وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0096 - فاستقم كم أمرت ومن تاب معك - الكريات البيضاء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وسِعَت رحمته كلّ شيء ، ينادي يوم القيامة ، يا ملائكتي ، أخرجوا من النار كلّ عيْن بكَت من خشية الله ، وكل عين باتَتْ تحرس في سبيل الله ، كلّ عين غضَّت عن محارم الله كلّ عين نزل منها مثل رأس الذبابة في سبيل الله .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ إذا بكَت العيون كان ذلك دليلاً على خوفها من الواحد الدَّيان ، فإذا جَمَدَت العيون فإنَّ جمود العين من قَسْوة القلب ، وقسوة القلب من كثرة الذنوب ، وكثرة الذنوب من نِسْيان الموت ، ونسيان الموت من طول الأمل ، وطول الأمل من شدَّة الحِرص ، وشِدَّة الحرْص من حبّ الدنيا ، وحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة .
 وأشهد أنَّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله ، سأله أعرابيّ مرَّةً ، قال : يا رسول الله عِظني وأوْجِز ، فقال عليه الصلاة والسلام : قل آمنت بالله ثمّ استقم ، فقال هذا الأعرابي : يا رسول الله أريد أخفَّ من ذلك ؟ قال عليه الصلاة والسلام : فاسْتَعِدَّ إذًا للبلاء ، إن كنتَ تريد أخفّ من ذلك فاستعدَّ للبلاء .
 اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمَّد ، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطَّيِّبين ، الهداة المهديّين ، الذين قال فيهم أحدهم : ما رأيْتُ أحدًا يحبُّ أحدًا ، كَحُبِّ أصحاب محمَّدٍ مُحَمَّدًا .
 اللّهم ارزقنا حبَّك ، وحبَّ من يحِبُّك ، وحبّ عملٍ صالحٍ يقرّبنا إلى حبّك ، اللّهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنَّا ، وآثرنا ، ولا تؤثر علينا ، اللهمّ اجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الاستقامة على أمر الله

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله قد شبت قال :

((شيبتني هود وأخواتها))

[ أخرجه الطبراني ]

 المقصود بِهُود سورة هود ، والمعنيّ من سورة هود أواخرها ، وفي أواخرها قوله تعالى :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة هود الآيات:112-115]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ قد يتوهَّم أحدنا أنَّ هؤلاء الأنبياء أُمروا بأوامر لم نُأْمَر بها ، فإذا قلتَ لأحدهم لماذا تفعل كذا وكذا ؟ بادرَ وقال لك : وهل أنا نبيّ ؟! مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، والدليل هذه الآية ، من أين أخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ؟ من هذه الآية ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾

[ سورة هود الآية:112]

 أي يا أيها المؤمن الذي تبْت إلى الله توبة نصوحة ، عليك أن تستقيم على أمر الله ، كما استقام عليه نبيّ الله ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾

[ سورة هود الآية:112]

 بلاغة القرآن الكريم في إيجازه ، وإعجازه في إيجازه ، لا تَطْغَوا ، قد يطغى الرجل على زوجته ، وقد يطغى الوالد على ولده ، وقد يطغى الشريك على شريكه ، وقد يطغى الجار على جاره ، في السكن ، وقد يطغى الجار على جاره في الأرض ، وقد يطغى البائع على الشاري ، وقد يطغى الشاري على البائع ، وقد يطغى القويّ على الضعيف ، وقد يطغى الصحيح على المريض ، وقد يطغى أيّ إنسان ، وقد يطغى الإنسان على الحيوان ، وقد يطغى الإنسان على النبات ، وقد يطغى الإنسان على عباد الله ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾

[ سورة هود الآية:112]

 إذا خرجت عن الطريق المستقيم درجة واحدة فهذا طغيان ، إذا بِعْتَ بِضاعةً ، وتوهَّمها الشاري أنَّها من نوع كذا فإذا هي من نوع كذا ، فهذا هو طغيان ، طغيْت عليه فأخذتَ من ماله ما ليس عليك بحقّ ، لو عرف نوع هذه البضاعة لما دفع هذا الثَّمَن ، هذا نوعٌ من أنواع الطغيان ، وكما قلت قبل قليل ، بلاغة القرآن في إيجازه ، وإعجازهُ في إيجازه ، كلمات قليلة تنطوي على معانٍ كثيرة ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾

[ سورة هود الآية:112]

 الغاشّ في صنع البضاعة يدخل في هذه الآية ، دُفِعَ الثَّمَن بأكثر مِمَّا تقيّم البضاعة ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

[ سورة هود الآية:112]

 مكشوف أمام الله عز وجل ، لا تخفى عليه خافية ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، يعلم السرّ وأخفى ، يعلم ما تبدون ، وما تعلنون .

 

من أشد أنواع الظلم ظلم الإنسان نفسه !!

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾

[ سورة هود الآية:113]

 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))

[أخرجه مسلم]

 قال تعالى :

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾

[ سورة هود الآية:113]

 من معاني هذه الآية ، وآيات الله سبحانه وتعالى لا يحدّها إنسان ، والقرآن ذو وُجوه ، من معاني هذه الآية أنَّ الذي ظلم نفسه فلم يعرف ربَّه وتاه في الحياة ، وشرد على الله شرود البعير ، ولم يصلّ ، ولم يستقم على أمر الله إنّ أشدَّ أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه ، أن يدعها جاهلةً ، أن يدعها خبيثة ، أن يدعها ضالَّةً ، فإذا ركنت إلى هذا الذي ظلم نفسه ، أصابتْك النار ، وفي الآية إشارة لطيفة إلى أنَّ هذا الذي ظلم نفسه فتركها جاهلةً ، وظلم نفسه فلم يضْبطها على شرع الله ، وظلم نفسه فلم يحْملها على مكارم الأخلاق ، وظلم نفسه فأحبّ الدنيا ، وظلم نفسه ونسي الآخرة ، وظلم نفسه فأساء إلى الناس ، هذا ينطَوي على نفْس ملتهبةٍ كالنار ، قال تعالى :

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾

[ سورة طه الآية:134]

 فلو أنت أيها الأخ الكريم ركنْت إلى مثل هذا الإنسان ، إلى إنسان ضالّ لا يصلّي ، ليس مستقيمًا ، إذا ركنْت إليه أصابك من ناره ، أصابتْكَ النار التي تشْتعل في نفسه ، أصابك من حرِّه ، لذلك يُعْزي بعض علماء التَّصوُّف ضيق النّفس والضَّجَر ، إلى أنّ هذا الذي شعر بهذا قد ركن إلى إنسانٍ تائهٍ ضالّ عن الله عز وجل ، إذًا الحِمْيَة الاجتماعيّة من لوازم الاستقامة ، قال تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾

[ سورة هود لآيات:112-114]

لكي تسعد أقم الصلاة مع الصبر

 كي تسْعدَ ، إن ركنْتَ إلى هذا الجاهل تشقى ، فإذا أردْت أن تسْعد ، قال تعالى :

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ﴾

[ سورة هود الآية:114]

 وجَّه بعضهم هذه الآية إلى الصلوات الخمس ، طرفي النهار ، قال تعالى :

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾

[ سورة هود الآية:114]

 لذلك عن أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :

((اتق الله حيثما كنت ، و أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ))

[أخرجه الترمذي]

 قال تعالى :

﴿وَاصْبِرْ﴾

[ سورة هود الآية:115]

 فإن كنت في طريق الإيمان ، وإن حملْت نفسك على الاستقامة ، وإن كلَّفتْك الاستقامة بعض المتاعب ، وإن كلَّفتْك الاستقامة البُعْد عن بعض الأشخاص ، وإن كلَّفتْك الاستقامة أن يفوتك شيء من الدنيا ، وإن كلَّفتْك الاستقامة أن يضيع عليك شيء من الرّبح غير المشروع ، وإن كلَّفتْك الاستقامة ما كلَّفتْك فاصْبِرْ ، قال تعالى :

﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة هود الآية:115]

 والله يقدّر الليل والنهار ، حجم عملك عند الله مقدّر ، حجمه الحقيقي ، مقدار التضحية ، مقدار البذل ، مقدار الإخلاص ، كلّه عند الله واضح ، فإن لم نفعل ذلك ، قال تعالى :

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾

[ سورة هود الآية:117]

 إذا فسد المجتمع ، وأكل القويّ الضعيف ، وانْتُهِكَت حرمات الله ، وفعِلَت المعاصي ، واشْتعلَت الفتن ، اسْتحقّ هؤلاء الهلاك ، قال تعالى

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾

[ سورة هود الآية:117]

 وإذا قلت لا أستطيع أن أفعل هذا ، وإنِّي أخاف من فلان أو علان ، أو من عُبَيد أو زيد ، فالله سبحانه وتعالى أجابكَ سلفًا على هذا التساؤل ، قال تعالى :

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾

[ سورة هود الآية:123]

 حُقَّ للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول :

((شيبتني هود وأخواتها))

[ أخرجه الطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ]

 والمقصود بهود سورة هود ، والمقصود بسورة هود أواخرها ، وهي قوله تعالى :

﴿وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾

[ سورة هود الآيات:120-123]

أوامر النبي ونواهيه

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ إلى السنة المطهّرة ، النبي عليه الصلاة والسلام في مجموعة أحاديث شريفة نهانا عن أشياء ، فإن كنت مؤمنًا به ، وبرسالته ، وبأنَّه لا ينطق عن الهوى ، وبأنَّ أفضل الهدي هديُه ، فانْتَه عمَّا نهانا ، يقول عليه الصلاة والسلام : إياك وكلّ أمر يُعْتذر منه ، وإيّاك وقرين السوء فإنَّك به تعرف ، وإيّاك وما يسوء الأذن، أي إيَّاك أن تنطق بكلمة تسوء أذن أخيك ، دخل في هذا الغيبة والنميمة ، والفحش والبذاء ، وكلّ كلامٍ يخرّش ، ويجرح الأذن ، ويحمّر الوجوه ، وإيّاك وما يسوء الأذن ، وإياكم والجلوس على الطرقات ، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فالزموا آداب الطريق ؛ وهي غضّ البصر ، وكفّ الأذى وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويقول عليه الصلاة والسلام :

((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ))

[أخرجه البخاري ومسلم عن أبو هريرة رضي الله عنه]

 أن تظنّ شيئًا وتقوله للناس دون تحقّق ، ودون تدقيق ، دون استقصاء ، ودون تثبّت ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾

[سورة الحجرات الآية:6]

 قال عليه الصلاة والسلام :

((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ))

[أخرجه البخاري ومسلم عن أبو هريرة رضي الله عنه]

 هذه صفات المؤمنين ، لا تجسسّ ، ولا تقصّي الأخبار ، ولا تنافس ، ولا تحاسد ، ولا تباغض ، ولا تدابر ، وهم عباد لله إخوانا .
 وشيء أخير من هذه المَنْهِيَّات ، يقول عليه الصلاة والسلام :
 عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن قال له :

((إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين))

[أخرجه الإمام أحمد]

 والمقصود بالتَّنَعُّم أن يقصَدَ التَّنَعُّم لذاته والمقصود منه أيضًا المبالغة في التَّنَعُّم ، إيَّاك عبْد الله والتَّنَعّم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعّمين ، لأنَّه في حياتهم الدنيا في مهمّة كبيرة ، وفي رسالة عظيمة يَسْعَون لِتَحقيقها ، التَّنَعُّم يتناقض مع مهمَّة الإنسان في الحياة الدنيا.
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ نموذج من الإسلام المطبّق عمليًّا ، أمُّ سلَمَة زوْج النبي عليه الصلاة والسلام : قبل أن يخطبها النبي عليه الصلاة والسلام أسْلمَت هي وزوجها ، وحينما ضيَّق الكفار على المسلمين ، وسمحَ النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه المعذّبين بالهجرة ، هاجرَت أمّ سلمة وأبو سلمة إلى الحبشة ، وفي الحبشة تلقَّوا أنباء عن إسلام عمر رضي الله عنه وعن إسلام سيّدنا الحمزة ، وقد ظنَّ أبو سلمة ، وأمّ سلمة أنَّ المسلمون في مكَّة المكرَّمة في خير فعادوا إلى مكّة المكرّمة ، ولم يدْروا أنَّ كفّار قريش ضاعفوا من ضَغطهم على المسلمين ، وأنّ حياة المسلمين في مكّة حياة قهْر ، وحياة تضييق ، وما شاكل ذلك ، لذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصاحبه ثانية بالهجرة إلى المدينة ، فلمَّا أجمع أبو سلمة مع أم سلمة أن يغادرا إلى المدينة ، أعدَّ أبو سلمة راحلةً ، وأرْكب زوجته عليها ، ووضَعَتْ ابنها في حِجْرها ، وفي مكان التنعيم حينما أزْمَعَ أبو سلم الانطلاق إلى المدينة لقِيَهُ أهل زوجته ، فشعروا أنَّ بِهِجْرته تفلّتًا من قبضتهم فجذبوا زوجته ، وأخذوها منه عُنْوَةً ، وفرَّ هو بِنَفسِهِ ، لكنَّ أهل الزوْج أرادوا أن يأخذوا ابنها منها لأنَّه على زعْمهم ابنهم ، فما كان من أهل الزوج ، وأهل الزوجة إلا أن تجاذبا هذا الطفل الصغير حتى انْخلَعَتْ كتفهُ ، في ساعة واحدة فرِّقَ بين أمَّ سلمة ، وبين زوجها ، وبين ابنها ، زوجها ولّى شطره نحو المدينة فرارًا بحياته ، وأم سلمة أخذها قومها ، وطفلها المخلوع اليد أخذه أهل زوجها ، وترْوي القصص من أنَّ أمَّ سلمة كانت تخرج كلّ يوم إلى التنعيم تبكي ، ومضى عليها قرابة عام إلى أن اسْتعطفَ عليها بعض بني عمّها أهلها حتى يسمحوا لها بالهجرة ، وإلى أن يسمح بعضهم أهل زوجها حتى يُعْطوها ابنها ، وما أن ظفرتَ بِمُوافقة الفريقين حتى أعدَّت راحلة ، وركبتها ، ووضَعت ابنها في حجرها ، وانطلقت إلى المدينة من شدّة فزعها من قومها ، ومن شدّة لهفتها إلى اللّحاق بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم تفكّر فيما سيَكُون ، انطلقت من مكَّة ، وحينما خرجت منها لقِيَها عثمان ابن مضعون ، وكان مشركًا ، فقال لها : إلى أين يا بنت زاد الراكب ؟ قالت : إلى المدينة ، قال : أو مَعَكِ أحدٌ ؟ قالت : لا والله ، إلا ابني هذا ‍، فأخذ خطام بعيرها ، وقادها نحو المدينة ، ووصَفَت لنا ما فعل هذا الرجل في هذه الرحلة ، قالت : فوالله ما صحبْتُ رجلاً من العرب قطّ أكْرمَ منه ولا أشرف ، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخُ بعيري ثمَّ يستأخر عنِّي حتى إذا نزلْتُ عن ظهرهِ ، واسْتَوَيْتُ على الأرض دنا إليه ، وحطَّ عنه رحْله ، واقتاده إلى شجرة ، وقيَّدَهُ فيها ، ثمّ يتنحَّ عنِّي إلى شجرة أخرى فيضْطجع في ظلّها ، فإذا حان الرواح ، قام إلى بعيري فأعدَّه ، وقدَّمَهُ إليّ ، ثمَّ يستأخر عنِّي ، ويقول : اركبي ، فإذا ركبْتُ واستويْتُ على البعير ، أخذ بِخِطامه وقادهُ ، وظلّ على ذلك اثني عشر يومًا ، إلى أن أوصلها إلى أهلها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ))

[ رواه البخاري ]

 هذا نمط العرب حتى قبل الإسلام :

 

وأغضّ طرفي إن بدَتْ لي جارةٌ   حتى يواري جارتي مأواها

 فكيف بالمسلمين اليوم ؟ هذا الذي نقل أمّ سلمة من مكَّة إلى المدينة خلال اثني عشر يومًا دون أن ينظر إليها ، كان ينيخ الراحلة ، ويبتعد عنها حتى تنزل ، ثمَّ يعود إليها ويربطها في جذع شجرة ، ويستريح في شجرةٍ بعيدة ، فإذا حان وقت الرحيل ، هيَّأ الراحلة وابتعد عنها ، وقال اركبي .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ من صفات المؤمن العفّة ، المؤمن عفيف عن المحارم ، عفيف عن المطامع .
 أيها الإخوة المؤمنون ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزِنوا أعمالكم قبل أن توزَنَ عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلْنتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

 

 

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمدًّا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمَّد وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين .

مسببات مرض الإيدز

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ الكريات البيضاء لها وظائف متعدِّدة ، إذا دخل إلى جسم الإنسان جسم غريب ، أو مادّة غريبة ، جرثوم غريب ، فيروس غريب ، عدوّ غريب ، بعض هذه الجزيئات تقترب منه لِتَكتشف نوع بنيته ، استطلاع فقط ! وتعود إلى مراكزها لتُبْلِغَ خلايا أخرى مكلّفة لِتَلَقِّي هذه الأخبار ، وصنع نصول تقتل بها هذا الجرثوم ، جهاز استطلاع ، وجهاز تصنيع ، وجهاز مواجهة ، ثلاثة مراحل ، مرحلة الاستطلاع ، ومرحلة تصنيع المصل الذي يُبيد هذا الجرثوم ، ومرحلة تطويق هذا الجرثوم وإبادته ، هذا الجهاز العجيب في جسم الإنسان اسمه جهاز المناعة في مرض الإيدز ينْحلّ جهاز المناعة ، ويقضي عليه فيروس لم يُكْتشف عليه بالضّبط ، ولم تُحَدَّد خصائصهُ ، ففي صيف عام الواحد والثمانين اكْتُشِفَت في أمريكا خمس إصابات ، ثمَّ ارتفعت إلى خمس وثلاثين ، وصارت تظهر في كلّ أسبوع مئة حالة ، إلى أن كان مجموع الإصابات في العام الماضي اثنى عشر ألف إصابة مات منهم النّصف ، ويقدّر الأطبّاء أنَّ في أمريكا مليون إصابة ، وأنّ هذا المرض انتقل إلى أوروبا بدءً بفرنسا ، وظلّ ينتقل حيثما توجد الانحرافات الأخلاقيّة ، بكلّ أنواعها ، وفي حال إدمان المخدّرات ، وفي حالات نقل الدّم ، والشيء الغريب أنَّ حالةً واحدةً حتى الآن لم يُمْكن شفاؤُها ، بل إنّ كلّ جهود العلماء منْصبَّةٌ لإيقاف هذا المرض عند حدَّه ، والإنسان إذا أصيب بهذا المرض ، فإنَّ معدَّل حياته بعد الإصابة تتراوَح من ثمانية عشرة إلى مئة وخمسة وعشرين أسبوع أي من أربعة أشهر إلى سنتين ونصف ، وبعضها يموت .
 يقِلّ وزنه ، وترتفعُ حرارته ، إسهال مدمن ، عرقٌ غزير ، ضعف عام ، عدم قدرة على التركيز ، فقْر دم ، ونقْص في الخلايا ، إلى أن يذوب وينقضي ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾

[ سورة الإسراء الآية:32]

 الغرب الذي ضرب بالدِّين عرْض الطريق ، قال : هذا سلوك غيبي ، وسلوك الشعوب البدائيّة ، والعقل هو كلّ شيء ، والحياة هي كلّ شيء ، واللَّذَّة هي كلّ شيء ففعلوا ما يروق لهم ، فأصابهم ما أصابهم ، لذلك الاستقامة صحَّة ، حينما يستقيم الإنسان على أمر الله يضمن صحّته ، ويضمن حياةً هانئةً مطمئنَّة ؟، فإذا خالف وطغى فالمؤيِّدُ القانوني ينتظرهُ ، وهذا عِقابٌ عاجل في الدنيا قبل الآخرة .
 والشيء الغريب أنَّ العلماء ركَّزوا على كلمة الانحراف الأخلاقي ، يعني الشذوذ الأخلاقي بِكُلّ أنواعه ، وإدمان المخدّرات ، وشرْب الخمور ، وانتقل هذا المرض عن طريق شراء الدَّم ، ونقله من بلد إلى بلد ، ونعوذ بالله من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء .

 

الدعاء :

 

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، اللهمّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهمّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين ، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور