وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0190 - الكذب - السبات .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :
  الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، وما سمعت أذنٌ بِخَبر .
 اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين .
 اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

قال تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا .......

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ﴾

[سورة ص الآية : 26]

المعاني المستفادة من كلمة الحق :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى خلق الأرض والسماوات بالحق ، وهناك خمسة معان مستفادة من كلمة بالحق .

1- الحق خلاف الباطل .

 فالحق هو خلاف الباطل قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ﴾

[سورة ص الآية : 26]

 والباطل الشيء الزائل ، فالحق هو الشيء الثابت الأبدي السرمدي ، فإذا ربطت نفسك بالحق فقد سعدت به إلى الأبد .

 

2- الحق هو الشيء الهادف .

 والمعنى الثاني أن الحق هو الشيء الهادف ، وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِين ﴾

[ سورة الدخان الآية : 38 ]

 فاللعب هو العبث ، وأن يكون العمل ذا هدف نبيل فهو بالحق .

 

3- الحق هو الشيء الواقع .

 والحق هو الشيء الواقع ، نتلو عليك نبأهم بالحق .

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَق ﴾

[ سورة الكهف الآية : 13 ]

 أي كما وقع تماما .

 

4- الحق هو الحكمة .

 والحق هو الحكمة في خلق السماوات والأرض .

5- الحق هو الحكمة التشريعة .

 والحق هو الحكمة التشريعية .

الشقاء والضلال .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ خلق الله السماوات والأرض بالحق ، فإذا بُنِيتْ حياة المؤمن على الحق ، اعتقادا ، وقولا ، وعملا ، سعد بالحق في الدنيا والآخرة ، وما الشقاء البشري ، وما الضلال ، وما التِّيه ، وما الضَّياع ، وما الخلل ، وما الفساد إلا لأن هناك أوهاما ، وظنونا ، وترُّهات ، تسربت إلى بني البشر فَبُنِيَت حياتُهم على أساسها ، فكان شقاؤهم في الدنيا ، وكان شقاؤهم في الآخرة .

الفرق بين الصدق والكذب .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مِنْ خُلق المؤمن الأصيل الاستمساك بالصدق في كل شأن من شؤونه ، وتحريه الصدق في كل قضية من قضاياه ، إن الاستمساك بالصدق دعامة رئيسية من خلق المسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ))

[رواه الترمذي ]

 لا تعتقد شيئا غير صحيح ، لا تقبل شيئا إلا ببينة ، ببرهان بدليل عقلي ، بدليل نقلي ، لا تعتقد أوهاما ، لا تعتقد ظنونا ، لا تقل غير الحق ، لا تُشِرْ على أخيك بغير الحق ، إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، الريب هو الشك وليس في الإسلام شك :

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾

[ سورة الحجرات الآية : 15]

 ليس مع الحق ريب ، ليس مع الحق شك ، ليس مع الحق تردد ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ))

[رواه النسائي]

 والنفس الإنسانية يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا تطمئن ، ولا تستقر، ولا تركن إلا بالصدق ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ))

[رواه الترمذي ]

 القلق ، والخلل ، والضياع ، إذا كانت حياة الإنسان مبنيةً على الكذب ، مبنية على التدليس، مبنية على النفاق ، مبنية على تغيير الحقائق ، ربنا سبحانه وتعالى قرع الكفار والمنافقين بأنهم يتبعون الظن .
 قال تعالى :

﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ﴾

[سورة النجم الآية : 23]

 في معتقداتهم يعتقدون الظن ، وفي تصرفاتهم يتبعون الهوى ، وهاتان صفتان جامعتان ، مانعتان لأهل الكفر والضلال ، اعتقاد الظن واتباع الهوى ، قال تعالى :

﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾

[سورة النجم الآية : 23]

 في آية أخرى يقرع الله سبحانه وتعالى المشركين ، الكافرين ، المنافقين ، المعارضين ، فيقول :

﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾

[سورة النجم الآية : 28]

 فصار العلم في واد ، والظن في واد آخر ، العلم شيء ، والظن شيء آخر العلم حقيقة مستندة إلى برهان ، إلى دليل ، إلى واقع ، إلى منطق ، والظن مستند إلى الهوى ، قال تعالى:

﴿ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ﴾

[سورة النجم الآية : 28]

 إن الظن لا يغني من الحق شيئا.

 

أمراض تصيب النفس البشرية .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هناك أمراضٌ تصيب النفس الإنسانية ، يعاني منها بعض الناس ، هذه الأمراض تظهر على السطح بالبخل تارة ، وبالجبن تارة أخرى ، فإذا كان الإنسان جبانا ، أو إذا كان بخيلا فلمرض نفسي أصابه ، قال تعالى :

﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة الحشر الآية : 9]

 وكأن الشح في هذه الآية مرض أصاب النفس ، فإذا وجدت إنسانًا ُيقَتِّر في الإنفاق ، فلعله مريض ومرضه الشح ، وإذا رأيت إنسانًا خوارا ، يحجم عن ملاقاة العدو ، فلعله الجبن الذي أكل قلبه ، ولكن الكذب لا يكون في هذا المستوى ، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئِل هذا السؤال الدقيق :

(( أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا فَقَالَ نَعَمْ- مرض- فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا فَقَالَ لَا ))

[رواه مالك]

 الشح مظهرٌ لمرض نفسي ، والجبن مظهرٌ لمرض نفسي ، لكن الكذب يتناقض مع الإيمان ، يتناقض مع الإسلام ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :

(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))

[رواه أحمد ]

 فإذا كان فيه كذب ، وإذا كانت فيه خيانة ، فإن الكذب والخيانة تتناقضان مع الإيمان ، والشيئان المتناقضان يعني أن أحدهما ينقض وجود الآخر ، إنما الكرم بالتكرم ، وإنما الحلم بالتحلم ، قد يكون المؤمن مصابا بمرض هو من أثر الجاهلية ، لكنه مع تقدم الزمن قد يشفى منه ، أما الكذب فيتناقض مع الإيمان ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَالَ إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))

[ رواه الترمذي]

 لم يكتف بالدين فقط ، ولم يكتف بالخلق فقط ، إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه ، فزوجوه ، فقد يكون المسلم قائما بأركان الإسلام ، وقد يكون المؤمن قائما بأركان الإيمان ، وقد يكون مريضا بمرض هو من آثار ما قبل الإيمان ، الأيام تكفي مع مرورها ، ومع ازدياد إقباله ، ومع ازدياد استغفاره ، من شفائه من هذا المرض .

 

الكذب يتناقض مع الإيمان .

 أما الكذب فإنه يتناقض مع الإيمان .

(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))

[رواه أحمد ]

 عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت :

(( ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ، ما أُطْلِعَ على أحد من ذلك بشيء فيخرج من قلبه ، حتى يعلم أنه أحدث توبة ))

[ رواه البزار وأحمد ]

 يعني إذا كذب الرجل أمام النبي عليه الصلاة والسلام كذبة فأًطلِع عليها ، عرف أنها كذب ، خرج من قلبه صلى الله عليه وسلم ، خرج من قلبه ، ولا يعود يحبه حتى يحدث توبة ، وفي حديث آخر :

(( وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِذْبَةِ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً ))

[رواه الترمذي]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ أيها الإخوة أحباب رسول الله ، عظم الوزر متعلق برقعة الكذب ، باتساع رقعة الكذب ، فكلما كانت الكذبة منتشرةً في الآفاق كان وزرها أكبر عند الله عزوجل ، والأصح أن نقول : إن عظم الوزر في الكذب متعلق بمدى الضرر الذي يحدثه هذا الكذب ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( رأيت الليلة رجلين أتياني ، ....................
قالا لي : الذي رأيتَه يُشَقُّ شِدْقُه ، فكذَّابٌ يُحَدِّثُ بالكَذبة ، فتُحْمَل عنه ، حتى تَبْلُغَ الآفاق ، فيُصْنَعُ به ما رأَيت إلى يوم القيامة ))

[ جزء من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

 يعني هذه الكذبة التي تنتشر سريعًا بين الناس ، فتحدث فيهم خللاً ، أو اعتقادًا فاسدًا ، أو اندفاعًا نحو المعصية ، إن هذه الكذبة التي تشجع على المعصية ، تحجم عن الطاعة ، تصرف الناس عن طريق الحق ، تُبْعِدُهم عن مجالس العلم ، تحببهم بالدنيا ترغبهم فيها ، تدعوهم إلى الانغماس في المعاصي ، إن هذا الكذب خطير جدا عند الله ، إن خطر الكذب ، إن إثم الكذب ، إن وزر الكذب مرتبط بشكل أو بآخر بالحجم الذي أحدثه من ضرر ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( ثلاثة لا يدخلون الجنة ، الشيخ الزاني ، والإمام الكذاب ، العائل المزهو ))

[ أخرجه البزار في مسنده ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لو بُنِيت حياتنا على الصدق في كل مناحي حياتنا ، في علاقاتنا الشخصية ، في علاقاتنا بالله عزو جل ، في علاقاتنا بإخوتنا المؤمنين ، في علاقتنا بأبناء حينا ، في علاقتنا بمن هو دوننا ، في علاقتنا بمن هو فوقنا ، إذا بُنِيت حياتنا على الصدق ، كنا في حال آخر غير هذا الحال الذي نحن فيه ، يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا حتى نكون صادقين مع الناس ، إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق حتى ُيكتب عند الله صديقا ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هل تصدقون أن أخطر أنواع الكذب على الإطلاق أن تكذب على دين الله ؟ إن الكذب في دين الله يفسد الدين ، ويفسد العقيدة ، ويفسد العمل ، ويُهلِكُ الإنسان ، ويُهلِكُ من حوله.
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ))

[رواه البخاري]

 تكذب على رسول الله ؟! تروي حديثا موضوعا ، وتعلم أنه موضوع ؟! تكذب عليه لماذا ؟ أمن أجل الحق ؟! الحق يحتاج إلى كذب ؟! هل الحق مفتقر إلى أن تكذب على رسول الله ؟! هل يقوم الحق على الكذب ؟! هل الحق بحاجة إلى التزوير والتدليس ؟! إن أخطر أنواع الكذب أن تكذب في دين الله ، لذلك فهم بعض العلماء من قوله تعالى :

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾

[سورة الإسراء الآية : 36]

 لا تُرِ عينيك ما لم ترياه ، لا تُسمِع أذنيك ما لم تسمعاه ، لا تعتقد بما لست قانعًا به ، إذا رأيت ما لم تره ، و سمعت ما لم تسمع ، واعتقدت بما لم تقتنع ، فهذا معنى قوله تعالى :

﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ﴾

[سورة الإسراء الآية : 36]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عالم الغيب والشهادة فلا يُظْهِرُ على غيبه أحدًا ، إلا من ارتضى من رسول ، كأن النبي عليه الصلاة والسلام لِمَا أطلعه الله عن أمر آخر الزمان ، كأنه بين أظهرنا ، يرى المرض الذي يفتك بنا ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ ))

[رواه مسلم ]

 إذا عاهدت نفسك على أن تستمع الحق من منابعه ، إذا عاهدت نفسك أن تعامل الآخرين بالصدق ، إذا عاهدت نفسك أن تحذف من قاموسك الكذب ، كلِّيًا وجزئيًا ، عندئذ يصح دينك ، ويصح إسلامك ويصح إيمانك .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا المرض المستشري ، كيف نكافحه ؟ النبي عليه الصلاة والسلام بَيَّن سبيل الوقاية منه ، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج ، النبي عليه الصلاة والسلام بدأ في تعليم الصغار ، لا ينبغي أن يُغرَسَ الكذب في نفوس الصغار ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ :

(( دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ ))

[رواه أبو داود ]

 هذا الطفل الصغير ، أردت أن تسكته ، أن تصرفه عن هذه اللعبة ، قلت له غدا سأشتري لك مثلها ، أتدري ماذا فعلت معه ؟ غرست في نفسه الكذب ، جاء غدٌ ولم تشتر ، جاء بعد غدٍ بعده ، ولم تشتر له اللعبة ، ماذا فعل ؟ رأى أن هناك شيئا يقال ولا يطبق ، هذا هو الكذب ، لذلك أخطر شيء أن تكذب الأم على زوجها أمام ابنها ، أو أن يكذب الرجل على امرأته أمام ابنه الذي كان معه ، هل تناولتم طعام الغذاء ؟ لا ، هذه الكذبة الطفيفة ، لو علمنا خطرها ، إنها تؤدي إلى غرس الكذب في نفوس الصغار .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( مَنْ قَالَ لِصَبِيٍّ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كَذْبَةٌ ))

[رواه أحمد]

 وكلكم يعرف القصة الشهيرة ، أن بعض علماء الحديث خرج من المدينة المنورة ليتَّبَّع رواية حديث كان أحد رواته في البصرة ، فلما وصل إليه وعرفه ، أو قيل له هذا فلان ، رآه يرفع طرف ثوبه ليوهم الفرس أن في طرف ثوبه شعيرا ، عندئذ لم يكلمه ورجع إلى توه ، وقال هذا الذي يكذب على فرسه ليس أهلا أن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام ، حتى الكذب الذي يبدو لنا صغيرا في علاقاتنا الشخصية ، مع أزواجنا ، مع أبنائنا في بيوتنا ، هذا أيضا عدَّه النبي عليه الصلاة والسلام كذبا ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ :

(( إِنْ قَالَتْ إِحْدَانَا لِشَيْءٍ تَشْتَهِيهِ لَا أَشْتَهِيهِ يُعَدُّ ذَلِكَ كَذِبًا قَالَ إِنَّ الْكَذِبَ يُكْتَبُ كَذِبًا حَتَّى تُكْتَبَ الْكُذَيْبَةُ كُذَيْبَةً ))

[رواه أحمد ]

 يعني إن قيل لك تفضل كل ، والله لست جائعا ، وأنت جائع ، هذا كذب ، هذا كذب ، هذه كذَيْبَة ، قيل أتأكل هذا الطعام ؟ لا أشتهيه ، وأنت في الحقيقة تشتهيه ، هذا كذب .
 للموضوع تتمة ، نتابعه إنشاء الله تعالى في الخطبة القادمة حيث نتحدث عن الميادين التي يكثر فيها الكذب .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين

***

الخطبة الثانية :

 الحمد الله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

النوم .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ من آيات الله الدالة على عظمته النوم ، قال تعالى:

﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾

[ سورة الروم الآية : 23 ]

 المنام آية من آيات الله الكبرى ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾

[ سورة النبأ الآية : 9]

 السبات حالة في الأساس هي حالة مرضية ، ولكن النوم حالة صحية ، لكن السبات ألاّ يستجيب الإنسان بالمنبهات الخارجية ، معنى السُّبات عدم الاستجابة إلى المنبهات الخارجية إلا إذا أوصلت إلى درجة معينة من الشدة ، والسُّبات درجات ، وكذلك النوم درجات ، فهناك ما قبل السبات ، وهناك السبات الخفيف ، والسبات العميق ، وهناك النعاس ، وهناك السِّنة ، وهناك النوم السطحي ، وهناك النوم العميق ، وهذه الحالات من حالات النوم آية دالة على دقة خلق الإنسان . الأجهزة الحيوية ، كالقلب والرئتين ، والمعدة والكليتين ، تعملان بانتظام في أثناء النوم ، ولولا ذلك لكان النوم سببًا للموت ، لولا أن القلب والرئتين ، والمعدة والكليتين تعملان بانتظام في أثناء النوم ، لكان النوم طريقا إلى الموت .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ بنية النوم شيء لا يصدق ، العلماء قالوا :في الإنسان غدة صنوبرية تفرز مادة ، هذه المادة لا تُفرَز إلا في الظلام ، هذه المادة لا تفرزها الغدة الصنوبرية إلا في الظلام ، وهذه المادة لها تأثير فعال على النوم ، يعني تَضْعُفُ الحواسُّ الخمس في استقبال المنبهات ، المنبهات قبل أن تصل إلى الدماغ ، هذه حالة من حالات النوم ، بعضهم يقول : إن العقد العصبية تتباعد ، وبتباعدها تنقطع مع تباعدها السيالة العصبية ، عندئذ هذه السيالة لا تقفز لتقطع هذا التباعد إلا بالمنبه القوي ، وهذا من نعم الله عزوجل ، يقول الله عزوجل :

﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾

[ سورة النبأ الآية : 9]

 سبات ، يعني الجسد في النوم لا يستجيب للمنبهات الخارجية إلا إذا بلغت درجةً عاليةً من الشدة ، شيء آخر قال العلماء : إن أولى المنبهات التي تدعو إلى اليقظة هو الصوت لذلك قال الله تعالى :

﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ﴾

[سورة الكهف الآية : 11]

 وإنما البعث ، وحينما يُبْعثُ النَّاسُ من قبورهم ، يُفِيقون على أثر صوت شديد ، قال تعالى :

﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾

[ سورة يس الآيات : 31-32]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ من صفات النائم أنه لا يقدِّر الزمن الذي أمضاه في النوم ، وهو الذي يتوفاكم في الليل ، النائم كالميت من بعض الوجوه .

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 60 ]

 الله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم ، أهل الكهف ، قال تعالى:

﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا ﴾

[الكهف الآية : 25 ]

﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾

[ الكهف الآية : 19 ]

 هذه من صفات النوم ، شيء آخر أيها الإخوة ، يؤكد العلماء أنه لولا تعاقب الليل والنهار لما كانت الحياة ، لما كانت الحياة ، لابد من ليل يعقبه نهار ، قال تعالى :

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة القصص الآيات : 71-73]

 يعني هذا النوم .

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء .
 اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت .

 

تحميل النص

إخفاء الصور