- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أهداف الربانيّة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان موضوع الخطبة السابقة دعوة الله للإنسان أن يكون ربّانيًّا ، والإنسان أيّها الأخوة إما أن يكون شَهْوانِيًّا ، وإما أن يكون شيطانيًّا ، وإما أن يكون ربَّانيًّا. فالإنسان الشَّهواني همُّهُ قضاء لذَّتِهِ مِن أيِّ طريقٍ ، والإنسان الشيطاني هَمُّهُ إيقاع الأذى بالناس بِأيَّة وسيلة ، والإنسان الرباني هو الذي يعبُد الله سبحانه وتعالى .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ بيَّنْتُ لكم في الخطبة السابقة أنَّ الإنسان إذا كان ربَّانيًا اهتدى إلى فِطرتِهِ ، وأن يهتدي الإنسان إلى فطرتِهِ كسْبٌ كبير كبير ، إنّ الاهتداء إلى الفطرة انسِجامٌ مع طبيعة الحياة ، إنّ الاهتداء إلى الفطرة راحةٌ قلبيّة ، أيَّةُ راحةٍ هذه التي يشعرُ بها المؤمن إذا انْضوى تحت لِواء الإسلام .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هدفٌ ثالثٌ من أهداف الربانيّة ، أنّ الإنسان إذا كان ربّانيًا بِمَعنى أنَّه جعَلَ رِضا الله عز وجل أقصى غاياتِهِ ، جعل التقرُّب إليه مُنتهى طُموحاته ، جعل طاعتهُ أسْمى أهدافهِ ، إذا كان الإنسان كذلك كان هذا الإنسان ربّانيًا ، هذا الإنسان الربانيّ من خصائصهِ أنَّه ينْجو من التمزُّق والصِّراع ، إنّ أكْبرَ مرضٍ نفسي يُعانيه الإنسان الشيطاني ، أو الإنسان الشهوانيّ هو التمزّق والصِّراع ، فالإسلام أيها الأخوة اختصَر غايات الإنسان كلّها في غايةٍ واحدة ، وركَّزَ همومهُ كلّها في همِّ واحدٍ ، هذه الغايَةُ هي إرضاء الله تعالى ، وهذا الهمّ هو طاعتهُ لذلك ورد في الحديث الصحيح :
((مَنْ جَعَلَ الْهُوُمَ هَمّاً وَاحِداً ، هَمَّ الْمَعَادِ ، كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ . وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا ، لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أيِّ أَوْدِيَتَهِ هَلَك))
اِعْمَل لِوَجهٍ واحد يكْفِكَ الوجوه كلّها :
(( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له ، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ))
إنْ لم ترْضَ بما قسمْتُهُ لك فلأُسلِّطنَّ عليك الدنيا ، تركض فيها ركض الوحش في البريّة ، ثمّ لا ينالكَ منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنتَ عندي مذمومًا ، إذًا إذا كان الإنسان ربّانيًّا ، ما المكْسبُ الكبير الذي يُحصِّلُه ؟ سلامةُ نفسهِ من التمزُّق والصِّراع .
التوحيد ثمرة من ثمار الربانيّة :
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لا يريحُ النفس الإنسانيّة شيءٌ كما يُريحها وحْدةُ غايتها، وحْدةُ وِجهتها ، إنَّ هذه النّفس المؤمنة تعرفُ من أين تبدأ وإلى أين تنتهي ومع مَن تسيرُ ؟ أين كُنَّا ؟ وإلى أين المصير ؟ ومع مَن نسيرُ ؟ ولا شيءَ يُشقي النّفْس الإنسانيّة مثلُ تناقض الرّغبات، وتناقض الغايات ، والاختلاف ، والتمزّق ، تارةً نُشَرِّق ، وتارةً نغرِّبُ ، تارةً نُرضي زيْدًا فيغْضبُ عمرو ، ونُرضي عمرًا فيغضبُ زيد ، هذا هو التمزّق ، قال تعالى :
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
لكنّ المؤمن يقول : فكيدوني جميعًا ، يجعلُ من هذه الآية شِعارًا له ، قال تعالى:
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مِن ثِمار الربانيّة التوحيد ، ولا ربّ إلا الله يُخافُ ويُرجى، ولا إله إلا الله يُجتنبُ سخطُه ، ويُلْتَمَسُ رِضاه ، المؤمن يرضى بالله ربًّا ، عليه يتوكّل ، وإليه يُنيبُ ، وفي فضله يطْمحُ ، ومن قوّتِهِ يستمِدّ ، وله يتودَّد ، وإليه يحْتَكِمُ ، وبه يعْتصِمُ ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
هذه ثمار الربانيّة ، وِجهةٌ واحدة ، وهدفٌ واحِد ، تخشى قوَّةً واحدة لأنَّه لا قوّة إلا هذه القوّة ، لا ترجو سِواها ، هذا التمزّق ، وهذا التَّبَعْثُر ، وهذا التَّشَتُّت ، وتارةً أرضي زيدًا ، وأخرى أرضي عُبيْدًا ، أُرضي فلاناً فيغضبُ علان ، هذا الضَّياع ، وهذا التَّشَتُّت ، وهذا التَّبَعْثُر مِن صفات الإنسان الشيطاني ، أو الإنسان الشَّهواني ، ولكنّ الإنسان الربانيّ مُوَحّد ، مُجْتَمِع ، من أصبح وأكبر همِّه الآخرة جعل الله غِناه في قلبه ، وجمَعَ عليه شَمْلهُ .
الرّباني مُعافى من التَّمَزُّق و التَّبعْثر والتَّشتُّت :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ المُشْرِكُ بالله ، تعَدَّدَتْ أربابهُ ، وتضاربَتْ وِجهاتُهُ ، وقد مثَّلهُ القرآن الكريم أرْوَعَ تَمثيل ، مثَّلَهُ بِعَبْدٍ له أكثر من سيِّدٍ ، وهؤلاء السادة شُركاءُ فيه ، لكنَّهم متشاكِسون ، كلٌّ يأمرُه بأمْرٍ ضِدَّ ما يأمرُه به الآخر ، كلٌّ يُريدُ منه شيئًا عكْسَ ما يريد منه الآخر ، همُّه متفرّق ، قلبهُ مشتَّت ، قال تعالى :
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾
أي أن تكون لك وِجهةٌ واحدة ، وهدفٌ واحد ، وربٌّ واحد ، وإلهٌ واحد ، وقوّة واحدةٌ تخشاها ، وترجو رِضاها ، أنت مستريح ، ليس هناك تناقض ، ليس هناك تداخُل ، ليس هناك صِراع ، هذا الحال يُشبهُ أن تكون مُمَزَّقًا مُبعْثرًا مُشتَّتًا ضائعًا خائفًا ، تقيم توازُنًا دقيقًا ، أُرضي فلاناً لئلا يغضب ، أُغضبُ فلاناً لئلا يرضى .
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مثلٌ آخر ضربهُ القرآن الكريم ، سيّدنا يوسف في السّجن قال للرجلين اللذين سألاه عن تفسير الرؤيا ، قال تعالى :
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾
إذًا أوّل ثمرةٍ أو ثالثُ ثمرةٍ مِن ثِمار أن تكون ربّانيًّا لا شهوانيًا ولا شيطانيًا ، أنّك موحَّدُ الوِجهة ، مُعافى من التَّمَزُّق ، مُعافى من الصِّراع ، معافى من التَّبعْثر ، ومن التَّشتُّت ، معافى من كلّ هذه الأمراض التي تُصيبُ من كان شهوانيًا ، أو من كان شيطانيًا .
المؤمن الربانيّ يوازنُ دومًا بين رغبات نفسهِ ومتطلّبات دينه :
شيءٌ آخر يا أيها الأخوة الأكارم ؛ من كان ربّانيّ الوِجهة أيضًا نجا مِن مرضٍ خطير ، ألا وهو العبوديّة لذاته ، ولِشَهوات نفسِهِ ، وللذّات حِسِّه ، التَّحَرُّر من الخُضوع والاستسلام لِمَطالبِهِ الماديّة ، ورغباتِهِ الشخصِيَة ، هناك أشخاصٌ شيطانيُّون ، هناك أشخاصٌ شهوانيُّون ، يعبدون ذواتهم ، يتَّجِهون إلى تحقيق متطلّباتهم ، يلبّون نِداء اللَّذة ، يُحَقِّقون كلّ مطامحهم الماديّة على حِساب الآخرين ، على حِساب حقوق الآخرين ، على حِساب سلامة الآخرين ، المؤمن الربانيّ يوازنُ دومًا بين رغبات نفسهِ ومتطلّبات دينه ، لا ينسى قول النبي عليه الصلاة والسلام : " ألا يا ربّ شهوة ساعةٍ أوْرثَتْ حزنًا طويلاً ، ألا يا ربّ نفْسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا ، ناعمةٍ طاعمة يوم القيامة ، ألا يا ربّ نفسٍ ناعمةٍ طاعمة في الدنيا ، جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة " فالمؤمن الربانيّ يُقيمُ توازنًا دقيقًا بين رغبات نفسه وبين متطلّبات دينه ، يُقيمُ توازنًا دقيقًا بين نداء الشهوة وبين أمْر الله عز وجل ، يُقيمُ توازنًا دقيقًا بين ما يُمليهِ عليه الهوى وبين ما يمليه عليه الواجب ، يُقيمُ توازنًا دقيقًا بين مُتْعةِ يوْمِهِ وبين حساب غَدِهِ ، يُقيمُ توازنًا دقيقًا بين لذّة عاجلةٍ في الدنيا وبين حِسابٍ عسير في الآخرة ، يُحَكِّمُ عقلهُ ، وقّافٌ عند كتاب الله ، قال عليه الصلاة والسلام :
((إذا أردت أمراً فتدبر عاقبته ))
متأمِّلٌ في نتائج عمله ، يرى الآخرة ، ولا تغيب عن مخيِّلته .
أيها الأخوة الأكارم ؛ لو أنّ الإنسان لم يُوَفَّق إلى هذا المستوى الرفيع ، لكنّه سار باتِّجاهه ، يكفي أن تسير باتِّجاهه حتى يكون عندك مثلٌ أعلى ، ونموذجٌ أحْسَن ، كلّما كبَت بك القدَم صَحَوْتَ من كبْوَتِكَ ، واتَّجَهْتَ إلى هدفك ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى أشار إلى هذا فوصفَ عبادهُ المؤمنين بأنَّهم أوَّابون أي راجعون إلى الله دائمًا ، كلّ بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ، المرْجِع واحد ، يعرفُ ماذا ينبغي عليه أن يفعل ، فكلّما تعثَّرَت خطواته وقف من كبوتِهِ ، وتابعَ المسير .
الناجح و الفائز من كان على طاعة الله و أمره :
أيها الأخوة ؛ الإنسان قد تعرُضُ له شهوةٌ من حرام ، وليس هناك رقيبٌ ولا حسيب ، ما الذي يردَعُهُ عن أن يقعَ أو عن أن يسقط في هذه الشَّهْوة ؟ خوفُ الله عز وجل، سيّدنا يوسف ماذا قال لامرأة العزيز ؟ معاذ الله ، ما الذي منعَهُ أن يُلَبِّي نِداء جسده ؟ خوفُ الله عز وجل ، لذلك العِلْمُ حارسٌ ، والربانيةُ حارسٌ ، يحرسُك من أن تسقط ، وقد يعرضُ لك مالٌ حرام ، يحلُّ كلّ مشكلاتك ، ولكن تقول : لا بِمِلء فَمِكَ ! لماذا ؟ لأنّك تقرأ قوله تعالى :
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
ما دُمْت على طاعة الله ، وما دُمْت على أمر الله ، وما دُمْت في رِضوان الله فأنت الفائز ، وأنت الرابح ، وأنت الناجِح ، وأنت المتفوّق ، وأنت الفالح ، وقد يُتاحُ له أن يصِلَ إلى مركزٍ قويّ يُحقّق له هذا المركز كلّ طُموحاته ، ولكن هذا المركز القويّ أساسهُ أن تُعينَ على الباطل ، لذلك لا تركن ، ولا تستجيب ، ولا ترضى أن تكون أداةً بيَدِ غيرك ، أو تُكأةً يتَّكِأُ عليك المتَّكِؤون ، ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾
وقد يتمكَّن الإنسان من خصْمِهِ ، وبإمكانه أن يكيلَ له الصاع صاعَين ، ولكن ما الذي يجعلُه يعْفو ويصْفح ؟ هذه النماذجُ الرائعة التي ذكرها الله في القرآن الكريم ، سيّدنا يوسف كيف عفا عن إخوته ؟ قال تعالى :
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
أرأيْتُم أيها الأخوة ؛ كيف أنّك إذا كنتَ ربانيًا ، إذا كنتَ خالص الوجهة إلى الله عز وجل ، خالصَ الطاعة له ، جعلْت الله عز وجل منتهى آمالكَ وغاية طُموحاتك ، جعلْت إرضاء الله كلّ شيءٍ في حياتك ، أرأيْتَ كيف تكون إنسانًا رَحْمانيًا ؟ إنسانًا نظيفًا ؟ إنسانًا محسنًا ؟ إنسانًا عطوفًا ؟ هكذا .
آداب كثيرة علّمنا إياها النبي الكريم لنكون مع الله :
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ كيف نكون ربّانيِّين ؟ الله سبحانه وتعالى فرَض علينا العبادات ، أمرك أن تقف بين يديه في اليوم والليلة خمسَ مرّات ، تقف بين يديه وتحْمَدُهُ ، وتسألهُ الصِّراط المستقيم ، وتتلو قوله تعالى ، وتركع له خاضعًا ، وتسجدُ له مستعينًا ، وتُسبّح بِحَمده ، وتصلّي على نبيّه ، إذا أُدِّيَت الصلوات الخمس كما أراد الله عز وجل ، هذه الصلوات الخمس تقرِّبُك من أن تكون ربانيًا ، وتُبعِدُك عن أن تكون شهوانيًا ، أو شيطانيًا ، فإذا جاء شهر الصّيام تدَعُ الطعام والشراب ، وكلّ المباحات ابْتِغاء وجه الله عز وجل ، الصّوم أيضًا يجعلك ربانيًا ، والحجّ يجعلُك ربانيًا ، وأداء زكاة المال يجعلكَ ربانيًا ، هذه العبادات التي فرضها الله علينا ، معنى فرضها أنّ سعادتنا متوقّفةٌ عليها ، أنا أقول له : تنفُّس الهواء فرْض ، وشُرب الماء فرض ، وتناوُل الطعام فرْض ، فاسْتِمرار الحياة متوقّفةٌ على شُرب الماء وتنفّس الهواء وتناوُل الطّعام ، والصلاة والصوم والزكاة والحجّ فرضٌ عليك كي تكون ربّانيًا ، فإذا كنت ربانيًا سعِدْت في دنياك ، وسعِدْت في آخرتك ، من أجل أن تكون مع الله دائمًا ، علَّمَكَ النبي عليه الصلاة والسلام آدابًا كثيرة ، يكفي أنَّك إذا جلسْتَ كي تأكل تقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا الطّعام من فضْل الله ، ومن نِعمة الله ، وسآكُلُه وفْق سنَّة رسول الله ، بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا انْتَهَيْتَ من طعامِكَ قلْتَ : " الحمد لله الذي أطْعمنا فأشبعَنا ، وأسقانا فأرْوانا " إذًا تبدأ بالبسملة ، وتنتهي بالحمد ، فإذا أردْت ان تشرب قلتَ : بسم الله الرحمن الرحيم ، أيضًا رأيت هذا الماء العذب الفرات من فضل الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾
فإذا أنْهَيْتَ شُربكَ قلتَ : " الحمد لله الذي جعلهُ عذبًا فراتًا بِرَحمته ، ولم يجعلْهُ ملحًا أُجاجًا بِذُنوبنا " إذًا إذا شرِبْت مع الله عز وجل ، وإذا أكلْت مع الله ، أما إذا ارْتَدَيْت ثوبًا جديدًا فالنبي عليه الصلاة والسلام علَّمَك أن تقول إذا ارْتَدَيْت هذا الثَّوْب : " الحمد لله الذي كساني هذا من غير حوْلٍ منّي ولا قوّة ، اللهمّ إنِّي أسألك من خيره ، وخير ما هو له ، وأعوذ بك من شرّه ، وشرّ ما هو له " أكلْتَ كنتَ مع الله في بداية الطّعام ، وفي نهايته ، شربْتَ كنتَ مع الله في بدايته ، وفي نهايته ، لبِسْتَ الثَّوْب فأنت مع الله ، فإذا ركبْتَ دابّة او مركبةً يجبَ أن تقول : " سبحان من سخَّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنا إلى ربّنا لمنقلبون " فإذا ذهبْت لِتَنام علَّمَنا النبي عليه الصلاة والسلام أن تقول : " باسمك وضَعْتُ جنبي وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظُ به عبادك الصالحين " إذا عُدْت من سفرك : " آيِبون تائبون عابدون لربّنا حامدون " العبادات تجعلك ربّانيًا ، والآداب الإسلاميّة تجعلُك ربّانيًا ، إذا استيقظْت من نومك : " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور " ، حتى في لقائك الزوجي : " اللهمّ جنِّبنا الشيطان ، وجنّب الشيطان ما رزقتنا ".
أيها الأخوة الأكارم ؛ العبادات تجعلك ربّانيًا ، والآداب الإسلاميّة تجعلُك ربّانيًا، المهمّ أن تكون دائم الصّلة بالله عز وجل ، تحقيقًا لقول الله تعالى :
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾
المصلِّي إنسانٌ مُتَميِّز لا يجزعُ إذا جزِعَ الناس ولا يخافُ إذا خاف الناس :
أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله عز وجل :
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
المصلِّي إنسانٌ مُتَميِّز ، له حالات يتميّز بها على سائر الناس ، لا يجزعُ إذا جزِعَ الناس ، ولا يخافُ إذا خاف الناس ، هكذا قال الله عز وجل ، ولا يبْخلُ إذا بخِلَ الناس ، ولا تشِحّ نفسهُ إذا شحَّتْ نفوس الناس ، هو مطمئِنّ ، يسرع إلى الزكاة ، يشكر في الرّخاء ، يصبر في البلاء ، يقنع بالذي له ، لا يبتغي ما ليس له ، هكذا المصلّي ، لهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( لا خَيْرَ فِي دِينٍ لا رُكُوعَ فيه ))
الصلاة عماد الدّين ، وعِصام اليقين ، ودرّة القُرُبات ، ومن ترك الصلاة فقد كفر، من تركها إنكارًا لِحَقِّها فقد كفرَ .
ثمار الإيمان بالله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم ؛ من أجل أن تكون مؤمنًا ، ومن أجل أن تقطف ثمار الإيمان ، فالإيمان له ثِمار ، إذا لمْ تطبِّق أمْر الله عز وجل كان انْتِماؤُك لهذا الدِّين انتِماءً شَكلياً، طبَّقْت بعض الأوامر ، وعصَيْتَ بعض الأوامر ، الصِّلةُ لا تنعقدُ بينك وبين الله ، وإن لم تنعقدُ الصِّلة بينك وبين الله لن تستطيع أن تقطف ثِمار هذا الدِّين ، هذه الأحوال الطيّبة ، وهذه الطمأنينة ، وهذا التَّوَحُّد ، وهذه الثّقة برِضوان الله عز وجل ، لا تملكُها ، ولا تعرفها ، ولا تذوقها.
أيها الأخوة الأكارم ؛ يجبُ أن تعلمَ علْم اليقين أنَّك لن تسعَدَ إلا بالله عز وجل ، لن تسعد إلا بالقُرب منه ، لن تسعَدَ إلا بِطَاعتِهِ ، لن تسْعَدَ إلا بأن يكون الله ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما .
أيها الأخوة الأكارم ؛ هكذا ينبغي أن نربّي أولادنا في البيت ، وهكذا ينبغي أن نربِّيهم في المدرسة ، وهكذا يجب أن نربّي طلاب العلم في المسجد ، وهكذا ينبغي أن نفعل مع من حولنا ، لأنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن نتقرَّب منه ، ويريدُ أن يُسعدنا ، قال تعالى :
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين ، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر .
أيها الأخوة الأكارم ؛ الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً ))
الإنسان باختصار عقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحبّ ، وغذاء العقل الحقيقة ، وغذاء القلب الحب ، وكلّما رجَحَ عقلك عرفْت كيف تنتقي محبوبك ، قد تنتقي محبوبًا ثانيًا تفارقُه أو يفارقُك ، وقد تنتقي عرضَ الدنيا محبوبًا ، وكلّما مرَّت الأيام اِكْتشفْتَ الحقيقة المرّة ، قد تظنّ أنّ المال كلّ شيء ، تمضي الأيام فتكتشفُ في خريف العمر أنّ المال شيء ، ولكنّه ليس كلّ شيء ، وقد تكتشفٌ عند الموت أنَّ المال ليس بشيء ، إنَّه عرَضٌ حاضِر يأكل منه البرّ والفاجر ، جاء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( يا محمّد أتُحِبُّ أن تكون نبيًّا ملِكًا أم نبيًا عبدًا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
بل نبيًا عبدًا ، أجوعُ يومًا فأذْكرُه ، وأشبعُ يومًا فأشكرُه))
بطولة الإنسان أن يعرف الله و هو في مقتبل عمره :
هذه الحقائق أيها الأخوة لابدّ من أن نعرفها جميعًا ، قطعًا ، ولكنّ البطَل هو الذي يعرفها في الوقت المناسب ، يعرفها وهو شابّ ، يعرفها وسبيلُ التوبة مفتوحٌ أمامه ، يعرفها وبإمكانه أن يغيِّر ، يعرفها وبإمكانه أن يستفيد من هذه المعرفة ، يعرفها قبل فوات الأوان ، ووالله الذي لا إله إلا هو ما من إنسانٍ خلقهُ الله إلا ويعرفُ الحقيقة كلّ الحقيقة عندما يغادرُ هذه الدنيا، وهل أشدَّ من فرعون الذي قال : أنا ربّكم الأعلى !! ماذا قال حينما أدْركهُ الغرق ؟ آمنتُ بالذي آمنتْ به بنو إسرائيل!!
فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ المشكلة ليْسَت مشكلةُ معرفةٍ ، وإنما مشكلة وقت معرفة المعرفة ، المشكلة ليْسَت أن تعرف أو ألا تعرف ، لابدّ مِن أن تعرف ، ولكنّ المؤمن يعرفُ قبل فوات الأوان ، والكافر يعرف بعد فوات الأوان ، قال تعالى :
﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
البُطولة أن تعرف الله وأنت شابّ كي تشكّل حياتك وفقَ أوامر الله عز وجل ، هذا الذي عرف الله في الخمسين ، أو في الخامسة والخمسين ، وبيته ليس إسلاميًا ، زوجتهُ لا تنصاعُ له ، بناتُه الشابات لا يأخذن بأوامره ، ماذا يفعلُ بنفسهِ ؟ يتمزَّق ، لكنَّك إذا عرفْت الله وأنت شابّ وأنت في أوْجِ قوّتك ، تُشكِّلُ حياتك ، وتختارُ زوجتك ، تختارُ عملك وفْق ما يرضي الله ، فإذا حياتك منسجمةٌ ، فإذا حياتك متناغمة ، فإذا حياتك تسعى لهدفٍ واحد .
أيها الأخوة الأكارم ؛ مرَّةً ثانيَة المشكلة مشكلة وقت ، لابدّ من أن نعرف الحقيقة، إن عرفناها ونحن أصِحَّاء ، ونحن أقوياء ، نتمتَّع بصِحَّتنا ، نتمتَّع بِقُوَّتنا ، نتمتَّعُ بشبابنا ، نتمتَّع بفراغنا ، هذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اِغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغِكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ))
الشابّ شُعلةٌ من الطاقة ، أما إذا كبِرَتْ سِنّه ، وانْحنى ظهرهُ ، وضعف بصرُه، وشابَ شعرُه ، وقْتُهُ كلّه مصروف في تناوُل الأدوية ، وفي تلافي بعض الأوجاع ، وفي تلافي بعض الآلام ، أما هذا الشابّ في رَيعان الشباب فهذا كما قال النبي : " ريح الجنّة في الشباب " إذا عرفْت الله في وقتٍ مُبكِّرٍ نَمَتْ حياتك نموًّا رائعًا ، تزدادُ عقلاً ، وقدرًا ، وحكمةً ، ويعجبني ما قاله أحدهم وهو شيخٌ كبير ، عن صحّته التي لا تزال معه ، قال : حفِظناها في الصّغر فحفظها الله علينا في الكِبَر .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسماء ذات الرجع :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾
خالق الكون يصف السماء بِكَلمةٍ واحدة ، والسماء ذات الرجع ، كلّما تقدَّم العلم اكْتُشِفَت حقائق جديدة تَدعمُ هذا الوصْف الموجز ، فالقمر يسيرُ في مدارٍ حول الأرض ، يذهبُ ثمّ يرجعُ إلى مكانه الأوّل ، والشمس تجري لمستقرّ لها في مدار حول نجمٍ آخر ، وتعود إلى مكانها السابق ، والمذنّبات هذا المذنّب مذنّب هالي ، زار الأرض في عام ألف وتسعمئة و اثني عشر بالضّبط ، وعاد إلينا في عام ألفٍ وتسعمئة وستّة وثمانين ، تسْتغرق دورتُه منذ ملايين السِّنين سِتة وسبعين عامًا ، فالأرض تدور وترجع ، والقمر يدور ويرجع ، والشمس تدور وترجع، والمذنّبات ترجع ، وكلّ ما في السماء يدور في فلك بيْضوي أو دائري ويرجع ، إذًا ربّنا سبحانه وتعالى حينما وصفَ السماء بكلمةٍ واحدة ، إنَّه وصْفُ خالقها ، قال تعالى :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾
ثمّ اِتَّجَهَ العلماء اتِّجاهًا آخر ، هذه الغازات التي أوْدعها الله في الأجواء ، الأكسجين يستنشقُه الإنسان فيُصبحُ غاز الفحْم ، يأخذُه النبات فيُصبحُ أكسجيناً ، حتى الغازات لها دوْرةٌ طبيعيّة من أكسجين إلى غاز فحْم إلى أكسجين ، حتى إذا أرْسلت إلى السماء أمواجًا كهرطيسيّة إنَّها ترجعُ ، والبثّ اليوم يقوم على هذا المبدأ ، وحتى إذا صعَدَ بُخار الماء إلى السماء يرجعُ أمطارًا ، لمّا ربّنا عز وجل يقول :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾
السماء ترْجعُ بخار الماء أمطارًا ، وتُرجعُ الأمواج الكهرطيسيّة أصواتًا ، وترجعُ الغازات في تقلّباتها إلى ما كانت عليه ، وكلّ ما في السماء يرجعُ إلى مكانه الأوّل ، لأنّه يدور ويسير ، ويتحرّك في مسارٍ كُروي أو بيْضَوي ، فلمّا ربّنا عز وجل يقول بإيجازٍ عجيب :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾
معنى ذلك أنّ هذا القرآن من عند خالق الكون ، تشعرُ أنّ هذا وصْف الله تعالى، وصفُ الخالق ، ووصْفُ الصانِع .
والشيءُ الآخر ، أنّ الأرض لو أردْت أن تصِفَها بِصِفةٍ شاملةٍ جامعة مانعة ، قال تعالى :
﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾
القارات كانت متَّصلة فتصدَّعَتْ ، الصُّخور تتصدَّع ، الأحجار تتصدَّع ، بل إنّ أدقّ الجزيئات تتصدَّع ، فإذا ذهبْت لِتَصِفَ الأرض بصِفَةٍ ثابتةٍ منذ أن خلقها الله ، وحتى نهاية الحياة ؛ إنَّها التصدّع ، قال تعالى :
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾
كيف هو الصَّدْعُ ؟ الأرض أيّها الأخوة طبقات ، أمْسِك بيْضةً ، هناك القِشرة الكِلسيّة ، وهناك القِشْرة الرقيقة ، هناك بياضُ البيضة ، وهناك صفارها ، أقسى هذه الطبقات الطبقاتُ الخارجيّة ، وكلّما هبطْنا نحو أعماق الأرض تصبحُ هذه الطبقات أقلّ صلابةً إلى أن تصبحَ لَزِجةً إلى أن تصبحَ مائعةً مضطربة ، وهذه النظريّة أصبحَت حقيقة ، كلّما اتَّجَهنا نحو بطن الأرض ضعفت الصلابة ، وارتفعَت الحرارة ، أما في مركز الأرض فهو اضْطرابٌ عجيبٌ لِمَائِعٍ ناري ، القرآن أشار إلى ذلك ، قال تعالى :
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾
معنى تمورُ أيْ تضطرِبُ اضْطراب المائع ، أنتم تنْعمون باستِقرار على ظهرها ، أنتم تنعمون بِصَلابتها ، بِقُوَّتها ، تبني بناءً شامخًا على أساسٍ متين ، ولكن لو أنّ هذه الأرضَ خُسِفَت بكم لأصبحْتُم على مائعٍ ناريّ مضطربٍ يمور ، قال تعالى :
﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾
منْ أخْبرَ النبي عليه الصلاة والسلام وهو الأُميّ بأنّ في باطن هذه الأرض مائعًا ناريًّا مضطربًا ؟ أليس هذا القرآن كلام الله عز وجل ؟
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا وقفْت عند الآيات الكونيّة في القرآن وجدْت أنَّه كلّما تقدَّمَت بك الدراسات تلتقي مع وصْف الله الموجز ، مع وصف الله المعجز ، مع وصْف الله البليغ .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .