وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 1102 - شكر الله لما تفضل به علينا من أمطار - دعاء النبي عليه السلام في الاستسقاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته وقادة ألويته و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الله عز وجل  ثبت أشياء و حرك أشياء أخرى لتربيتنا والأخذ بيدنا إلى جنته :

     أيها الأخوة الكرام، إن المتفكر في خلق السماوات والأرض يتبدى له من خلال جولته التأملية أن الله ثبّت أشياء كثيرة منها النواميس والقوانين التي تحكم حركة الحياة، وثبّت خصائص الأشياء التي نتعامل معها، وثبّت دورة الأفلاك المحيطة بنا، كل ذلك ترسيخاً للنظام الكوني وتحقيقاً لتسخير الأشياء لنا كي ننتفع بها في حياتنا الدنيا، ولكي ترشدنا إلى ربنا، فنعرفه ونطيعه ونسعد بقربه في الدنيا والآخرة، ولكن حرك أشياء قليلة، ثبت أشياء كثيرة لاستقرار النظام، وحرك أشياء قليلة منها الصحة ومنها الرزق لتكون وسائل لتربيتنا، والأخذ بيدنا إلى الله وإلى جنته، فالإنسان حريص على سلامته كل الحرص، وحريص على رزقه كل الحرص.

التقنين الإلهي تقنين تأديب وتربية لا تقنين عجز وضعف :

     أيها الأخوة، لا يغيب عنكم أن المحافظات في سورية شهدت على مدار يومين متتاليين هطولات مطيرة غزيرة، لتسجل أعلى معدلاتها مقارنة مع معدلات الفترة ذاتها من العام الماضي بثلاثة أضعاف، باستثناء المنطقة الجنوبية التي شهدت هطولات مطرية أقل هذا العام، لكن الحقيقة المؤلمة والمرة أن هذا البلد الطيب يعاني جفافاً حاداً أثر على مختلف المحاصيل الزراعية، حيث انخفض إنتاج بلدنا من القمح إلى النصف ولأول مرة من أعوام مديدة نشتري القمح بسبب هذه الموجة من الجفاف، التي لم يشهدها القطر من أربعين عاماً، يبلغ العجز المائي السنوي ثلاثة مليارات متر مكعب، والحاجة المائية تبلغ تسعة عشر مليار متر مكعب سنوياً.
     أيها الأخوة الكرام، لذلك الحقيقة الأولى التي ينبغي أن تكون واضحة لديكم أن التقنين الإلهي هو تقنين تأديب وتربية لا تقنين عجز وضعف، قال تعالى:

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾

( سورة الشورى )

﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾

( سورة الحجر )

الله جلّ وعلا لا يسوق لعبادة شدة إلا بما كسبت أيديهم :

     ثم إن الله جلّ وعلا لا يسوق لعبادة شدة إلا بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، قال عز وجل:

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ﴾

( سورة النساء الآية: 174 )

     و قال عز وجل:

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾

( سورة الشورى )

انتشار البأس بين من لم يحكم بكتاب الله عز وجل :

     دققوا في هذا الحديث وكأن النبي عليه الصلاة والسلام معنا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ـ من هذه الخمسة ـ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ـ يفتخرون بها ـ إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ... ))

[روى ابن ماجة و البزار والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]

     فاحشة، انحراف معلن لا يخجلون منه، يقابل ذلك تظهر الفاحشة والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم.

(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ـ من هذه الخمسة ـ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ـ يفتخرون بها ـ إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ... ))

(( وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ))

     نقص المكيال والميزان يعني الغش بالوزن، والمساحة، والطول، والنوع، والمصدر، والصناعة، كل أنواع الغش تنطوي بهاتين الكلمتين:

(( وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ))

     أول حرب في الخليج انتقلت كتلة نقدية مقدارها سبعمئة مليار، وفي كل حرب تنتقل كتلة نقدية كبيرة جداً من أيدي المسلمين إلى أيدي أعدائهم:

(( وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ))

     إن لم يحكموا بكتاب الله يكون البأس، بين المسلمين حروب أهلية، بين الطوائف، بين المذاهب.

 

نعمة الماء العذب من النعم العظيمة التي منّ الله بها علينا :

     أيها الأخوة الكرام، هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام وكأنه يعيش معنا، لذلك من النعم العظيمة التي منّ الله بها علينا نعمة الماء العذب، فالماء العذب أفضل شراب، وأعظم صدقة، ورحمة الله لخلقه، وحيث ما وجد الماء وجدت الحياة قال تعالى:

﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 30 )

     الماء أصل النماء الفائق على الهواء والغذاء والكساء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، من الذي أنشأه من عناصره ؟ إنه الله، من الذي أنزله من سحائبه ؟ إنه الله:

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 30 )

﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 30 )

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) ﴾

( سورة الفرقان)

     هذه بعض الآيات المتعلقة بالماء، وهو من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان.

 

الماء قوام الحياة على وجه الأرض :

     أيها الأخوة، إن الحياة على وجه الأرض حياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة النبات قوامها الماء، فالماء هو الوسيط الوحيد الذي يحمل الأملاح والمواد الغذائية المنحلة فيه إلى الكائن الحي، ولولا الماء لما كانت حياة على وجه الأرض، لذلك يتفضل الله به علينا، فيهطل في كل ثانية من السماء على الأرض على مستوى الكرة الأرضية ستة عشر مليون طن من الماء، في كل ثانية هذا التهطال لا يزيد ولا ينقص، اكتشف هذا حديثاً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( ما عام بأمطر من عام ))

[ الجامع عن ابن مسعود]

     هذا الحديث من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا التهطال يوزع، هناك منطقة جفاف، وهناك منطقة طوفان.

 

مشروعية صلاة الاستسقاء بالنص والإجماع :

     أيها الأخوة، قد تنقطع أسباب الرزق بانقطاع الأمطار، تغور الينابيع، تجف الأنهار، ييبس الزرع، يموت الضرع، يهدد الإنسان بافتقاد كأس الماء، ولقمة العيش، وقد يجد نفسه مضطراً أن يخرج من أرضه الجدباء مشرداً، وأن يغادر بيته الخاوي هائماً على وجهه، وقد شرع لنا النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الاستسقاء طلباً للرحمة والإغاثة من السماء بإنزال المطر، الذي هو حياة كل شيء، فمن يملك ذلك ويقدر عليه إلا الله عز وجل ؟ الأرض بكل ما تملك من قوى لو اجتمع زعماء الأرض واتخذوا قراراً بإنزال المطر هل يستطيعون ؟ ثبتت مشروعية صلاة الاستسقاء بالنص والإجماع، أما النص فقوله تعالى:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) ﴾

(سورة نوح)

     كما استدل بعمل النبي عليه الصلاة والسلام وخلفائه والمسلمين من بعده، فقد ورد في الأحاديث الصحيحة باستسقائه صلى الله عليه وسلم:

(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَحَطَ الْمَطَرُ، وَاحْمَرَّتْ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتْ الْبَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، أي غيمة، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ صَاحُوا إِلَيْهِ: تَهَدَّمَتْ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَكَشَطَتْ الْمَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلَا تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الْإِكْلِيلِ ))

[ البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

     أيها الأخوة الكرام، دُعي إلى صلاة الاستسقاء يوم غد، ولكن لحكمة أرادها الله أغاثنا الله، لذلك طلب منا أن تكون هذه الخطبة خطبة شكر لما تفضل الله به علينا من أمطار غزيرة نزلت في الأيام السابقة.

 

المطر أصل الرزق :

     أيها الأخوة الكرام:

(( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال ( هل تدرون ماذا قال ربكم ). قالوا الله ورسوله أعلم، قال ( أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ))

[ البخاري عن زيد بن خالد الجهني ]

     يعني أحياناً من سماع النشرات الجوية يتوهم ضعيف الإيمان أن هناك منخفض جوي متجه نحو القطر، وهناك أمطار، ينسى أن الله عز وجل هو الذي ساق هذا المنخفض، مرة سحابة غطت بلدنا كله، وكان إنتاجها من المطر ما ثمنه مليارات من الأعلاف، لو لم تنزل هذه الأمطار في سنة سابقة لاحتجنا إلى مليارات من الأعلاف، فلذلك الله عز وجل جعل المطر أصل الرزق، لكن السلف الصالح كانوا كلما استسقوا لجدبٍ سقاهم ربهم إثر ابتهال:

كبير القوم لا يؤذي صغيـراً      وجُلّ الناس للقرآن تـــال
وأفقرهم تعففه شعــــار      وأغنى القوم لا يشقـى بمال
وكانوا لحمى الدين حمــاة     ً وقد ضربـوا لنا خير مثـال
فصرنا بعدهم قوماً عصـاة     ً ونلقى قحطنا في كل عــام
فإن الله ذو أخذ وبيــــل      شديد ربنا عند المحـــال
فـــاه ثــم آه ثــم آه      لأزمان مضــت مثل الخيال
ألا قومـوا فندعو اليوم رباً      إلهي إن في الأمطار شحــاً
وإن الأرض تشكو اليوم جدباً      وتشـكو غورة الماء الزلال
***

 

حاجة الإنسان إلى دعاء الاستسقاء :      إلى الآن المعدل يقدر بتسعين مليمتر، المعدل السنوي: مئتان وعشر مليمترات، لم يهطل حتى الآن إلا تسعون ميليمتر، لا زلنا بحاجة إلى دعاء الاستسقاء.

فأمست في رباع القوم قفراً      و عظماً بين أنيـاب السعال
وماتت من بهائمنا ألــوف      لأن السعر في الأعلاف غال
وأقبلت الديار على بـــلاء      لعام من صدى الأمطار خـال
إلهي ليس للأنعام عشـــب      لترعى في حواشيه الجـزال
ولا نبت يبـاس في ثراهــا      ولا كلأ يرام على الجبــال
وصار الطيـر لا ينوي نزولاً      فلا ماء يرام إلى الـوهـاد
و إنك عالـــم في كل حال      فلا تمنع بذنب القوم قطـراً
ألا ربـاه أرسلها رياحـــاً      تُقل بها من السحب الثقـال
واسقها رحمة في أرض قفـر      ألا غيثاً مغيثاً يا إلهـــي
وسحاً نافعاً يا ذا الجلال
هنيئاً في ثناياه مريئــــا      مغيثاً أو مريعاً في الكمـال
وأغدقه وأطبقه و جــــلل      مواقع قطــره بين التـلال
لتحيي بلدة ميتاً تعــالت بها      أصوات من في القحـط بال
وتسقيه أناساً كثيراً و أنعامـاً      غــــدت دون احتمــال
فصب الماء في الآكام صبـاً      وأنبت زرعنا فوق الرمــال
ألا إنا دعوناك اضطــرار     اً وأنت بدعوة المضطـر وال
وإن قــد رفعناهــا أكفاً      فلا تردد أكفــــاً للسؤال
***

عدم صحة صلاة الاستسقاء إلا إذا رُفعت المظالم وأزيلت المنكرات وعاد الناس إلى ربهم: تائبين :

     أيها الأخوة الكرام، بالمناسبة لا يستجاب الدعاء إلا بشروط:

﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾

     إذا دعان مخلصاً، فليستجيبوا لي بطاعتي، لذلك لا أكتمكم أن صلاة الاستسقاء لا تصح إلا إذا رُفعت المظالم، و أزيلت المنكرات، و عاد الناس إلى ربهم تائبين، و استقام المسلمون على أمر ربهم، عندئذ احتمال نزول الأمطار بعد صلاة الاستسقاء مئة في المئة، و لكن صلاة الاستسقاء وحدها لا تكفي، لابد من عودة و إنابة و توبة و صلح مع الله.
     يا رب أنزل من الغيث ما تحيا به القلوب كما نرجوك أن تنزل غيثاً تحيا به الأبدان، هناك غيث تحيا به القلوب هو الإيمان، و هناك مطر تحيا به الأبدان، لذلك سيدنا علي يقول و هذا من أخطر الأقوال: ما نزل بلاء إلا بذنب و لا رفع إلا بتوبة، هذه الحقيقة.
     لا ينزل بلاء إلا بذنب و لا يرفع إلا بتوبة، إذا أهمل العباد غيث القلوب ماتت، بموتها تموت الأبدان، لذلك كان على الناس لزاماً الأخذ بكلا الغيثين، الصلح مع الله ثم أداء صلاة الاستسقاء.

 

حبس القطر من السماء أو تأخيره عن الناس أحد أكبر أنواع البلاء :

     أيها الأخوة: لو دققنا في تفاصيل حياتنا من حكمة الله عز وجل أنه يبتلي عباده بالسراء و الضراء، و يتعهدهم بالشدة و الرخاء، و يمتحنهم خيراً و شراً، نعماً و نقماً، محناً و منحاً:

﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) ﴾

(سورة الأنبياء الآية: 35).

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾

( سورة البقرة )

     و من ابتلاء الله للناس، أحد أكبر أنواع البلاء حبس القطر من السماء، أو تأخيره عنهم، أو نزع بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس، و للبهائم، و الزروع، و الثمار، و ما في تأخيره من كثير من المضار.

 

الأسباب الجالبة للغيث :

     أيها الأخوة الكرام، إن للغيث أسباباً جالبة:

﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ﴾

( سورة الجن )

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾

( سورة الأعراف الآية: 96 )

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾

( سورة المائدة الآية: 66 )

     و يقاس على ذلك القرآن.
     إذاً إن للغيث أسباباً جالبة و أخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا و نحن في مواسم الغيث هل أخذنا بأسباب نزوله أم نكون قد فعلنا سبباً في منعه ؟

 

الأسباب المانعة للغيث :

     أيها الأخوة الكرام، الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، ألم تتسلل إلى عقائد المسلمين عقائد زائفة ؟ تصورات باطلة ؟ انحرافات فكرية ؟ توهمات خاطئة ؟ هذا سبب، حينما نخطئ في فهمنا، حينما نسيء في عقائدنا، ما ميزان الصلاة ؟ هي ثاني أركان الإسلام، و هي الفارق بين الكفر و الإيمان، قد خفّ مقدارها، و طاش ميزانها عند كثير من الناس، إلا من رحم الله.
     و إذا سألت عن الزكاة المفروضة و عن إخراجها ترى العجب العجاب من بخل بعض الناس و تقصيرهم في أدائها، مما نزع البركة من الأموال و كان سبباً في منع القطر من السماء.
     لقد راجت المنكرات، و عمت المحرمات، في كثير من المجتمعات فلم يتمعر منها وجه، و لم يشمئز منها قلب إلا من عصم الله، تحرش وزنا، و ظلم و ربا، وخمور ومسكرات، ومجون ومخدرات، وفي مجال المعاملات غش وتزوير، وبخس ومماطلة، ورشاوى وانتشار رهيب للمكاسب المحرمة والمعاملات المشبوهة , ساهل في حقوق العباد.
     على الصعيد الاجتماعي، هناك مشكلات أسرية معقدة، وعلاقات اجتماعية مفككة، ساد كثير من القلوب الحسد، والبغضاء، والحقد، والضغينة، والشحناء، ومثل ذلك ظهر في مظاهر التبرج، والسفور، والاختلاط، وما أفرزته موجات التغريب من مساوئ في النساء والشباب، مما يزكي الجريمة، ويثير الفتنة، ويشحذ الغريزة، ومن مظاهر محرمة، وصور ماجنة، وأفلام خليعة، ويتولى كبر ذلك كثير من الفضائيات والمواقع المعلوماتية، حتى ضعفت الغيرة في النفوس، وقلّ التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر مع أنه قوام أهل الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلما تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضاعت خيريتها:

(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه ؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف ؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله ؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه ؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً ؟ ))

[ ابن أبي الدنيا وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أمامة بسند فيه ضعف ]

     هذا الذي حصل، وعلى صعيد العالم هناك حروب، وحوادث، ومصائب، وكوارث، وفتن، وبلايا، ومحن، ورزايا، وظلم، وإرهاب، وفوضى،واضطراب، فاللهم سلم سلم، رحماك ربنا رحماك.

 

الذنوب و المعاصي أساس الشرّ و البلاء في الدنيا :

     أيها الأخوة الكرام، إن ذنوبنا كثيرة ومعاصينا عظيمة، وإن شؤم المعاصي جسيم وخطير، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: هل في الدنيا شر وبلاء إلا وسببه الذنوب والمعاصي.

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾

( سورة الشورى )

     على مستوى الأمة وعلى مستوى الفرد:

(( ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، و لا خدش عود، إلا بما كسبت أيديكم ويعفو الله أكبر ))

[ أخرجه ابن العساكر عن البراء ]

ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة :

     أيها الأخوة الكرام، اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله لا يستنزل إلا بالتوبة النصوح، ومرة ثانية يقول الإمام علي رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.

﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

( سورة الرعد الآية: 11 )

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (165) ﴾

( سورة آل عمران)

﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾

( سورة الشورى )

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) ﴾

( سورة الروم )

     أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.

 

* * *

الخــطــبـة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، المبعوث رحمة للعالمين.

دعاء النبي عليه الصلاة والسلام في الاستسقاء :

     أيها الأخوة الكرام، إني داع بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام في الاستسقاء:
     الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، فقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، أنزل علينا الغيث، واجعلنا من الشاكرين يا رب العالمين، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا وبلاغاً إلى حين، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً سحاً طبقاً دائماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن البلاد والعباد والخلق من اللأواء (الشدة) والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات الأرض والسماء، وأنبت لنا من بركات الأرض والسماء، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال وبطون الأودية ومنابت الشجر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اسقنا الغيث واجعلنا من الشاكرين يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل ِكلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مآلنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل ِكلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اجعل تدمير أعدائهم في تدبيرهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور