وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0319 - النبي فضل من الله .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر .
 اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

النبي الكريم قدوة لنا في كلّ أمور حياتنا :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ نحن في شهر مولد النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد أَلِفَ المسلمون أن يحتفلوا بهذه الذكرى احتفالاً تعرفونه جميعاً ، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد من هذا النبي الكريم أن يكون قدوةً لنا ، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا ، وأسوةً لنا ؛ في حياتنا ، وفي تحرُّكنا ، وفي انطلاقِنا ، وفي علاقاتنا ، وفي عطائنا ، وفي مَنْعِنا ، وفي غضبنا ، وفي رضانا ، وفي كل نشاطٍ من نشاطاتنا ، فنحن حقيقةً قد احتفلنا بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم . أما سمعنا الأناشيد في مديحه ، وأكلنا ما لَذَّ وطاب ، وألقيت الكلمات ، ولم نأخذها مأخذ الجِد ، فهذا الاحتفال لا يعني أننا عرفنا النبي عليه الصلاة والسلام وقدَّرناه حَقَّ قَدْرِهِ .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الإسلام فكرٌ ، في الإسلام عقيدةٌ ، في الإسلام قِيَمٌ، في الإسلام عباداتٌ ، في الإسلام معاملاتٌ ، في الإسلام أخلاقٌ ، هذه كلُّها في حَيِّزٍ نظري ، هذه كلها في مستوىً فكريّ ، ولكن لا يُحيي هذا الفكر ، ولا يّقوي هذه المُثُل ، ولا ْيَدعم هذه المبادئ ، ولا يجعل هذه القيَم متداولةً ، ولا يجعل هذا الدين مقبولاً ، ولا يجعل هذه العبادات مُجْدِيَةً ، ولا يجعل هذه المُعاملات صحيحةً إلا إذا طُبِّقَت ، إلا إذا نُفِّذَت ، إلا إذا عشناها ، إلا إذا تمثَّلناها ، إلا إذا عقلناها ، من رحمة الله بنا أنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم ؛ هذا الكتاب المُعْجِز ، ومن رحمة الله بنا أنه جعل النبي عليه الصلاة والسلام في أخلاقه قرآناً ، عندك قرآنٌ تقرؤه ، وعندك إنسانٌ تمثَّل القرآن .
 الكون قرآنٌ صامت ، والقرآن كونٌ ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي . سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام فقالت :
(

[كان خلقه القرآن ))

[ مسلم عن عائشة ]

 يا أيها الأخ الكريم ؛ عندك فكرٌ وعندك تطبيق ، عندك عقيدةٌ وعندك مَثَلٌ أعلى، عندك شريعة وعندك قدوةٌ حسنة ، عندك معاملاتٌ وعندك إنسانٌ كامل طَبَّق هذه المُعاملات .

 

سيرة النبي عليه الصلاة والسلام حقيقةٌ مع البُرهان عليها :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام حقيقةٌ مع البُرهان عليها، والبرهان عليها أنها طُبِّقَت ، وطبَّقها النبي ، وعاشها النبي ، وتمثَّلها النبي ، وحكم بها النبي ، وانتشر الحق لا عن طريق الكلام ولكن عن طريق العَمَل ، في بعض الأمثال يقولون : لغة العمل أبلغ من لغة القول . وفي بعض الأقوال : الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم .
 لماذا كان الصحابة أعلاماً أبطالاً ؟ لأنهم ما سمعوا الإسلام كلاماً يُتْلَى عليهم ، ولا خُطَباً رنانةً تملأ آذانهم ، ولا حديثاً جذاباً يستحوذ على مشاعرهم ، ولكنَّهم رأوا الإسلام في شخص النبي عليه الصلاة والسلام ، رأوا تواضعه ، رأوا عبوديته لله عز وجل ، رأوا شجاعته ، رأوا سخاءه ، رأوا حلمه ، رأوا لطفه ، رأوا كل المُثُل العُليا مطبقةً في سلوكه .
 أيعقل أن النبي عليه الصلاة والسلام ، نبي هذه الأمة ، وهو المخلوق الأول في نَصِّ القرآن الكريم ، وهو السيِّد المُعَظَّم ، وهو قائد الجيش في معركة بدر يقول :

(( كل ثلاثة على راحلة ، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة ، فلما جاء دوره في المشي ، قالا له : "يا رسول الله ابق راكباً " . قال : لا ، ما أنتما بأقوى مني على السير ، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر ))

[ مجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود ]

 حينما عالج مع أصحابه شاةً ، قال أحدهما : عليّ ذبحها . وقال الثاني : عليّ سلخها . وقال الثالث : عليّ طبخها . وقال النبي عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب.

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

تميز سيرة النبي الكريم بالكمال و الدقة و التنوع و الوضوح :

 لنقف عند هذه الآية قليلاً . .

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

 معنى :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

 أن هذا الشيء ثابت ومستقر ومستمر ، لم يقل الله عز وجل : لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة ، قال :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

.

﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

[سورة الفتح : 4]

 كان تفيد الاستمرار ، تفيد الاستقرار ، أيْ أنَّ سيرته صلى الله عليه وسلم من الكمال ، ومن الدِقَّة ، ومن الوضوح ، ومن التنوّع ، ما لو تبعته في كل أطواره ، في بيته ، غير النبي عليه الصلاة والسلام قد تراه ملء العين والسمع وهو يلقي درساً ، أما النبي عليه الصلاة والسلام ؛ في بيته ، في رضاه ، في غضبه ، في حربه ، دخل مكة مطأطئ الرأس وهو فاتحٌ عظيم ، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره ، تواضعاً لله عز وجل ، كاملٌ وهو زوج ، كاملٌ وهو أب ، كاملٌ وهو جار ، كاملٌ وهو صديق ، كاملٌ مُسالماً ، كاملٌ محارباً ، كاملٌ قوياً ، كامل ضعيفاً ، كاملٌ غنياً ، كاملٌ فقيراً . .

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 جاع كما يجوع الفقراء ، قال :

(( ... ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة ، ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال ))

[الترمذي عن أنس بن مالك ]

 فإذا نصح الفقراء بالصبر ؛ فكلامه على العين والرأس ، لأنه ذاق طعم الجوع .

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 وحينما كان غنياً ، وسأله رجل : لمن هذا الوداي ؟ قال : هو لك . قال : أتهزأ بي ؟ قال : لا والله . قال : أشهد أنك رسول الله ، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
 ذاق موت الولد ، وقال أصحابه : لقد كسف القمر من أجل موت إبراهيم . وكان من مصلحة النبي أن يسكت عن هذا الكلام ، وكان من مصلحة النبي لو أنه أراد الدنيا أن يكرِّس هذا الكلام ، وكان من مصلحة النبي لو أراد الدنيا أن يدع هؤلاء يتكلمون هكذا ، ولكنه جمع أصحابه وقال :

((إن الشمس والقمر آيتان لا ينبغي أن تنكسفا لموت واحدٍ من خلقه))

[أحمد عن عبد الله بن عمرو]

 هذا شيءٌ لا علاقة له بموت إبراهيم .

((إن العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ))

[البخاري عن أنس بن مالك ]

 أسوةٌ لنا في موقفٍ حزين ، أسوةٌ لنا في موقف ضعيف حينما كان في الطائف، قال :

((يا رب إن لم يكن غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى ولكن عافيتك أوسع لي ))

[الجامع لأحكام القرآن ]

 تعلموا منه كيف يواجه الإنسان المصائب ، ولا يسيء الظن بربه ، كيف يثبت على الشدائد ، كيف يشكر في الرخاء ، كيف يعفو حين القوة .

((اذهبوا فأنتم الطلقاء ))

[شرح جامع الصغير ]

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 قدوةٌ صالحة ، مثلٌ أعلى .

 

 

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

 آية كريمة تفيد الثبات و الاستمرار :

 

 يـا أيها الأخوة الأكارم ؛ في الآية أشياء كثيرة .

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

 تفيد الثبات ، تفيد الاستقرار ، تفيد الاستمرار ، إذا قرأت السيرة فاطمئن إلى أن كل أفعال النبي صحيحة ، كل أقواله . إن كل أقواله ، وإن كل أفعاله ، وإن كل صفاته ، وإن كل أحواله كاملةٌ كمالاً أراده الله عز وجل ، مِن هنا قال الله عز وجل :

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[سورة الحشر : 7]

 لأنه معصوم ؛ في تبليغه ، في أقواله ، في أفعاله ، في صفاته ، في أحواله ، في إقباله ، في كل أطوار حياته . إذاً أنت إذا تابعت النبي لن تفاجأ بشيء ، لن تفاجأ بنقصٍ لم يكن في الحُسبان ، لن تفاجأ بموقفٍ لا يرضي الله عز وجل ، سيرته سيرة عطرة ، مواقفه مواقف كاملة ، أحواله رائعة ، أقواله حكيمة .

 

الحصر و القصر في القرآن الكريم :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾

  ولكن في الآية الكريمة لفتةٌ دقيقة هي لفتة الحصر والقصر أوضحها لكم قليلاً .
 القصر أيها الأخوة أو الحصر يتأتَّى من النفي والاستثناء ، فلو أن الله عز وجل قال : للإنسان ما سعى . معنى ذلك أن له ما سعى ، وله ما لم يسع ، أما حينما قال الله عز وجل :

﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾

[سورة النجم : 39]

 هذا التركيب يفيد القصر والحصر . إذا قال الله عز وجل :

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾

[سورة الفاتحة : 5]

 معنى ذلك أن الله عز وجل قدَّم المفعول على الفعل ليفيد القصر ، لو أن الله عز وجل قال : نعبد إياك أي نعبدك و نعبد غيرك ، أما إذا قال :

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾

 أيْ لا نعبد إلا إياك ، تقديم ما حَقُّه التأخير يفيد الحصر .

 

متابعة الرسول في كلّ شيء :

 وفي هذه الآية :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 لو أن الله عز وجل قال : لقد كان لكم أسوةٌ حسنةٌ في رسول الله ، ماذا حصل؟ المعنى آخر : أي أن رسول الله أسوةٌ لكم ، وغيره أسوة لكم ، أما حينما قال :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 حينما قدَّم الجار والمجرور على المبتدأ المؤخَّر ، أيْ رسول الله أسوةٌ حسنة كائنةٌ في رسول الله ، أصل التركيب ، لأن الله عز وجل قال :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه معصوم يجب أن تُتابعه في كل شيء ، وما سوى النبي يعبِّر عنه موقف سيدنا الصديق :" قد وليت عليكم ولست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ".
 يجب أن تتابع غير النبي على بينة ، على كتاب الله ، على تطبيقه لُسَّنة النبي عليه الصلاة والسلام وإلا قد يؤدي بنا ذلك إلى الضلال والهلاك ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو المعصوم ، المعصوم وحده وليس غيره .

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

﴿ لَكُمْ ﴾

 يخاطب الله مَنْ ؟ يخاطب الله المؤمنين ، ألا ترى مؤمناً يخالف سُنَّة النبي ؟ ألا ترى مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويقصِّر في تطبيق ما فعله النبي ؟ لذلك قال الله عز وجل :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

المؤمن يرجو الله واليوم الآخر ويذكر الله كثيراً :

 من صفات المؤمنين الكاملة أن المؤمن يرجو الله ، واليوم الآخر ، ويذكر الله كثيراً ، من كان يرجو الله حقيقةً . هناك من يرجو الدنيا ، هناك من يرجو زيداً أو عبيداً ، هناك من يرجو فُلاناً أو عِلاناً ، هناك من يرجو حياةً طيبةً ، حياةً هادئةً ، حياةً ناعمةً ، هناك من يرجو دخلاً كبيراً ، مُتْعَةً رخيصةً ، هناك من يرجو شيئاً لا يرضي الله عز وجل ، ولكن الله عز وجل يجعل النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً حسنة ، وأسوةً صالحة ، ومثلاً أعلى لا لكل الناس؛ بل للذين يرجون الله واليوم الآخر ، ويذكرون الله كثيراً ، أيْ إذا كنت مؤمناً حقاً ، إذا كنت مؤمناً صادقاً ، إذا كنت مؤمناً حقيقةً ، يجب أن ترجو الله واليوم الآخر ، أن يكون الله منتهى آمالك ، منتهى طموحك ؛ إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي ، إذا كنت كذلك ورأيت الآخرة هي الدار الحقيقية ، وأن الحياة الحقيقية هي الدار الآخرة . .

﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾

[سورة الفجر: 24]

 إذا كنت كذلك ، وذكرت الله كثيراً . علامة المنافقين :

﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[سورة النساء: 142]

﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾

[سورة النساء: 142]

 إذاً متى تكون مؤمناً حقيقةً ؟ متى تكون مؤمناً بكل ما في هذه الكلمة من معنى؟ إذا رجوت الله ، واليوم الآخرة ، وذكرت الله كثيراً عندئذٍ تبحث عن القدوة الصالحة ، عن الأسوة الحسنة ، عن المَثَلِ الأعلى ، فلا ترى إلا في النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى ، والقدوة الصالحة ، والأسوة الحسنة ، لأن الله عز وجل عصمه ؛ في تبليغه ، في أقواله ، في أفعاله ، في صفاته ، في أحواله .

وأجمل منك لم تر قط عيني  وأحسن منك لم تلد النسـاء
خلقت مبرأً من كل عيــــــــــبٍ  كأنك قد خلقت كما تشــــــاء
* * *

قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام واجبةٌ على كل مسلم :

 يستنبط بعض العلماء من هذه الآية أن قراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام واجبةٌ على كل مسلم ، من هذه الآية التي هي أصل في اتباع النبي ، في الاقتداء به ، بل إن الله عز وجل حينما قال :

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[سورة الحشر : 7]

 إذاً يجب أن تعرف سُنَّته القولية ، وسُنَّته العملية ، سنته القولية أحاديثه الشريفة الصحيحة ، وسنته العملية سيرته العَطِرَة ، هذا شيءٌ لا ينبغي أن تظن أن تقرأه أو لا تقرأه ، تطّلع أو لا ، ليس الأمر كذلك ، من أجل أن تنجو من المَهالك ، من أجل أن تصل إلى دار السلام بسلام ، من أجل أن تحقق حقيقة الإيمان ، يجب أن تقف على سُنَّة النبي العدنان .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الآية دقيقةٌ جداً :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 لماذا أثَّرَ هذا التأثير ؟ كتابٌ شهير ألَّفه مؤلفٌ غريبٌ عن العالم الإسلامي ، قرأ تاريخ الأبطال في العالم منذ الإغريق ، وانتقى من أبطال العالم عبر التاريخ الطويل مئة عَلَمٍ من أعلام هؤلاء البشر ، وصنَّف هؤلاء الأعلام وفق أسسٍ علميةٍ موضوعية ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في مقِّدمة هذه الِمئة ، فألف كتاباً وَعَنْوَنَهُ " المئة الأوائل" .
 ما المقياس الذي قاس به هؤلاء العظماء ؟ قاس العظماء بعمق التأثير ، واتساع رقعة التأثير، وامتداد أثر التأثير . إذاً النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تقف على سيرته ، من أجل أن توفق في حياتك ؛ في علاقتك بزوجتك ، قالت له السيدة عائشة : " يا رسول الله أتحبني ؟ قال: مثل عقدة الحبل - هذا الكلام الطيِّب ، الذي يلقيه الرجل على زوجته كي تطمئن إلى مستقبلها ، كي تطمئن إلى حبه لها - كانت تقول له بين الحين والآخر : كيف العقدة ؟ يقول: على حالها "
 يجب أن تقرأ سنة النبي من أجل أن تكون زوجاً مثالياً ، وأباً مثالياً ، وأخاً مثالياً، وابناً مثالياً وفياً باراً بوالديه .
 دخلت عليه السيدة حليمة السعدية التي أرضعته حيناً من الزمن ، وقف ومد لها رداءه ، واستقبلها هاشاً وباشاً ، وقال : أهلاً بأمي ، وأعطاها شاةً وإبلاً وعفا عن قومها ، هذا هو الوفاء . كيف تكون ابناً باراً ، وكيف تكون أباً عطوفاً ، وكيف تكون زوجاً ناجحاً ، وكيف تكون جاراً ، جاراً طيِّب المعشر ، تسبي العقول لكمالك .

 

النبي الكريم قدوة حسنة لنا نترسم خطاه في كل شيء :

 اقرأ سيرة النبي ، يجب أن تقف على سيرة النبي ، هذه هي حقيقة احتفالنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

[سورة الأنفال : 33 ]

 قال بعض المفسرين : أنت فيهم أي أنت بين ظهرانيهم . وقال بعضهم الآخر : " أنت فيهم " أيْ سنتك في حياتهم مُطَبَّقة ، سُنَّة النبي في طريقة أكلك ، طريقة شربك ، طريقة نومك ، طريقة حديثك ، طريقة تنظيف نفسك ، طريقة علاقتك بإخوانك ، بجيرانك ، بمن هم دونك ، بمن هم فوقك . ليس شيئاً تقرؤه أو لا تقرؤه ، تتطلع عليه أو لا ، بحسب الفراغ ، بحسب المناسبات ، والله صدف أن قرأت سيرة النبي ، ليس هذا هو الموضوع ، بل من أجل أن تنجو من الخطأ والضلال يجب أن تقرأ سيرة النبي ، يجب أن تقف عليها ، يجب أن تعرف أحواله في كل الظروف والمناسبات ، إنسان من أصحابه نزع مِن على ثوبه ريشةً ، فرفع النبي يديه وقال : جزاك الله عني كل خير . عَلَّمك كيف تكافئ على المعروف ، ماذا فعل هذا الصحابي ؟ نزع ريشةً مِن على ثوب النبي ، رفع النبي يديه إلى السماء .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ نحن بحاجةٍ إلى مَثَلٍ أعلى ، بحاجةٍ إلى قدوةٍ صالحة ، بحاجة إلى إنسانٍ نترسَّمُ خُطاه في حركاته ، في سكناته ، في كل نشاطات حياته . .

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 كأن الله عز وجل في هذه الآية أشار إلى أن كمال المؤمن في أن يكون راجياً لله عز وجل ، وراجياً لليوم الآخر ، وذاكراً لله الذِكْرَ الكثير .

 

النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا في الشدائد و المحن :

 النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا في الشدائد ، يوم الخندق ، وهذه الآية جاءت في سورة الأحزاب ، وسياقها العام حديثٌ عن يوم الخندق ، لقد كان صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المُرْعِب والضيق المجهد مثلاً أعلى للإنسان الكامل ، كان رسول الله يعمل في الخندق مع المسلمين ، يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب بالمِفْتَلِ ، ويرفع صوته مع المرتجزين .

والله لولا الله ما اهتدينا  ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلن سكينةً علينــــــــا  وثبت الأقدام إن لاقينا
* * *

 زيد بن ثابت غلامٌ يافع كان ينقل التراب ، نزل إلى الخندق فغلبته عيناه ، فنام، وكان القر شديداً أيْ الحر شديداً ، فأخذ عمّار بن حزمٍ سلاحه وهو لا يشعر ، فلما قام فزع فقال:

((يا أبا رقاد - داعبه النبي ، كان يداعب أصحابه ، يعطف عليهم- نمت حتى ذهب سلاحك ، من له علمٌ بسلاح هذا الغلام ؟ فقال عمار : يا رسول الله هو عندي ، قال : رده عليه ))

[نصب الراية عن ابن عمر ]

 ونهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يروع المسلم بأخذ متاعه لعباً ، حكمٌ شرعي، نهى النبي عليه الصلاة والسلام بأن يروَّع المسلم بأخذ متاعه لعباً ، كان ينقل التراب بالمفتل ، يجرفه بالمسحاة ، يضرب بالفأس مع أصحابه وكأنه واحدٌ منهم .

 

الآية التالية أصلٌ في اتباع النبي صلى الله عليه و سلم :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية أصلٌ في اتباع النبي ، ومن لم يتَّبع النبي عليه الصلاة والسلام فليس مؤمناً ، وليس محباً ، لقول الله عز وجل :

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾

[سورة آل عمران : 31 ]

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه حقيقة الاحتفال بعيد المولد النبوي ، حقيقة الاحتفال بهذا العيد أن تقف على سيرة النبي ، وأن تطبقها في حياتك ، كان في مهنة أهله ؛ كان يكنس بيته ، ويخصف نعله ، ويرفو ثوبه ، ويحلب شاته ، وكان في مهنة أهله . دخل عليه عدي بن حاتم وكان ملكاً ، ألقى إليه وسادةً لا يملك غيرها في البيت قال : اجلس عليها . قلت : بل أنت . قال : بل أنت . قال : فجلست عليها وجلس هو على الأرض . هذا إكرام الضيف، اقرؤوا سيرته ، أصحاب النبي عليهم رضوان الله سحروا به ، سحروا بكماله ، أخذوا بكرمه ، بتواضعه ، دخل عليه رجل فأصابته رِعْدَة :

(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))

[ ابن ماجه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يكفي أن يستمع الإنسان من أسبوع إلى أسبوع إلى نصف ساعة يذكر فيها بأمور دينه ، يجب أن يكون طلبه للدين حسيساً صادقاً ، لذلك احضروا مجالس العلم ، تعلموا كتاب الله عز وجل ، قِفوا على سيرة النبي وأصحابه ، قفوا على أمور دنياكم من خلال رؤيتها من زاوية الأحكام الشرعية ، هذا هو الدين .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني

 

تحميل النص

إخفاء الصور