وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0643 - التقوى - شرط استجابة الدعاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

التّقوى :

 أيها الأخوة الكرام: بعد أيام عدة يطل علينا شهر رمضان الكريم، وهو من أجلّ العبادات، هو من أجلّ العبادات الشعائرية، والله سبحانه وتعالى تكرماً منه وفضلاً بيّن لنا العبادات وأعطاها العلل، فقال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 183]

 آية صريحة، قطعية الدلالة، علة الصيام التقوى، فإذا كانت التقوى هدفاً لكل صائم، فقد حقق المراد من الصيام. المنافق مثله كمثل الناقة حبسها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لم عقلت؟ ولا لم أطلقت؟ لا يدري لا لم صام؟ ولماذا هو قد أفطر؟
 أيها الأخوة الكرام، محور الخطبة اليوم التقوى، لأنها علة الصيام:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 183]

 التقوى لها شأن كبير في القرآن الكريم، فقد وردت في أكثر من ثلاثمئة موضع فيه، والتقوى لغةً من وقى، وهل تكون الوقاية إلا من الخطر؟ فالإنسان في حياته الدنيا إن لم يتبع هدى ربه، مُعرض لكثير من المخاطر، فالدنيا خضرةٌ نضرة، سُمّها في دسمها، فيها منزلقات ومتاهات، مالها يُغري ويردي ويشقي، ونساؤها حبائل الشيطان، الأهل والولد مشغلة، مجبنة مبخلة، الشهوات مستعرة في أبهى حُللها، والفتن يقظى في أجمل أثوابها.
 فكيف يتقي الإنسان الضياع في تلك المتاهات والضلالات ؟ وكيف يتقي الإنسان الانجذاب إلى هذه الفتن المُهلكات ؟.. وكيف يتقي الإنسان خطر الانغماس في تلك الشهوات ؟.. وكيف يتقي الإنسان حمأة المزاحمة في جمع الدراهم والثروات ؟ وكيف يتقي الإنسان شقاء الدنيا وعذاب الآخرة ؟.. هذا محور الخطبة..

 

عبادة الله الحقيقية والخالصة تقي الإنسان شقاء الدنيا وعذاب الآخرة :

 أيها الأخوة الكرام، على الإنسان أن يبني تصوراته عن الكون والحياة والإنسان وفق ما جاء في البيان الإلهي، أي أن تكون تصوراتك و عقيدتك و المسلمات في حياتك وفق ما جاء في البيان الإلهي.
 ثانياً: حينما ينطلق في حركته اليومية، في عطائه ومنعه، في صلته وقطيعته، في غضبه ورضاه، حينما ينطلق الإنسان في حركته اليومية وفق التشريع الرباني يكون قد أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، أما إذا ضلّ عقله وساء عمله، فقد أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.
يا أيها الأخوة الأكارم، عبادة الله الحقيقية والخالصة تقي الإنسان شقاء الدنيا وعذاب الآخرة والدليل؛ قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 أول نقطة في الخطبة: إنك إن عبدت الله تتقي شقاء الدنيا وعذاب الآخرة:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 هذه المنزلقات، وهذه المتاهات، وهذه الشهوات، وهذه الفتن، وهذا الانزلاق:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 اعبدوا ربكم الذي خلقكم، فعبادة الله طريق النجاة، عبادة الله طريق السلامة، عبادة الله طريق الخلاص، والعبادة طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.. فيها جانب معرفي، وفيها جانب سلوكي، وفيها جانب جمالي.. هذه النقطة الأولى، العبادة طريق النجاة، إن أردت أن تنجو، إن أردت السلامة والسعادة، فعليك بعبادة الله، بل إن عبادة الله عز وجل علة وجودنا على وجه الأرض، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

من كان لغير الله فقد احتقر نفسه :

 النقطة الثانية: هل غير الله واجب الوجود، الذات الكاملة، الحي القيوم، ذو الأسماء الحسنى والصفات الفضلى، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الأول والآخر، الظاهر والباطن، بيده ملكوت كل شيء، ومن إليه يُرجع الأمر كله، مالك الملك إيجاداً وتصرفاً ومصيراً ؟..
 وهل غير الله يُتقى سخطه ويُرجى رضوانه ؟ وهل غير الله يُتقى ناره وتُرجى جنته.. ؟
 إن الله تعالى يأمرنا بالتقوى لأنه بكل شيء عليم، ولأنه سريع الحساب، ولأنه على كل شيء قدير، ولأنه إليه الحشر والمصير، لقد صدق الله العظيم إذ يقول:

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة النحل: 52]

 أيعقل أن تخاف من غير الله؟ أيعقل أن ترجو غير الله؟ أيعقل أن تعقد الأمل على غير الله؟ أيعقل أن تتجه إلى غير الله؟

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة النحل: 52]

 أيها الأخوة الكرام، لا يليق بالإنسان المخلوق الأول أن يكون لغير الله، فإذا كان لغير الله، إذا كان محسوباً على غير الله، إذا كان عمله لغير الله فقد احتقر نفسه.

﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 130]

 هذه النقطة الثانية.

﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة النحل: 52]

الله عز وجل هو الذي يستحق أن تكون له :

 النقطة الثالثة: أيها الأخوة نحن نتقي الله لا لأننا في قبضته، ولا لأن أمرنا كله راجع إليه فحسب بل لأنه ذو الجلال والإكرام، وذو الطول والإنعام، رحمن رحيم، منعم كريم إنه كما قال عن نفسه:

﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾

[سورة المدثر: 56]

 هو الذي يليق بك أن تعبده، هو الذي يليق بك أن تمضي حياتك في سبيله، هو الذي يليق بك أن تفني شبابك من أجله، هو الذي أهل أن تجعل كل طاقاتك، وكل إمكاناتك، وكل حياتك في سبيله، هو الذي يستحق أن تكون له، هو الذي يكافئك أعظم المكافأة، يجزيك أعظم الجزاء، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. مسكين وكم هو بائس هذا الإنسان إذا كان لغير الله، إذا كان محسوباً على جهة أرضية، إذا كان عمله من أجل إرضاء من دون الله عز وجل..
 هذه النقطة الثالثة أيها الأخوة الكرام، ولكن الإنسان لن يتقي سخط جهة ما أو يسعى لمرضاتها إلا إذا أيقن بوجودها أولاً، وأيقن بما يناله منها من مغنم كبير إذا هو أطاعها، وما يصيبه منها من خسارة فادحة إذا هو عصاها. هذا شأن الإنسان.. لن تتقي سخط جهة ما، لن تسعى إلى إرضائها إلا إذا أيقنت بوجودها، وإذا أيقنت أن عطاءها كبير، وأن الخسارة عنها كبيرة.

 

أصل الدين معرفة الله :

 أيها الأخوة الكرام، بناءً على هذه المقدمة لن يتقي الإنسان ربه أي لن يجتنب ما نهاه عنه، ولن يفعل ما أمره به إلا إذا عرفه، فأصل الدين معرفته، قال تعالى:

﴿ واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾

[ سورة المائدة : 57]

 إن كنتم مؤمنين تتقون الله، إن عرفتموه حق المعرفة، إن عرفتم أنه إليه يُرجع الأمر كله، إن عرفتم أنه بيده ملكوت كل شيء، إن عرفتم أنه إليه المصير، إن عرفتم هذه الحقيقة عندئذ تتقون الله عز وجل فأصل الدين معرفة الله عز وجل.
 أيها الأخوة الكرام، الإيمان أساس التقوى..

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[ سورة الأعراف: 96]

طريق معرفة الله التفكر في خلقه و تدبر آياته :

 أبواب معرفة الله كثيرة من أهمها خلق السموات والأرض، قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ﴾

[ سورة عبس : 24-31]

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

[ سورة الغاشية : 17]

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾

[سورة الملك: 19]

 إن النظر والتأمل والتفكر والتدبر في الآيات التي بثها الله في السموات والأرض يصل بصاحبه إلى اليقين القطعي بأن لهذا الكون خالقاً عظيماً، ورباً رحيماً، ومسيراً حكيماً، هو أهل لأن يطيعه، ليتقي بطاعته عذابه، قال تعالى:

﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾

[ سورة يونس: 6]

 إذاً طريق معرفة الله التفكر في خلق الله..
 ومن أبواب معرفة الله: القرآن الكريم؛ ذلك المنهج القويم، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، فإذا تدبر الإنسان آياته، ونظر فيها رأى تطابقاً مضامين هذا الكتاب المعجز مع مبادئ العقل وملامح الفطرة ومع مصالح الإنسان الحقيقية، منفرداً ومجتمعاً، إن تدبر القرآن يصل بصاحبه إلى اليقين القطعي بأنه كلام الله، المُنزل على نبيه، وأنه المنهج الوحيد والأمثل، لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، قال تعالى:

﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾

[سورة الزمر: 28]

 الطريق الآخر لمعرفة الله أولاً واتقاء غضبه ثانياً تدبر آيات القرآن الكريم، الطريق الأول معرفة الله عز وجل عن طريق التفكر في آيات الكون.
 يا أيها الأخوة الأكارم، وإن تعجب فاعجب من هؤلاء الذين لا يتقون، بل إذا قلت لأحدهم: اتق الله أخذته العزة بالإثم، لم لا يتقي الإنسان ربه ؟.. لم يهتد بهديه في أعماله كلها وأقواله كلها وأحواله كلها.. مع أن الله يُعلم الإنسان من خلال العقل الذي أودعه فيه، ومن خلاف الفطرة التي فطره عليها، ومن خلال الكتاب الذي أنزله على رسوله، ومن خلال السنة التي بينت كتابه، ومن خلال الحوادث التي تؤكد حكمته وعدالته، ومن خلال دعوة الدعاة، لمَ لا يتقي الإنسان ربه ؟ مع أن الله يُعلمه دائماً، يعلمه من خلال آيات الكون، يعلمه من خلال آيات القرآن، يعلمه من خلال فطرته، يعلمه من خلال رسله، يعلمه من خلال الدعاة، يعلمه من خلال أفعاله.. لمَ لا يتقي الإنسان ربه؟ قال تعالى:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة البقرة: 282]

 لأنه يعلمكم دائماً لم لا تتقونه ؟..

 

الوسائل التي تُسرِّع الخطا إلى التوبة :

 أيها الأخوة الكرام، ومن الوسائل التي تُسرِّع الخطا إلى التوبة، أن تكون صادقاً مع نفسك، صادقاً مع ربك، صادقاً مع الآخرين، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه:

((وهل نؤاخذ بما نقول؟ قال: ويحك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟))

[ صحيح عن معاذ]

 دققوا في قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 70-71]

 الوسائل المسرعة أن يستقيم لسانك، أن تضبط هذا اللسان الذي من خلاله تُرتكب معظم المعاصي والآثام.
 أيها الأخوة، كما تعلمون المدن الكبرى التي على البحر تصب في البحر مياهها السوداء، وقد تمشي هذه المياه خمسين كيلو متراً في بعض المحيطات، ومع ذلك البحر طهور ماؤه، أما حينما قالت السيدة عائشة عن أختها صفية بأنها قصيرة، فقال النبي: يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مُزجت بمياه البحر لأفسدته.

((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 ضبط اللسان.

((إن الشيطان يئس أن يُعبد في أرضكم ولكن رضي فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم ))

[أحمد عن أبي هريرة ]

 النمام والمغتاب هذه كبائر، لا يدخل النمام الجنة كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب : 70-71]

الوسائل الفعَّالة التي تسرع الخطا إلى التقوى :

 يا أيها الأخوة الأكارم، من الوسائل الفعَّالة التي تسرع الخطا إلى التقوى، أن تكون البيئة الاجتماعية التي تحضن المرء بيئةً طيبةً، صالحة، مؤمنة، قال تعالى:

﴿ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

 اجلس مع المؤمنين، كن مع أهل الحق، لا تصاحب إلا مؤمناً، لا يأكل طعامك إلا تقي، كن معهم، تعلم منهم، تعلم من أخلاقهم، تعلم من عقيدتهم، تعلم من سلوكهم، أن تكون وحدك أو أن تكون مع أهل الباطل، إنك كالماء النقي، إن اختلط ماء نقي وماء آسن من الذي يتضرر ؟ الماء النقي وحده..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

 لابد من أن تراجع قائمة الأصدقاء، قائمة الذين تربطك بهم علاقة متينة، العلاقات الحميمة لا تكون إلا مع المؤمنين، علاقة العمل مسموح بها أما علاقة حميمة، لقاء طويل، رحلة طويلة، سهرة إلى أنصاف الليالي.. فلابد من أن تكون هذه العلاقات الحميمة مع المؤمنين من أجل أن تستمد منهم، من عقيدتهم، من أخلاقهمأ من قيمهم.
 يا أيها الأخوة الأكارم، ومن الوسائل الفعالة التي تُسرع الخطا إلى التقوى أن تبتغي إليه الوسيلة، وهي تَعلُّم العلم الموصل إلى الله، على أيدي علماء عاملين مخلصين متحققين ورعين، الوسيلة؛ العمل الصالح، الخالص لوجه الله تعالى، إن ابتغي به وجه الله، ووافق السنة هذا هو العلم المقبول والعبادات المخلصة الدؤوبة، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة المائدة : 35]

 وطريق التقوى ليست مفروشة بالرياحين، بل هي طريق محفوفة بالمكاره لأن سلعة الله غالية، وعمل الجنة حزنٌ بربوة، وعمل النار سهلٌ بسهوة، فلا بد من الانضباط الذاتي، ولا بد من البذل والتضحية قال تعالى:

﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[سورة يوسف: 90]

 وطِّنْ نفسك على الصبر، وطن نفسك على المكاره، لأن عمل الجنة حزن بربوة:

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 142]

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت: 2]

﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾

[سورة السجدة: 18]

 أيها الأخوة الكرام، والتقوى لا تقبل أن يعطيها الإنسان بعضه، بل لا بد من أن يعطيها الإنسان كله، لا يُقبل من المتقي بذل بعض الجهد، بل لا بد له من بذل كل الجهد لأن حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح، وإخلاصه وصوابه، فلكلٍّ درجات مما عملوا، والعمل الصالح يرفعه، قال تعالى:

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة التغابن: 16]

 قد تُقرأ بنبرة أخرى:

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة التغابن: 16]

 لاستنفاد الجهد لا لبذل بعض الجهد.

 

كيفية إكرام الله عز وجل للإنسان :

 أيها الأخوة الكرام، ومن عظيم إكرام الله عز وجل أن الإنسان حينما يخطو الخطوة الأولى في طريق التقوى، يكفر عنه سيئاته، وينسي حافظيه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، ويعظم له أجراً..

﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾

[ سورة الطلاق: 5]

 دققوا، الماضي مغطى بالمغفرة والتكفير، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، أيها الإنسان لا تجعل من ماضيك عقبة أمام مستقبلك:

(( ... يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي...))

[ الترمذي عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ]

(( لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))

[ ابن عساكر في أماليه عن أبي هريرة ]

 لا تجعل ماضيك، لا تجعل الذنوب التي اقترفتها حجاباً بينك وبين الله، قال تعالى:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر: 53]

 ومن عظيم إكرام الله عز وجل أن الإنسان حينما يخطو الخطوة الأولى في طريق التقوى يجعل الله له من أمره يسراً، لا يوجد شيء أمتع للإنسان من تيسير أموره، ولا شيء يزعجه ويحطمه كتعسير أموره، كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله ويقول:

(( اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ))

[ابن حبان عن أنس بن مالك ]

 دققوا في قوله تعالى:

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾

[ سورة الطلاق: 4]

 الأمور ميسرة في بيته، في تربية أولاده، في تزويج بناته، في اختيار أعمال لهم، في علاقاته الاجتماعية، في كسب رزقه..

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾

[ سورة الطلاق: 4]

 ألا تحب أن تيسر لك الأمور؟. ومن عظيم إكرام الله عز وجل أنه جعل التقوى مخرجاً للإنسان من كل ضيق، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾

[ سورة الطلاق : 2]

 نزلت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يُظن أنها لا تُفرج .
 إعجاز هذه الآية في إيجازها، وبلاغتها في إطلاقها، قال عليه الصلاة والسلام:

(( إنِّي لأعلمُ آيَةً لوْ أخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتهُمْ « وتلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فما زال يكررها ويعيدها ))

[ الدارمي عن أبي ذر]

 حينما تضيق الأمور، وتستحكم الحلقات، وتُسد المنافذ، وتنتصب العقبات، ويقنط الإنسان تأتي التقوى فتتسعُ بها المضائق، وتُحل بها العقد، وتُفتح بها المسالك، وتذلل بها العقبات. فمن يتق الله عند نزول المصيبة، فيوحد الله، ويصبر لحكمه، ويرضى بقضائه، ويثبت على مبدئه واستقامته يجعل الله له مخرجاً منها، ويبدل ضيقه فرجاً، وخوفه أمناً، وعسره يسراً.
 من يتق الله فلا يسمح للأفكار الزائفة أن تأخذ طريقها إلى عقله يجعل الله له مخرجاً من الضياع والضلال وخيبة الأمل. ومن يتق الله فيبرأ من حوله وقوته وعلمه، يجعل الله له مخرجاً مما كلفه به وبالمعونة عليه. ومن يتق الله فيقف عند حدود الله فلا يقربها، ولا يتعداها يجعل الله له مخرجاً مما كلفه به، من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. ومن يتق الله في كسب الرزق، فيتحرى الحلال الذي يُرضي الله يجعل الله له مخرجاً من تقتير الرزق بالكفاية، ومن إتلاف المال بحفظه ونمائه. ومن يتق الله في اتباع السنة، يجعل الله له مخرجاً من ضلال أهل البدع، ونتائج ابتداعهم. ومن يتق الله في اختيار زوجته، وفي التعامل معها، يجعل الله له مخرجاً من الشقاء الزوجي. ومن يتق الله في تربية أولاده، يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم وشقائه بشقائهم. ومن يتق الله في اختيار عمله، وحسن أدائه، يجعل الله له مخرجاً من إخفاقه فيه. إعجاز هذه الآية في إيجازها.

 

مستويات التقوى :

 يا أيها الأخوة الكرام، التقوى مستويات، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[سورة آل عمران 102]

 أن تطيعه فلا تعصيه، أن تذكره فلا تنساه، أن تشكره فلا تكفره.
 فمن التقوى أن تستقيم على أمر الله الذي وصلك بالنقل الصحيح، فإذا صحت استقامة العبد، انعقدت صلته بالله، ومن خلال هذه الصلة يقذف الله في قلب المؤمن المُتقي النور، فيرى به الحق من الباطل، والخير من الشر، والصحيح من الزائف، فيرى المؤمن بنور ربه حقائق الأمور، وبواطنها، ومؤداها، ونتائجها، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة الحديد: 28]

 نور.. يقذف الله في قلبك النور، ترى الحق حقاً والباطل باطلاً..
 قد تضع يدك وأنت مُغمض العينين على شيء ناعم الملمس، لين المجس، انسيابي الخطوط، ثم تفتح عينيك فإذا هي حيَّة رقطاء، في أنيابها السم الناقع، عندئذ تنتفض مُبتعداً عنها، وتصرخ مذعوراً منها، قد ركنت إلى ملمسها الناعم ومجسِّها اللين قبل أن تفتح عينيك، وابتعدت عنها حينما رأيت حقيقتها، وكذلك الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمرُّ. التقوى كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله: " نور يقذفه الله في القلب" هو أساس الرؤية الصحيحة التي هي أساس صحة العمل وسعادة الدارين.

 

من يتقي الله يضع نفسه في طريق الشكر :

 ألا يتمنى أحدنا أن يكون أكرم الناس على الله ؟.. إذاً فليتق الله قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

[سورة الحجرات: 13]

 إن أردت المكانة العلية، إن أردت أن تكون في أعلى مقام عند الله فاتق الله:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

[سورة الحجرات: 13]

 وقد ورد في الحديث الشريف أنه إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق بما في يديك.. ألا يتمنى أحدنا أن يحبه خالق السموات والأرض ؟ وإذا أحبك الحق ألقى محبتك في قلوب الخلق، وإذا أحبك الحق أنزل السكينة على قلبك وجعل لك مقعد صدق عنده.

فليتك تحلو والحيـاة ُ مريـــــــــــــرةٌ  وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامــــر  وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الوصلُ فالكل هيـن  وكلُّ الذي فوق التراب تُــراب
***

 إذا أردت أن تكون كذلك فاتق الله، لأن الله تعالى يقول:

﴿إن الله يحب المتقين﴾

[سورة آل عمران: 76]

 إن أردت أن تكون محبوباً فاتق الله، والصيام من أجل التقوى.. ألا يتمنى أحدنا أن يكون ربُّ العالمين ذو الجلال والإكرام وليه يُخرجه من الظلمات إلى النور ويُدافع عنه ويكون في موضع عنايته وحفظه ؟ إذاً فليتق الله، قال تعالى:

﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة الجاثية: 19]

 يتولى أمرك، يدافع عنك، يعلي قدرك، يؤيدك، ينصرك، يحفظك.. ألا يتمنى أحدنا أن يكون الله معه ؟ وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ومعية الله تعني الحفظ والتأييد والرعاية والتكريم والتشريف.. إذاً فلنتق الله، يقول الله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾

[سورة النحل : 128]

 خالق الكون معك. الفلاح كلُّ الفلاح، والنجاح كل النجاح، والفوز كل الفوز، والرشاد كل الرشاد، والتفوق كل التفوق، والغنى كل الغنى، والتوفيق كل التوفيق، والسعادة كل السعادة في تقوى الله عز وجل، قال تعالى:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 189]

 وقال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[سورة الأحزاب: 70-71]

 إذا شعر الإنسان أنه مغمور بفضل الله وتاقت نفسه إلى شكره كيف يشكره وهو قائم به غارق في فضله ؟.

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾

[سورة آل عمران: 159]

 نحن عاجزون عن إحصاء خيرات نعمة واحدة فلأن نكون عاجزين عن إحصاء كل النعم فمن باب أولى، وإذا كنا عاجزين عن إحصاء نعمه فنحن عن شكرها أشدّ عجزاً، لكن الله عز وجل يُبين لنا أن الإنسان الذي يتقي ربه يضع نفسه في طريق الشكر، قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[سورة آل عمران: 123]

 إن أردت أن تكون شاكراً فاتق الله..

 

التقوى أن تتقي الكفر بالإيمان والشكر بالتوحيد :

 أيها الأخوة الأكارم، مجمل القول: التقوى أن تتقي الكفر بالإيمان، والشكر بالتوحيد، والرياء بالإخلاص، والكذب بالصدق، والغش بالنصيحة، والمعصية بالطاعة، والابتداع بالاتباع، والشبه بالورع، والدنيا بالزهد، والغفلة بالذكر، والشيطان بالعداوة.

تزود من التقــــــــــــوى فإنـــك لا تدري  إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفـجر
فكم من فتى أمسى وأصـبح ضاحكاً  و قد نُسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم  وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبــر
وكم من عروس زيَّنوها لــزوجــــــها  وقد قبضت أرواحُهم ليلة القــــــــدر
***

 سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، كان له مستشار خاص اسمه عمر بن مهاجر قال له: يا عمر بن مهاجر إذا رأيتني ضللت الطريق فخذ بمجامع ثيابي، وهزني هزاً عنيفاً، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت..
 أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى امتنع عن الجلوس في ظل دار لرجل له عليه دين.. لما ورد في الخبر: أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.
 جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى: فقال: يا إمام السماء لا تمطر، فقال: استغفر الله، جاءه آخر فقال: يا إمام زوجتي لا تنجب، فقال: استغفر الله، جاءه ثالث، فقال: أشكو الفقر، فقال: استغفر الله، فقال أحد الجالسين: يا إمام أو كلما جاءك رجل يشكو تقول له: استغفر الله، فقال الإمام الحسن البصري: ألم تقرأ قوله تعالى:

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾

[سورة نوح:10-12]

 أيها الأخوة الكرام، عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:

((أنه قرأ هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فقال عليه الصلاة والسلام: قال ربكم أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فأنا أهل أن أغفر له ))

[ الدارمي عن أنس ]

 وعن أنس ابن مالك :

(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله إني أريد السفر، فقال: متى؟ قال: غداً إن شاء الله، قال: فأتاه فأخذ بيده وقال له: في حفظ الله، وفي كنفه، زودك الله التقوى، وغفر لك ذنبك، ووجهك للخير أينما توخيت وأينما توجهت))

[ الدارمي عن أنس ]

 وعن رجل من بني سليط:

((أنه مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد على باب مسجده محتب وعليه ثوب له قطن، ليس عليه ثوب غيره، وهو يقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ثم أشار بيده إلى صدره يقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم))

[ أحمد عن رجل من بني سليط]

 وقد روى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى:

((وألزمهم كلمة التقوى: لا إله إلا الله))

[ الترمذي عن ابن عباس]

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

((سئل النبي عليه الصلاة والسلام ما أكثر ما يدخل الجنة ؟ قال: التقوى وحسن الخلق، وسئل: وما أكثر ما يدخل النار ؟ قال الأجوفان الفم والفرج ))

[ ابن ماجة عن أبي هريرة]

 أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شروط استجابة الدعاء :

 قبل أن ندعو لابد من كلمة، النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يُستجاب لها، ولكن لمَ ومتى لا يُستجاب الدعاء ؟ مع أن الله تعالى يقول:

﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾

[ سورة غافر: 60]

 ونبيه صلى الله عليه وسلم يقول:

(( إن ربكم تبارك وتعالي حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً ))

[أبو داود عن سلمان الفارسي]

 وليس هناك شيء أكرم على الله من الدعاء. ويبدو أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء العبد، حتى يستجيب العبد لأمر الرب، قال تعالى:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾

[سورة البقرة: 186]

 أي إذا آمنوا بي استجابوا لي، وإذا استجابوا لي يُرشدون إلى الدعاء المُجاب.
 لنضرب على ذلك مثلاً، كلنا يعلم أن المركبة مبنية على علم متطور وفيها أجهزة وتوصيلات بالغة الدقة والتعقيد، فإن توقفت هذه المركبة عن السير، فلا بد من أن نعكف على دراسة مبادئ الحركة ونظام التوصيلات، وأن نراقب سلامة الأجهزة حتى نكتشف موطن الخلل تمهيداً لإصلاحه، أما إذا وقفنا إلى جانب المركبة، وملأنا الفضاء صياحاً، وضجيجاً، وبكاءً، وعويلاً، ودعاءً، فما الذي يحصل؟ لا يحصل شيء، لابد من أن تكشف السبب، أين الخلل؟ أين المعصية؟ أين الخروج عن منهج الله؟ أين نقطة الضعف؟ وكذلك حالنا مع الله لابد من أن نعكف على دراسة السنن الثابتة التي سنها الله لتحديد وتنظيم علاقتنا بربنا، وبأنفسنا، وبمن حولنا، وبما حولنا، فإذا تعرفنا إلى هذه السنن وأيقنا بمصداقيتها فكشفنا في ضوء هذه المعرفة موطن الخلل في حياتنا وعلاقاتنا، وكشفنا زاوية انحرافنا عن منهج الله، وأصلحنا هذه الخلل وعدنا إلى ذلك المنهج، عندئذ ندعوه فيستجيب لها.
 العارف بالله إبراهيم بن الأدهم مرَّ بسوق البصرة، فقيل له: يا أبا إسحاق إن الله تعالى يقول: ادعوني أستجب لكم، ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا، فقال لهم: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء؛ عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به، وادعيتم حب رسوله فلم تعملوا بسنته، قلتم: إن الشيطان لكم عدواً فاتخذتموه ولياً، قلتم: إنكم مشتاقون إلى الجنة فلم تعملوا لها، قلتم: إنكم تخافون من النار، فلم تتقوها، قلتم: إن الموت حق فلم تستعدوا له، اشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم، تقلبتم في نعمة الله فلم تشكروه عليها، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا، فكيف يُستجاب لكم؟

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور