وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 0123 - العلم والعمل - المسافات بين الكواكب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير.

تمهيد :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ من ساعة أن يوضع الميت على الجنازة إلى أن يوضع على شفير القبر يسأله الله سبحانه وتعالى بعظمته منه أربعين سؤال أولها :
 يقول : عبدي طهرت منظر الخلق سنين .
 منظر الخلق ؛ هندامك ، بيتك ، مركبتك ، أثاث بيتك ، مظهرك .
 طهرت منظر الخلق سنين وما طهرت منظري ساعة .
 ما منظر الله سبحانه وتعالى ؟
 منظر على وزن مفعل ، اسم مكان ، أي مكان النظر .
 وما طهرت منظري ساعة ؟!!
 ما منظر الله سبحانه وتعالى ؟ قلب العبد .
 وما طهرت منظري ساعة ؟!!

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 88 -89 ]

 كل يوم ينظر الله إلى قلبك أيها الأخ الكريم ، ويقول الله سبحانه وتعالى :
 ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري ؟
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مما جاء في بعض الأثر أن الله سبحانه وتعالى يقول :
 انظر إلى السماء في ارتفاعها ، والشمس وشعاعها ، والأفلاك ومدارها ، وانظر إلى البحار وأمواجها ، وإلى الأرض واتساعها ، وإلى كل ظاهرٍ وباطن ومتحركٍ وساكن ، الكل يشهد بجلالي ، ويقر بكمالي ، ويعلن بذكري ، ولا يغفل عن شكري .
 عبدي أذكرك وتنساني ، وأسترك ولا تخشاني ، لو أمرت الأرض لابتلعتك في بطنها ، لو أمرت البحار لأغرقتك في معينها ، ولكن أؤخرك إلى وقت وقته ، وإلى أجل أجلته ، ولا بد لك ولكل نفس من المرور علي والوقوف بين يدي .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لمثل هذا الساعة فلنعمل ، لمثل هذا الموقف العصيب فلنستعد لمثل هذا اليوم الذي يقف فيه الناس لرب العالمين .

 

العمل الصالح :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ العاقل من يصل إلى الشيء قبل أن يصل إليه ، في القرآن الكريم بعض الآيات الكريمة التي تلخصه كله قال تعالى :

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف الآية : 110 ]

 أقروا هذه الآية كثيراً ، بل نقرأها كثيراً .

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ﴾

 من أراد أن يتصل به ، من أراد أن يقبل عليه ، من أراد أن يخطب وده ، من أراد أن يكون في جانبه ، من أراد أن يحتل مقعد صدق عنده ، من أراد أن يسعد به

﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

 العمل الصالح ثمن القرب من الله عز وجل .

﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الأعراف الآية : 56 ]

﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾

[ سورة فاطر الآية : 10 ]

 وحده .

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر الآية : 10 ]

 كله ، الذي يرفعك عند الله العمل الصالح ، قل لي ما عملك الصالح أقل لك من أنت ، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، كل إنسان ليسأل نفسه هذا السؤال ، ما العمل الصالح الذي أعمله ابتغاء وجه الله ، لا أرجو به سمعة ، ولا جاهاً ، ولا مكانةً ، ولا مالاً ، ولا أجرةً ، هذا العمل الذي تعمله ابتغاء وجه الله هو الذي يحدد مكانتك عند الله ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأحقاف الآية : 19 ]

 حجمك بحجم أعمالك ، ما أحدث الرجل أخاً في الله ، إلا أحدث الله له درجة في الجنة ، من أسلم على يديه رجل وجبت له الجنة ، ومن أسلم على يد رجل فله ولاءه .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ كل هذه الأعمال التي نعملها لا نبتغي بها وجه الله نبتغي بها كسب المال ، نبتغي بها الرفعة عند الناس ، نبتغي بها الشهرة ، نبتغي بها الثناء هذه الأعمال لا قيمة لها عند الله .

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾

[ سورة الفرقان الآية : 23 ]

 إحباط العمل ، إما أن يكون العمل سيئاً ، وإما أن يفقد قيمته لسوء نيته ، الشيء الذي يلفت النظر أن الذي يرفعك عند الله عملك

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأحقاف الآية : 19 ]

﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر الآية : 10 ]

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف الآية : 110 ]

 في الآية معناً دقيق هو أن العمل الصالح لا قيمة له أيضاً إلا إذا بني على استقامة .

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف الآية : 110 ]

 أي ألا يطيع أحداً إلا الله ، أي أن يستقيم على أمر الله .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ شيء آخر يقول عليه الصلاة والسلام : كل الناس هلكا إلا العالمون ، والعالمون هلكا .
 إذاً : العلم ليس هدفاً لذاته ، إنما هو وسيلة ، فمن جعله هدفاً فقد حبط عمله .
 كل الناس هلكا إلا العالمون ، والعالمون هلكا إلا العاملون ، والعاملون هلكا إلا المخلصون ، والمخلصون على خطر عظيم ، يجب أن تكون عالماً وعاملاً ومخلصاً ويقظاً .
 حجمك عند الله عز وجل يتحدد بشيء آخر ، غير العمل الصالح وهذا مأخوذ من قوله تعالى :

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ﴾

[ سورة الإسراء الآية : 79 ]

 مقامك المحمود يتحدد بعملك الصالح ، ومقامك المحمود يتحدد باتصالك بالله عز وجل .
 رجل كانت له شهرة واسعة ، وسيط ذائع ، تألق نجمه في سماء المعرفة ، ترك مؤلفات كثيرة ، ترك سمعة عريضة ، توفاه الله عز وجل ، رآه أحد تلاميذه في المنام ، فقال :
 يا سيدي ما فعل الله بك ؟
 قال يا بني : طاحت تلك العبارات وذهبت تلك الإشارات ولم يبق إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ شيئان هما جناحا المؤمن :
 1- اتصاله بالله .
 2- استقامته وعمله الطيب .
 فإذا اختل أحدهما وقع ، إذا اختل جناح الاتصال وقع ، إذا اختل جناح العمل وقع ، لا يطير الطائر إلا بجناحين ، جناح المعرفة ، وجناح العمل ، لذلك أكثر من مئتي آية في كتاب الله ، قرن فيها العمل الصالح مع الإيمان .

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 25 ]

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 82 ]

 لا يقبل عمل من دون إيمان كما لا يقبل إيمان من دون عمل .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ النبي عليه الصلاة والسلام في بعض خطبه الموجزة قال :
 أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله .
 الكتاب الوحيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الكتاب الوحيد الذي لا خطأ فيه ، هو كتاب الله .
 وخير السنن سنة محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأشرف الحديث ذكر الله .
 حيثما وجدت ، أينما كنت ، في لهوك ، في جدك ، في عملك ، في طريقك مع أهلك ، مع أصدقاءك ، أشرف الحديث ذكر الله ، اذكر آية كونية ، اذكر آية قرآنية ، اذكر سنة نبوية ، اذكر موعظة ، اذكر قصة ، اذكر حكم فقهياً ، ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربون أعناقكم وتضربوا أعناقهم ، قالوا وما هو يا رسول الله قال : ذكر الله وما والاه وأحسن القصص قصص القرآن الكريم ، وخير الأمور عوازمها ، خير الأمور ما تبعتها عزيمة صادقة لتحقيقها ، وشر الأمور محدثاتها ، البدع النبي عليه الصلاة والسلام قال : طوبى لمن وسعته السنة ، ولم تستهوه البدعة ، وأحسن الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب ، واليد العلية خير من اليد السفلة ، وما قلى وكفى خير مما كثر وألهى ، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب .
 قال عليه الصلاة والسلام : يطبع المؤمن على الخلال كلها ، قد تجد مؤمناً اجتماعياً ، وقد تجد مؤمناً انطوائي ، قد تجد مؤمناً حريصاً ، وقد تجد مؤمناً أقل حرصاً ، قد تجد مؤمناً يعتني كثيراً بجيرانه ، وقد تجد مؤمناً أقل عناية ، قد تجد مؤمناً يؤثر هذا الشيء ، ومؤمناً آخر يؤثر هذا الشيء ، يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة ، فإذا كذب أو خان فليس مؤمناً ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله ، وخير ما وقر في قلب اليقين ، اليقين بالجنة ، واليقين بعطاء الله ، واليقين بوعده واليقين بوعيده ، والارتياب من الكفر ، قال الشاعر :

زعم المنجم والطبيب كلاهما  لا تبعث الأموات قلت إليـكما
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ  أو صح قولي فالخسارة عليكما
***

 هذه عقيدة ارتياب ، إن كان في جنة سعدنا بها ، وإن لم يكن هناك جنة ما خسرنا شيئاً ، هذه عقيدة الارتياب وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام بالكفر ، والارتياب من الكفر ، والنياحة من عمل الجاهلية ، والشعر من مزامير الشيطان ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشر المكاسب الربا ، وشر المآكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من وعظ بنفسه .
 أيها الإخوة المؤمنون : قال عليه الصلاة والسلام :‏

(( أنا مدينة العلم ، وعلي بابها ))

[‏عن ابن عباس‏ ‏عن جابر‏ ‏تصحيح السيوطي ]


 من أقوال الإمام علي كرم الله وجهه ، هذا الإمام الجليل :
 لا تقل مالا تعلم ، ولا تقل كل ما تعلم ، فإن الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة .
 قول آخر :
 احذر أن يراك الله عند معصيته ، ويفتقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وإذا قويت فاقو على طاعة الله ، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله ، ألا وإن من البلاء الفاقة ، من البلاء ، الفقر ، وأشد من الفاقة مرض البدن ، وأشد من مرض البدن مرض القلب ، ألا وإن من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة البدن ، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب .
 لذلك سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبة قال الحمد لله ثلاثاً ، الحمد لله إذا لم تكن في ديني ، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها ، والحمد لله إذا ألهمت الصبر عليها .
 خذ من الدنيا ما أتاك الله ، وتولى عما تولى عنك ، فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب .

(( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب ، رزقها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب ، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته ))

[ عن أبي أمامة تصحيح السيوطي ]

 المنية ولا الدنية ، التقلل ولا التوسل ، اضغط مصروفك ولا تتضعضع أمام غني .

(( من دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه‏ ))

[‏ عن ابن مسعود ، قال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب رواه الطبراني في الصغير]

 التقلل ولا التوسل ، ومن لم يعط قاعداً لم يعط قائماً ، ويقول هذا الإمام الجليل :
 ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء ، طلباً لم عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله عز وجل .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ الدنيا تغر وتضر وتمر ، وإن الله سبحانه وتعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه ، ولا عقاباً لأعدائه ، أعطاها لأعدائه ، وقد يحرمها لأوليائه لم يرضها ثواباً لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه .
 أيها الإخوة الأكارم : سفانة بنت حاتم طي وقعت أسيرة عند النبي عليه الصلاة والسلام فلما مر بها يوماً قالت يا محمد ، وفي رواية يا رسول الله ، وقفت على قدميها ، وقالت يا رسول الله ، وكانت عاقلة جداً ، قالت يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلي عني ، ولا تشمت بي الأعداء ، ولا تشمت بي أحياء العرب فافعل ، مُنّ علي مَنّ الله عليك ، فإن أبي كان سيد قومه ، يفك العاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الدمار ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكل ؛ أي الضعيف ، ويعين على نوائب الدهر ، هكذا كان أبي يا رسول الله ، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً ، أنا بنت حاتم طي ، فقال عليه الصلاة والسلام : ‏

(( يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا ، لو كان أبوك مسلم لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق‏ ))

[‏ أخرجه الترمذي عن الحكيم في نوادر الأصول بإسناد فيه ضعف‏ ]

 شيء دقيق ، قد يفعل الإنسان بعض مكارم الأخلاق بدافع ذكائه ، أو ابتغاء للسمعة ، ولكنه أن يفعلها ابتغاء مرضاة الله شيء ، وأن يفعلها ابتغاء السمعة شيء آخر ، ‏يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه ، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق‏ ، ثم قال : دققوا في هذا القول :

(( ‏ارحموا من الناس ثلاثة عزيز قوم ذل وغنى قوم افتقر وعالما بين جهال‏ ))

[‏ رواه ابن حبان في تاريخه بسند فيه كذاب عن ابن عباس وأبي هريرة‏ ]

 وامتن عليها بقومها جميعاً ، فأطلقهم إكراماً لها ، حينما فعل ذلك استأذنته بالدعاء فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ، ولا سلب نعمة من كريم إلا جعلك سبباً في ردها إليه ، فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي فقالت له : يا أخي ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حباله فإني رأيت هدياً فيغلب أهل الغلبة ، ورأيت فيه خصالاً تعجبني ، رأيته يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير وما رأيت أجود منه ، ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فالسابق فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تزال في عز ملكه .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام أسوة لنا ، قدوة لنا .

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم الآية : 4 ]

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 159 ]

 أيها الإخوة الأكارم ؛ حاسـبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسـيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسـه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسـه هواها وتمنى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم .

مواقع النجوم .

 أيها الإخوة الأكارم ؛ في القرآن الكريم آية هي قوله تعالى :

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 75 -76 ]

 ما مواقع النجوم ؟ لهذه المواقع معاني ثلاث .

 

المعنى الأولى : المسافات بين بعضها .

 أن بين النجوم مسافات يستحل على العقل تصورها بعض هذه المسافات ثمانية عشرة ألف مليون سنة ضوئية بين الأرض وبين مجرة المرأة المسلسلة ، الضوء يسير في الثانية الواحدة ثلاث مئة ألف كيلو متر بالثانية كم يسير في الدقيقة ؟ هذا العدد الكبير ثلاث مئة ألف مضروب بستين ، كم يسير في الساعة ؟ كم يسير في اليوم ؟ كم يسير في الشهر ؟ كم يسير في السنة .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 75 -76 ]

 بين الأرض والقمر ثانية ضوئية واحدة ، يعني ثلاث وستين ألف كيلو متر ، بين الأرض والشمس ثمان دقائق يعني مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، المجموعة الشمسية طولها ثلاثة عشرة ساعة درب التبان طوله مئة وخمسين ألف سنة ضوئية .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 75 -76 ]

 هذا المعنى الأول .

 

المعنى الثاني : المواقع متغيرة .

 هو أن هذه النجوم ليس لها موقع واحد بل لها مواقع ، إذا هذه نجوم متحركة ، كل شيء يسبح بفلك خاص به .

﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾

[ سورة يس الآية : 40]

 الأرض تدور حول الشمس في ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً ، بينما نجم آخر في المجموعة الشمسية يدور حول الشمس في سنتين أو ثلاثة وبعضها في أقل من سنة ، كل نجم له مواقعه الخاصة ، له مدار طويل أو قصير ، له شلك دائري ، أو إهليلجي بحسب الدقة التامة .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 75 -76 ]

 كل نجم له موقع في كل ثانية ، وأدق ساعات العالم تضبط على بعض النجوم ، قد يجدها صانعوها أنها تأخرت ، أو قدمت في العام ثانية واحدة ، ما الذي يضبطها ؟ مرور نجم لا يتقدم ولا يتأخر عن موعده الدقيق ، فهذه المواقع وفق نظام مدهش ، المواقع جمع موقع في كل ثانية للنجم موقع جديد ، المذنب الذي نحن بانتظار رؤيته يقطع مساره في ستة وسبعين عاماً رآه الناس بعام ألف وتسعة مئة وعشر ، ونراه نحن في عام ألف وتسعة مئة وستة وثمانين ، وكان قد رئي قبل الميلاد بألفين عام معلوماتنا الأرضية المتواضعة أن هذا النجم رآه الناس قبل الميلاد ، بألفين عام ، ولم يقدم ولم يؤخر ، ستاً وسبعين سنة ، ويكون على بعد ثلاث ملايين كيلو متر من الأرض ، هذا المعنى الثاني مواقع النجوم .

 

المعنى الثالث : تجاذبها مع بعضها

 بين النجوم تجاذب ، الكتلة الأكبر تجذب الكتلة الأصغر ، وعامل آخر هو مربع المسافة بينهما ، لو أن مواقع النجوم تغيرت لاختل توازن الكون ، ولارتطمت النجوم بعضها ببعض ، وأصبح الكون كتلة واحدة هذه المواقع مدروسة بعناية فائقة بحيث يكون محصلها دوران واستقرار .
 المعنى الأول المسافات الشاسعة ، والمعنى الثاني حركي ، تنقل النجم من موقع إلى آخر ، والمعنى الثالث أن هذه الكتل بعضها كبير ، وبعضها صغير ، بعضها قريب ، بعضها بعيد ، وضعت هذه النجوم المتفاوتة في الأحجام ، والمتفاوتة في الأبعاد في أماكن دقيقة بحيث لو تجاذبت لكان محصلة ذلك ، ذلك النظام البديع الذي نراه بأعيننا .

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾

[ سورة فاطر الآية : 41]

 ما معنى أن تزول ؟ لا أن تفنى ، أي أن تخرج عن مسارها الأرض إذا اقتربت من الشمس زادت من سرعتها ، لئلا تنجذب إلى الشمس ، هذه السرعة الزائدة تعطيها قوة نابذة ، تكافئ القوة الجاذبة فتبقى في مكانها .

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 75 -76 ]

 فكروا في هذه الآية ، دققوا ، ابحثوا ، تأملوا ، تصوروا ، تعرفوا إلى الله .

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾

[ سورة الذاريات الآية : 20]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

[ سورة يونس الآية : 101]

 في السماوات والأرض آيات لا تنتهي ، ولا تقف عند حد ، في السماوات والأرض أدلة ليست مقنعة ، ولكنها قاطعة ، والدليل القاطع أبلغ من الدليل المقنع ، يقولون القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، إذا قال الله سبحانه وتعالى :

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾

[ سورة النور الآية : 30]

 هذه الآية لو خالفها الإنسان لشقي ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، إذا قال الله عز وجل :

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية : 33]

 لا يصلح المجتمع بالاختلاط .

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾

 قطعي الثبوت قطعي الدلالة .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت وبارك الله لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا ، اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا وفك أسرنا ، واحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا ، اللهم يا أرحم الراحمين اشف مرضانا وارحم موتانا ، واقض ديننا ، اللهم يا أرحم الراحمين اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا وأمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد أمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين اللهم إنا نعوذ من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور