وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات إسلامية - متفرقة : 011 - الهجرة - 6 - مرحلة ما بعد الهجرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقًّا و ارزقنا اتِّباعه، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

النبي قدوة لكلّ البشر و على الإنسان أن يتمثل أخلاقه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ لازلنا في دروس السيرة و لا زلنا في مرحلة ما بعد الهجرة.
 أيها الأخوة المؤمنون مقدِّمة قصيرة تلقي ضوءاً على الأحداث التي مر بها المسلمون بعد الهجرة، المؤمن إذا فهم طبيعة الحياة الدنيا، و طبيعة ما يجري فيها، و سرَّ التصرفات الإلهية، إذا فهم كل ذلك من خلال آيات القرآن الكريم، ومن خلال السنة النبوية، و من خلال الأحداث الجارية، ما الذي يحصل؟ يُقوَّى و يسلَّح، فإذا واجه شيئاً أصاب أصحاب رسول الله، إذا واجه شيئاً عاناه رسول الله لا تكبر عليه الأمور، ميزة السيرة، النبيُّ عليه الصلاة و السلام بلغه أن الناس يتحدَثون عن عائشة حديثاً لا يرضيه، اتَّهموها في إخلاصها له، اتَّهموها في شرفها، كيف وقف النبيُّ؟ ما الموقف الذي وقفه النبيُّ؟ هذا هو الموقف الكامل، النبي عليه الصلاة و السلام خرج إلى الطائف و لقي الصدَّ، و الاستهزاءَ، و الإيذاء، و التكذيبَ، و السخرية، ماذا فعل ؟ قال:

(( اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمونَ ))

[ متفق عليه عن عبد الله بن مسعود ]

 النبي عليه الصلاة و السلام قدوة، في مرحلة ما بعد الهجرة تحمَّل المسلمون المشاقَّ الكبيرة، و لكن بادئ ذي بدء أتمنى أن يكون واضحاً لديكم أن مصيبةً تقع بما كسبت أيدينا شيء و أن مصيبة تقع امتحاناً لصبرنا، و تأكيداً لعبوديتنا، و تقوية لعزيمتنا، و رفعاً لمقامنا شيء آخر، أتمنى على الله عز وجل أن يختلط في أذهانكم الموضوعان، إذا قال الله عز وجل:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30]

 هذه الآية موجَّهة إلى المؤمنين المقصِّرين الذين وقعوا في المخالفات، و اجترحوا بعض السيئات، قصَّروا في أداء بعض الواجبات، فجاء العقابُ، أريد بشكل دقيق جدًّا أن نعزل هذا الموضوع عن درسنا.

 

ارتكاز الدنيا على الامتحان :

 درسنا الآن في موضوع آخر، المؤمن ممتحَن، و المؤمن مبتلى، المؤمن لا بدَّ من أن يمرَّ بظروف صعبة، يكشف الله له صدقه، و للناس جهاده، و عند الله مقامه، فإذا تحدَّثنا عن فقر، أو عن مصيبة، أو عن حياة خشِنة عاناها المسلمون بعد الهجرة، هذا لا من موضوع:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30]

 لقد دفعوا الغالي و الرخيص، و النفس و النفيس، تركوا أوطانهم، و تركوا أموالهم، و تركوا أهلهم في سبيل الله، و تحمَّلوا كلَّ شظف العيش، و كل خشونة الطعام، فإذا تحدَّثنا عن هذا الدرس عما أصاب المسلمين من مشقة بعد الهجرة لا على سبيل أن هذا عقاباً ألمَّ بهم، لا، لأن المصائب أنواع منوَّعة، أحياناً يُفتح البطنُ لاستئصال الزائدة، و يُفتح البطن أحياناً للمعالجة، و يُفتح البطن لكشف جريمة، فما كلُّ فتح بطن يشبه الآخر، إنسان ميِّت يفتح بطنُه لإخبار أنه مات مسموماً، هذا فتح بطن له معنى، و إذا فُتح البطنُ لاستئصال الزائدة فهذا له معنى آخر، و ما كل مصيبة تشير إلى معنى واحد، فالموضوع الآن أن الواحد سأل النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله و اللهِ إني لأحبك؟ فقال عليه الصلاة و السلام: انظر ما تقول، قال: و اللهِ إني لأحبك، قال: انظر ما تقول- دقق فيما تقول- قال: و الله إني لأحبك، إن كنت صادقاً فيما تقول للفقرُ أسرع إليك من شرك نعلك ، أي إذا كنت صادقاً في محبَّتي لا بد من أن تتحمَّل بعض المشاق، لا بد من أن تبذل جهداً في سبيل تأكيد هذه المحبَّة، لا بد من أن تذوق بعض الامتحان، فأن تقول: أنا أحب، تصوَّروا أن جامعة أُنشئت بأرقى المواصفات، و فيها أعظم الأساتذة، و فيها أرقى المناهج، و فيها أوسع المدرَّجات، و فيها أرقى المخابر، و فيها كل قاعة تأخذ بالألباب هذه الجامعة نظام الناجح فيها أن يقدِّم الطالبُ تصريحاً ؛ إنني أستحقُّ خمساً و ثمانين في الرياضيات، عندئذ يُعطى الطالبُ هذه العلامة، هذه جامعة ‍‍‍! هذا امتحان ! هذا شيء مضحك، و ربُّنا عز وجل قال:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 2]

 القضية على كلامكم أن تقول: أنا أحب اللهَ قضيةً سهلة، أنا مؤمن يا أخي، أنا ورِع، هذا كلام يقوله كلُّ إنسان، هناك امتحانات يجب أن تؤمن أن الدنيا مركوزة على الامتحان، أحيانا مدرسة فيها قاعات، و فيها تدفئة، و فيها مراوح، و فيها مكتبة هي أساس الدراسة، إذا كان فيها مكان لبيع الفطائر، فهذا المكان استثنائي، الأصل الدراسة، الأصل التدريس، والأصل الاستماع، و الأصل المحاضرات، الأصل الكتب، و الأصل الامتحانات، هذا جوهر المدرسة، إذا فيها حديقة، أو فيها مكان لبيع الفطائر، أو مكان لشرب بعض المشروبات، أو قاعة مطالعة فيها مجلاَّت، فهذه أشياء استثنائية، فالأصل في المدرسة أنها للدراسة، اسمعوا هذا الكلام: و الأصل في الدنيا أنها للامتحان، و الدليل قال تعالى:

﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾

[سورة المؤمنون: 30]

الدنيا دار ابتلاء و الآخرة دار جزاء :

 و قال تعالى:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾

[سورة الملك: 2]

 إذًا إذا فهمتَ أن سرَّ هذه الدنيا، و أن طبيعتها، و أن جوهرها، و أن حقيقتها مركَّز في الابتلاء، تعدُّها دار ابتلاء، و تعدُّ الآخرة دارَ جزاء، تعدُّها دارَ عمل و تعدُّ الآخرة دارَ جزاء و إكرام، تعدُّها دار تكليف و تعدُّ الآخرة دار تشريف، فنحن إذا فهمنا سرَّ الحياة لا نُفاجأ، إذا طلب الطالب فرضًا مقعداً وثيراً متحرِّكاً يصبح كالسَّرير، و طلب فطائر، و طلب مشروبات، و طلب مجلات، و طلب مذياعاً صغيراً، و طلب موالح و مقبِّلات و مسلِّيات و أجهزة و هو يدرس، هذه الطلبات غير معقولة، هذه القاعة للدراسة، فالإنسان عندما يطلب الجزاء في الدنيا، أو يطلب المتعة في الدنيا، فقد جهِل حقيقتها، و أكثر الناس همُّهم الأوحد النعيم، يركِّز وضعه، و يركِّز بيتَه، و يركِّز متنزَّهه و حياته قبل كل شيء، و راحته و نومه، و سيرانه و نزهته، و استلقاءه و مكانته و كرامته، قبل كل شيء، هذا فهم الدنيا على أنها دار استمتاع، و دار تنعُّم، و قد يقول قائل: الإنسان إذا استقام على أمر الله تماماً لا يمكن أن يصيبه شيءٌ، نقول له: هذا كلام فيه مبالغة، لا يُصاب بمصيبة عقاب، لكن يُصاب بمصيبة ابتلاء، فإذا أنت لم تفهم هذا المعنى و ما قبِلته و أنت مستقيم استقامة تامة و غض بصر و إنفاق مال و شاءت حكمةُ الله عز وجل أن يبتلِك بشيء، تفاجأت و اختلَّ توازنك و شككت فيمن تعلَّمت منه، قال تعالى:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت : 2]

 لك أن تقول ما تشاء، و لك أن تدَّعيَ ما تشاء، و لك أن تصنِّف نفسَك مع من تشاء، و لك أن تقول: أنا في المرتبة الفلانية، و أنا أصبحت تقيًّا، وأنا مؤمن، وأنا بالإحسان، بالإيمان، و أنا بالإسلام، و أنا محبٌّ، و أنا أبكي، و أنا أعمل، و أنا أخشع، قل ما تشاء، عندنا ابتلاء، أخي قل هذه إسوارة عيار أربعة و عشرين، هذا كلام، نحن عندنا أجهزة تكشفها، الجهاز يقول لك: ثمانية عشر. أدقُّ نقطة في هذا الدرس، قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾

[ سورة العنكبوت : 2-3]

 قطعة إسمنت هذه قوة تماسكها واحد كيلو على السنتيمتر، أي سنتيمتراً مكعباً من الإسمنت نحملُّه كيلو فتقطع، هناك إسمنت يحمل اثنين كيلو، و هناك إسمنت يحمل خمسة كيلو، فكلما ارتفع الوزن الذي تُكسر به هذه القطعة عظُمت قيمتها، فأنت على أي شيء تكسر ؟ هناك إنسان على كلمة تعالَ عندنا لم يعد يأتي الدروس نهائياً، هناك كلمة إذا الإنسان حذَّره تحذيراً بسيطاً مغرضاً شيطانياً لم يعد يأتي إلى الدروس، هذا كسر على الأوقية.

حكمة الله من الابتلاء :

 هذه المقدمة أردت منها أن أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله ذاقوا من المشقَّات و المتاعب بعد الهجرة ما لا سبيل إلى وصفه، فنحن إذا فهمنا هذا الفهم، و عرفنا طبيعة الدنيا تقبَّلنا بعض الابتلاء، إذا الإنسان توقَّع شيئاً ووجدته تفاجأ، لو فرضنا أن ابنه لم ينجح، و ما نجح، يُصعق الأب، لا، بالعكس هو متوقِّع هذا الشيء، فإذا أنت توقَّعت أنك عندما تستقيم على أمر الله لن تصاب بشيء إطلاقاً، و اقتضت حكمةُ الله عز وجل أن يبتليَك بشيء يختلُّ توازنك، أما إذا علمت و رغم أنك مؤمن قد يريد اللهُ عز وجل أن يكتشف و أن يظهر حقيقة إيمانك، يضعك في طرف صعب ماذا تفعل؟ انظر الظرف صعب، إنسان يعفُّ، و إنسان يسرق، بظرف صعب إنسان تزلُّ قدمُه و إنسان يتعفَّف، قال تعالى:

﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾

[سورة يوسف: 23]

 لو وضعنا مئة شخص في الظرف الذي وُجد فيه سيدنا يوسف، أغلب الظن أن قسماً كبيرا تزلُّ قدمه.
 إذًا يجب أن تعلم، وهذه أهمُّ نقطة في الدرس أنك في مرحلة ابتلاء، قبل الدنيا هناك عالَم الأزل، و بعد الدنيا هناك عالَم البرزخ، و أما في هذه الدنيا فأنت في مرحلة ابتلاء، الآن نبعد عن أذهاننا مصائبَ العقاب قال تعالى:

﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[سورة الشورى: 30]

 هذا بحث آخر، له مجال آخر و موضوع آخر.

امتحان الإنسان لمعرفة نفسه :

 أنا الآن في موضوع جديد، مؤمن مستقيم، في بحبوحة مستقيم يجب أن نمتحنه في الشدة، هل يبقى مستقيماً؟ موظَّف له دخل كبير، و له دخل آخر كبير، الدخل الآخر الكبير توقَّف و بقي على راتبه، هل يأخذ مالاً حراماً؟ وُضِع في ظرف، إذا قال وهو دخله كبير: أنا لا أقبل، أنا أنا، فلما ضاقت عليه الدنيا مدَّ يدَه، معنى هذا أن الامتحان جاء، فيه عملية كشف، عملية كشف، ما نوع هذا الذهب؟ أربعة و عشرون؟ واحد و عشرون؟ ثمانية عشر؟ ستة عشر؟ أحد عشر؟ أم نحاس مطليٌّ بالذهب؟ أم نحاس ملمَّع؟ و هناك تنك، فالعملية عملية امتحان للمعدن، فالدرس الحالي اليوم موضوعه أن هذا الكلام موجه للمؤمنين، إذا كنت أنت داعية و لقيت إنساناً شارب خمر، آكل مالاً حراماً، منحرف الأخلاق، و بعث الله له مرضاً، الله بالمرصاد، الله عز وجل عقابه أليم، قل: إن لكل سيئة عقاباً، قل له: ما من عثرة و لا اختلاج عرق و لا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم و ما يعفو الله أكثر، قل له هذا الكلام، قل له:

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾

[سورة النساء: 147]

 ائتِ له بخمسين أو ستِّين آية و أكِّد له أن هذا الجزاء عبارة عن عقاب لذنب ارتكبته، قال تعالى:

﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 123 ]

 قل له: فمن وجد خيراً فليحمد الله، و من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إذا كنت تحدِّث إنساناً عاصياً، و إذا كنت تحدِّث إنساناً منحرفاً، دخله حرام و إنفاقه حرام، متفلِّتاً من قواعد الدين، بصره شرقاً و غرباً، ينغمس في الملذَّات المحرَّمة، لا يحرِّم و لا يحلِّل، و جاءه مرضٌ عضال، أو مصيبة كبيرة، أو ذاق فقراً مدقعاً، هذا الإنسان يُخاطب بهذه الآيات و الأحاديث، هذا الموضوع لا علاقة له بدرسنا اليوم، درسنا اليوم: إنسان مستقيم، مؤمن، سائق، مصلي، دخله حلال، و إنفاقه حلال، يا ترى بالرخاء مستقيم، يريد الله عز وجل أن يريَه نفسه في الشدة، أن يريه نفسه في الضائقة، أنت عفيف على دخل كبير، وإذا صار دخلُك قليلاً تبقى عفيفاً؟؟ امتحناك بالنزلة، و هذه طلعة، في النزلة السيارة ممتازة، نريد الطلعة، تسخن، هذه اتركها في بالك، الامتحان في الصعود أهمّ، فتقول: أنا مؤمن لا يحدث لي شيء، أنا مستقيم، أنت أكرم من أصحاب رسول الله؟! أصابهم ما أصابهم، الله عز وجل سمّى هذه المصائب امتحاناً، سمِّها مصائب ترقية، مصائب امتحان، مصائب عبودية لله عز وجل، أي هناك أشياء ليست واضحة، الله عز وجل ساق لك شيئاً غير واضح، أنت ليس لك ثقة بحكمته؟ برحمته و بعدالته؟ إذا أنت مستسلم راضٍ مفوِّض لماذا هكذا حدث معي؟ أنا أعرف أنه لا يحدث لي شيء، اختلَّ توازنك، هذا الكلام أنقله لكم من أعماقي، إذا أنت دخلت الإيمان هناك حساب ثان، إذا إنسان خارج مدرسة يُعاقب عقاباً حتى يدخل المدرسة، يُضيَّق عليه و يُضرب، دخل مدرسة، الآن هناك عقاب ثان، أين وظيفتك؟ لماذا لست حافظاً للدرس؟ ائتنا بأبيك غداً، أخي نحن ما انتهينا من العقاب؟ هذا نوع وهذا نوع، هذا عقاب و أنت خارج المدرسة، من أجل أن تدخلها، فإذا دخلتها هناك عقاب من نوع ثانٍ، من أجل أن ترقى فيها، آمنت و استقمت، الآن هناك امتحانات، و ترقية، و إذا كان هناك معاصي فهناك عقابات، حتى لا يختلط الأمر، يدخل موضوع العقوبات، موضوع الترقيات أردتُ هذه المقدِّمة.

الامتحانات التي تعرض لها أصحاب رسول الله :

1 ـ انتقالهم من الجوِّ الجاف إلى الجوِّ الرطب :

 الآن سنرى من أصحاب رسول الله شيئاً، الصحابة الكرام المهاجرون قدموا المدينة، أولاً جغرافيا، مكة جافَّة، هواؤها نقيّ، المدينة كلها بساتين، رطبة، فإذا الإنسان منا ذهب إلى الساحل، يقول لك: سأخرج من جلدي، حرٌّ مع رطوبة لا يُحتمل، أنت ابن منطقة دمشق، الرطوبة خمسة و ثلاثون، إذا نقلناك إلى منطقة الرطوبة فيها تسعون لا تتحمَّل يحدث معك رشوحات، و اختلال توازن، و أرق، فتصوَّروا المهاجرين انتقلوا من جوٍّ جافٍ إلى جو رطب، انتقلوا من بيوتهم التي هي على ما يريدون، إلى بيوت ليست على ما يريدون، فلذلك لم تكن حالُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة المنورة في أول عهدهم بالهجرة حالاً مرضية، بالرغم من أن الأنصار أكرموهم، و شاطروهم أموالهم، و بساتينهم، و حوانيتهم، و قدَّموا لهم كلَّ شيء، لكن البيئة مختلفة، فهذا أول امتحان، الهجرة كلمة تقولها أنت، الإنسان له جوٌّ خاص، و له مدينته الخاصة، ألِف طقسها، و ألف مناخها، ألف تضاريسها، ألف مناظرها، و ألف أهله و أقرباءه، انتقل إلى مدينة ذات طبيعة أخرى، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ  وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
***
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ  الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً   بِوَادٍ وَحَوْلِــــــــــي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيــــَاهَ مَجَنَّةٍ  وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
***

 قال: :" اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ"
 ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:

((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، قَالَت:ْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا ))

[ البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

 صار هناك أمراض كثيرة للمهاجرين بسبب اختلاف البيئة، من بيئة جافة إلى بيئة رطبة، و ذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب، هذه إشارة دقيقة قبل أن يُضرب علينا الحجاب، جاءت آيات الحجاب، فحسمت الأمرَ قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾

[سورة الأحزاب : 59]

 و قال تعالى:

﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا﴾

[سورة النور : 31]

 نقلة مفاجئة، نقلة في المناخ، المهاجرون في مكة كانوا تجَّاراً في المدينة، ومزارعين، إذا إنسان تاجر ألِف أن ينتقل لمكتب، و يقعد وراء طاولة، و يأتيه فنجان قهوة صباحاً، و يعمل عدداً من الصفقات، و يأتي للبيت الساعة الثانية، أما المزارع فيعمل ثماني ساعات عملاً شاقاً، فأصحاب رسول الله مهاجرون انتقلوا من بيئة تجارية إلى بيئة زراعية و في هذا مشقَّة كبيرة جدًّا.

 

2 ـ ابتعادهم عن وطنهم و اشتياقهم له :

 الشيء الآخر، الوطن له طعم خاص، فقدِم على النبي عليه الصلاة و السلام رجل اسمه أصيل، فماذا فعل هذا الرجل؟ سئل كيف تركتَ مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله، الإنسان يشتاق إلى بلده، إذا الإنسان ترك دمشق و سافر لبلد بعيد، إذا سمع كلمة دمشق في الأخبار يحِنُّ، دخل لمعرض و رأى جناح بلده، ورأى بعض المناظر عن دمشق تجده يتفاعل، هكذا الإنسان، قال تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾

[سورة النساء: 66]

 فوصف هذا الرجل مكة المكرمة، وذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله، و قال: لا تشوِّقنا يا أصيل، دعِ القلوبَ تقرُّ.
 أردتُ أن أنبئكم أن الهجرة شيء عظيم، اقتلاع من الجذور، انتقلت إلى بلد أنت فيه غريب، ليس لك فيها شيء، جوُّها مختلف، و بيئتها مختلفة، و طقسها مختلف، ومناخها مختلف، والعلاقات مختلفة، و كان عليه الصلاة والسلام يدعو ربَّه و يقول:

((قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا فِي الْجُحْفَةِ ))

[ أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

 إلى خارجها صار فيها وباء، و صار فيها إنتانات، و أمراض تحسُّس، و أمراض معوية، و صار فيها حمى.

3 ـ معاناتهم من أعداء المدينة :

 هناك شيء آخر ؛ الصحابة الكرام انتقلوا إلى المدينة، طبعاً عانوا من اختلاف الطقس، عانوا من اختلاف العلاقات، و لكن عانوا أيضاً من الأعداء، فيها يهود، و فيها منافقون، و فيها مشركون، هؤلاء أعداء طبيعيُون لأصحاب رسول الله.

ملازمة مجالس العلم و التَّأدب بآداب المؤمنين أعظم عمل تفعله في الدنيا :

 المهاجرون كثروا حتى ضاقت بهم المدينة، بعضهم ليس له مأوى، فماذا فعل النبيُّ عليه الصلاة و السلام ؟ قال: أمرهم أن يناموا في صُفَّة المسجد، إذا الإنسان زار القبرَ النبويَ الشريف وراء القبر هناك مصطبة عالية، مثل الأموي فيه سدَّة، هذه المصطبة اسمها الصُّفة، لأن فقراء المسلمين كانوا في هذا المكان ينامون، انظروا إلى هذا الوصف، كان عليه الصلاة و السلام يوزِّعهم على أصحابه كلَّ ليلة عند العشاء، ماذا يأكلون؟ أبو فلان خذ معك فلاناً و فلاناً و عشِّهم، فلان خذ معك فلاناً و فلاناً، كان النبيُّ عليه الصلاة و السلام يوزِّع أهل الصفة على أصحابه، و يأخذ فريقاً منهم إلى بيته فيطعمهم، هكذا المسلمون، هناك تعاون، أنت عضو في أسرة، إذا جاءك الآن إنسان مسافر، و قد اشتاق لهذا الدرس، و جاء من بلد، و رأيته خذه و عشّه، هذا عمل عظيم جدًّا، هكذا الإيمان، أما إذا قلت: لا دخل لي، يدبِّر حاله، غيري يأخذه، ممكن، لكن أنت لم تعُد في المستوى الراقي، كثير من الإخوان يأتون، و هناك أخ جاءنا من بلد بعيد، لم يأت إلينا إلا شوقاً لهذه المجالس، لا بدَّ أن يدعوه لبيتهم أخوان كثُر، يكرمونه فيشعر أنه بين أهله قاعد، هكذا الإيمان، ، هناك دعوة، و هناك وليمة، و هاك منامة، هكذا الإيمان، النبيُّ عليه الصلاة و السلام، الفقراء ناموا في صفَّة المسجد، لكن مساء كان يتوازعهم أصحابُ رسول الله، و النبيُّ قدوة، كان يأخذ بعضاً منهم ويأخذ هو فريقاً منهم فيأكلون معه، و كان هؤلاء يسمَّون أهل الصفَّة أو فقراء المسلمين، و كأنما كان هذا الفقرُ نعمةً أنعم الله بها عليهم، ما السبب؟ لأنهم صار معهم وقت فراغ كبير، ليجلسوا مع النبيِّ، و يتعلَّموا منه، و يتأدبوا بآدابه، أحيانا أنت لا يُوجد عندك عمل، أنت فارغ، حفظت القرآن، و داومت في المسجد، تعلَّمت، ارتقيت رقيًا كبيراً، لو كان اللهُ شغلك بعمل مربح، ضاع عليك هذا الخيرُ، و قال تعالى:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: 216]

 أحيانا الإنسان يفرِّغه الله، الطريق مسدود، و العمل لم يُتَح له، و البيت ما اشتراه، والزوجة لم تُتح له أن يتزوَّجها، قاعد لا شيء عنده، مادام أنك فارغ، اشغَل نفسك بالحق، فهؤلاء أهل الصفة ارتقوا رقيًّا كبيراً لأن لهم فراغاً كبيراً، و ملؤوا فراغهم بمجالسة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و تعلم القرآن، و حفظ الأحاديث، و ما شاكل ذلك.
 قال: فكان لديهم من الفراغ ما جعلهم أشدَّ الصحابة لصوقاً بالنبيِّ، و أكثرهم مداومة على حضور مجلسه، فأفادهم ذلك علماً، و فقهاً في الدين، و قال عليه الصلاة و السلام:

((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة ))

[ الترمذي عن فضالة بن عبيد]

 ملازمة مجالس العلم و تلقي العلم و التَّأدب بآداب المؤمنين، و سماع الحق منهم، و العمل على الرُّقي، هذا أعظم عمل تفعله في الدنيا.

 

أحاديث عن الفترة القاسية التي عاناها المسلمون في المدينة :

 بعض الأحاديث التي وردت في هذه الفترة القاسية حيث أن أصحاب النبيِّ عليهم رضوان الله ذاقوا من المحن ما ذاقوا.

((عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ فَقَالَ: بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلَّا الْجُوعُ ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 كان يعاني من الجوع، و النبي عليه الصلاة و السلام ذاق الجوع، لو أمر الجياع بالصبر و لم يذق الجوعَ لأخذوا عليه مأخذاً، ما دام النبيُّ عليه الصلاة و السلام قدوة لنا، فإذا أمرنا بالصبر فلأنه ذاق الجوع، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ:

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْخَصَاصَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ حَتَّى يَقُولَ الْأَعْرَابُ: هَؤُلَاءِ مَجَانِينُ أَوْ مَجَانُونَ فَإِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ لَأَحْبَبْتُمْ أَنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً قَالَ فَضَالَةُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))

[ الترمذي عن فضالة بن عبيد]

 من الجوع، هؤلاء تركوا ديارهم، و تركوا بلادهم، و تركوا أموالهم، وتركوا أهلهم، الآن الإنسان في بلده، بحيِّه ممكن أن يستدين لشهر، يستدين من لحَّام، من خبَّاز، من خضري، لا يشعر، أما لو انتقل إلى بلد آخر، فليس ممكناً أن يأكل شطيرة بدون ثمن، ليس هناك مجال، حتى أن النبي عليه الصلاة و السلام دعاه أحدُ الأنصار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ فُلَانٌ قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي قَالَ فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 إذا الواحد أكل و شبع، و بعد ذلك كأس شاي، و بعدها قطعة بطِّيخ، القضية ليست سهلة، الله أشبعك، أصحاب رسول الله ذاقوا بعضَ الجوع، و سيدنا عمر لما كان يأكل بعد وفاة النبي كان يبكي و يقول:" أصحاب رسول الله ما أكلوا هذا الطعام فكيف آكله أنا من بعدهم؟" طبعاً هذا الجوع بسبب الهجرة، ما تظن أن هناك كسلاً، موضوع آخر الكسل، أما إنسان انتقل من بلد إلى بلد، لا يوجد أعمال، الآن أخ يقول لك: لا يوجد عمل، ذكي و معه شهادة، لا يوجد عمل، يتلوى تلوِّياً يقول: أنت أخي لست جيِّدا، لا يوجد عمل، أراد الله أن يمتحنه، أراد أن يمتحن صبرَه، يمتحن ثباته، يمتحن استقامته، يمتحن عفَّته، تجده عفيفاً، متجمِّلاً، صابراً، حامداً، شاكراً، و لا يوجد عملٌ، ليس معه قرش في جيبه، أنت لست جيِّداً، ليس معك مال، هذا كلام فيه تجاوز للأدب، و فيه سوء في التعامل.

(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ فَقَالَ مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 عجب اللهُ عز وجل، معك وجبة طعام واحدة، تطعمها لأخيك، هكذا كان الصحابة، أسرة واحدة متماسكة، أخذه إلى بيته و أطعمه وجبة طعام واحدة، ليس عنده غيرها، حتى إن بعض زوجات النبيِّ عليه الصلاة و السلام كانت تقول، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:

(( لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا ))

[ البخاري عن عائشة رضي الله عنها ]

 هذه بعض المشاق التي ألمَّت بالنبيِّ عليه الصلاة و السلام و أصحابه بُعيد الهجرة، هناك سبب، الصحابة هاجروا بأنفسهم، أين أموالهم؟ بمكة، ما تمكَّنوا أن يأتوا مع المال، المال غير منقول، تركوا البيت، و تركوا البستان، و الحائط، و النخل، تركوا كلَّ شيء بلا شيء، فلذلك إنسان جاء إلى المدينة بلا شيء، بلا مال، و لا يوجد دخلٌ و لا يوجد إنتاج.

 

المرحلة قبل موقعة بدر :

 الآن دخلنا مرحلة جديدة، الآن عندنا مرحلة هي قبل موقعة بدر، الأموال كلُّها بيد قريش، أموال المهاجرين التي أخذوها منهم عنوةً، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام وجد أن من حق هؤلاء أن يسترجعوا أموالهم، فرسم خطَّة ذكيَّة جدًّا، هذه الخطة يبدو أنه استنبطها من قوله تعالى:

﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[سورة الشورى : 41-42]

 فأرسل النبيُّ سرايا تلو السرايا، هذه الخطة الذكية أنه أرسل سرية عبارة عن أربعين أو خمسين صحابياً إلى الطريق بين مكة و الشام، هذا الطريق حيويّ، عصب الحياة في مكة، طريق التجارة، هم أغنياء، تذهب القوافل إلى الشام و تأتيهم بالبضائع و الأغذية و كل الحاجات الأساسية، بحبوحتهم بسبب هذه التجارة، لما حاصروا بلداً، لا يمكنك أن تبيع النفط، مات الناس من الجوع أليس كذلك؟ أهم شيء الطريق بين مكة و الشام، أن يقطع النبيُّ عليهم هذا الطريق، أولًا: إشعاراً لهم أننا موجودون، و أننا أقوياء، و أننا أنداد لكم، كنا مستضعفين، صِرنا أنداداً، فبعث سريةً تلو السرية، في رمضان أرسل حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين من المهاجرين، فسار حتى وصل البحر من ناحية العير فالتقى بأبي جهل يقود قافلة لقريش، و معه ثلاثمئة راكب، و كاد الفريقان أن يقتتلا لولا أن حجز بينهما مجديُّ بن عمرو و سيد بن جهينة، ليس القصد الحرب، القصد مناوشة، يسمُّونها عرض عضلات، يسمونها تهيئة لمعركة.
و في شوال أرسل النبيُّ عليه الصلاة و السلام عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في ستين راكباً من المهاجرين، إلى وادي رابغ فالتقى هناك بمئتين من المشركين على رأسهم أبو سفيان بن حرب فتراموا بالنبل، و لكن لم يقع بينهما قتال، و في هذه السرية فرَّ من المشركين إلى المسلمين عتبةُ بن غزوان، و المقداد بن الأسود، و كانا قد أسلما و خرجا ليلحقا بالمسلمين في المدينة، هذه السرية الثانية.
 السرية الثالثة: و في ذي القعدة من هذه السنة خرج سعد بن أبي وقاص في نحو من عشرين من المهاجرين يعترض عيراً لقريش ففاتته العيرُ.
 و في صفر خرج النبيُّ عليه الصلاة و السلام نفسه في جمع من المهاجرين يريد عير قريش، و استخلف على المدينة سعد بن عبادة، فسار حتى بلغ جهة الأبواء فوجد أن فوج العير قد سبقته، فحالف بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم و أموالهم، و لهم النصر على من رامهم، و أن عليهم نصرة المسلمين إذا دُعوا إلى ذلك، و لم يمضِ على رجوعه إلى المدينة غيرُ قليل حتى علِم أن عيراً لقريش آيبةٌ من الشام، فيها أُمية بن خلف و مئة من قريش وألفان و خمسمئة بعير، أنت إذا ذهبت من طريق الزبداني تجد قافلة للشاحنات عبارة عن سبعين شاحنة، ألفان و خمسمئة بعير، قافلة واحدة، كل بعير بشاحنة واحدة، فخرج إليها في شهر ربيع الأول في مئة من المهاجرين و استخلف على المدينة سعد بن معاذ، و سار حتى بلغ جهة ينبع فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيداً.
 مرة ثانية القصد ليس القتال، القصد التهيئة لمعركة حاسمة مع قريش، الأموال التي صُودرت، و أقام عليه الصلاة و السلام في ربيع الأول و بعض جمادى الأول حين علم أن عيراً عظيمة لقريش قد فصلت من مكة تريد الشام، على رأسها أبو سفيان و معه بضعة وعشرون رجلاً، و فيها جماع أموالهم، حتى لقد قيل: إنه ما من قرشي و لا قرشية إلا وله في هذه العير مال، فخرج النبيُّ عليه الصلاة و السلام و معه مئة و خمسون من المهاجرين، و استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسود، و سار حتى بلغ العُشيرة من ناحية ينبُع، فوجد العير قد مضت فودع بني مدلج و حلفاءهم ثم رجع إلى المدينة.

النبي الكريم أمضى عمره في الدعوة أو الجهاد :

 ما هذه الحياة ؟ كل شهر غزوة، كل أسبوعين سرية، عمل مستمر، لما ربُّنا عز وجل أقسم بعمره الثمين، قال تعالى:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

[سورة الحجر: 72]

 معنى ذلك أن هذا العمر أمضاه كله عليه الصلاة و السلام إما في الدعوة إلى الله، و إما في الجهاد في سبيل الله، و لم يكد عليه الصلاة و السلام يقيم بعضاً من الليالي بعد عودته حنى أغار على المدينة كرزُ بن جابر الفهري، فاستاق بعض إبل و أغنام كانت ترعى بناحية الجمَّاء على ثلاثة أميال من المدينة، فما كاد يبلغ النبيَّ خبرُه حتى أسرع في جمع من أصحابه يطلب اللحاق بكرز، و استخلف على المدينة زيد بن حارثة، و ما زال يسير حتى بلغ صفوان من ناحية بدر، يسمِّي الرواةُ هذه الغزوة بغزوة بدر الأولى.
 تعليق بعض كتَّاب السيرة قال: هذا العدد من الغزوات لا يمكن أن يصلح لقتال، الغزوة إن كانت أربعين راكباً أو خمسين راكباً هذا ليس قتالاً، لا يصلح هذا العدد لقتال هجومي، إنما كانت كلُّها كتائب استطلاع و كشف لحركات العدوِّ، و كانت في الوقت نفسه مناوشات يُراد بها أعداء الإسلام من قريش، و إشعار الجميع بأن المسلمين قوة تستطيع أن تناوئ من يناوئهم و أن تدافع من يحاول الاعتداءَ عليهم.

الواقعة الكبرى التي سبقت معركة بدر :

 أما الواقعة الكبرى التي سبقت معركة بدر فهي كما يلي: أرسل النبيُّ عليه الصلاة و السلام سرية عبد الله بن جحش، فقد أرسله النبيُّ عليه الصلاة و السلام في رجب و معه ثمانية من المهاجرين، ليستطلع أخبارَ قريش، فكَتب له كتاباً و أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، فإذا نظر فيه فليمضِ لما أمره، و لا يستكره أحداً من أصحابه، سرية عبارة عن ثمانية أشخاص على رأسها عبد الله بن جحش، أعطاه كتاباً مختوماً و قال له: لا تفتح هذا الكتاب إلا بعد يومين، إذا فتحته فنفِّذ الأمرَ و لا تكره أصحابك على تنفيذه، قال: فإذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نخلةً بين مكة و الطائف، فترصَّد بها قريشاً و تعلَّم لنا من أخبارهم، فقال: سمعاً و طاعة، و أخبر أصحابه بما في الكتاب و قال لهم: قد نهاني رسولُ الله صلى الله عليه و سلم أن أستكره منكم أحداً، فمن كان منكم يرغب في الشهادة فلينطلق معي، و من كره ذلك فليرجع، أما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم، فمضى و مضى معه أصحابُه لم يتخلَّف منهم أحد، غير أن سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان أضلّ بعيرهما الذي كانا يتعاقبان عليه، فانطلقا يبحثان عنه، فتخلَّفا عن أصحابه لسبب ليس له علاقة بالمرتبة، ضاع منهما بعيرُها فتتبَّعاه، و هناك صادفوا عيراً لقريش مقبلة من الطائف، تحمل زبيباً و جلوداً و تجارة لقريش، و معها أربعة نفر، عبد الله بن الحضرمي، و عثمان بن المغيرة، و أخوه نوفل، و الحكم بن كيسان، و كان ذلك في آخر يوم في شهر رجب، فتشاور عبدُ الله و أصحابُه في أمر العير فقال بعضُهم لبعض: واللهِ لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلنَّ الحرم، و لئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، وقعوا في حرج، فتردَّدوا و هابوا أن يقدموا، و مازالوا بين الإحجام و الإقدام حتى شجَّع بعضُهم بعضاً فهجموا على العير فقتلوا منها حرَّاسها، من حراسها عبد الله الحضرمي، و استأثر لهما اثنان و فرَّ الرابع، واحد فرَّ، و اثنان أسيران، و قتلوا واحداً، فلما قدِموا على النبيِّ و علم ما كان من أمرهم غضب و قال:

((ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ))

[تفسير البغوي ]

 ووقف العير و الأسيرين و أبى أن يأخذ منهما شيئاً و سُقط في أيديهم و رأوا أنهم قد هلكوا، و جعل إخوانُهم المسلمون يعنِّفونهم على ما صنعوا، أما قريش فقد وجدتها فرصة سائغة لإثارة العرب عليهم، فذهبت تشيع في الناس أن محمداً و أصحابه قد استحلُّوا الشهر الحرام فسفكوا فيه الدماء، و أخذوا الأموالَ.
 هذه السرية التي تحدَّثنا عنها قبل قليل سوف تفهمون في ضوء هذه القصة الآية الكريمةَ، طبعاً جاء الوحيُ من السماء بعد هذه الحادثة قال تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾

[سورة البقرة: 217]

 هذا القتل تمَّ في الشهر الحرام، و النبيُّ غضب غضباً شديداً، و استغلَّت قريشٌ هذه الحادثة، و شهَّرت بالمسلمين لأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، فجاء قوله تعالى:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾

[سورة البقرة: 217]

 صحيح معكم الحق.

﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾

[سورة البقرة: 217]

 إجابة رائعة جدًّا، القتال كبير.

﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[سورة البقرة: 217]

 الله عز وجل مع أن هناك خطأ ارتُكِب، و مع أن النبيَّ عليه الصلاة السلام ما رضيَ أن يُقتَل هذا الإنسان في هذا الشهر احتراماً لهذا الشهر، و مع كل ذلك جاء الوحيُ الإلهي ليدافع عن المؤمنين، و يبيِّن أنهم قد ظُلموا، وأنهم قد أُخذت أموالُهم، و أنهم أُخرجوا من ديارهم بغير حق لذلك:

﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

[سورة البقرة: 217]

 إذًا هذه السرايا التي بعثها النبيُّ عليه الصلاة و السلام أراد بها أن يثبت لكفَّار قريش أنهم قوة في مستوى قريش، و أن يمهِّد بهذه السرايا لمعركة حاسمة يسترجع بها بعضَ ما فقده أصحابُ رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أراد أن تكون هذه المعركة حاسمةً بين الحق و بين الباطل.
 على كلٍّ في ضوء هذه السير و هذه القصص يتَّضح أن الحياة الدنيا دار ابتلاء لا دار جزاء، الدنيا دار ابتلاء و الآخرة دار جزاء.

 

تحميل النص

إخفاء الصور