وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0457 - الإيمان والعمل الصالح - فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

التّرابط بين الإيمان و العمل :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الخطبة اليوم : الإيمان والعمل ، وكيف أنّ الإيمان والعمل متلازمان تلازمًا وُجوديًّا ، بمعنى لو أنّ أحدهما فقِد فلا معنى للطّرف الآخر .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ منطلق الخطة من هذه المقولة : في اللّحظة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الإنسان يعبّر عن ذاته بالعمل ، يعبّر عن ذاته بالحركة ، فما من مؤمن في قلبه ذرّة من إيمان إلا وتجدُه يتحرّك نحو خدمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، ونحو النّصح للمؤمنين ، ونحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو إقامة الإسلام في بيته ، وإقامة الإسلام في عمله ، أما أن ينفصل العمل عن الإيمان ، أما أن يقول الإنسان : أنا مؤمن ولله الحمد ، ولا تجد في عمله حركةً نحْوَ خِدْمة الخلق ، ولا نحو الدعوة إلى الحقّ ، ولا نحو الأمر بالمعروف ، فالذي يشعر هذا الشعور السكوني ، والذي يكتفي بالمشاعر الدّينيّة على حدّ زعمه ، والذي يكتفي بهذا الإيمان على حدّ قوله ، ولا تجد في حياته حركةً نحو خدمة الخلق ، والدعوة إلى الحقّ فَمِثل هذا الإنسان ينبغي أن يضعَ على إيمانه إشارةً خطيرة .
 أيها الأخوة الكرام ؛ يتوهّم الجاهلون ، يتوهَّمُ أعداء الدّين ، يتوهّم الساذجون من البشر أنّ الإيمان بالله واليوم الآخر ، يُميتُ في الإنسان الرغبة في العمل ، إنّ ما يُلقى في قلوب بعض الجهلة مِنْ أنّ الإنسان مسيّر وليس مخيَّرًا ، وأنّ الحياة الدنيا لا تستحقّ العمل والاهتمام ، إنّ هذا الوهم خاطئ ، وهذا التصوّر غير صحيح ، وهذا هو علَّة تخلّف المسلمين ، إن كانوا متخلّفين .

الإيمان أعظمُ دافعٍ إلى العمل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة متألّقة وهي أنّ الإيمان أعظمُ دافعٍ إلى العمل ، فالإنتاج لا ينمو ولا يزداد إلا بما يبذلُ الإنسان فيه من جهد وعمل ، أساسه العلم والخِبْرة ، وما يصحب هذا العمل من إحكام وإتقان ، ولا يتحقّق هذا إلا بالأمانة والإخلاص ، جهدٌ وعمل ، وعلمٌ وخِبْرة ، وإحكامٌ وإتقان ، أمانة وإخلاص ، وهذا لا يكون إلا بِبَاعِثٍ قويّ ، وحافزٍ غلاب غلاب ، وهل هناك من باعثٍ أقوى ومن حافز أغلب من الإيمان ؟ الإيمان أكبر حافزٍ للعمل ، الإيمان أكبر دافعٍ إلى البناء .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة الإيمان بالله عز وجل ، والإيمان باليوم الآخر أنَّه ليس مجرّد إدراك ذهني ، ولا تصديق قلبي ، غير متبوعٍ بأثرٍ عملي ، إنّ حقيقة الإيمان اعتقادٌ وعملٌ وإخلاص .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ يا ترى هل العمل شرطٌ للإيمان ؟ هل العمل جزءٌ من الإيمان ؟ هل العمل ثمرةٌ من ثمار الإيمان ؟ إن اختلفْنا في إحدى هذه المقولات فإنّ علماء المسلمين يتّفقون على أنّ العمل والإيمان جزءان لا ينْفكّان عن بعضهما أبدًا ، النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الديلمي عن أنس رضي الله عنه :

(( ليس الإيمان بالتمنّي . . .))

[ الديلمي عن أنس]

 لا يقول الإنسان : اللهمّ اجعلنا مؤمنين ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي . .))

 التحلّي أن تضع في بيتك لوحةً فيها آيةً قرآنيّة ، أن تتزيّا بِزَيّ المسلمين ، أن تتماشى معهم في تقاليدهم وعاداتهم :

(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلّي ، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل ))

 فإن لم يصدّق العمل الإيمان ففي الإيمان شكّ كبير .
 مرّةً ثانيَة أقول ما قلتهُ في مطلع هذه الخطبة ، في اللّحظة لا في الساعة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الإنسان يُعَبِّرُ عن ذاته بالحركة نحو خِدْمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، الإيمان حركة ، الإيمان عملي ، الإيمان ظاهر ، الإيمان صارخ ، المؤمن يتحرّك ، المؤمن يعمل ، المؤمن يبني ، أما هذا الإيمان السكوني فهو في الحقيقة إيمانٌ مشْكوك في صحَّته .

 

سرّ الارتباط بين الإيمان و العمل الصالح :

 أيها الأخوة الكرام ؛ ذكر القرآن الكريم الإيمان وذكر معه العمل الصالح في أكثر من سبعين آية ، ما سرّ هذا الارتباط ؛ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ؟ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وردَت في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية ، بل إنّ الله سبحانه وتعالى لمْ يكْتفِ بِقَرْن العمل مع الإيمان ، بل قيَّد العمل بأنَّه صالح ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأنّ هناك عملاً غير صالح ، ما من إنسان إلا ويعمل ، حركته في الحياة هي عمله ، وبحْثهُ عن رزقه هي عمله ، اسْتمتاعُهُ بما حوله عمله ، فما من إنسان إلا وهو يعمل ، لكنّ الله سبحانه وتعالى قرنَ الإيمان بالعمل الصالح ، وقال بعضهم : معنى العمل الصالح ، أي العمل الذي تصلحُ به الدنيا ، ويصلحُ به الدّين ، أو العمل الذي يصلحُ به الفرْد ، ويصلحُ به المجتمع ، أو العمل الذي تصلح به الحياة الماديّة ، والحياة الروحيّة ، فيا أيها الأخوة الأكارم ، هذا الإسلام العظيم ، وهذا الشرع الحكيم ، وهذا الدِّين القويم دينٌ شُمولي ، يشْملُ الدنيا والآخرة ، يشمل الفرْد والمجتمع، يشمل قلب الإنسان ، ويشمل جسده ، ويشمل عقلهُ ، هذا المنهج الإلهي كما وصفهُ الله عز وجل في قوله تعالى :

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 هذا المنهج الإلهي منهجٌ شمولي ، وقد فسَّر بعضهم قوله تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 البرّ صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، والإثم اقتراف المعصيَة ، والعدوان أن تعتدي على الآخرين ؛ على حقوقهم الماديّة ، وحقوقهم الأدبيّة ، فهذه الآية من جوامع القرآن الكريم ، قال تعالى :

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾

[ سورة المائدة : 2]

 وكلمة الإيمان والعمل الصالح وردَتْ في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية ، وقد قيَّدَ الله العمل بأنَّه صالح ، أيْ تصلحُ به الدنيا ، وتصلح به الآخرة ، يصلحُ به جسد الإنسان ، وتصلحُ به نفسهُ ، ويصلحُ به عقلهُ ، يصلح به الفرد ، ويصلح به المجتمع ، تصلحُ في الإنسان قواه الروحيّة ، وقواه الماديّة .

 

دَوْر العمل في حياة المؤمن :

 أيها الأخوة الكرام ؛ دَوْر العمل في حياة المؤمن هو انطلاق اختياريّ نحْوَهُ وليس المؤمن يُساق إلى العمل ، كما تساق القطعان إلى أعمالها ، ولا يُساق إلى عمله بِقُوّة قاهرة ، ولا بضغط خارجيّ أو داخليّ ، إنّ المؤمن يتحرّك نحو العمل الصالح بِدافعٍ ذاتي نابعٍ من إيمانه ، إذا عرف الإنسان حقيقته ، وسرّ وُجوده ، واسْتِخلاف الله له في الأرض ، والأمانة التي كلِّفَ بها، والرسالة التي حمِّلها ، إذا عرف الإنسان حقيقته انطلق بدافعٍ ذاتيّ إلى العمل ، عندئذٍ لا يحتاج إلى دافعٍ خارجي ، لا يحتاج إلى قهر ، ولا إلى سَوقٍ ، ولا إلى ضغْطٍ ، ولا إلى تضْييق، ينطلق الإنسان بِدافعٍ من ذاته إلى خدمة الخلق ، وإلى الدعوة إلى الحقّ ، حتى إلى إحسان عمله المهني .
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا تصلح الدنيا إلا بالإيمان ، فما من عملٍ مادي خالطهُ الإيمان إلا كان متقنًا ، وكان صاحبهُ مخلصًا ، وكان أميناً ، وكان وفِيًّا ، وما من عملٍ دنْيوِيّ ابتعَدَ عنه الإيمان إلا لابسَهُ الغشّ ، والتزوير ، والمبالغة ، لابسَهُ مخالفة أحكام القرآن الكريم.
 أيها الأخوة الكرام ؛ ألا تكفينا هذه الآية :

﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الزخرف : 72]

الدّين اتِّصال بالخالق وإحسان إلى الخلق :

 أيها الأخوة الكرام ؛ حقيقة أساسيّة أضعها بين أيديكم ، الله سبحانه وتعالى لمْ يجْعل الجنّة حِكْرًا لفئة دون أخرى ، ولم يجعل الجنّة التي وعدَ بها المتّقين لِمُجرّد الانتماء الشكلي إلى دين أو إلى آخر ، قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾

[ سورة الكهف : 110]

 القرآن كلّه لُخِّصَ بهذه الآية :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 110]

 قال علماء التفسير : إنّ الله سبحانه وتعالى ربطَ الرجاء بِرَحمتهِ ، ربط هذا الرجاء بالعمل الصالح ، قال تعالى :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف : 110]

 وقال تعالى :

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة : 111]

 والله سبحانه وتعالى لا يتعاملُ مع عباده بالأمانيّ قال تعالى :

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة : 111]

 ما برهانكم على انتمائكم لهذا الدّين أو ذاك ؟ إنّه العمل الصالح ، قال تعالى :

﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة : 111]

 أرأيتم إلى هذه الآية أيها الأخوة ؟ كيف أنّ الله سبحانه وتعالى لخَّصَ الدِّين كلّه الذي يؤهِّلُ صاحبه إلى الجنّة ، لخَّصَهُ بِكَلمتين ؛ إسلام الوجه لله عز وجل ، الوِجْهة إلى الله والاتّصال به ، وهو مُحسنٌ ، هذه الآية تقابلها آية أخرى ، قال تعالى :

﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾

[ سورة مريم : 31]

 إذا أردْتم ضغط الدِّين في كلمتين ؛ إنَّه اتِّصال بالخالق ، وإحسان إلى الخلق ، إنّه صلاة في الوِجهة ، وزكاة في العمل ، إنَّه إسلام الوجه لله عز وجل ، والإحسان في العمل ، قال تعالى :

﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

[ سورة البقرة : 111]

ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي :

 أيها الأخوة الكرام ؛ روى المفسّرون أنّ مَجْلسًا ضمَّ جماعةً من اليهود ، وجماعة من النصارى ، وجماعة من المسلمين في عهْد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فزعَمَتْ كلّ جماعةٍ أنّها أوْلى بِدُخول الجنّة ، فقال اليهود : نحن أتْباعُ موسى ، اصطفاه الله برِسالاته وبِكلامه ، وقال النصارى : نحن روح الله وكلمته ، وقال المسلمون : نحن أتباع محمد خاتم النبيّين ، وخير أمّة أخرجت للناس ، عندئذٍ نزلَت آيات من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم حاكمةً فاصلة ، قاضِيَةً عادِلَة ، خاطَبَت المسلمين في صراحةٍ واضحة ، قال تعالى :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء : 123-124]

 آيةٌ حاكمةٌ فاصلة ، واضحة عادلة ، قاضية مفصّلة ، ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب ، أيْ أيها المسلم لا تقل : أنا مسلم ، مصيري إلى الجنّة ، ولا تقل : أنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلّم سيّد الأنبياء والمرسلين ، ولا تقل : أنا من أمّ وأبٍ مسلمَين ، لا تقل: أنا من الأمّة التي فضَّلها الله على العالمين ، من الأمّة التي هي خير أمّة أخرجت للناس ، لا تقل هذا الكلام ، قال تعالى :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾

[ سورة النساء : 123]

 كُنْ مَن تَكُن ، كنْ من أيّ دينٍ شئت ، قال تعالى :

﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء : 123-124]

 الإيمان والعمل الصالح ، ليس الإيمان بالتحلّي ، ولا بالتمنّي ، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل .

 

إتقان العمل جزءٌ لا يتجزَّأ من الدّين :

 أيها الأخوة الكرام ؛ متى ينجحُ العمل ؟ نجاح العمل في إتقانه ، وكلّكم يرى أنّ الشيء المُتقن لا تبور سوقه ، ولا يفتقد من يرغبُ فيه ، وأنّ الشيء غير المتقن هو الذي يكسد، فلذلك يجب أن نؤمن نحن المسلمين أنّ إتقان العمل جزءٌ من الدّين بل جزءٌ أساسيّ من الدّين ، وكأنّي بهذا القانون لو طبّقَهُ الكفار لقطفوا ثمارهُ ، لو طبّقه من أنكر وُجود الله لقطف ثماره ، إتقان العمل جزءٌ لا يتجزَّأ من الدّين ، بل هو من صُلْب الدِّين ، لأنّ الله سبحانه وتعالى كما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام :

((إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء ، يجب أن تحسن حتى لو ذبحْت شاةً ، فإذا ذبح أحدكم ذبيحته فلْيُحِدَّ شفرتهُ ولْيُرِح ذبيحته ))

[مسلم عن شداد بن أوس]

 الآن ما سرّ الإحسان ؟ ما دام الله سبحانه وتعالى كتب الإحسان على كلّ شيء، أي يجب أن تحسن في كلّ شيءٍ ، في عملك المهني ، في علاقاتك الخاصة والعامّة ، في كلّ شيء ، معنى ذلك أنّ الطريق إلى الإحسان ، قال عليه الصلاة والسلام الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، أصحاب الحرف ؛ لو أنّ كلّ صاحب حِرْفةٍ وهو يعمل شعر أنّ الله مطّلعٌ عليه ، يراقبُه ، الطبيب في عيادته ، والمحامي في مكتبه ، والتاجر في دكانه، والموظّف في دائرته ، وربّ البيت في أسرته ، والمرأة في بيت زوجها ، والخادم في معمل سيّده ، إذا شعر كلّ مؤمن أنّ الله يراقبهُ ، ويطَّلِعُ عليه فهذا أحد أسباب الإحسان ، من أين يأتي الغشّ ؟ حينما يشعر هذا الإنسان أنّ أحدًا لا يراقبهُ ، وأنّ هذا الإنسان ضعيف ليس بإمكانه أن يكشف الغشّ ، أما حينما يشعر كلّ إنسان أنّ الله معه يراقبهُ ، وأنّ حرْفَتهُ أمانةٌ في عنقه ، وأنّ هؤلاء الذين وثقوا به وكيلهم الله عز وجل ، وسوف يحاسبه الله عز وجل عنهم ، لم أهْمل ؟ لم دلّس ؟ لم أوْهم ؟ لم غشّ ؟ لم وصف وصفًا غير صحيح للبضاعة حتى بيعَتْ بأسعار غالية ؟ حينما يشعر الإنسان أنّ الله مُطّلعٌ عليه ويراقبهُ ، النتيجة الحتميّة الطبيعيّة أن يحْسِنَ في عمله ، الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ))

[ الطبراني عن عائشة]

 وفي آية أخرى تلفت نظر المؤمنين ، قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾

[ سورة النساء : 58]

 لمَ جاءتْ الأمانات جمعًا ؟ لأنّ هناك عشرات الأمانات في حياة الإنسان ، ابنك أمانة في عنقك ، زوجتك أمانة في عنقك ، هذا المريض أمانة في عنق الطبيب ، هل أخلص له؟ هل دلّهُ على اختِصاصيّ ينفعُه في مرضه أم أبقاهُ عنده ليبْتزّ مالهُ ؟ هذا المحامي هل نصحَ موكِّلَهُ أم ابْتزّ مالهُ ؟ هذا الصانع هل غشّ بِصَنعتِهِ فجمَّعَ ثرْوةً طائلة أم نصح المسلمين في بضاعتهم ؟ قال تعالى :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾

[ سورة النساء : 58]

 فأيّ شيءٍ في حياتك هو أمانةٌ في عنقك ، إما أن تغشّ الناس وإما أن تنصحهم، إما أن تحسن وإما أن تسيء ، إما أن تصدق وإما أن تكذب .
 يا أيها الأخوة الكرام ؛ وتكفينا هذه الآية الكريمة ، قال تعالى :

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة التوبة : 105]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ نجاح العمل في إتقانه ، وإتقان العمل يحتاج إلى مراقبة الله عز وجل ، فإذا عبدْت الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك قادكَ هذا الإيمان إلى إتقان عملك ونجاح عملك ، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( أفضل إيمان المرء أن يعلم أنّ الله معه حيث كان ))

[ البيهقي عن عبادة بن الصامت]

 والإنسان لا يستقيم على أمر الله إلا إذا شعر أنّ الله يراقبه ، وأنّ كلّ من حوله أمانةٌ في عنقه ، وسوف يسأَلُ عنه ، وأنّ الله سبحانه وتعالى وكيلُ كلّ الخلق ، فإذا جاءك طفلٌ صغير ليَشْتري حاجةً ، هذا الطّفل الصغير من الجهل ومن السذاجة بحيث لا يستطيع كشف ما في البضاعة من غشّ أنت كمُؤْمِن يجب أن تشعر أنّ الله وكيل عنه .

 

الفرق بين النّظام الديني والنّظام المدني :

 لذلك قالوا : بين النّظام الديني والنظام المدني فرْق كبير جدًّا ، هو أنّ النِّظام الدّيني الله سبحانه وتعالى بين كلّ شخصين ، وأما النظام المدني فالأقوى يأكل الأضعف ، النِّظام الدّيني الله سبحانه وتعالى بين كلّ شخصين ، على مستوى الأسرة ربّما تقرَّب الزوج إلى الله عز وجل بِصَبْره على زوجته وخِدمته لها ، وربّما تقرّبت الزوجة إلى الله عز وجل بِصَبْرها على زوجها وخدمتها له ، إذًا بين الزوجين ربّ العالمين ، وبين البائع والشاري ربّ العالمين ، وبين الطبيب والمريض ربّ العالمين، وبين المحامي والموكّل رب العالمين ، وبين المواطن والموظّف رب العالمين ، فإذا ضعف الإيمان أكل الأقوى الأضعف ، هذا سرُّ نجاح النظام الدّيني ، وسرّ إخفاق الأنظمة الوَضْعِيَّة ، في الأنظمة الوضْعِيَّة الأقوى يأكل الأضعف ، والأذكى يأكل الأغبى ، ولكن في النظام الدّيني مهما كنت ضعيفًا فالله وكيلك ، ومهما كنت ذكيّا فالله يراقبك .

 

عوامل نجاح العمل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أحد عوامل نجاح العمل في حقل الدّين أنّ المؤمن يتمتَّع بِسَكينةٍ ما بعدها سكينة ، المؤمن يتمتّع بسَكينة النفس ، وطمأنينة القلب ، وانشراح الصَّدْر ، وبسْمة الأمل ، ونعمة الرضا ، وحقيقة الأمن ، وروح الحبّ ، وجمال الصفاء ، هذه هي صفات المؤمن ، وهذه الصّفات هي التي تبْدِع ، هي التي تُسبِّبُ النجاح في العمل ، وهذا شيءٌ ملاحظ، فالطالب المؤمن أنْجَحُ في دراسته من الطالب غير المؤمن ، ذهنهُ صافٍ ، ونفسهُ مطمئنّة ، وثقته بالله كبيرة ، بينما الطالب غير المؤمن موزَّع النفس بين الشهوات ، مُشتَّت القلب، متشائمٌ في أكثر الأحيان ، يائس في معظم الحالات ، الإنسان غير المؤمن شاردٌ ، مضطرب ، قلق ، يائسٌ ، حاقدٌ على الناس ، والعمل يحتاج إلى صفاء ، وإلى سكينة ، وإلى إبداع ، وإلى ثقة وتفاؤُل .
 شيء آخر أيها الأخوة ، المُلاحظ أنّ المؤمن لأنَّه مستقيم ، وقّافٌ عند حدود الله، يأْتَمِرُ بما أمر الله ، وينتهي عما عنه نهى ، ينْأى بنفسه عن ارتكاب الموبقات ، والانغماس في أوْحال المحرّمات ، يأبى عليه أن يفرِغَ طاقته فيما حرمه الله عز وجل ، فطاقاته مَصونة ، وإمكاناته محفوظة ، وعضلاته قويّة مفتولة ، وذهنهُ صافٍ متَّقِد ، وأعصابه مطمئنّة مرتاحة ، لذلك في العالم الغربي والعالم الشرقي ، أو في العالمين الشاردين عن الله عز وجل ، في عالم الانحلال ، وعالم القهْر ، في هذين العالمين الشهوات المحرّمة تستهلكُ كلّ الطاقات ، في بعض الإحصاءات ورد أنّ اثنين وسبعين مليون إنسان في بلد غربيّ يتعاطَوْن الخمور ، وأنّ هذه الخمور تكلّف الدولة ما يزيد عن بليونين من العملات الصعبة لأنّ هؤلاء الذين شربوا الخمور تعطّلوا عن الأعمال ، واحتاجوا إلى المصحّات .
 أيها الأخوة الكرام ؛ بعض الدُّوَل العظمى التي تفكَّكَتْ قبل أن تتفكَّك حرَّمت الخمر ، كَمُجتمع المسلمين ، والمجتمع النظيف ، المجتمع الساكن سكون الرضا ، المجتمع الواثق بالله عز وجل ، هذا مؤهَّل لِكُلّ إنجازٍ عظيم ، فإذا قصَّرنا في العمل فهذه وصْمة عارٍ في حقّنا .

 

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :

 مرة ثانية وأخيرة : حجمك عند الله بِحَجم عملك ، " يا بشْر لا صدقة ولا صيام ولا جهاد فبِمَ تلقى الله إذًا " كلّ واحد يسأل نفسه هذا السؤال : ما العمل الذي ألقى به الله غدًا ؟ ما العمل الذي أضعهُ بين يديّ عندما ألقى ربّي ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ قلتُ هذا كثيرًا ، وسأُعيدُه مرَّةً ثانية : حرفتك ، مهنتك التي ترتزق منها ، إذا كانت مشروعةً في الأصل ، ومارسْتها بِطَريقة مشروعة ؛ لا كذب ، ولا تزوير، ولا مبالغة ، ولا إيهام ، ولا غشّ ، إذا كانت في الأصل مشروعةً ، ومارسْتها بِطَريقة مشروعة ، وابْتَغَيتَ منها كفاية نفسك ، وكفاية أهلك ، وخدمة المسلمين ، ولم تشْغلْك عن فريضة دينيّة ، ولا عن مجلس علم ، ولا عن عملٍ صالح ، حرفتك تلك يمكن أن تنقلب إلى عبادة تلقى الله بها ، وقد تدخل بها الجنّة ، إذا أتْقنْتَ عملك ، ونفعت المسلمين ، لذلك كان السلف الصالح إذا فتحوا دكاكينهم يقول أحدهم : نوَيْتُ خدمة المسلمين .
أيها الأخوة الكرام ؛ الأعمال المباحة بالنوايا الطيبة تنقلب إلى عبادات ، أنت إذا آمنْتَ إيمانًا كبيرًا انقلبَت حرفتك إلى عبادة ، انقلبَ بيتك إلى مسجد ، انقلب عملك من أجل أهلك وأولادك إلى عمل صالح ، وأن تضع اللّقمة في فم زوجتك هي لك صدقة .
 عودٌ على بدء : في اللّحظة التي يستقرّ فيها الإيمان في قلب الرجل ، هذا الإيمان يعبّر عن نفسه بالعمل ، وبالحركة نحو خِدمة الخلق ، ونحو الدعوة إلى الحق ، فمن شعر أنّه سكوني ، وأنّه يكتفي بالانتماء إلى هذا الدّين ، وأنّه يكتفي بالمشاعر الإيمانيّة ، يكتفي بالقناعات الفِكريّة ، هو في واد وعملهُ في واد ، مثل هذا الإنسان يجب أن يقلق ، ويجب أن يضع إشارة استفهام كبيرة على إيمانه لأنّ الجنّة لا يستحقّها الإنسان إلا بالعمل الصالح .
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنَّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ؛ الكيّس من دان نفسه وعمل إلى ما بعد الموت ، والعاجز من أتبَع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

تفسير قوله تعالى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ :

 أيها الأخوة الكرام ؛ في القرآن الكريم ، وفي سورة الحاقّة بالتحديد آيةٌ كريمة تلفتُ النظر ، وهي قوله تعالى :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الحاقة : 38-39]

 فما هو الذي لا نبصرُه ؟ قال العلماء : في عشرينِيّات هذا القرن ، كان علماء الفلك يعتمدون في دراساتهم على الضوء المرئيّ ، آلات من الأجرام فقط ، النجم الذي له ضوءٌ يصلنا هو النجم الموجود ، وما كانوا يعتقدون أنّ هناك نجومًا لا نراها ، ثمّ اكْتشفوا فجأةً أنّ حقيقة الضوء حركة مَوْجِيَّة ، وأنّ لون الضوء يعتمد على طول هذه الموجة ، وأنّ العين البشريّة لا تستطيع أن ترى من طول هذه الأمواج إلا ما بين أربعة آلاف بوحدة قياس الموجة وسبعة آلاف ومئتين ، بين هذين التردّدَين المَوْجِيّيْن الإنسان يرى ، وقبل هذا التردّد وكذا بعده لا يرى ، فإذا وقع الضوء خارج هذين الحدّين البنفسجي أربعة آلاف وحدة ، والأحمر سبعة آلاف ومئتان، إذا وقعَت تموُّجات الضوء قبل أو بعد هذين الحدَّين فإنّ الشيء مع أنَّه موجود لا يُرى ، لذلك هناك الأشعّة التي وراء البنفسجيّة لا نراها ، الأشعّة السينيّة ، أشعة غاما النافذة لا نراها ، والأشعة التي تحت الحمراء ، الموجات الدقيقة لا نراها ، الموجات الإشعاعيّة لا نراها ، فالعين لا ترى إلا في حدود ضيّقة جدًّا ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى قال :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الحاقة : 38-39]

 بِتَفسير أبسط هناك كائنات لا نراها ، فالجراثيم لا نراها ، الفيروسات لا نراها ، هناك ما وراء حدود رؤيتنا ، إذًا يجب أن نؤمن أنّ الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل والتي لا نراها ربّما كانت أكثر عدَداً وأعظم شأناً من التي نراها ، لذلك وردتْ هذه الآية الكريمة لِتَلفِتَ نظر المؤمن إلى أنّ هناك آيات كثيرة لا نراها ، قال تعالى :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الحاقة : 38-39]

 وحدِّثْ الشيء نفسه عن السَّمع ، هناك أصوات لا نسمعها بين عتبتين ، وهناك أشياء لا نلمسُها ، فربّنا سبحانه وتعالى قال :

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾

[ سورة القمر : 49]

 بالقدر المناسب ، وبالقدر الحكيم ، وبالقدر الذي لا يزْعج ، ولا يؤذي ، فلو أنّ الله سبحانه وتعالى رفع عتبة الحواسّ في الإنسان إلى درجة أعلى لأصبحَت حياة الإنسان جحيمًا ، أقلّ شاهدٍ على ذلك أنّ كيس الماء الصافي الذي تنعم بِصفائه ومذاقِهِ ، لو رأيتَ ما فيه من الكائنات الحيّة لعافَتْ نفسُكَ أن تشربهُ ، فالحدّ الذي جعله الله في الرؤية حدًّا مناسبًا ، وحكيمًا ومعقولاً ، ولكن يجب أن تعلم أنّ هناك أشياء كثيرة لا تراها ، وأنّ من الحكمة ألا تراها ، ولكنّها آيات عظيمة دالّة على وُجود الله ، وعلى وحدانيّته ، وعلى عظمته .
 أيها الأخوة الكرام ؛ كلّما جال فكركم في آيات الله الدالة على عظمته ارتقى إيمانكم ، أقول هذا مِرارًا وتَكرارًا : الكون بِسَمواته وأرضه ، والإنسان بِخَلقه المعجز ، بِطَعامه بِشَرابه ، بِتَوالُدِهِ ، وما حوله من نباتات ومظاهر طبيعيّة ، الكون أوْسعُ باب إلى الله ، وأقصر طريق إليه .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور