هذا هو الرأي، وأمر أصحابه أن يتحولوا إلى الموقع الجيد، ماذا فعل النبي بهذا؟ علمنا أن نصغي لكل نصيحة، علمنا أن نتواضع، علمنا أن نأخذ أفكار الطرف الآخر، أن نحملها محمل الجد، وأن نستوعبها، فهذا الذي يفتح أذنيه لكل نقدٍ، ويصغي إلى كل تعليقٍ، هو يسهم في قوة إيمانه، ويسهم في مكانته العلية عند ربه.

العاقل يصغي إلى أعدائه ليتفحص أخطاءه :

 أيها الأخوة الكرام، قال بعضهم: الرأي المخالف عامل ثراء وتقويم، قال بعض الشعراء:

عُداتي لهم فضل عليّ ومنـة  فلا أذهب الرحمن عنـي الأعاديا

***

 الأعداء فضلهم من حيث لا يريدون أنهم يوجهون النقد دائماً، فالعاقل هو الذي يصغي إلى أعدائه، ليتفحص أخطاءه، وليرجع عن بعضها.
 أيها الأخوة الكرام... هؤلاء الذين يعدون أرقاماً في مجموع كبير لا قيمة لهم، من صفاتهم عدم اهتمامهم بالوقت، الوقت لا قيمة له عندهم أبداً، مع أن الله عز وجل يقول:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، عند الله لك عمر وليكن سبعون عاماً، وسبعة أشهر، وعشرة أيام، وثلاث ساعات، وأربع دقائق، وخمسون ثانية، هذا العمر، انظر إلى ساعتك كلما تحرك عقرب الثواني حركة نقص عمرك، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

مفهوم الوقت :

 أيها الأخوة، الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، الدنيا ساعة اجعلها طاعة، مفهوم الوقت دقيق جداً، فأنت خاسر لا محالة إذا أنفقت الوقت إنفاقاً استهلاكياً، أما إذا أنفقته إنفاقاً استثمارياً فأنت رابح ورب الكعبة.

﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 3]

 هؤلاء مستثنون من الخسارة المحققة، فمن صفات الإنسان المهمش الذي هو رقم لا يعني شيئاً أن الوقت لا قيمة له عنده، أناس كثيرون يمضون سهرات طويلة في لعب النرد، في متابعة مسلسلاتٍ لا تنقضي، وكلها في موضوع واحد، كلها إثارة وخيانة، إلى متى؟

إلى متى أنت باللذات مشغول  و أنت عن كل ما قدمت مسؤول؟
* * *
تعصي الإله وأنت تظهر حب ه ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حبك صـادقاً لأطعت ه إن المحب لمن يحب مطيع
* * *

 كم من موضوع يطرح في سهرة لا جدوى منه، ولا فائدة منه، غيبة، ونميمة، واستهزاء، ومحاكاة، وتقليد، وفُحش، إلى متى؟ إلى متى لقاءاتنا التافهة؟ إلى متى سهراتنا عاصية؟ إلى متى؟ في هذه الساعة قد تقرأ القرآن، وقد تفهم أحكام دينك، وقد تعرف سنة نبيك.

3 ـ الوقت عنده لا قيمة له :

 ومن صفات المسلم الذي يعد رقماً لا قيمة له أن الوقت عنده لا قيمة له إطلاقاً، لا يخطط له أبداً.

4 ـ الإهمال والفوضى :

 شيء آخر أيها الأخوة، من صفات هذا المسلم الإهمال والفوضى، إهمال لصحته، ومظهره، ومستقبله، وأهله، وعلاقته الاجتماعية، وإهمال لعمله، الفوضى في حياته ضاربة أطنابها في كل شؤون حياته، لديه التزامات كثيرة وإنجازات قليلة، كل شيء في حياته جائز، كل شيء متوقَّعٍ ممكن، المؤمن عنده جدول أعمال، يكتب، قد يطلب من إنسان حاجة، تطلبها منه مئة مرة، وينسى، لو كتبها، كتب جدول أعمال، جدول منجزات، لا يكتب شيئاً، لا يهتم، ينسى كل مواعيده، هذا النمط.

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾

[سورة الكهف:28]

 هذا إنسان لا ينضبط لا بموعد، ولا بالتزام، ولا بإنجاز، حياته هكذا سبهللة، فمثل هذا الإنسان كيف يؤثر؟! والله مرة كنت في بعض الحجج التي أكرمني الله بها، وبعد أن مضى على الحج عشرون يوماً تقريباً الحرم أصبح فارغاً، إما أن يذهب الحاج إلى المدينة أو إلى بلده، خمسون حاجاً وقفوا ليقبلوا الحجر الأسود، وكادوا يقتتلون، ولو أنهم التزموا نظاماً، لقبلوه في خمس دقائق كلهم، لكن مشكلة الفوضى، والإهمال، وعدم الانضباط، هذا المسلم، هذا يؤثر في الآخرين؟!
 ركاب طائرة بالحج، ثلاثمئة راكب، لكل راكب مقعد مخصوص، يقتتلون في الصعود إلى سلم الطائرة، لماذا؟ هناك تخلف كبير جداً أيها الأخوة، فهذا المسلم الفوضوي المهمل، هذا المسلم الذي لا يقيّم للوقت قيمة، هذا المسلم الذي ينتقد الآخرين فقط، هذا المسلم الذي يعيش خارج العصر، يعيش ماضيه بما فيه من خرافات، وحاضره بما فيه من مفاجآت، هذا المسلم الذي يتوهَّم أن المتعة هي كل شيء، هذا المسلم المكبَّل بالأوهام، هذا المسلم لا يمكن أن يؤثر في طفل، ولا يمكن أن يصغى إلى كلامه.

 

الفرق بين العابد و العالم :

 أيها الأخوة الكرام، أعود وأكرر نحن في زمن صعب تنبأ به النبي، قال عليه الصلاة والسلام:

((العِبَادَةُ في الهرج كهجرة إليَّ))

[مسلم والترمذي عن معقل بن يسار]

 أحبابه يأتون في آخر الزمان، القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر، لماذا؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون، نحن في زمن صعب، لا يكفي أن تكون عابداً، العابد مقاومته هشَّة، أي ضغطٍ أو أي إغراء يخرجه من الدين، ولكن العالم الحق لا تؤثر فيه لا سياط الجلادين اللاذعة، ولا سبائك الذهب اللامعة.
 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

تحميل النص

إخفاء الصور